منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعزيز قيمة الصدق وأثرها في الواقع المعاصر
المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب
ملخص
تناولت في هذا البحث منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعزيز قيمة الصدق، وذلك من خلال استقراء الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في الصدق، ثم تقسيمها على حسب الوسائل التي اتبعها نبينا صلى الله عليه وسلم في تعزيز هذه القيمة، لنجد المنهج النبوي واضح المعالم. ثم بينت أثر هذه القيمة على الفرد، والمجتمع، ووسائل الإعلام، والحياة التجارية. ومن أهم ما توصلت إليه في هذا البحث: أن الصدق يشكل باباً للولوج للقيم الإسلامية الأخرى، وهو كالأساس لها، فبفتح باب الصدق تنفتح أبواب الأخلاق كلها، فهو قيمة رئيسة ومحورية، لها أثرها المباشر على الفرد والمجتمع، فوجوده يحقق التنمية والتطور، أما غيابه فسيحقق الدمار للفرد والأمة. وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، سائلاً المولى عز وجل التوفيق وحسن القبول.
المقدمة
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعاً صالحاً، زرع في أفراده القيم النبيلة، التي أثمرت ذلك المجتمع الذي عمل بموجب تلك القيم. فقامت لهم حضارة سادت على سائر الحضارات التي كانت موجودة في ذلك العصر. ولم تزل تلك الأخلاق يردد ذكرها، لكن المسلمين تخلوا عنها، فأضاعوا ما اكتسبه أجدادهم؛ لأنهم يذكرونها دون العمل بموجبها ومقتضاها. فقيمة القيم والأخلاق تظهر بتطبيقها والتحلي بها. لهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيمة الصدق، التي تعد أمّ الأخلاق والفضائل، وعزز وجود هذه القيمة في نفوس الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذلك بمنهج تربوي فريد، يراعي حال الإنسان واحتياجاته الدنيوية والأخروية. ولست أول من كتب في هذا الموضوع بل سبقني إلى ذلك من هم خير مني، كالشيخ محمد الغزالي في كتابه الماتع [خلق المسلم]، وأبو لبابة حسين في كتابه [التربية في السنة النبوية]، ود. عبدالحميد الزنتاني في كتابه [أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية]، ود. سعيد القحطاني في كتابه [الهدي النبوي في تربية الأولاد]. وكل هذه الكتب كانت تتحدث عن الأخلاق والوسائل في تعزيزها بشكل عام، دون التركيز على فضيلة واحدة بعينها. لذلك كان الحديث فيها متشعبًا ومتعددًا. ولكنها لا تخلوا من فائدة اقتطفتها، وأفدت منها. ثم كان معظم الكلام فيها ينصب على الحديث ومعناه دون ربط له بالواقع المعاصر إلا نادراً، ودون بيان لآثار تلك الأخلاق على الفرد والمجتمع إلا على استحياءٍ شديد. وهنا تأتي اللبنة التي وضعها هذا البحث في ذلك البناء، حيث عوّض ما نقص في تلك المراجع القيمة، حيث يهدف هذا البحث إلى بيان: المنهج النبوي في تعزيز قيمة الصدق، وأثر قيمة الصدق في الواقع المعاصر.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة:
مقدمة البحث.
المبحث الأول: تعريف المنهج النبوي، وقيمة الصدق.
المطلب الأول: تعريف المنهج لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: تعريف المنهج النبوي.
المطلب الثالث: تعريف الصدق.
المبحث الثاني: بيان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعزيز قيمة الصدق.
المطلب الأول: تقديم النموذج والقدوة الحسنة.
المطلب الثاني: الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب.
المطلب الثالث: استخدام الأسلوب القصصي.
المطلب الرابع: تأديب المخطئ وإن كان صادقا ليحصّل النفع.
المبحث الثالث: بيان أثر الصدق في الواقع المعاصر.
المطلب الأول: أثر الصدق في حياة الفرد.
المطلب الثاني: أثر الصدق في المجتمع.
المطلب الثالث: أثر الصدق في وسائل الإعلام.
المطلب الرابع: أثر الصدق في الحياة التجارية.
الخاتمة.
المبحث الأول
تعريف المنهج النبوي، وقيمة الصدق
المطلب الأول: تعريف المنهج.
