نعمة الله في رمضان
في كل عام يعيش المسلمون أيام خير وبركة، يعيشون أيام رجوع إلى الله تعالى وإنابة إليه سبحانه، إنها أيام الرحمة والمغفرة والعتق من النار، إنها أيام شهر رمضان.
كلّما دخل رمضان يتذكر المسلمون نعم الله تعالى عليهم، ونعم الله تعالى كثيرة لا تحصى، كما قال الله تعالى: }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا{ [إبراهيم: 34]، }وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ{ [النحل: 53].
وحينما يقبل شهر رمضان يذكِّر الناس بنعم هي من أهمّ النعم وأجلّها التي أنعم الله تعالى بها على عباده المؤمنين، ألا وهي نعمة القرآن العظيم، ونعمة الصيام، ونعمة النصر على أعداء الإسلام، التي ارتبطت ارتباطاً شديداً بشهر رمضان حتى صار يعرف رمضان بشهر النصر والعزّة.
أمّا نعمة الصيام على الخصوص، فحدث عنها ولا حرج، ولو أنَّ الناس علموا ما فيه من نعم لتمنّوا أن يظلّوا لله صائمين، ولنْ أتكلم في هذا المقام عن النعم التي يتكلّم عنها أهل الطبّ والعلم الحديث من فوائد مادية ومعنوية للصيام، فهم يتكلمون عن فوائد الصيام الصحية من إعادة تنظيم أجهزة الجسم واستخراج السموم التي علقت به طوال عام كامل، فهذه كلها من نعم الله تعالى على عباده بالصيام.
ولكني سأتحدث هنا عن نعم أخرى قد لا يتنبّه لها الناس:
فالنعمة الأولى: شهود شهر رمضان، وهي نعمة يتذكرها المسلم ويشكر الله تعالى أن بلّغه رمضان، فكم من شخص كان يتمنّى ويدعو الله تعالى أن يدرك رمضان، ولكنه اليوم يرحل عن الدنيا، فحينما يدخل رمضان يحمد الإنسان ربه سبحانه وتعالى على أن بلغه الله هذا الشهر وأبقاه حياً ليدركه، فخير الناس من طال عمره وحسن عمله، فهذه نعمة عظيمة يستحقّ الله تعالى أن يُشكر عليها.
النعمة الثانية: أن أقدره الله تعالى على الصيام، فكم من مريض أدرك رمضان ولكنه يتمنى لو أن الله تعالى يعطيه القوة ليصوم ولو يوماً واحداً، وكم من عاجز هرم يقول: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأصوم يوماً، فهذه النعمة التي تعيشها أيها المسلم والتي بها تقدر على الصوم ما هي إلا نعمة من نعم الله تعالى عليك، فلو شاء الله تعالى لسلَبها منك، فاشكر الله تعالى على أن أقدرك عليها.
النعمة الثالثة: الصيام نفسه من أعظم نعم الله تعالى على العبد، بل هو العبادة الوحيدة التي اختصّ الله تعالى بها بأجره من بين كل العبادات الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ من الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) صحيح البخاري، فإذا كان الجزاء من الله تعالى، فأعظم به من جزاء، لأن الله سبحانه وتعالى عظيم لا يجازي إلا بالعظيم، فكيف وقد أخفى الله تعالى هذا الأجر ولم يصرّح به، إني أجزم أن أجر الله تعالى وثوابه على الصيام لا يجاريه أي جزاء آخر، أليست هذه نعمة من نعم الله الكثيرة التي ينبغي أن تلهج ألسنتنا وقلوبنا بحمد الله وشكره عليها؟
النعمة الرابعة: في رمضان تفتح أبواب الجنة الثمانية وتغلق أبواب النار السبعة، وتصفد الشياطين، فيقوى الإنسان على العبادة والطاعات بعد أن تكفل الله تعالى له بعدوه المقارن له الشيطان، ويفتح الله تعالى له أبواباً من الخير والطاعات لم تكن قبل رمضان، فتزداد أعمال الخير، ويعود الناس إلى ربّهم، وتكثر الزكاة والصدقات وإطعام الطعام وتذكر الفقراء والمحتاجين الذين لا يتذكّرهم أحد مثلما يكون في رمضان.
النعمة الخامسة: في الصيام يتفضل الله تعالى على عباده بمغفرة الذنوب، من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فبشرى لكل المذنبين مغفرة ذنوب عام مضى، يغفرها الله تعالى فلا يبقي منها شيئاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) صحيح مسلم، ومن كرم الله تعالى في رمضان أن من تقرب فيه إلى الله بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة في غيره، ومن أدى فيه فريضة كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، فأي نعمة أعظم من هذه النعمة التي يكفر الله تعالى بها ذنوبك أيها المقصر، ويرفع لك بها الدرجات.
النعمة السادسة: في الصيام تهذيب للنفس البشرية: فهو يطهر النفوس من آثامها ويطهرها من ذنوبها ويأخذ بيدها إلى طريق العفّة والقناعة ويربي فيها خلق الأمانة، فمن يمنع نفسه من شهواتها وملذّاتها المباحة قادر على منعها من الشهوات والملذات المحرمة، فتقوى عزيمة الصائم ويدربها على التقوى وتحقق فيه الحكمة من الصوم التي أرادها الله تعالى بقوله: }لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ [البقرة: 183]، فالصيام يعين على التحكم في شهوتي البطن والفرج، وهما أعظم شهوات وملذات الإنسان الدنيوية، مما يدفعه إلى التحكم بجميع شهواته وميوله.
صاحب الشّهوة عبد فإذا ملك الشهوة أضحى ملكاً
النعمة السابعة: بالصيام يعرف الإنسان حقيقة نفسه، فعندما يضعف البدن ويشعر الإنسان بضعفه وحاجته لربه يدرك عزّ الألوهية، ويعلم أنّ الله ربّ مستحقّ للعبادة، وأن الإنسان عبد فقير يحتاج إلى الله في كل شؤونه، قال تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ{ [الذاريات: 56، 57]، ويدرك حقيقة فقره إلى الله سبحانه وتعالى القائل: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{ [فاطر: 15].
النعمة الثامنة: في الصيام توحيد للأمة، فالكل يمتنع عن الطعام والشراب في وقت واحد، وهو مفروض على الغني والفقير، والعظيم والحقير، والحاكم والمحكوم، فالكل سواء أمام شريعة الله تعالى، والكل يشعر بالضعف والفقر إلى الله تعالى والاحتياج إليه، فيشعر الغني الذي جاع وعطش في ساعات معدودة بأخيه الفقير الذي لا يجد طعاماً طوال العام، فتزول الفوارق بين الناس، وإذا ما شعر الغنيّ بقسوة الجوع حمله ذلك على الإحسان إلى الفقراء والعطف عليهم، فيتآخى الجميع وتصفو نفوسهم وتطهر قلوبهم ويتعاون بعضهم مع بعض، فيقوى المجتمع وتزول أسباب الكراهية من بين أبنائه، مما يجعل المجتمع ينطلق للبناء والعمران وتقدم الأمة.
وآخر ما يعيشه العبد من نِعَمِ رمضان المبارك فرحة كبيرة يشهدها المسلمون كلهم، فتشمل صغيرهم وكبيرهم، فقيرهم وغنيهم، رجالهم ونساءهم، فيسعد الناس أجمعون بسبب طاعة مشهودة من الطاعات العظيمة التي من الله به علينا، وبها أنعم وتكرّم. والحمد لله رب العالمين