إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجب من واجبات ديننا، قال الله تعالى:(قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْـوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُـكُمْ وَعَشِـيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـارَةٌ تَخْـشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَـبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُـولِهِ وَجِـهَادٍ فِي سَـبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِـينَ) التوبة:24، وعن أنـس رضي الله عنه قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسـلم:(لاَ يُؤْمِنُ أَحَـدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَـبَّ إِلَيْهِ مِنْ َوَالِدِهِ ووَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعين)رواه البخاري ومسلم.
فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلمات يرددها الشعراء، أو خطب يتلوها على المنابر الخطباء، ولكن محبته نفحة ربانية وعقيدة إيمانية، يتنافس فيها المتنافسون وإليها يشخص العاملون، فلا يكفي فيها الادعاء باللسان فحسب، بل لا بد أن تكون محبته عليه الصلاة والسلام حياة تعاش، ومنهجاً يتبع، وصدق الله إذ يقول: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)آل عمران/31. ورحم الله من قال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
ولذا ترجم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبته ترجمة عملية، فقد بذلوا أرواحهم ودماءهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: "يا رسول الله، هذه أموالنا بين يديك، خذ منها ما شئت ودع منها ما شئت، وما أخذته منها كان أحب إلينا مما تركته، وهذه أرواحنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، إنا والله لَصبرٌ في الحرب صِدق عند اللقاء؛ فامض بنا يا رسول الله حيث أمرك الله" (السيرة النبوية، ابن هشام ج1/ 320).
حبي نبي الـهدى ديني وإيمانـي
يسمو بنفسي على الدنيا وزخرفها
وتخشع النفس في محراب سيرته
هذي الجوارح بالتسبيح لاهجةً
وبالصلاة على المختار من مضر
هو المقدم في نفسي على نفسي
|
|
يسري مع الدم يحيي نبض شرياني
وهو السلام على روحي ووجدانـي
فأذرفُ الدمعَ من شوق وتـحنـان
تسبِّح الله في سـري وإعـلانـي
ما دام للوُرق سجع فوق أغصـان
وأهل بيتـي وأحبابـي وخلانـي
|
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُسأل: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ" (روضة المحبين ونزهة المشتاقين ج1/ 418). وصدق والله رضي الله عنه وأبر، فقد ترجم ذلك عملياً حينما نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة مع علمه بأن فتية قريش الذين قدموا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ربما يصلوا إليه في أي لحظة، ومع ذلك فإنه قدم نفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له:(لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً). فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة قدم على أبي بكر يخبره بالأمر فقال له أبو بكر: "الصحبة يا رسول الله". فقال له: (الصحبة). تقول السيدة عائشة: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ" (السيرة النبوية، ابن هشام ج1/ 245).
وفي الطريق كان الصديق رضي الله عنه يسير أمام النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم من خلفه، ثم عن يمينه، ثم عن شماله، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك، فيقول: "يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان شيء أأحببت أن تقتل دوني)؟ فقال: "إي والذي بعثك بالحق".
أخي رعاك الله: محبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تقتصر على كبار الصحابة فحسب، بل تجاوزت ذلك الحد فأحبه جميع الصحابة، ذكرهم وأنثاهم، كبيرهم وصغيرهم:
فمن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والأهل والعشيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عبدالله بن عبدالله بن أبيّ يوماً فقال له: (ألا ترى ما يقول أبوك)؟! قال: "ما يقول بأبي أنت وأمي"؟ قال:(يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل). فقال: "فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز، وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرَّ مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا). فلما قدموا المدينة قام عبدالله بن عبدالله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال: "أنت القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ أما والله لتعرفن العزة لك أم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يأويك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله". فقال: "يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي"! فقال: "والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه". فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: "والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله". فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: (اذهبوا إليه فقولوا له: خلِّه ومسكنه). فأتوه فقال: "أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم" (السيرة النبوية، ابن هشام ج1/ 537).
وحتى الصبيان أحبوا رسول الله.. روى البخاري ومسلم من حديث عبدالرحمن بن عوف قال: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ التفتُّ عن يميني وعن شمالي، فرأيت غلامين من الأنصار، فغمزني أحدهما سراً من صاحبه وقال لي: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ فقال له عبد الرحمن: نعم، وماذا تصنع بـأبي جهل يا ابن أخي؟! فقال له: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول عبدالرحمن بن عوف: فتعجبت لذلك! يقول: فغمزني الغلام الآخر وقال لي سراً من صاحبه: ياعم، هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم يا ابن أخي، وماذا تصنع بـأبي جهل؟! فقال: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله جل وعلا إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. يقول: فتعجبت! والله ما يسرني أني بين رجلين مكانهما، يقول: فنظرت في القوم فرأيت أبا جهل يجول في الناس، فقلت لهما: انظرا هل تريان هذا؟ قالا: نعم. قال: هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. يقول: فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه! وجرى كل منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله قتلته، والآخر يقول: بل أنا الذي قتلت أبا جهل. فقال النبي لهما: (هل مسحتما سيفيكما؟) قالا: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطني سيفك). وقال للآخر: (أعطني سيفك). ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فوجد دم أبي جهل على السيفين، فالتفت إليهما وقال: (كلاكما قتله)!
أخي رعاك الله: هكذا ترجم سلفنا الصالح محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً قدموه فيه على أنفسهم وأهلهم وأموالهم والناس أجمعين، فأين نحن من ذلك؟! سل نفسك أخي رعاك الله: هل أنت فعلاً تحب رسول الله؟! هل أنت فعلاً تؤثر أمر الله وأمر رسول الله على أمر نفسك وهواك؟! هل أنت فعلاً تشتاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هل أنت فعلاً تتمنى أن تحشر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؟! إن كنت كذلك فإني أبشرك بما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: (ما أعددتَ لها)؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: (أنتَ مع من أحببت). يقول راوي الحديث: فما فرحنا بشيء بعد الإسلام كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتَ مع من أحببت)رواه البخاري.
نسأل الله عز وجل أن نكون مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ لأنا نُشهد الله ورسوله والدنيا بأسرها بأنا نحب الله ونحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحالنا كما قال الشاعر:
قُولُوا مَعِي فَخْرَاً لأَعْظَمِ مُرْسَلٍ بِالشَّرِّ نَدَّدْ
إِنَّا نُحِبُّكَ يَا رَسُولَ الله حُبَّاً لا يُبَدَّدْ
فَلْتَشْهَدِي يَا أَرْضُ هَذَا وَالسَّمَا وَالكَوْنُ يَشْهَدْ