المنهج والنّهج والمنهاج في اللغة بمعنى واحد هو: الطريق الواضح[1]. قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة/ 48.
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
الشِّرعة، هي الشريعة. والمنهاج، الطريق البيّن الواضح([2])، قال الإمام الطبري: "لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمّه، وسبيلا واضحًا يعمل به"([3]). والله تعالى جعل لنا طريقا واضحا في الدين، من نهج الأمر إذا وضح[4].
المطلب الثاني: تعريف المنهج النبوي.
من خلال التعريف اللغوي للمنهج، يمكن أن نعرّف المنهج النبوي بأنه:
الطريق الذي يبيّن به رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الدِّين.
وبهذا نرى التقارب بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للمنهج.
المطلب الثالث: تعريف الصدق.
الصّدق ضدّ الكذب[5].
والصِّدق: مطابقة الكلام للواقع، مع العلم بأنه كذلك[6].
وعليه ينبني الصّدق على وجود أمرين: المطابقة للخارج، والاعتقاد[7]، بمعنى: مطابقة القول الضميرَ، والمخبَر عنه معًا[8].
والكذب: "إخبار عن المخبَر به على خلاف ما هو به، مع العلم بأنه كذلك"[9].
المبحث الثاني
بيان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعزيز قيمة الصدق
المطلب الأول: تقديم النموذج والقدوة الحسنة.
أولا: تعريف القدوة لغة واصطلاحًا:
القدوة في اللغة:
يقال: قِدوة وقُدوة لما يقتدى به، وما تسَنّنَ به الشخص. والقِدة كالقدوة، يقال: لي بك قِدوة وقُدوة وقِدَة. والقِدوة والقُدوة: الأُسوة والإسوة، يقال: فلان قدوة يقتدى به. ويقال: ائْتسِ به أي اقتد به، وكن مثله[10]. قال الله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[11].
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
إن النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه أسوة حسنة، أي: قدوة، وهو الموتسى، أي: المقتدى به[12].
القدوة في الاصطلاح:
هي "نموذج بشري يترجم قيمة معيّنة في أحد مجالات الحياة المشتركة في المجتمع، ترجمة واقعية من خلال تكامل القول والفعل معًا، بحيث يصبح هذا النموذج بارزا ولامعًا بين قومه، يُقبلون عليه، ويهتدون به، ويقلدونه فكرًا وسلوكا"[13].
ثانيًا: أهمية القدوة:
للقدوة الحسنة أهمية بالغة في تعزيز القيم في نفوس النّاس؛ لأنّ الأفعال أشدّ تأثيرًا عليهم من الأقوال.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس بأفعاله قبل أن يدعوهم بلسانه، وهذا تفسير قول أمِّنا عائشة رضي الله عنها حين قالت: (كان خلقه القرآن)[14]، فأفعال النبي صلى الله عليه وسلم تتطابق مع أقواله.
إن القدوة الحسنة تعطي الدافع للآخرين للاقتداء، حيث تشكل عندهم القناعة بأن التحلي بهذه الأخلاق أمر ممكن، كما تدفع الآخرين للتحلي بتلك الفضائل، كما أن الإفهام وإيصال المعاني بالفعل والسلوك أيسر منه بالقول فقط [15].
ثالثا: أمثلة على القدوة الحسنة التي تعزز قيمة الصدق:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس، لا يعرف إلا الصدق ولا يقول إلا الحق، ولم تؤثر عنه كذبة قط. شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء. والقدوة الحسنة خير طريق لتعزيز القيم والأخلاق، ولها من الأثر ما يفوق غيرها، بل هي الأكبر أثراً في التأثير على الآخرين. وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم قدوة يُحتذى بالصدق. وأضرب على ذلك ثلاثة أمثلة توضح كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً، وقدوة بذلك للآخرين.
المثال الأول: لما سأل هرقل أبا سفيان– وكان على الكفر لم يسلم بعد- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا)[16].
وما حمل أبا سفيان على الصدق مع عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خوفه أن يؤثر عنه الكذب، وتتندر العرب بذلك، وهذا لا يصح منه؛ لأنه سيّد في قومه، والسيّد ينبغي أن يكون صادقاً ومعروفاً بالصّدق لا الكذب، لذلك قال: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عنه)[17].
