ذكرى الإسراء والمعراج
ارتباط بين القدس والأمة
قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]
فقد كانت مدينة القدس مكاناً تجلى فيه معنى وحدة دعوة الأنبياء، إذ جمع الله فيها الأنبياء ليلة الإسراء وأمهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ابتداء بناء بيت المقدس بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام) قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى) قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون سنة).
وهو يدل على أن سيدنا آدم أو أحد أبنائه هو من وضع أساس قواعد بيت المقدس، وإبراهيم عليه السلام هاجر إلى بيت المقدس وسيدنا موسى عليه السلام وقف على مشارف مدينة القدس، وقد أدركه الأجل في الأرض المقدسة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، ولو أني وأنتم ثم -أي: هناك- لأريتكم قبره). وهذا يدل على شرف وفضل بلاد الشام، فهي أرض الأنبياء، وبركة السماء.
وسيدنا عيسى عليه السلام، كانت ولادته ودعوته في أرض بيت المقدس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أُسري به في ليل الإسراء والمعراج إلى المسجد الأقصى المبارك، ومن هناك عرج إلى السماوات العُلى، ليرى من آيات ربه الكبرى، وفي الحديث أن نبينا صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعاً في المسجد الأقصى المبارك، فكانت رسالته هي الرسالة التي ختم الله بها رسالاته إلى الخلق أجمعين بعد تمام الدين وختام الشرائع السماوية.
وجاءت ليلة الإسراء والمعراج المباركة استكمالاً لمسيرة الأنبياء عليهم السلام، فكانت ربطا للأرض بالسماء انطلاقاً من أرض المسجد الأقصى المبارك، كما ربطت هذه الليلة المباركة المسلمين جميعاً وفي كل عصورهم ربطاً مكانياً وزمانياً بالمسجد الأقصى المبارك، ولذا فإن البعد الديني لقضية المسجد الأقصى المبارك اليوم يتحدد في ظل رسالة نبينا خاتم الأنبياء والمرسلين.
وما كان مقدساً لدى الأنبياء إبراهيم عليه السلام وسليمان وموسى وعيسى عليهم السلام هو مقدس لنا اليوم قال الله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة: 285.
وقد ارتبط النبي صلى الله عليه وسلم روحياً بأرض القدس والمسجد الأقصى من خلال رحلة الإسراء والمعراج حيث كانت تفريجاً للكرب الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ازداد أذى قريش له بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها، ثم توثق هذا الارتباط ليصبح ارتباطاً عقائدياً دينياً من خلال الأمر الإلهي باتخاذه قبلة للمسلمين يتوجهون إليه في صلاتهم خمس مرات يومياً، كما ربط النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالقدس والمسجد الأقصى المبارك ربطاً دينياً من خلال توجيههم للصلاة فيه وذكر فضائله، والدعوة لإعماره، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة المسجد الأقصى المبارك وشد الرحال إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى) متفق عليه.
وفيه دلالة على توجيه المسلمين إلى زيارة المسجد الأقصى ووصاله وقصده بالزيارة حتى يظل عامراً حياً بالمسلمين.
وما أن تولى أبو بكر الصديق الخلافة حتى وجه نظره إلى الأرض المقدسة، فسير الجيوش لفتح الشام، وتوفي في أثناء ذلك وتولى الأمر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، حيث كان أول ما فعله أن ولّى أبا عبيدة بن الجراح قيادة الجيش الفاتح للشام.
وفعلاً قام سكان مدينة القدس بتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، واشترطوا أن يتسلم مفاتيحها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سارع بالخروج لاستلام مفاتيح المدينة المقدسة، وما أن وصل رضي الله عنه إلى المدينة وأشرف عليها ورأى أسوارها حتى كبر وكبّر من معه تكبيراً عظيماً عرف منه أهل المدينة أن خليفة المسلمين وصل.
وقد كانت العهدة العمرية من أعظم الكتب التي توثق لكرامة الإنسان والمواطن وإعطائه حرية المواطنة وحرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي.
وبقي المسجد الأقصى المبارك بعد الفتح العمري يرفل بالأمن والأمان، ويزوره العبّاد والعلماء والصالحون وتنعقد في جنباته الحلقات العلمية والدروس، إليه تشد الرحال وتعانق مآذنه مآذن المسجد الحرام والمسجد النبوي المبارك، حتى دنسه الفرنجة عام 492هـ وقاموا باحتلاله وارتكبوا فيه الفظائع، حيث قتلوا ما يزيد عن سبعين ألفاً من المسلمين والصالحين، مما أوقع ألماً وحسرة في قلوب أبناء الأمة على قدسهم، لما له من مكانية دينية في نفوسهم، وبقيت القدس حاضرة ولم تغب لحظة عن أذهان الأمة بقادتها وعلمائها حتى تم استعادة القدس على يد صلاح الدين الأيوبي في السابع والعشرين من شهر رجب لعام 583هـ.
