ومضات في مولد النور
شاءت إرادة الله تعالى أن يرسل للبشرية أنبياءه الكرام ورسله الأصفياء؛ ليهدوا الناس إلى الصراط المستقيم، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وقال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وهؤلاء الرسل هم صفوة الله تعالى من خلقه اختارهم الله تعالى من أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً ليكون لهم وظيفة هي من أشرف الوظائف، ألا وهي الدلالة على الله تعالى.
وقد أرسل الله تعالى لكل أمة نبياً منهم يعرفونه حقّ المعرفة، ويعرفون نسبه وخلقه، حتى ذلك يكون أدعى للقبول.
وقد كانت دعوة الأنبياء تنتهي بقبضهم ورفعهم إلى الله تعالى، أما دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعوة تامة مستمرة وباقية لا تنتهي إلى قيام الساعة، فكان اختيار الله تعالى لهذه المهمة الأبدية نبياً من الأنبياء فضّله على جميعهم، فهو سيدهم وسيد ولد آدم إلى يوم القيامة، إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف من ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح، وشاءت إرادة الله تعالى أن يفدى أبوه عبد الله أيضاً، كما فدى الله تعالى أباه إسماعيل فهو ابن الذبيحين.
جاء رسول الله تعالى إلى البشرية على فترة من الرسل، فترة زمنية طويلة، هي الأطول من بين فترات إرسال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد كانت سنة الله تعالى ماضية أن يرسل نبياً تلو نبيّ، فلا يقبض الله تعالى نبياً إلا ويرسل مكانه آخر، بل تعاصر في بعض الأزمان أكثر من نبيّ، ولما طالت فترة الانقطاع سادت البشرية مظاهر كثيرة من الانحرافات الفكرية والعقائدية والسلوكية، فعمّ الظلم، وانتشرت الطبقية، وقطيعة الرحم، وخلت المجتمعات من الإنسانية، فكان لا بدّ من إعادة تصحيح المسار، وعودة الحياة إلى طبيعتها، فأرسل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون ملاذاً للبشرية كلها، يرفع عنها الظلم، ويزيل مظاهر الاستعباد، ويعيد للإنسانية إنسانيتها التي فقدتها، ويعيد للبشرية كرامتها التي انتهكت؛ وليظهر على يديه تجلّي الرحمة الإلهية التي أرادها الله تعالى، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
نعم كان رسول الله مظهر رحمة، فهو الرحمة المهداة الذي ما عرفت البشرية أرحم ولا أكمل ولا أجمل منه، وصدق الشاعر حين قال:
وأجمل منك لم تر قط عيني ... وأطيب منك لم تلد النساء
خلقـت مـبرأ من كـل عـيب ... كأنـك قـد خلقـت كما تشاء
تغير وجه العالم لما أنْ بعث الله تعالى محمداً، بل بدأ بالتغير منذ ولادته عليه السلام، فهذه الأخبار تتوالى بأن إيوان كسرى يوم ميلاد النبي قد تصدع، ونار المجوس تنطفئ، وبحيرة ساوى تغوص، وتقول السيدة السعيدة الآمنة آمنة أم النبي عليه الصلاة والسلام: "لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج نور مني أضاءت منه قصور الشام" [مصنف عبد الرزاق الصنعاني]، وفي ذلك إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يصل ملكه إلى الشام، فلم تكن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولادة عادية لشخص عادي، بل كانت مؤذنة بولادة أمة، فقد أدبه ربه وأحسن تأديبه، كما قال هو عن نفسه، فلم تأدبه أم ولا أب ولا جد، بل لقد كانت عناية الله تعالى هي المربي والموجه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصدق البوصيري حين قال:
كفاك بالعلم في الأُمِّيِّ معجــــــــــزةً .... في الجاهلية والتأديب في اليتـــــم
كانت بعثته صلى الله عليه وسلم للبشرية كلها إيذاناً بإتمام الرسالات السماوية وختمها، فقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، نعم ختمت الرسالات السماوية بمبعثه، وحريٌّ به أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين، فما أوتيه صلى الله عليه وسلم من خلق ورحمة لم يؤته أحد غيره من الأنبياء والمرسلين، فقد جمع الله تعالى له ما تفرق من الحسن والكمال في جميع الأنبياء، جمعه فيه دفعة واحدة، فهو الأجمل والأكمل والأتم خلقاً ورحمة، حتى استحق أن يكون رحمة للعالمين، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، أوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة عالمية بعد أن كانت العرب أمة أمية، فدعاهم إلى العلم والتعلم، ونبذ الخرافات، واستعمال العقل، والبحث في مكنونات الكون، وحث على طلب العلم وعده فريضة، فبالعلم تنمو المجتمعات وتحيا الأمم وتبنى الحضارات، هو الذي قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [سنن ابن ماجه]، وصدق القائل:
العلم يبني بيوتاً لا عماد لها ... والجهل يهدم بيت العز والكرم
دعا إلى الالتزام بالأخلاق، وجعل الالتزام بالخلق ديناً فهو الذي قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) [مصنف ابن أبي شيبة]، نعم بالعلم والخلق تقوى الأمم، وتزدهر الحضارات والقيم.
فما أحوجنا اليوم ونحن نحتفل بميلاد النبي عليه السلام أن نحيي نهجه وهديه فينا، ما أحوجنا إلى رحمته صلى الله عليه وسلم التي ما رأى العالم مثلها.
ما أحوجنا إلى هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم وأفكارهم لتفتح القلوب والعقول قبل فتح القلاع والحصون.
ما أحوجنا إلى أن نحيي رسول الله فينا، {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7]، نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم باق في قلوبنا، حي في ضمائرنا، نسير خلفه ونهتدي بهديه، واحتفالنا يوم مولده هو مظهر من مظاهر التعبير عن شكرنا لله تعالى لمنه وكرمه بأن خصنا وجعلنا من أمة خير خلقه، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].