الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فلقد نظم الشرع حياة المسلم تنظيماً دقيقاً شاملاً لجميع نواحي حياته؛ فبين الحقوق والواجبات، والحدود والعلاقات بين الناس.
ومن الأمور التي بينها الحقوق المتعلقة بالطريق، فأولاها الاهتمام البالغ؛ لموقعها في حياة الناس، فالطريق مرفق عام لا يختص به أحد، ولا يستأثر به شخص، ولما كان الأمر كذلك وضع الشرع القواعد والأسس التي نظم بها أحكام الطريق، وذلك يتضح من خلال المظاهر التالية:
المظهر الأول:المحافظة على نظافة الطريق وتعهده وإصلاحه:
وذلك من خلال ما يلي:
أولاً:اعتبار المحافظة على الطريق شعبة من شعب الإيمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)رواه مسلم. قال الإمام النووي -في بيان المراد بإماطة الأذى-:"أي تنحيته وإبعاده، والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر أو شوك أو غيره" (شرح النووي على مسلم: 2/ 6).
ثانياً: رتب الشرع الأجر العظيم على إماطة الأذى، فقال صلى الله عليه وسلم:(بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له، فغفر له) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم:(لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس)رواه مسلم، ومعنى (يتقلب):أي يتنعم، فكانت نتيجة إماطته للأذى عن طريق المسلمين أن أدخله الله عز وجل الجنة، وماذا يرجو المسلم من أعماله أكثر من دخوله الجنة؟!
وعن أبي برزة الأسلمي قال:قلت:يا نبي الله، علمني شيئاً انتفع به، قال:(اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث الشريفة وغيرها تبين الفضل العظيم والأجر الجزيل على هذه الشعبة من شعب الإيمان.
المظهر الثاني:تحريم الاعتداء على الطريق:
وذلك من خلال ما يلي:
أولاً:النهي عن كل أمر فيه إضرار بالطريق، فقد أكد العلماء في شروحهم لحديث(حق الطريق)أنه يجب على المسلم كف الأذى عن الطريق، فكما أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة يؤجر المسلم عليها، كذلك الاعتداء على الطريق وزر يحاسب عليه، قال الإمام محمد الخولي -محذراً مما يؤذي الناس-: "أو إراقة الماء في طريقه حتى تزلّ به الأقدام، أو وضع عقبات في الطريق يعثر فيها المشاة، أو إلقاء قاذورات أو أشواك تضر بالسابلة (أي:المارة)، أو تضييقه الطريق بمجلسه أو قعوده حيث يتأذى الجيران، فيكشف نساءهم، ويقيد عليهم حريتهم، كل ذلك إضرار به مما يجب كفه، والعمل على إبعاد المارة منه" (الأدب النبوي: 1/ 71).
وقد استدل العلماء -بالنصوص التي تحث على الاعتناء بالطريق- على أن كل ما يضر بالطريق يحرم. قال الإمام العيني في شرحه لأحاديث فضل إماطة الأذى عن الطريق: "وفيه دلالة على أن طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذي الناس، يخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة" (عمدة القاري: 13/ 23).
ثانياً:تحريم التعدي على الطريق، فكل ما فيه تعد على الطريق منعه الشرع، بل عده من المنكرات، ولا أدل على ذلك من أن الإمام الغزالي ذكر بعض الاعتداءات على الطريق تحت باب (منكرات الشوارع)، فقال: "فمن المنكرات المعتادة فيها وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة، وغرس الأشجار وإخراج الرواشن -أي: الشرفات- والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطرق، فكل ذلك منكر إن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة، وإن لم يؤد إلى ضرر أصلاً" (إحياء علوم الدين: 2/ 339).
المظهر الثالث:تنظيم أحكام الطريق في كتب الفقه:
فقد نظمها الفقهاء بصورة موسعة، ولم يتركوا فيها لا شاردة ولا واردة إلا وبينوها بما يقطع النزاع بين الناس ويرفع الخلاف، والناظر في تفريعاتهم وتأصيلاتهم الفقهية في ذلك -خاصة في باب الصلح- يلمس الاهتمام البالغ بها من الفقهاء، كما أن رواة الحديث بوبوا في مصنفاتهم أبواباً تتعلق بحق الطريق، كما فعل الإمام مسلم في صحيحه فوضع: "باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام".
ومما حملهم على ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:(إياكم والجلوس على الطرقات)، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال:(فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها)، قالوا: وما حق الطريق؟ قال:(غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر) متفق عليه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.