نفحات من ذكرى الإسراء والمعراج
عاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطائف مهموماً مغموماً بعد أن صده أهلها وآذوه أشد الإيذاء حتى سال الدم الزكي من أقدامه الطاهرة، فتوجه إلى ربه مناجياً بكلمات يقول فيها: (اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك).
خرجت هذه الكلمات من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تخرج من لسانه الشريف، ومنها نعلم أن همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يدور على رضا الله تعالى، وأن لا يكون ما حلّ به من التعذيب والتكذيب سبب غضب من ربه، فهمّه عليه الصلاة والسلام لم يكن بسبب ألمٍ ألمَّ به، وإنّما همّه وغمّه كان على قومه الذين يدعوهم إلى النور والهدى، وهم يبارزونه بالعداء.
لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته ما لم يتحمله أي نبي قبله، وكان كلما زاد عليه قومه بالتعذيب والابتلاء زاد عليهم بالحلم والعفو، فكان حقاً رحمة للعالمين، وصدق حين قال عن نفسه صلّى الله عليه وسلم: (إنّما أنا الرحمة المهداة)، فها هو جبريل يأتيه ومعه ملك الجبال بأمر من الله تعالى أن يطيعه في شأن قومه، فيقول له ملك الجبال: إن شئت لأطبقنّ عليهم الأخشبين، وفي هذا الموقف العصيب تتجلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في أبهى صورها، فهو لم يرض بعذاب قومه وهلاكهم فحسب، بل ها هو يدعو لهم ويقول: لا يا أخي جبريل، فعسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله، فقد كان لسانه يردد يوما يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)، ولست أبالغ حينما أقول إنّ سيدنا رسول الله كان هو النبيّ الوحيد من بين أنبياء الله ورسله الذي استخدم دعوته المستجابة لتكون شفاعة منه لأمته يوم القيامة، أما غيره من الأنبياء فقد دعوا على أقوامهم بالهلاك والدمار، وبذلك استحقّ أن يكون سيد أُولي العزم من الأنبياء والرسل.
في ظل هذه الظروف القاسية والمعاناة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتظر لذلك بدلاً أو مكافأة من أحد، وإنما يعبد الله سبحانه وتعالى لأنه الله تعالى، ولأنه أعرف الناس بالله تعالى، فهذه المعرفة هي التي حققت للنبي عليه الصلاة والسلام أسمى معاني العبودية، فكان حقاً عبداً لله تعالى، واستحقّ أن يرفعه الله تعالى إلى أعلى المراتب، فكانت عبوديته وغاية تذلّلـه لله تعالى سبباً في رفعته إلى الدرجات العلى إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى، فكان قاب قوسين أو أدنى.
فجاءت رحلة الإسراء والمعراج تثبيتاً لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له ورفعة له لما حققه من العبودية الخالصة لله تعالى، ولذلك صدّر الله تعالى سورة الإسراء بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
في هذه الرحلة التي أرى الله تعالى فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من آياته الكبرى، رأى النبي صلى الله عليه وسلم بأم عينه آيات الله تعالى ومظاهر قدرته، رآها عين اليقين بعد أن كان يعلمها علم اليقين، رأى الغيب الذي كان يدعو الناس إليه، فصار الغيب بالنسبة له شهادة، فكانت رحلة تعليمية تعلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من المعارف، فكان صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل في كل مرحلة من مراحلها ويجيبه جبريل عليه السلام، فقد مرّ في رحلته على أرض يثرب التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ له معها موعداً، ومرّ ببلاد الشام ومن فوق ثرى الأردن، فنالت هذه البلاد من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالها، وأثناء عروجه إلى السموات العلى رأى بعض الأنبياء والمرسلين الذين كانوا في استقباله حتى لا يستوحش من عظم الآيات التي سيراها؛ ورأى أصنافاً من الناس تعذب، وكان يسأل عنها فيخبره جبريل، فرأى أكلة الربا والزناة، ومن يقع في أعراض الناس ويأكل لحومهم بالغيبة وغير ذلك، ورأى ألواناً من النعيم، ورأى قصراً في الجنة فسأل عنه، فقيل له: هذا قصر عمر بن الخطاب، ورأى رضوان خازن الجنة ومالكاً خازن النار، ورأى نهر الكوثر الذي اختصه الله به وغير ذلك من الآيات الباهرات.
فصارت دعوته بعد ذلك عن رؤية حقيقية، ولم تكن عن علم غيبي فحسب، فنبينا رأى كل هذه الآيات من غير طلب منه ولا تشوف إليها، ففي حين يطلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ويطلب موسى عليه السلام من ربه أن يريه ذاته المقدسة، فإنّ رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم أعطي هذه الآيات وغيرها من غير طلب منه ولا تشوف.
