الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن العبادات مبنية على وجوب الاحتياط فيها، وأدائها على أكمل وجه؛ لتقع موقعها من إبراء ذمة المكلف، وتحصيل الأجر عليها من الله تعالى. ومن هذه العبادات الصيام الذي كلفنا الله تعالى بالاحتياط فيه، فقال سبحانه وتعالى:(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/185، وقال عز شأنه: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) البقرة/187.
فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بمراعاة صيامنا وعدم التفريط في أدائه، ويحذرنا من كل فعل قد يؤدي إلى إفساده، وإذا كان ذلك كذلك فإنه يجدر بنا أن ننبه على بعض التصرفات التي تخدش الصوم وتفسده للحذر منها وتوقيها؛ فالاحتياط للدين مطلوب، وقد أحسن من قال:
عَرَفْتُ الشّرَّ لا لِلـشّرِّ لَكِنْ لِـتَوَقّيهِ
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشّرَّ منَ الناسِ يقعْ فيهِ
وتفصيل ذلك كما يأتي:
المسألة الأولى:كراهة المبالغة في المضمضة والاستنشاق أثناء الصيام:
المبالغة في المضمضة والاستنشاق من سنن الوضوء، إلا للصائم فإنه مكروه احتياطاً للصوم خشية إفساده، لحديث لقيط ابن صبرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(وبالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً) رواه الترمذي. وعليه فإن بالغ فيهما فوصل الماء إلى جوفه فسد صومه، فيمسك ويقضي بعد رمضان. وكما أنّه لا يجوز التعدي والمبالغة في المضمضة للصائم، فإنه لا يليق به ترك المضمضة والاكتفاء بمسح الشفة؛ لأن المضمضة مقتضاها إدارة الماء في الفم، والمطلوب التحذير من المبالغة أثناء الصيام؛ لأنه يُخشى من إفساد الصيام، وليس المطلوب ترك المضمضة بالمطلق.
ويستثنى من ذلك المبالغة في المضمضة لإزالة نجاسة في الفم، كدم لثة، فإنه لو بالغ لإزالة ذلك فسبق الماء إلى جوفه لا يضره للحاجة إليه.
المسألة الثانية:كراهة ذوق الطعام والعلك في رمضان:
ومما ينبغي للصائم اجتنابه والابتعاد عنه على وجه الاستحباب ذوق الطعام خوفاً من وصول شيء من الطعام المذوق إلى جوفه؛ فيفسد بذلك صومه، وربما حمله الذوق على تعاطي المذوق، لشدة الجوع وغلبة الشهوة، ولذا كان الأجدر بالمسلم الحريص على صيامه ترك ذلك، إلا لمن كان محتاجاً إليه، كامرأة رجل سيئ الخلق، أو رجل يعمل في مطعم يقدم وجبات إفطار للصائمين ويخشى فساد الطعام إن لم يتذوقه،؛ فلهم التذوق بشرط أن لا يصل شيء من الطعام إلى الجوف، وإلا فسد صومه ووجب عليه الإمساك والقضاء.
وأما العلك فالمقصود به العلكة العربية التي لا طعم لها، فالأولى بالصائم ترك ذلك مخافة أن يتفتت فينفصل منه شيء فيدخل إلى جوفه، فيفسد بذلك صومه.
قال الشربيني رحمه الله تعالى: "ويستحب أن يحترز عن... ذوق الطعام، خوفاً من وصوله إلى جوفه أو تعاطيه لغلبة شهوته، وعن العَلك أي المضغ؛ لأنه يجمع الريق، فإن ابتلعه (الريق) أفطر في وجه، وإن ألقاه عطشه"([1]).
المسألة الثالثة:ربط الإفطار وبدء الصيام بمواعيد الأذان المنضبطة:
الأصل في المسلم أن يتحرى لصيامه ويحتاط لذلك، فيمتنع عن الأكل والشرب وسائر المفطّرات من طلوع الفجر إلى أذان المغرب، وعلى الصائم أن يتحرى الدقة، ويحتاط لذلك، وأن لا يسقط ضحيةً للهوى واتباع الآراء التي تبييح للصائم الاستمرار في الأكل والشراب بعد أذان الفجر، أو تبيح له الإفطار بغياب الشمس عن المنطقة التي يسكن فيها.
فالقرآن العظيم قد ضبط المسألة بأنّ جعل المرجع في ذلك إلى التبيُّن، فالامتناع موقوف على تبين طلوع الفجر، والإفطار مرتبط بغروب الشمس، لقوله عز وجل:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187. وعن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ بلالاً يؤذّن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) رواه البخاري.
أما ما يستدل به على الاستمرار في الأكل والشرب في أثناء الأذان بما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته)، فقد أجاب النووي عن ذلك نقلاً عن البيهقي بأن هذا -إن صحّ- محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه يُنادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر([2]). أو أن المقصود بالنداء هنا: النداء الأول؛ ليكون موافقاً لبقية الأحاديث([3]).
وأمّا الاستدلال على جواز الفطر قبل أذان المغرب بما روي عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فلما غربت الشمس قال لبعض القوم:(يا فلان، قم فاجدح لنا). فقال: يا رسول الله، لو أمسيت. قال:(انزل فاجدح لنا). قال:إنّ عليك نهاراً. قال: (انزل فاجدح لنا). فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا -وأشار بيده نحو المشرق- فقد أفطر الصائم) متفق عليه.
