(سلسلة مقالات منتقاة من التراث)
لا سعادة إلا بالدين الحق (*)
إن الناس من علماء وفلاسفة وحكماء لم يستقروا على رأي في السعادة، ولم يتفقوا على حد لها يكشف عن حقيقتها، هذا على أنها غاية البشر كافة ومطلوب الناس عامة، وهذا من العجائب، إن أقرب الأمور إلى الإنسان أبعدها عن مطارح شعاع فهمه ومساقط إدراكه وعلمه، كالنفس التي بين جنبيه والروح والعقل وغيرهما مما هو مشتمل عليه، وفي هذا له آية لو عقل، تدل على أنه مربوب وأنه ضعيف مقهور..
وللناس كما أشرنا إلى ذلك مذاهب في السعادة؛ فمن الناس من يراها المال والصحة، ومن الناس من يراها العلم والحكمة وهلم جرا.
وقد رأيت مثل امرئ القيس من جاهلية العرب أدرى بها وأقرب إلى معرفتها من كثير من الفلاسفة وذلك في قوله:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
فإنه ذكر في هذين البيتين أنه لا سعادة لمن ينتهي أمره إلى الموت، وأن السعيد هو المخلد الذي يقل همه ويأمن المخاوف، وعلى هذا فلا سعادة في هذه الدنيا، وهذا هو الحق إذ كان من كان في هذه الدنيا غير مؤمن بأن هناك حياة خالدة باقية يعمل لها، وينتقل من هذه الدار إليها -فليس في هذه الفانية بخال مما ينغص عيشه ويكدر صفوه حتى لو فرضنا أنه اجتمع له كل شيء في هذه الحياة من أسباب الصفاء والراحة، إذ أن شبح خطر عظيم لايزال يلوح في أفق حياته خطر متيقن لا مفر منه ألا وهو الموت، ثم ما يسبقه من هرم يفقد فيه طيبات حياته وتغرب فيه شمس مسراته وملذاته، ويبقى فيها رهين المخدع وطريح المهجع والمضجع وحليف الأسقام وغرض السهام، وقد أدرك هذا الشاعر العربي القائل:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
على أن السلامة في هذه الحياة من دواعي الهموم، وبواعث الأحزان، وعوارض الأمراض والأسقام –من غير الهرم والموت– متعذرة، والإنسان في هذه الحياة منذ يولد يخرج من ضيق إلى ضيق، ويعبر من شدة إلى شدة، ويقطع عقبة إلى عقبة، وكأن الإنسان منذ يخرج من بطن أمه يشعر بذاك فيستهل باكياً، كما قال الشاعر:
لما تؤذن الدنيا به من همومها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
فإذا كانت السعادة هي وفرة المال وصحة البدن والخلو من الهم والحزن، فأين هي؟ ومن هو الذي تتوافر له هذه الأمور وتبقى لا تحول عنه ولا تزول؟ إنك لا تجدها في قصور الملوك، كما لا تعثر عليها في ملاجىء الفقراء والبائسين، فالسعادة إذن هي لفظ بلا معنى، وهي اسم بلا مسمى، وهي ثالثة الغول والعنقاء في هذه الدنيا.
أو نقول إنها نسبية؛ فإما أن نقول إنها بالنسبة إلى هذه الدنيا، أو إنها بنسبة بعض الناس إلى بعض على أنك مهما افترضت هذه النسبة فإنك لا تعطيها الوجود إذا كانت النسب غير الحقائق في كثير من الأحيان.
لكنا نفسر السعادة على ما نرى أنه أقرب إلى حقيقتها، وأنفى لما يرد على ما ذكر آنفاً من رسمها، فهي في رأينا الرضا والطمأنينة، وراحة القلب واليقين بما جاء به الدين والتصديق بما أعد الله لعباده المتقين. وإنما هذه هي السعادة في الدنيا، فأما في الآخرة فهي ما وصفنا مضافاً إليه السلامة من أوصاف الدنيا وأحزانها ومتاعبها وآلامها مع الخلود في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وهذا ما تشير إليه الآيات (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
وعلى تفسيرنا للسعادة في الجزء المختص بهذه الدنيا؛ فهي حاصلة للمؤمن في هذه الدنيا بلا تنغيص ولا كدر ولا اضطراب ولا قلق، حتى يلقى ربه، فإنك لتراه سعيداً وهو في سجنه يسام العذاب، بل تراه سعيداً وهو يمثل به وتقطع أعضاؤه إرباً إرباً حتى إنه ليشتري سعادته هذه بحياته وماله وكل عزيز ونفيس في هذه الدنيا، كما ترى في خبيب إذ يقول متمثلاً حينما عرض للقتل:
ولست أبالي حين اقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وقد أخبر الله عن المؤمنين أنه اشترى منهم أرواحهم وكل ما يعز عليهم، يبذلونه جهاداً في سبيله بما تتم به سعادتهم في الآخرة، فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).
