تأملات في رحلة الإسراء والمعراج
لم يكن يخطر في خلد النبي صلى الله عليه وسلم -بعد عودته من الطائف حزيناً متألماً على حال أهلها، حيث ردوا دعوته وآذوه، ولم يستمعوا إليه ولو لكلمة واحدة- أنه على أعتاب موعد عظيم، وفتح قريب، فبعد أن عاد إلى مكة متخفياً ودخل إليها بجوار المطعم بن عدي إذ كان قومه من قريش يتربصون به الدوائر، ويا له من موقف عظيم، لم يمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف أصعب منه في حياته.
ففي الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رواه مسلم.
وقد اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الألم والحزن من جميع الجهات، فقد زوجته الرءوم وعمه الحنون منذ مدة بسيطة، وها هو اليوم يتعرض لأشد ألوان العذاب التكذيب من قوم كان الأجدر بهم أن يستمعوا له على الأقل، ولو لم يؤمنوا بما يدعو إليه، أما أن يردوه ويسيئوا إليه فهذا لا يتوقعه أحد.
وبعد أيام من هذه الحادثة وهذا الحزن يأتي أمين الوحي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويوقظه من نومه ويتجهز ليركب دابة تسير به من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، في رحلة ليلية سميت بعد ذلك بالإسراء، ولم تكن مجرد رحلة عادية، بل كانت نصراً وفتحاً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، وكانت إيذاناً وإعلاناً من الله تعالى أنه قادر على نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وخرق كل الأسباب المادية لأجله قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر/51.
الإسراء كان إيذاناً بربط إلهي عقدي بين مكانين هما من أقدس الأماكن على الأرض مكة حاضنة البيت العتيق، والقدس الشريف حاضن المسجد الأقصى، ليُعلِمنا الله تعالى بالتوأمة بين هذين المسجدين، وهاتين البقعتين، قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1، ولِيُعلن الله تعالى مباركة هذه الأرض التي انتهى إليها الإسراء وابتدأ منها المعراج، وليكون لنا الشرف أن نكون من أهل هذه البقعة المباركة وما حولها، فتعمنا بركة ربنا سبحانه وتعالى، مما يجعل المسؤولية كبيرة على عاتقنا خاصة، وعلى الأمة كافة تجاه هذه الأرض وتجاه المسجد الأقصى.
وليس غريباً أن يلتقي النبي صلى الله عليه وسلم بإخوته من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس، ويصلي بهم إماماً، فهو وارث الأنبياء وخاتم المرسلين وسيدهم، فكانت البيعة له إيذاناً باستلامه الراية، واستلام أمته من بعده قيادة الأمم مصداقاً لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) البقرة/143.
وبعد اللقاء بالأنبياء والمرسلين تبدأ مرحلة أخرى وهي العروج إلى السماوات العلى، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم في عروجه ما أراه الله تعالى من الآيات، ففي الوقت الذي يطلب فيه موسى رؤية ربه، فيمنعها، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يطلب سوى رضا ربه (لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى) [المعجم الكبير للطبراني]، فاستحق بذلك أن يعطيه الله تعالى ما لم يعطه لأي نبي ولا ملك مقرب وأراه الله تعالى من الآيات أكثر مما طلبه الأنبياء السابقون، فرأى من آيات ربه الكبرى من غير طلب منه ولا تشوف، وإنما كانت هذه الآيات تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم المحزون على أمته وتأييداً له وتثبيتاً في دعوته حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ففي حين يُطلب من موسى خلع نعله ليناجي ربه في الواد المقدس طوى، لم يؤمر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بخلعهما وهو في سدرة المنتهى، ولما كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام كلمه من وراء حجاب، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمه الله تعالى من غير حجاب، وكان ذلك اللقاء بين الحبيب والحبيب ذلك اللقاء الذي تهون في سبيله جميع الشدائد والمحن، ذلك اللقاء الذي تنسي لذته كل ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من آلام وعذاب.
ويعود رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلة المعراج محملاً بالعطايا الإلهية والمواهب العلوية، ومعه هدية لأمته أهداها الله لهم في السماء تكريماً لهم وتعظيماً من شأنها إنها الصلاة، التي فرضها الله تعالى على أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ينبغي للمسلم حين يصلي أن يستحضر أنها منحة إلهية وهدية سماوية، فعندها يشعر المصلي بالأمن والأمان والراحة المطلوبة من الصلاة (أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ) [المعجم الكبير للطبراني].
وكلما يتجدد موعد الإسراء والمعراج يتجدد الأمل والتفاؤل بالفتح والفرج القريب، فكما نصر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فهو قادر على نصر أمة نبيه، وكما فتح أبواب السماء للنبي صلى الله عليه وسلم فهو قادر على فتحها لأمته، وكما غسل الله تعالى أحزان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج فإننا ننتظر من الله تعالى غسل أحزان هذه الأمة بردها إلى مكانتها اللائقة بين الأمم بعد تفريج همها ورفع الكرب عنها ورد مقدساتها ومسرى نبيها إلى حوزتها وما ذلك على الله بعزيز (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا) المعارج/6، 7.