قال النّووي رحمه الله:"ومعنى الحديث أنّ رسول الله وأصحابه كانوا صياماً وكان ذلك في شهر رمضان كما صرح به في رواية يحيى بن يحيى، فلمّا غربت الشمس أمره النّبي صلى الله عليه وسلم بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطَب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس؛ فظنَّ أنَّ الفطر لا يحل إلا بعد ذهاب ذلك"([4]).
فالحاصل أن هذا الحديث لا يتعارض مع الأصول العامة للصيام، فالصيام ينقضي بدخول الليل الذي علامته غروب الشمس، ومن المعلوم أنّه بعد الغروب يستمر الضياء بعض الوقت، فيظهر الشفق الأحمر، ويكون هناك شيءٌ من الضياء، ولكن ما دام أنّ الشمس قد غابت، فلا يضر وجود شيء من ضوء النهار بعد ذلك حتى تدخل العتمة.
وعليه فالاستدلال بهذا الحديث على الإفطار قبل أذان المغرب، من شأنه أن يُؤثِّر على صحة الصيام، ويفكك توحّد المسلمين في البلد الواحد، ويوجد حالة من الفوضى والفتن التي يجب على المسلمين الحذر منها.
ثم إن الحديث ينصُّ على أن المسلمين كانوا في سفر فراقبوا غياب الشمس، فلما غابت أمرهم النبي بالفطر، أمّا في الحضر، فنجد النّبي صلى الله عليه وسلم يربط الناس بالأذان، كما في الحديث المتقدِّم:(إن بلالاً يؤذّن بليلٍ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أمّ مكتوم)، فالإسلام يدعو إلى ضبط الأمور، أمّا الفوضى التي تفسد الصيام وتشق وحدة المسلمين فأمر لا يُقرِّه الشرع.
وأنا أخشى على أولئك الذين يفطرون قبل التحقق من غروب الشمس أن يدخلوا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر فيه عن قوم من أهل النار يوم القيامة:(بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبْعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: إنا سنسهله لك. فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت: ما هذه الأصوات؟! قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟! قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
المسألة الرابعة:استحباب الاغتسال من الجنابة ونحوها قبل الفجر:
ذهب الشافعية إلى استحباب الاغتسال عن الجنابة والحيض والنفس قبل الفجر، لعدة أمور([5]):
الأول: أن يخرج من خلاف من قال بعدم صحة صيام من أصبح جنباً، وهو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، وقد قيل إنه قد رجع عن ذلك([6]).
الثاني:حتى يكون على طهر من أول النهار.
الثالث:مخافة أن يصل شيء من الماء إلى باطن أذنه أو دبره أو فمه أو أنفه، فيفطر إذا صاحب ذلك مبالغة من المغتسل.
المسألة السادسة:كراهة القبلة للصائم:
القبلة مكروهة لمن حركت شهوته ذكراً كان أو أنثى خوفاً من إفساد الصوم بالجماع أو الإنزال، ومثل القبلة في ذلك المعانقة واللمس من غير حائل([7])، هذا إذا حركت شهوته، أما إذا لم تحركها فالأولى له تركها سداً للذريعة، فلربما ظنها غير محركة لشهوته وهي محركة له في نفس الأمر.
كما أن الصائم يندب له الابتعاد عن الشهوات والعزوف عنها، وهذه الكراهة كراهة تحريم في الأصح عند الشافعية لما قد يترتب عليه من إفساد العبادة، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من حمى المحرمات([8])، فقال عليه الصلاة والسلام:(فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) رواه البخاري.
المسألة السابعة:كراهة الحجامة للصائم والتبرع بالدم:
الأولى للصائم تركهما لما قد يترتب عليهما من ضعف الصائم وتعبه، مما يؤدي إلى عدم قدرته على مواصلة الصوم وإتمام اليوم([9])، فإن علم من نفسه القدرة على الصيام مع التبرع بالدم والاحتجام فلا بأس في ذلك، وعليه يحمل ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
المسألة الثامنة:كراهة السباحة:
ومما يجدر بنا أن ننبه عليه، ونلفت أنظار الناس إليه، كراهة السباحة للصائم في نهار رمضان، وذلك لما يترتب عليه غالباً من دخول الماء إلى الجوف، سواء أكان ذلك من الفم أو الأذن أو الأنف، مما يؤدي إلى فساد الصوم وبطلانه. ولا يبعد أن يقال:إنْ عَلِمَ السابح وصول شيء من الماء إلى جوفه، أو ظن ذلك من خلال تجاربه المتكررة لا يبعد أن يقال عندئذ بحرمة السباحة، أما من علم أو ظن من خلال تجاربة المتكررة في السباحة أنه لا يصل إلى جوفه شيء، كُره ذلك له ولم يحرم.
وهذا الذي قيل من الكراهة مبني على ما علل به الشربيني رحمه الله استحباب اغتسال الجنب والحائض والنفساء قبل الفجر حينما قال: "وخشية من وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه"([10]).
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صيام رمضان وقيامه، وأن يجعلنا من عتقائه، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
([1]) الشربيني، محمد بن محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، بيروت، دار الفيحاء (2/ 196).
([2]) النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، المجموع، 1997م، دار الفكر، بيروت (11/ 208).
([3]) النووي، المجموع (6/ 319).
([4]) النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، 1392هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت (7/ 211).
([5]) الشربيني، مغني المحتاج (2/ 195).
([6]) مالك بن أنس الأصبحي، الموطأ (رواية محمد بن الحسن)، دار القلم، دمشق، 1991م (2/ 164).
([7]) الشربيني، مغني المحتاج (2/ 179).
([8]) المرجع السابق (2/ 179).
([9]) المرجع السابق (2/ 181).
([10]) المرجع السابق (2/195).