الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإنه إذا مات ابن آدم أصبح جميعُ ما كان يملكه عند وفاته من أموال تركةً، سواء أكان هذا المال منقولاً كالنقد والأثاث وغيره، أم غير منقول كالأراضي والعقارات، أو كان نتاج مجهود قد فعله في حياته وتحصَّلت ثمرته بعد وفاته، كأن نصب شبكة للصيد فوقعت فيها طريدة، أو كان دية أو أرش جراحة، أو كان وديعة قد أودعها عند أحد أبنائه [انظر:مغني المحتاج: 4/ 7].
ويتعلق بهذه التركة حقوق أربعة، وهي مرتبة على النحو الآتي:
الحق الأول:تجهيز الميت:
والمقصود بتجهيزه:غسله وتكفينه ودفنه بما يليق بأمثاله. حيث إن تجهيز الميت حاجة من حاجاته؛ فكما كان يقضي حاجاته في الدنيا يتم تجهيزه على الكيفية نفسها من غير إسراف ولا تقتير، وبما يليق بحاله عسراً ويسراً.
فحق التجهيز لا يُقدَّم عليه شيء إلا دَيناً تعلق بعين التركة، كالرهن والزكاة إن كانت وجبت قبل وفاته، والمقصود بالحق المتعلق بعين التركة: أي أن الدين تعلق بالعين نفسها كالأرض المرهونة، أو المبيع إذا كان المشتري مفلساً.
قال الإمام النووي:"فإن تعلق بعين التركة حق: كالزكاة والجاني والمرهون والمبيع إذا مات المشتري مفلساً، قدم على مؤنة تجهيزه. والله أعلم." [منهاج الطالبين: 180]، وإنما قُدم تجهيز الميت على قضاء ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت أحدَهم الوفاةُ أمر بتكفينه ودفنه، كما حصل مع المُحْرِم الذي وقصته ناقته فمات، فقال صلى الله عليه وسلم:(اغْسِلُوهُ بِماءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلَبِّيًا) [متفق عليه]، من غير أن يستفسر عليه الصلاة والسلام إن كان على الميت دين، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الجنازة يسأل هل على صاحبها دين؟ فإن كان عليه دين قال:(صَلّوا عَلَى صاحِبِكُم) [رواه البخاري، وانظر: مغني المحتاج: 4/ 7]، ولأن المحجور عليه لفلس يترك له ما يستره، فهذا أولى، قال الإمام الرملي: "لاحتياجه لذلك كالمفلس، بل أولى لانقطاع كسبه بالمعروف" [نهاية المحتاج: 6/ 5].
وليحذر أهل الميت كل الحذر من الإنفاق على مراسيم الجنازة والعزاء من أموال التركة، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن أموال الميت قد أصبحت من حق الورثة بعد إخراج الحقوق الأخرى، فلا يتصرف فيها إلا بإذنهم ورضاهم، وإذا كان للميت ورثة قاصرون حرم الإنفاق من أموالهم، ولا عبرة بإذنهم؛ لأنهم لا يملكون الإذن أصلاًً.
فليتقِ الله عز وجل من يسرف في مراسيم الجنازة من أموال الميت؛ لأن هذه المراسيم ليست من تجهيز الميت في شيء، فالتجهيز كما سبق بيانه هو تغسيل الميت وتكفينه ودفنه فقط، بل إن غالب هذه المراسيم يُبالغ فيها ويدخلها في بعض الأحيان الكثير من الرياء والسمعة.
أما إن تبرع بها أحد الورثة الذين هم من أهل التبرع من ماله الخاص؛ فلا بأس فيها إن كانت في حدود المعروف.
الحق الثاني:قضاء الديون:
بعد تجهيز الميت تقضى ديونه، وهي على قسمين: ديون للعباد، وديون لله تعالى.
فديون الله تعالى ما كان على الميت من حقوق الله تعالى كالنذر أو الكفارة أو حج الفريضة.. إلخ، وديون العباد هي الديون المعروفة بين الناس، والناشئة عن قرض أو دين معاملة، ومنها مهر الزوجة المؤجل، فإنه من جملة الديون التي يجب قضاؤها وقد يغفل عن ذلك كثير من الناس.
فإن أمكن قضاء جميع تلك الديون من التركة فبها ونعمت، وإن لم تف التركة بهذه الديون وتزاحمت فالمقدم منها -على الراجح عند الشافعية- ما كان ديناً لله تعالى كالحج والزكاة والنذر، قال الخطيب الشربيني: "ويقدم دين الله تعالى كالزكاة والكفارة والحج على دين الآدمي في الأصح" [مغني المحتاج: 4/ 7]، وقد استدل فقهاء الشافعية على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) [متفق عليه].
الحق الثالث:تنفيذ الوصايا:
إذا أوصى الميت بشيء وجب تنفيذ وصيته، لكن في حدود ثلث المال الباقي، ولا يجوز أن يتجاوز في تنفيذ الوصية حدود هذا الثلث إلا إذا أجاز ذلك الورثة البالغون العاقلون، وتكون إجازتهم تبرعاً منهم بحق ثبت لهم؛ لأن هذه الحقوق مقدرة ومبيَّنة لا يجوز أن يطغى فيها حق على غيره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لسعد بن أبي وقاص حين أراد رضي الله عنه أن يوصي-:(فالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)[رواه الشيخان]، وللوصية شروط وقيود لا مجال لذكرها هنا.
الحق الرابع:الميراث:
فبعد الحقوق الثلاثة الماضية بضوابطها يكون المال المتبقي ميراثاً، يوزع بين الورثة بمقدار حصصهم الشرعية، وهنا لا بد من التنبيه على أربعة أمور:
الأمر الأول:أن حق الورثة بالتركة لا يستقر إلا بعد أن تُخرَج الحقوق السابقة، فإن أخذ أحد الورثة من التركة قبل ذلك شيئاً ولو قليلاً كعصا كان يتوكأ عليها الميت إنما يأخذه ظلماً وعدواناً؛ لأنه آخذ لحق ليس له، فربما كان هذا الذي أخذه لدائن أو لموصىً له.
الأمر الثاني:جميع ما يتركه الميت هو تركة، ما قلَّ منه أو كثر، وسواء منه الثمين والحقير، فلا يجوز أن يأخذ أحد الورثة شيئاً من التركة دون علم الآخرين ورضاهم، ولو كان أخذه له بعد قضاء الديون. وإن كان في الورثة أطفال صغار فلا يجوز له ذلك بحال، وليحذر من يفعل ذلك عذاب الله تعالى وتوعده؛ لأن من يعتدي على حق الصغير هو معتدٍ على مال اليتيم، ولو كان هذا اليتيم أخاه، قال الله تبارك وتعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء/10.
الأمر الثالث:أن من الأموال التي يُظن أنها ميراث ما هو حق للزوجة، كالأثاث الذي أحضره الزوج لها وكان من جهازها، أو اتفقوا على أن يكون المهر أو جزء منه أثاثاً، أو ما أهداه أهل الزوجة للزوجة، فهذا ليس من الميراث بحال، بل هو ملك للزوجة أباحت هي استعماله لزوجها ولأولادها.
الأمر الرابع:إن الودائع التي يضعها الميت عند أحد أبنائه لا يجوز له التصرف بها؛ لأنها ميراث -كما سبق وأشرنا إلى ذلك- فهي حق لجميع الورثة.
نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا، ويغفر لنا، ويسترنا في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.