(سلسلة مقالات منتقاة من التراث)
مراعاة المصالح في الشريعة (*)
هذا وإني أذكر طرفاً من حقيقة المصالح المرسلة لأرتب على ذلك ما ذكره أبو إسحق الشاطبي من دخول توظيف ولاة المسلمين للأموال المحتاج إليها الجيش على الرعايا في ذلك. فأقول: اعلم أن الوصف المناسب وهو الذي استلزم ترتب الحكم عليه ما اعتنى به الشارع في شرع الأحكام من حكمة لحصول مصلحة أو دفع مفسدة، ويدخل في المفسدة المشقة والمصلحة لذة أو وسيلتها والمفسدة ألم أو وسيلته، وكلاهما نفسي أو بدني دنيوي أو أخروي إذا جهل اعتبار الشارع له بأن لم يدل دليل على إلغائه ولا على اعتباره يسمى بالاستصلاح وبالمرسل وبالمصالح المرسلة، سمي بالاستصلاح لما فيه من مطلق المصلحة للناس، وبالمرسل لأرساله أي إهماله عما يدل على اعتباره وإلغائه، فجوّز المالكية الأخذ به والعمل، قال في مراقي السعود:
والوصف حيث الاعتبار يجهل فهو الاستصلاح قل والمرسل
نقبله لعمل الصحابة كالنقط للمصحف والكتابة
تولية الصديق للفاروق وهدم جار مسجد للضيق
وعمل السكة تجديد الندا والسجن تدوين الدواوين بدا
وحكى القرافي في شرح المحصول أن عليه معظم الحنفية وهو أحد قولي الشافعي، وقال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام التفريق بين المذهبين وهو لا يجد إلى الك سبيلاً ابداً، وقال القرافي في شرح المحصول يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك وليس كذلك، بل الحق أن جميع المذاهب موجود فيها العمل بالمصالح المرسلة؛ لأنهم إذا جمعوا أو فرقوا بين مسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة.
وهذه هي المصلحة المرسلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب، ثم إن الشافعية يدّعون أنهم أبعد الناس عنها، وهم قد أخذوا بأوفر نصيب منها، وقد ذكر إمام الحرمين الذي هو قيّم مذهبهم أموراً من المصالح المرسلة، وكذلك الماوردي في الأحكام السلطانية، فلو قيل إن الشافعية هم أهل المصالح المرسلة دون غيرهم لكان صواباً، ذكرت هذا لأبيّن أن ما ذكره الشاطبي مما يأتي عنه ليس خاصاً بمذهب مالك، وأنه عام في جميع المذاهب، ونص أبو إسحق الشاطبي في كتابه "الاعتصام" في الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة: "إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال وارتفعت حالات الجند إلى ما يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال الى أن يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك كي لا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلاً من كثير بحيث لا يجحف بأحد، ويحصل المقصود، وإنما لم ينقل هذا عن الأولين لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها فضلاً عن اليسير منها، فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد والملائمة الأخرى، إن الأب في طفله أو الوصي في يتيمه أو الكافل فيمن يكفله مأمور برعاية الأصلح له وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها، وكل ما يراه سبباً لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز بذل المال في تحصيله، ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره، ولو وطىء الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة، وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة، زيادة إلى إنفاق المال، وليس ذلك إلا لحماية الدين ومصلحة المسلمين، فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الإمام في الشوكة ضعفاً وجب على الكافة إمدادهم، كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق، وإنما يـسقط باشتغال المرتزقة، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك، وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم، فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين، فالمسألة على حالها كما كانت، وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس، فهذه ملائمة صحيحة إلا أنها في محل ضرورة فتقدر بقدرها، فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها، والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث لبيت المال دخل يُنتظر أو يُرتجي، وأما إذا لم يُنتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني كبير شيء فلا بد من جريان حكم التوظيف، وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها ابن العربي في أحكام القرآن، وشرط جواز ذلك كله عندم عدالة الإمام وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع" اه منه بحروفه. ثم قال: "في أصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، ومرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى التخفيف لا إلى التشديد".