ودخل صلاح الدين المسجد الأقصى المبارك فأمر بتنظيفه ووضع فيه المنبر الذي بدأ بصنعه قبل سنوات في مدينة حلب، وقد حمله معه ليضعه في المسجد الأقصى المبارك، وبعد صلاح الدين الأيوبي توالت الهجمات على القدس لتكون هي محور الصراع، فحافظ عليها المسلمون وصدوا عنها كل عدوان وهم يستميتون في الدفاع عنها حتى جاء مشروع التقسيم على يد سايكس بيكو، ووعد بلفور لتزداد الأمة ضعفاً بعد ضعف، مما مهد لليهود عام 1948م باحتلال أجزاء من أرض فلسطين المباركة، وبعد ذلك جاء احتلال القدس ومسجدها الأقصى عام 1967م، وفي عام 1968م قاموا بإحراق المسجد الأقصى المبارك وإحراق المنبر الذي جلبه صلاح الدين رحمه الله تعالى بالكامل، وما زال المسجد الأقصى تحت احتلال اليهود حتى يومنا هذا.
وقد ارتبطت القدس والمسجد الأقصى ارتباطاً وثيقاً بالدولة الأردنية الحديثة من خلال ارتباطها المباشر بالهاشميين، حيث إن القدس إضافة إلى مدن الضفة الغربية كانت تتبع إدارياً للمملكة الأردنية الهاشمية.
فقد قدّم الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى دعماً وتبرعاً للمسجد الأقصى وأوصى بأن يدفن في جنبات الحرم القدسي الشريف، تجسيداً لتمسكه بالقدس وفلسطين والأقصى المبارك، واستشهد على عتباته الملك المؤسس عبد الله الأول ابن الحسين طيب الله ثراه، واستمر من بعده ابنه المغفور له الملك طلال رحمه الله، بالرعاية والاهتمام بهذه الأرض المقدسة، وبتوجيهات ملكية سامية من جلالة الملك الباني الحسين بن طلال رحمه الله فقد صدر القانون الأردني رقم (32) لسنة 1954م بتشكيل لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة، وذلك لتُعنى بالحرم القدسي الشريف وما يشتمل عليه من معالم إسلامية خالدة، ولتقوم هذه اللجنة بمهمة الرعاية والصيانة والترميم والمحافظة على المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة والمرافق كافة، وتابعة في هذا الاهتمام الكبير جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله، وذلك من خلال توجيهاته السامية المستمرة للجنة الإعمار وأجهزة الأوقاف بإيلاء المسجد الأقصى المبارك والمقدسات في القدس جل الاهتمام والعناية، وشملت مشاريع الإعمار في عهد جلالته على صيانة وترميم المسجد والقباب والمحاريب وغيرها من المعالم.. ومنها: قبة الصخرة المشرفة، والحائط الشرقي والجنوبي للمسجد الأقصى، ومنبر المسجد الأقصى المبارك "منبر صلاح الدين" الذي تشرف جلالته بوضع اللوحة الزخرفية على هيكل المنبر، وغيرها من الأعمال المتواصلة الدَّالة على الرعاية الخاصة من الهاشميين.
وهذه هي الحقيقة المقررة في عالم الإيمان والنبوات، أقول هذا هو التداخل الديني في تفسير علاقة الأردن بالقدس ومسجدها الأقصى، بغض النظر عن التداخل التاريخي ونظراته مؤيد بما هو مقدس من النصوص الشرعية الثابتة التي خلت من التغيير والتحريف والتبديل.
فالقدس هي ضمير الأمة وقلبها النابض، وأن أي مساومة على القدس ومسجدها الأقصى هي مساومة على الضمير والقلب، وبيع الضمير تأباه العقول الحصيفة والفطر السليمة فمن ذا الذي يعير قلبه.
ولا شك أن النصوص الشرعية جعلت قضية القدس مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعقيدة المسلمين، والعقائد لا تتغير بقرارات دولية تملى على الأمة في فترة ضعف تمر بها، سائلين الله تعالى أن يردّ المسجد المسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف إلى حوزة المسلمين، إنه سميع مجيب.