الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا البحث يعد بحثاً تاريخياً؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية ليست هي المؤثر الوحيد في تعامل الدول الإسلامية مع بعضها، فضلاً عن تعاملها مع غيرها، لكنها أحكام شرعية يجب أن تُعرف بغضِّ النظر عن كونها مطبقة أم لا.
والبحث في هذا الموضوع يتناول الوضع المثالي الصحيح، وهو ما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين من بعده. وفيما يلي فوائد عامة في هذا الموضوع:
أولاً:الأصل في المنظور الإسلامي أن الناس إخوة. قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13.
ثانياً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه) متفق عليه. بمعنى: لو تُرك الناس على سجيتهم لشعروا بخالقهم.
ثالثاً: الدنيا تَسَعُ الجميع، وأرزاقها تكفي الجميع. قال تعالى:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) هود/6، فلا داعي للتقاتل من أجل الرزق.
رابعاً: الإنسان موضع عناية الله تعالى؛ خلقه في أحسن تقويم:(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين/4، وأنعم عليه نعماً لا تُحصى:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم/34، ومنحه -قبل الولادة وبعدها- حقوقاً تجب مراعاتها من قِبَلِ الوالدين والمجتمع، ووهبه غريزة الإبداع التي لم تقف عند حد فتطورت ظروف حياته.
ولكن هناك أمور لا يعرفها الإنسان على حقيقتها بمجرد تفكيره، منها: الإيمان بالله الذي خلقه وما له من صفات، وكيفية التعامل الصحيح مع الخالق والمخلوقين.
لأجل هذا بعث الله الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم فدعا إلى:
أولاً:التوحيد:وهذه أعظم حقيقة يجب أن تُعرَف، وقد أقام الدليل عليها. قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الحج/73، فعلامة الألوهية الخلق من العدم والقدرة على كل شيء. وهذا يغلق الباب أمام من يدعي الألوهية مثل: فرعون والنمرود وغيرهم، ويتسلطون على الناس بحب وهمي، ولذا عندما قال للناس: قولوا (لا إله إلا الله تفلحوا) عارضه المستفيدون من الشرك ووجود الأصنام؛ لأن ذلك كان يدر عليهم رزقاً حراماً، وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب!
ثانياً:الإيمان باليوم الآخر: وهذه أيضاً حقيقة لا بد من الاستعداد لها، وتؤدي إلى مراقبة الله؛ فلا ظلم ولا عدوان. قال تعالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة/281.
ولما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عارضه الظلمة الذين يبطشون بالناس، وقالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟!
ثالثاً: الإيمان بالأصل الواحد للناس: وهذا يعني المساواة:(كلكم لآدم، وآدم من تراب) رواه أبوداود.
فعارضه المستفيدون من الطبقية وقالوا:اجعلْ لنا مجلساً ولهم مجلساً.
رابعاً: دعاهم إلى العدالة:وهي حكم الله؛ لأنه أعلم بما يُصلح الخلق، وكل القوانين تدَّعي البحث عن مصلحة الخلق.
فعارضه المستفيدون من حكم الطاغوت ومراعاة مصلحة البعض.
وفي البداية كانت الآيات تنزل تأمر بالصبر وتحمُّل الأذى ثم عمل النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله على إيجاد كيان سياسي يحمي الإسلام ويطبق شرائعه، فكانت الهجرة إلى المدينة. وطُبِّقت كل الأحكام التي أخذت تنزل مفصلة في المدينة بحسب الوقائع.
فكان الناس أمام الواقع الجديد (أمام الدولة الإسلامية) فئات:
أولاً:مسلم:وهو كل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا يعد أخاً مساوياً لكل مسلم، مع احترام ومراعاة الكفاءات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم) رواه البخاري.
ثانياً:مواطن غير مسلم: ويسمى ذمياً؛ أي أنه في حماية وجيرة الله ورسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري. وهذا تُترك له الحرية فيما يتعلق بعقيدته، ويُطبق عليه النظام العام الإسلامي في الأمور الحياتية (البيع، الشراء، الشركات...).
ثالثاً: المستأمَن: وهو من دخل لحاجة بإذن الدولة أو من فوضته الدولة لإعطاء الأمان:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) التوبة/6. وهذا أيضاً يكون آمناً على نفسه وماله، حتى يخرج من حوزة الإسلام.