قلت: يظهر من كلام الشاطبي هنـا وكلام غيره في هذه المسألة أن المصلحة المرسلة فيها مرجعها إلى القاعدة الأصولية المشهورة وهي أن ارتكاب أخف الضررين عند تقابلهما واجب، ومثل الضررين المكروهان والمحظوران، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الضرران نفى الأصغر للأكبر)، وأشار مراقي السعود إلى القاعدة المذكورة بقوله:
وارتكب الأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذين
كمن على الجريح في الجرحى سقط وضعف المكث عليه من ضبط
وتبيّن من قول أبي إسحق السابق: وإذا قدرنا انعدام الكفار... إلى قوله: فالمسألة على حالها... أنه لا فرق بين كون العسكر الحاصل التوظيف من أجله معداً لحراسة البلد من الكفار أو من فتن المسلمين بينهم، وإذا ثبت وتقرر أن توظيف الإمام الأموال على الرعية من أجل حاجة العسكر أمر شرعي لا يصح أن تنفي عدالة الإمام به، إذ كيف يمكن شرعاً أن يفعل الإنسان أمراً شرعياً ويفسق به، فهذا غير معقول! فلا بد أن تنفى عنه العدالة بظلم صريح ليس على هذا الوجه المقرر.
وما ذكره أبو إسحق الشاطبي من جواز توظيف الإمام على الناس أرزاق الجند عند الاحتياج لذلك، ذكره كثير من شروح مختصر خليل المالكي في عدة أماكن منه، فذكره المواق عند قوله في الوديعة: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها، وذكره الميسر عند قوله في باب القضاء: ومن قدر على شيئه فله أخذه، وذكره الشيخ قنون في حاشيته عند قوله: ولا إن أخذ من العمال أو أكل عندهم، فصرحوا جميعاً بوجوب ذلك، وزادوا أنه يجب عليهم ذلك لأهل العلم الحاملين الفرض الكفائي منه، ونص الشيخ قنون بقوله: فائدة نص أئمتنا رضي الله عنهم على أنه إن لم يكن بيت مال أو كان ولم يتوصل إليه فإنه يجب على الناس أن يجمعوا مالاً ليترتب منه للجندي وحملة العلم، وإذا كان ذلك واجباً على الناس والفرض أنهم لا يفعلونه اختياراً قطعاً وأمكن بعض حملة العالم ممن للمسلمين به انتفاع أن يتوصل لبعض ذلك على وجه لا بأس به كأن يأخذه في أجرة شهادة من أهل الثروة والمال، ومن تجب عليه إعانة طالب العلم أكثر مما يستحق، وقصد بالزائد على الأجرة المعلومة استخلاص بعض ما وجب عليهم من إعانته فذلك جائز له، فإن كان من يعطي الأجرة المذكورة مستغرق الذمة لبيت المال فالجواز في حقه أظهر بالنسبة لحملة العلم، وقد نقل المواق في المحل المذكور مما يرشح هذا نظائر فراجعه أن شئت، وزاد في المحل المذكور ما نصه: قالوا: والذى يتعين عليه هذا العلم هو من جاد حفظه وحسن إدراكه وطابت سجيته وسريرته، فمثل هذا هو الذي يجوز له أخذ الجائزة، ومن لم تكن فيه هذه الأوصاف فلا يجوز له الأخذ، وربما كان طلبه للعلم من باب العبث بالنسبة للمصلحة المجتلبة، ومن تكلف ما لا يطاق في حقه، وكلاهما باطل شرعاً، فكيف يحل له أن يأخذ مرتباً أو أجراً على ذلك، فقولهم: إنه إذا لم يكن بيت مال يجب على الناس أن يجمعوا مالاً ليرتبوا مالاً للجند وحملة العلم هو عين ماذكره الشاطبي، بل هذا أوضح في المسألة؛ لأنهم جعلوا ذلك حقاً على الناس مخاطبين به بأنفسهم لا من جهة وجوب طاعة الإمام في ذلك التوظيف وعدم بيت المال الذي ذكروا شامل لنفيه بالأصالة، ولوجوده وعدم كفايته؛ إذ المدار على عدم وجود كفاية الجندي في بيت المال، فقولهم إذا لم يكن بيت مال هو عين قول الشاطبي المـار وخلا بيت المال.
(*) مجلة هدي الإسلام، وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، العدد 4، مجلد 1، 1956م.