الحمد لله الذي جعل لنا من فضله مواسم للخيرات، فيها تُكَفَّر الذنوب والسيئات، ومن هذه المواسم ركن عظيم من أركان الإسلام، ألا وهو حج بيت الله الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -في بيان ثواب الحاج-:(فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ: أَنَّ رَاحِلَتَهُ لا تَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ:لا يدري أحد له مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ: فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ: خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبان واللفظ له.
وفي مناسك الحج الكثير من الدروس والعبر، منها:
-
لباس الإحرام: فيه تهيئة للنفس بالتجرد من الدنيا وشهواتها، والإقبال على الله وحده، وتخلية القلب من كل محبوب سوى الله، وفيه الإعلان بالاستعداد ليوم الرحيل؛ إيماناً منا بقوله تعالى:(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) البقرة/46.
-
التلبية من الميقات: فيها تحلية الجوارح بذكر الله ومناجاته، وبها تبدأ مناسك الحج والدخول فيه، وهي في مقام تكبيرة الإحرام من الصلاة، وفيها إعلان التوحيد لله تعالى وتنزيهه عن الشرك والثناء عليه سبحانه وتعالى.
-
وأما الطواف بالبيت: فهو صلاة كما أخبر الصادق صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تشبه بالملائكة الطائفين حول عرش الرحمن، فلا بد من استحضار القلب بالتعظيم والخوف والرجاء والمحبة لله عز وجل، والدعاء إلى الله بطلب حسنة الدنيا والآخرة، والوقاية من النار. قال تعالى:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) البقرة/201.
-
السعي بين الصفا والمروة: ويستذكر فيه الحاج أمَّنا هاجر عليها السلام، وهي تسعى لطلب الماء لولدها مع الدعاء والتضرع إلى الله، ففيه الصبر على الطلب، وأن الله يحب من العبد الإلحاح عليه في الدعاء، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فَإِنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) رواه البخاري.
-
المبيت في منى ليلة التاسع: اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستعداداً للوقوف بعرفة، وهذا دليل محبته عليه السلام ونحن مأمورون بطاعته واتباعه على كل حال. يقول تعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران/31.
-
الوقوف بعرفة: وهو الحج الأكبر، وأعظم أركان الحج، فيستحضر الحاج أنه في عرصات يوم القيامة، لاجتماع الناس من جميع الملل، قال تعالى:(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) الحاقة/18، ففي هذا الاجتماع الكبير يستشعر العبد عظيم حاجته إلى رحمة الله عز وجل، وشفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وأن يكون من عتقاء هذا اليوم العظيم المبارك، وأن خير الدعاء في هذا اليوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
-
المبيت في المزدلفة: فيه تذكر للحاج بعد الموقف العظيم، هل أفاض مغفوراً له ودخل في قوله الله تعالى لملائكته: (اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم) رواه ابن حبان.
-
رمي الجمار: فيه تشبه بنبي الله إبراهيم عليه السلام، بإعلان الحرب على الشيطان لما عرض له في موقع الجمرات يريد ثنيه عن تنفيذ أمر الله بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، وفي ذلك عهد منا مع الله على اتخاذ الشيطان عدواً كما أمرنا سبحانه وتعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) فاطر/6، (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) المؤمنون/ 97-98.
-
ذبح الهدي:فيه رجاء من الله أن يعتق بكل جزء منه جزءاً منا من النار، وأن يهبنا بكل شعرة حسنة.
-
الحلق أو التقصير: وهو يقوم مقام التسليم من الصلاة، فيتحلل الحاج من كل محظور عليه فعله بسبب الإحرام، وهو إعلان بانتهاء مناسك هذه العبادة العظيمة التي فرضها الله علينا استجابة لدعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولكن ليعلم يقيناً أنه لا يجب البحث عن علل للعبادات، ولا يوقف المسلم فعله للعبادة على إدراك العلة، بل هو يستجيب لأمر الله بفعلها، فإن أدرك العلة فبها ونعمت، وإلا فهو قد أطاع الله إطاعة العبد لسيده، ولله عز وجل أن يتعبدنا بما شاء، قال تعالى:(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/23، وهذا مقصد خلقنا لقول تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.