كل شيء يُتصوَّر أن يشوبَه غيرُه، فإذا صفا عن ما يشوبه وخلص عنه سُمِّي خالصًا. والإخلاص يُضاده الإشراك؛ فمن ليس مخلصًا فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات؛ فالإخلاص في التوحيد يضاده الشرك في الإلهية.
والإخلاص وضده يتواردان على القلب؛ فمحلهما القلب، وإنما يكون ذلك في القصود والنيات؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم -رادًّا كلَّ عمل إلى النية-:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
وأما حكم الإخلاص فيقول الله تعالى في ذلك:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة) البينة/5. وقال عز وجل:(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر/3. وقال تعالى:(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) النساء/146.
وفي فضل الإخلاص يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ثَلَاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ) رواه الترمذي وابن ماجه.
وفي التحذير من الرياء وعدم الإخلاص يقول عليه الصلاة والسلام:(إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار) رواه مسلم.
وقد حث الإسلام على الإخلاص في العبادة في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله سبحانه:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) الزمر/2. ولا يُعتدُّ بالصدقة إلا إذا كانت خالصة من شوائب النفس يراد بها وجهه تعالى:(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) الإنسان/9. (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) الليل/17-21.
فالتجرد من الأهواء، وتصحيح اتجاهات القلب، وإصلاح النية، وإخلاص الفؤاد لرب العالمين؛ يرتقيان بمنزلة العمل الدنيوي فيجعلانه عبادة متقبلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:(إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك) رواه البخاري.
وقد يُكتب للمسلم أجر بعمل لم يفعله؛ ففي غزوة تبوك ولعدم تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تجهيز بعض المسلمين، ونظرًا للرغبة العميقة في التضحية والرغبة الصادقة نجد الرسول الكريم يقول لجيشه:(إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا، إلا شركوكم في الأجر؛ حبسهم العذر) متفق عليه. فالبنية الصادقة كان لهم ثواب المجاهدين!
والنية الصالحة هي الأساس المتين الذي عليه العمل الصالح:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) البقرة/264. (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤونَ) الماعون/4-6.
ألا ما أنفس الإخلاص، وما أغزر بركته! إنه يكون في القليل فينميه؛ حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير؛ فلا يزن عند الله شيئًا. فالنية قبل العمل، والباطن قبل الظاهر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) رواه مسلم.
وكلما هاجت في النفس نوازع الأثرة والتطلع إلى الجاه والرغبة في العلو والافتخار؛ انطفأت رويدًا رويدًا حرارة الإخلاص، لذلك يحب الله عز وجل العمل النقي من الشوائب المكدرة:(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر/3. ولذا أيضًا حارب الإسلامُ الرياءَ، روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن يسير الرياء شرك) رواه ابن ماجه.
وبعد: فلا غرابة أن يحثَّ الإسلام على الإخلاص، ويعتني به هذا الاعتناء؛ لأن المؤمن كله لله: نفسه وماله وأهله وولده ودنياه ومماته. قال الله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56؛ لا ليعبدوا مالاً، ولا جاهًا، ولا أحدًا من البشر... والحمد لله رب العالمين.
(*) مقال منشور في مجلة (التذكرة) التي تُصدرها مديرية الإفتاء العسكري.