في رحلة الإسراء والمعراج؛ كان الربط الإلهي بين الأرض والسماء، فنبينا هو النبي الوحيد الذي صعد من الأرض إلى السماء السابعة وإلى سدرة المنتهى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فتشرف النبي صلى الله عليه وسلم بالتحدث مع ربه ومحبوبه مشافهة من غير حجاب، ونال منزلة لم ينلها قبله نبيّ مرسل، ولا ملك مقرب، ونال من العطايا الإلهية والمنح الربانية ما تعجز عن وصفه الكلمات، ولم تكن أمته في معزل عن هذه العطايا، فخصّها الله تعالى بالصلاة، فجاءنا بالصلاة التي فرضها الله علينا من السماء لتكون معراجاً يومياً لنا تعرج فيها أرواحنا إلى السماء كما عرج نبينا صلى الله عليه وسلم إليها، فكانت الصلاة خير العطايا وخير المنح التي أكرمنا الله تعالى بها، فهي منحة إلهية سماوية وليست مجرّد عبادة أرضية.
هذا وكانت الرحلة رابطاً بين أقدس بقعتين في الأرض وأقدم مسجدين وضعا للناس لعبادة الله تعالى، بين بيت المقدس وبين بيت الله العتيق لتعود التوأمة بين هذين المكانين كما كانت في السابق، ليكون بذلك المسجد الحرام صنو المسجد الأقصى، وليعرف بذلك أنّ حرمة المكانين هي حرمة واحدة، فكما أنّ الكعبة هي قبلة المسلمين فالمسجد الأقصى هو قبلة الأنبياء والمرسلين، ولذا لم يكن عجباً أن يؤمر النبي عليه الصلاة والسلام وتؤمر أمته بالتوجه إلى المسجد الأقصى وبيت المقدس في صلاتها أول الأمر، ليكون المسجد الأقصى قبلة كل الموحدين، ولكن نبينا عليه الصلاة والسلام أراد لأمته التميز على غيرها من الأمم، فتوجهت نفسه للكعبة المشرفة قبلة الملائكة، فجمعت هذه الأمة بين الشرفين والعزين، عز بيت الله الحرام وشرفه وعز بيت المقدس وشرفه.
وبين أول الأنبياء وآخرهم كانت فرحة اللقاء بينهم في بيت المقدس، فاكتمل بذلك البناء وشدّ بعضهم أزر بعض، وسلمت الراية إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم، ونال الأنبياء جميعاً شرف السلام على رسولنا والتعرف عليه، ونالت هذه الأمة شرف السيادة والزعامة على جميع الأمم، فصارت خير أمة أخرجت للناس، لأنّ نبيها سيد ولد آدم، فآدم ومن دونه تحت لوائه عليه الصلاة والسلام.
عاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة مفعماً بالأمل، فلم تكن هذه الرحلة سبباً في دعته وراحته، بل زادت من همته للدعوة، وحركت نشاطه إليها، فما أن بزغ نور الفجر حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه وأهل عشيرته عن رحلته المباركة، وما رأى فيها من آيات ومعجزات باهرات ساطعات، لم يقلها تفاخراً، وإنما قالها ليعرّف الناس بعظمة المعبود الذي يدعوهم إلى عبادته وتوحيده، وأن قدرته لا يعجزها شيء، وليمحص النبي قلوب أتباعه، ويميز القوي من الضعيف، فقويهم كأبي بكر لم يتشكك في رواية النبي صلى الله عليه وسلم أبداً وصدّق به بمجرد قوله، وقال: إذا كنت أصدقه في خبر السماء، أفلا أصدقه في خبر كهذا؟ فكان حقاً إمام الصديقين، واستحقّ بذلك أن يكون أبا بكر الصديق، وتردّد بعضهم ولكنه لما أمعن النظر وفكر وتدبر وعلم أنه صادق فيما يخبر جزم بصدق هذه الرواية، وأما ضعفاء الإيمان فقد ارتد بعضهم ولم يستوعب ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه المعجزة ابتلاءً ابتلي به المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، فزاد إيمان أكثرهم، وما ضرّ النبي صلى الله عليه وسلم ردة بعضهم.
عرفتنا هذه الرحلة مكانة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعرفنا بها كيف أن الله تعالى ينصر رسله وعباده عندما تضيق الأرض عليهم، فهي رسالة وتسلية إلى كل مهموم ومغموم ومظلوم: أن لا تفقد الأمل والثقة بالله تعالى، فمن فرج عن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج له من الظلمة نوراً، ومن الهمّ مخرجاً، لا يترك عباده هملاً، فهو ربهم الذي يتعهدهم بالرعاية والعناية، وليس للعبد إلا أن يلجأ إليه في الملمّات فيجد الله رحيماً حليماً، ويرى من فضله وإحسانه ما تقرّ به العيون وتطمئن به القلوب، فلا يتسلّل القنوط واليأس إلى قلب عبد مؤمن مهما اشتدت به الخطوب وتعاظمت الهموم، فتكون أيها المؤمن قوياً متفائلاً في جميع شؤون حياتك، ويكون قدوتك في ذلك كله صاحب هذه الذكرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.