شهر الأولياء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
كتب الله تعالى صيام شهر رمضان المبارك على عباده المؤمنين ليأخذ بيدهم إلى منازل المتقين، ويجعل من حياتهم حياة روحٍ باقية، لا حياة جسد فانية، وقد جعل الله سبحانه التقوى محوراً لآيات الصيام في كتابه الكريم، فقال في بداية تلك الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال سبحانه في ختامها: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
والله سبحانه وتعالى لمّا فرض العبادات وأمر بها؛ فإنما كان ذلك لغايات عظيمة، وحكم قويمة، وهي تحقيق التقوى في نفوسهم ليرتقي بهم في مدارج المتقين، ومنازل المقربين من أهل الولاية والتقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وهذا أيضاً من إكرام الله لعباده المؤمنين، فإنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم التقوى وألزمهم إياه إلا ليلحقهم بمنازل الرتبة التي دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين أقوامهم، فقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 2-3]، وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124]، وقال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 161]، وهي دعوة شعيب عليه السلام، قال تعالى: {إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 177]، وهي دعوة إلياس عليه السلام: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} [الصافات: 123-124].
هذا الفضل في العبادات كلها، أما الصيام فقد خصّه الله تعالى من جملة العبادات بالفضائل الرفيعة، وجعله منصوصاً مرفوعاً في الكتاب الكريم لاجتماع عناصر التقوى فيه، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فالصوم يجمع مقومات التقوى وعناصرها، وقد سئل علي رضي الله تعالى عنه عن التقوى، فقال: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرّحيل" [سبل الهدى والرشاد 1/ 421]، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن المعتز رحمه الله تعالى فقال:
خلّ الذّنوب صغيرها وكبيرها ذاك التّقى
واصنع كماش فوق أر ض الشّوك يحذر ما يرى
والصوم عمل بكتاب الله تعالى، ينمي في النفس الإنسانية ملكة الخوف من الله عز وجل، ذلك أن الصوم سر بين العبد وربه لا يطلع على حقيقته أحد من الخلق، والصوم يربي النفس كذلك على الرضا بالقليل، حيث إن المسلم الذي تعوّد أن يطلق لنفسه العنان في الطعام والشراب يقصر طعامه في رمضان على قليل ميسور، وفي ذلك تربية على الزهد في الدنيا والرضا بالقليل والقناعة بما ييسره الله تعالى.
كما تتجلى في رمضان مظاهر الاستعداد ليوم الرحيل، فالمسلم يدرك في نفحات موسم رمضان المبارك أنّ حياة الجسد لا تتوقف إلا على لقيمات قليلة، وأنّ حياة الروح تقوم على التقوى والتوجّه إلى الله والإخلاص له سبحانه، فيدرك أن الحياة الحقيقية ليست في هذه الأمور الماديّة التي يحرص عليها كثير من الناس.
ولا شكّ أن الصوم يحمل في ثناياه مشاقّ الجوع والعطش والبعد عن الشهوات، إلا أن المسلم يستعذب هذه المشاق ويجد فيها لذة وروحانية إيمانية تتغلغل في أعماق نفسه لتثمر حلاوة الإيمان التي يشعر بها المسلم فتورثه سعادة الدنيا والآخرة، وهي مطلب إنساني يسعى إليه كل إنسان على هذه الأرض، وأقرب طريق إلى هذه السعادة هي التقوى.
كما أراد الله تعالى أن يرتفع بعباده المتقين إلى درجات الأولياء من خلال الصوم، وهي منزلة سامية، ورتبة جليلة، فالمتقون هم أولياء الله وأحباؤه وصفوة عباده، وميدان رمضان واسع يستطيع المسلم فيه أن يصل إلى أرفع الدرجات وأعظم المنازل ليكون من أهل النجاة في الدنيا والآخرة، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
فالصوم يجمع الخير كله، وهو جامع لتهذيب النفوس وتربية الجوارح وتزكية الأرواح، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مرني بعمل، قال: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ) [سنن النسائي].
والله تعالى قد اختصّ أولياءه بكرامات جليلة، وعطايا جزيلة، فمنها:
أنهم أولياء الله وأهل محبته ووداده، وهم أهل التقوى المحفوظون بحفظه، والمؤيدون بنصره، وهم الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين يأمنون إذا فزع الناس، قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62-63]، فأولياء الله تعالى هم أهل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، قال ابن كثير في [تفسير القرآن العظيم 4/ 278]: "يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسّرهم ربهم، فكل من كان تقياً كان لله ولياً، أنه {لا خوف عليهم}: أي فيما يستقبلون من أهوال القيامة، {ولا هم يحزنون} على ما وراءهم في الدنيا".
كما جعل الله تعالى حصانة لأوليائه واختصّهم بنصره والدفاع عنهم، وأعلن الحرب على من عاداهم، فقال سبحانه وتعالى فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) رواه البخاري.
أما في الآخرة؛ فإن الله تعالى جعل المتقين أظهر الأولياء ولاية، وأعظمهم شأناً، وأعلاهم قدراً، قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وفي هذا من عظيم التشريف لخصلة التقوى ما لا يخفى.
وحتى يتحقّق مفهوم التقوى في نفس المسلم ليكون من أولياء الله تعالى، عليه أن يرتقي في درجات تزكية النفس، بتصحيح الأعمال، وإخلاص النيات لله تعالى، فسلعة الله تعالى غالية كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غالية، ألا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجنَّةُ) رواه الترمذي، وعليه أن يجعل غاية اجتهاده في صيامه عن الشهوات هو التقرب إلى الله تعالى، وأن يكون في تخلّيه عن الشهوات المادية ارتقاءٌ وسموٌّ لنفسه، وأن يكون صيام رمضان سلم الارتقاء إلى رتبة الأولياء المتقين، فمن عوّد نفسه على ترك الحلال في رمضان امتثالاً لأمر ربه جل وعلا، فإنه سيسهل عليه ترك المحرمات في باقي أيام السنة.
كما أن أولياء الله الذين أوصلهم صومهم لله تعالى ينالون الأجر العظيم ويدخلون جنات النعيم من باب الريان، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) متفق عليه.
سائلين الله تعالى أن يوفقنا إلى أداء حقّ شهر رمضان، وأن يجعلنا من المخلصين الطاعات، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين