معلم الناس الخير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعث الله تعالى الأنبياء حملة رسالات مبلغين ومعلمين للناس؛ ليخرجوهم من ظلمات الجهل والغواية إلى نور العلم والهداية لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء والمرسلين، به ختم الله الرسالات السماوية، مستكملاً رسالات من سبقه من الأنبياء عليهم السلام، فأرسله الله سبحانه وتعالى ليعلم البشرية جمعاء ويهديهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، بعد أن كانوا في ضلال مبين وجاهلية عمياء، ومرشداً لهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، ومنيراً لما أظلم عليهم من ظلمات الجاهلية، فنمى بذرة الخير في المجتمع ورواها بماء العلم ونور الإيمان، وبدل المفاهيم والمعتقدات التي أدت إلى جهلهم وتخلفهم، فقال تعالى:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2 ].
وقد كان صلى الله عليه وسلم خير معلم يحمل رسالة الوحي ويعمل لأجلها؛ لبناء أمة جديدة أول مقوماتها النظر بنور العلم والبصيرة، فحول الأمة الأمية المتخلفة عن ركب الحضارة إلى أمة قراءة وكتابة تستمد همتها وبصيرتها من المعجزة الخالدة التي كان أول نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بالأمر بالقراءة، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5].
فلم تكن هذه المهمة العظيمة أمراً سهلاً ولا ميسوراً، بل كانت شاقة صعبة؛ ذلك أن صناعة الإنسان وإخراجه من الجهل إلى العلم والمدنية يحتاج إلى تضحيات عظيمة، خاصة إذا كان ذلك الجهل مغلفاً بمصالح شخصية، ونزعات قبلية كانت سائدة في ذلك المجتمع، فتعرض صلى الله عليه وسلم لشتى صنوف المقاومة المادية والمعنوية، فقاوموه بالترغيب تارة حين عُرض عليه المال والجاه والمُلك مقابل أن يتخلى عن رسالته ومبادئه وقيمه، التي يغرسها في نفوس الناس وقلوبهم، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً يعبر عن حامل رسالة ربانية يضحي لأجلها، فيقول لهم بكل ثقة وحزم: "والله لوْ وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركتُه"، وتارة أخرى بالترهيب، فحاربه قومه وأخرجوه من دياره، وتآمروا على قتله، وعذبوا أتباعه، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان صابراً على أذاهم، متصدياً لمكرهم، ساعياً وراء هدفه، متمسكاً بمادئه وقيمه دون أن ينتظر مقابلاً مادياً أو معنوياً من أحد سوى من الله عز وجل (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ . إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ . وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص: 86-88].
فكان أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة بناء المسجد ليكون منارة للعلم والمعرفة ونشر الخير والهداية، فأصبح المسجد مكان العبادة والتعليم والقضاء والخطابة والتوجيه، وكان صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول الذي تخرج من مدرسته معلمون حملوا رسالة العلم إلى الأمصار، بعد أن نهلوا من علم نبيهم صلى الله عليه وسلم، واستضاؤوا بنور معرفته، لينشروا رسالة العلم والمعرفة، ويكونوا سفراء لهذا الدين العظيم، فأرسل صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، وأبا هريرة إلى دوس.
كما أعلى صلى الله عليه وسلم قدر العلم ورفع من شأن العلماء، فقال صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" [سنن الترمذي]، وما كانت هذه الرفعة والدرجة العالية لطلب العلم إلا لأن العلماء هم الذين ينهضون بالأمة، ويدركون حقيقة الاستخلاف الذي يؤدي إلى عمارة النفس بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والثقة بتوفيقه، والذي يؤدي إلى عمارة الأرض والانتفاع بموجوداتها وتنميتها دون هدر أو تفريط، فيرتفع العمران ويحيا الإنسان، ضمن منهج قويم حكيم يقوم على مراقبة الله تعالى في الأمور كلها، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28].
وكما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم من قيمة العلم والعلماء كان هو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في تعليم الناس الخير فكان قرآناً يمشي على الأرض ونوراً يقتبس منه المسلمون مشاعل الهداية، وبحراً يغترفون منه قيم الحق والعدل والخير، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم درساً عملياً في نشر الخير وتعليم الناس، ومن أبلغ الدروس التي نستفيدها من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم هو تعليم الناس الرحمة بالعباد وتهذيب الأخلاق، وإحياء الضمائر، والتعامل مع ظروف الناس ومستجداتهم، ومخاطبتهم بلسان صدق دون تجريح، ونصحهم بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني معنتا، ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا) [صحيح مسلم]، ولنا في تصرفه صلى الله عليه وسلم مع ذلك الأعرابي الذي تكلم أثناء صلاته خير دليل على رحمته صلى الله عليه وسلم وحُسن تعليمه للناس بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى نطق لسان الأعرابي عن جميل صفاته صلى الله عليه وسلم، وعظيم أخلاقه فقال: "بأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) [صحيح مسلم].
وفي قصة الأعرابي الذي بال في المسجد دليل آخر على حُسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وتأديبه لصحابته، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، وحدود إدراكهم، فحين استعظم الصحابة فعله وقاموا عليه مغضبين يريدون نهره والبطش به بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم حُسن إدارة المواقف وحُسن الرد على المسيئين فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (دَعُوهُ وَلاَ تُزْرِمُوهُ) قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عزّ وجل، وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) [صحيح مسلم]، فأشرق وجه الأعرابي وقلبه، فرفع يديه داعياً: "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا"، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد ضيقت واسعاً).
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون حُسن طلب الحقوق وحُسن أدائها حين جاءه رجل له دين فأخذ بمجامع قميص النبي صلى الله عليه وسلم، ونظر إليه بوجه غليظ، ثم قال: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، ولقد كان لي بمخالطتكم، فقام إليه عمر بن الخطاب يريد البطش به فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: (يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ الطلب، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ)، فأسلم هذا الرجل بحسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له، وحسن أدائه الحقوق إلى أصحابها.
وكانت النتيجة أن آتت هذه الدعوة أُكلها، وأينعت ثمارها جيلاً قاد الأمة إلى أعالي قمم الرفعة، ورفعها من حضيض الثرى إلى نجم الثريا، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب) [الزمر: 9]، ففتحت أمتنا القلوب والعقول قبل أن تفتح الحصون والقلاع، ولا زالت أمتنا قادرة على متابعة سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم، والالتزام بهديه ونهجه والمحافظة على إرثه، ولنا في بلادنا وأوطاننا ما نفاخر من أصحاب العلم والعلماء الذين ينيرون الطريق لمستقبل أمتنا وأبنائنا.
والحمد لله رب العالمين