ذلك أن المؤمن إذ يسجن أو يعذب أو يعرض نفسه للقتل أو يبيع نفسه لله في الجهاد لإعلاء كلمته، يرى أنه يلقى ما يلقى ويفعل ما يفعل ويتحمل ما يحمل إنما هو في مرضاة الله وابتغاء وجه الله، فيهون عليه كل ذلك، بل يلذ به ويبتهج وتقر به عينه ويغتبط، فالناس يرونه في عذاب، وهو يجد النعيم واللذة وقرة العين والابتهاج، وهو مطمئن برضا الله واثق بما وعده، ولذلك يقال له حينما تشرف روحه على الصعود إلى الرفيق الأعلى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي).
قال بعض العلماء المتقدمين فيما يؤيد هذا وهو يتكلم عن اللذة الروحية: "فأين هذه اللذة (لذة الجسد) من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب (وهو الإيمان) سلا عن الأبناء والآباء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن، ويرضى بتركها كلها والخروج منها رأساً، وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، وهو متحل بهذا منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه إلى أن يقول: (حتى أن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول: فزت ورب الكعبة، ويستطيل الآخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول: إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها، ويقول الآخر مع فقرة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف).
وقد أشار إلى هذا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)، فيستفاد من هذا الحديث أنه لا سعيد في هذه الدنيا غير المؤمن؛ لأنه مغتبط في السراء والضراء وراض في الشدة والرخاء، وإنما ذلك مبني على الإيمان والتسليم لله وإحسان الظن به، أما غير المؤمن فلا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، ويرى أنه بعد أن يموت سيكون تراباً، فما أعظم حسرته وأما أشد حزنه وحرقته إذ يذكر أنه تارك ما هو فيه من مال وولد وعز وسؤدد وخول وخدم وجاه وسلطان -إلى غير رجعة ولا بعث ولا نشور- بل منتهاه أن يكون طعاماً للديدان، ويعود الى التراب كما كان.
ولعمري إنه مهما أُوتي من متاع الحياة وزخرفها، ونضرتها وبهجتها وسلم من آفاتها ومنغصاتها وأحزانها ومكدراتها، فإنه إذا لم يكن قلبه مأنوساً بالإيمان ومعموراً باليقين أنه مجزي بصالح عمله في حياة أخرى دائمة بسعادة باقية –فليس ما هو فيه مما وصفنا إلا حسرات تقطع قلبه وحرقاً تكوى كبده، ونعيد هنا إنشاد ما أنشدناه من قول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاتـه بادكار الموت والهرم
وهذا إنما هو مبني على خلو القلب من الإيمان واليقين بأنه إذا ما مات عبر إلى حياة أخرى باقية يجد فيها صفو النعيم وطيب العيش الباقي المقيم ثواباً على ما قدم من عمل صالح من رب كريم، وهذا تأويل قوله عز وجل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني أن الإنسان حينما يتدنى إلى أرذل العمر وينكس في خلقه بالهرم ويصبح على شفا الرمس، ثم يري أن حلو حياته قد صار مراً ونورها ظلاماً وبسطها قبضاً وسرورها حزناً؛ فإنه لا ينجيه مما صار إليه من هم وغم وبلاء وكرب إذ يصير أسفل سافلين إلا إيمانه بأنه لن يلبث طويلاً حتى ينتقل إلى جوار ربه حيث ينعم بقربه.
والإيمان بالله واليوم الآخر وامتثال أمر الله بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والصبر التسليم هو الذي يلقي الطمأنينة في القلب وثلج الصدر وبرد اليقين، ويذهب بالقلق والهلع والجزع، ويشفي من وساوس الطمع، ويحيي الأمل بالفوز في العاقبة والظفر بالنعيم في الآخرة، وذلك هو الذي جاء به الدين وحرم إلا على المؤمنين.
(*) مجلة هدي الإسلام، وزارة الأوقاف، العدد 5، مجلد1، 1957م.