رابعاً: "الدبلوماسي": وهذا له حصانة. قال صلى الله عليه وسلم لرسولَي مسيلمة:(لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما) رواه أحمد وأبو داود.
خامساً: المحارِب: وهذا مُعرَّض للأسر والقتل. قال تعالى:(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد/4.
وأما بالنسبة للدول؛ فالعلاقات معها كما يلي:
أولاً:دول محارِبة للإسلام:وهذه تكون العلاقة معها على النحو التالي:
الدعوة للدخول في الإسلام عقيدة ونظام حياة، فإن قبلوا فهم إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وتعد بلادهم جزءاً من الدولة الإسلامية، وهكذا كانت بلاد الروم والفرس.
أو الدعوة إلى الدخول في الإسلام باعتباره نظام حياة، ويبقى لهم ما يتعلق بعقيدتهم، وتعد بلادهم أيضاً جزءاً من الدولة الإسلامية.
فإن أبَوا فالقتال حتى يحكم الله بيننا.
ثانياً: دول معاهَدة:أي بيننا وبينهم هدنة، فتترك الحرب إلى انتهاء المدة. قال تعالى:(فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) التوبة/4. وهذه الهدنة يجب أن تكون لها مدة تنتهي فيها.
فإذا شعرنا بالغدر فيجب نقض العهد صراحة. قال الله تعالى:(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال/58، وهكذا كان الحال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة بعد صلح الحديبية.
هذا كان هو الحال في العهد النبوي والراشدي وبداية الأموي، ثم صارت العلاقات سلمية إلا إذا اعتدوا، وذلك لأسباب داخلية، منها: اتساع الدولة، والمشاكل الداخلية، والإقبال على الشهوات... إلخ.
وفي كل الأحوال هناك علاقات أخرى مع الدول منها:
أولاً:العلاقات التجارية: فلنا أن نتجر من غيرها إلا بما يعينهم على قتالنا، مع التنبيه إلى أنه لا يجوز بيع السلاح للدول المحاربة.
ثانياً:علاقات ثقافية: وهذه لا قيود عليها، فنُعلِّمهم ونتعلم منهم الأمور الدنيوية المتعلقة بتيسير حياة الناس على الأرض، مع الحرص على عقيدتنا. وقد تأثر الناس بنا كثيراً، لكنا تأثرنا بغيرنا في العصر الحديث.
ثالثاً:علاقات صناعية: وهذه أيضاً لا قيود عليها في مجال الطب والهندسة... إلخ.
وقد اختلف الوضع الآن في بلاد المسلمين:
فلم يعد للمسلمين كيان واحد بل دول -متقاتلة في بعض الأحيان، وصديقة في أفضلها- وقد تكون علاقتها مع غير المسلمين خير من علاقاتها مع بعضها، والأصل أن تكون الأمة الإسلامية في كيان سياسي واحد. قال الله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) آل عمران/103، لكن كل مسلم يشعر بأنه جزء من كل، وعسى أن ينمو هذا الشعور حتى تتحقق الوحدة الإسلامية.
كما أن بعض بلاد المسلمين محتلة في كثير من أرجائها (احتلالاً عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً...).
وكذلك فإن القوة الإسلامية الذاتية ما زالت في حالة نمو لم تتكامل، وبالتالي فإن حاجة الدول إلى بعضها أصبحت ماسة جداً لا يستغني بعضها عن بعض.
ثم إن خطر الحروب بالأسلحة الحديثة خطر حقيقي من حيث: شدة الدمار، وسرعة الوصول للأهداف.
وكل هذا يعني وجوب إعادة التفكير في العلاقات الإسلامية الدولية على ضوء المعطيات الحديثة.
وإذا تحققت العلاقات الطيبة بين المسلمين فإن هذا يفرض احترامهم على الأمم الأخرى، كما أن رأس مالهم هو دينهم ولا حرج عليهم في التمسك به، أما تحريرهم لأوطانهم فذلك حق مشروع في كل الأنظمة والقوانين.
وختاماً أُنبِّه إلى أنه في كثير من الأحيان يراد بهذه البحوث تبرير الواقع وهذا خطأ؛ لأننا في حالة استثنائية، والبحث في هذا الموضوع ينبغي أن يتناول الوضع المثالي الصحيح؛ ليصبح مطبقاً في الواقع.