روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً؛ فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)متفق عليه.
فما أفجع الأمة بموت العالم؛ فموت العالم ليس كموت أحدٍ من الناس.. يقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: "موت العالم ثلمة لا يسُدُّها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار"(رواه البيهقي في "شُعب الإيمان").
والثلمة:هي الكسر الذي يكون في الإناء فيمنع الاستفادة منه (النهاية في غريب الحديث).
ولا شك أن لكل عصرٍ من عصور الإسلام علماؤه الذين يَسّرهم الله تبارك وتعالى لحفظ دينه؛ فهم الأمناء على هذا الدين، وهم ورثة الأنبياء الذين يقومون بتبليغ دينه، وبيان أحكام شرعه، وإرشاد الأمة إليه، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)رواه أبو داود والترمذي.
فموت العالم له الأثر العظيم في أهل عصره؛ لِمَا يتركه من فراغٍٍ كبير بينهم، ونحن هنا نتكلم عن العالم الرباني الذي لا يفارق قوله عمله، ولا يختلف نطق لسانه عن عمل جوارحه.
ولا شك أن مُصابنا بفقد عالمنا وشيخنا العلاّمة الفقيه الشيخ نوح القضاة جَلَلٌ؛ ذلك أننا لم نفقد رجلاً عادياً، بل فقدنا عالماً ومربياً، فإني لا أخال إنساناً عرف الشيخ، أو عمل معه عن قربٍ إلا واستفاد منه فائدة عظيمة، كان لها الأثر الكبير على شخصيته وسلوكه، فالشيخ رحمه الله تعالى يُعلمك إذا تكلم، ويُعلمك إذا سكت، ويُعلمك إذا جلس، ويُعلمك إذا مشى، كما أن البعيد عنه قد أصابه من هذا النفع الشيء الكثير، وذلك من خلال قراءة كتب الشيخ ومقالاته، وسماع خطبه ودروسه.
كيف لا وحياة الشيخ رحمه الله تعالى حافلة بحبّ العلم والحرص على طلبه، فقد سعى رحمه الله تعالى منذ سنوات حياته الأولى إلى طلب العلم والسفر إلى الشام، حيث أخذ العلم عن أكابر العلماء في معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية الغراء، التي أسسها الشيخ علي الدقر رحمه الله تعالى، ثم واصل الشيخ طلبه للعلم في جامعة دمشق لنيل درجة البكالوريوس، ثم السفر إلى القاهرة لنيل درجة الماجستير، ثم إلى السعودية للحصول على درجة الدكتوراه، ثم التصدي للفتوى سواء في سلك القوات المسلحة أو في الحياة المدنية.
ولقد ترك لنا الشيخ رحمه الله تعالى حملاً ثقيلاً بوفاته، حمّلنا أمانة في عنق كل مَن تتلمذ على يديه بأن يسير على خطاه، ويُكمل ما بدأه الشيخ وأرساه، حتى تصبح هذه البذرة الطيبة الصالحة شجرةً عظيمة يتفيؤ ظلالها ويأكل من ثمرها كلُّ مسلمٍ في مشارق الأرض ومغاربها.
فيا شيخنا رحمك الله تعالى، وعزاؤنا فيك أن أجرك وثوابك موصول بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة؛ ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)سنن النسائي. وأنت إن شاء الله تعالى حزت هذه الثلاثة: العلم النافع، والصدقة الجارية، والولد الصالح الذي يدعو لك. وما تلاميذك إلا صدقة جارية لك بإذن الله تعالى.
رحمك الله تعالى يا شيخنا، وجمعنا بك والصالحين من هذه الأمة مع النبيين والشهداء في مُستقر رحمته في الفردوس الأعلى من الجنة، إنه ولى ذلك والقادر عليه.