وجه الدلالة من الحديث:
شهد أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم شهادة صدق- لم يكذب فيها - بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد عليه الكذب، أي أنه لا يقول إلا صدقاً، على الرغم من عداوته له.
قال الحافظ في الفتح: "وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعرف. وفي قوله (يأثروا) دون قوله يكذبوا دليل على أنه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياءً وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك ولفظه: فوالله لو قد كذبت ما ردّوا علي، ولكنّي كنت امرءًا سيدًا أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إنْ أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني، ثم يتحدثوا به فلم أكذبه"[18].
المثال الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[19]، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عدي) - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: 0أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟) قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)[20].
وجه الدلالة من الحديث:
إن كفار قريش في جميع عمرهم ما ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً مجربين له فيه، هل يكذب أم لا، فما كان كاذبا قط، وما كان إلا صادقا[21].
المثال الثالث: بعض الناس قد يلجأ إلى الكذب في الحديث ولا يراعي الحق والصدق، طلباً للظرافة في الحديث أو للفت انتباه الآخرين لهم، ويكثر ذلك عند المزاح. أما نبيّنا القدوة صلى الله عليه وسلم فما كان لا يقول في جده أو مزاحه إلا الصدق. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: (إني لا أقول إلا حقاً)[22].
وجه الدلالة من الحديث:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً وصدقاً في الجد والمزاح؛ لأنه معصوم عن الزلل في القول والفعل[23].
المثال الرابع: طلب النبي صلى الله عليه وسلم منّا أن نكون قدوة لأبنائنا في الصدق والبعد عن الكذب، معتبراً أن إيهام الصغير كذب محرم، عن عبد الله بن عامر، أنه قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أردت أن تعطيه؟) قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة)[24]. وفي حديث آخر: (من قال لصبي تعال هاك، ثم لم يعطه، فهي كذبة)[25].
وجه الدلالة من الحديثين:
ينبغي على الإنسان أن ينتبه لكلامه، ولا يستخفّ بمن هو أمامه حتى لو كان طفلاً، فإنّ الكلامَ الموجه للأطفال، إذا تضمن تخويفاً غير حقيقي، أو وعدًا كاذبًا بشيء، حرامٌ، وهو داخل في الكذب[26].
المطلب الثاني: التّرغيب في الصّدق، والتّرهيب من الكذب.
أولا: تعريف التّرغيب والتّرهيب لغة واصطلاحًا:
الترغيب والترهيب لغة:
التّرغيب: مِن الرغبة، وهي إرادة الشيء، والحرص عليه، والطمع فيه. وأرغبني في الشيء ورغبني، بمعنى[27]. وضدّ الترغيب في الشيء: التزهيد فيه وعنه[28]. فرغب في الشيء إذا أراده وطلبه، ورغب عنه إذا زهد فيه وأعرض عنه.
والتّرهيب: مصدر من:رَهِبَ، يَرْهَبُ رَهْبةً ورُهْباً، ورَهَباً، أَي خافَ. ورَهِبَ الشيءَ رَهْباً ورَهَباً ورَهْبةً: خافَه. وتَرَهَّبَ غيرَه إِذا تَوَعَّدَه، وأَرْهَبَه ورَهَّبَه واستَرْهَبَه: أَخافَه وفَزَّعه[29]. فمعنى الترهيب: التخويف والتوعد.
الترغيب والترهيب اصطلاحًا:
الترغيب: "كل ما يشوق المدعوّ إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه"[30].
والترهيب: "كل ما يخيف ويحذر المدعوَّ من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله"[31].
ثانيا: أهمية الترغيب والترهيب:
النفس الإنسانية بطبيعتها تميل إلى ما فيه منفعة لها، وتنفر مما فيه مضرة عليها[32]، وأسلوب الترغيب والترهيب يتعامل مع هذه النفس الإنسانية وفق طبيعتها. فالإنسان يركض وراء ملذات الدنيا ومغرياتها، فينجر وراءها ويركن إليها، فيأتي أسلوب الترغيب والترهيب ليحد من هذا الركون، وليقطع وهم الخلود في الدنيا، مبينا حقيقتها، وأنها دار ممر، وليست دار مقر، فيرغب الإنسان في رضي الله ورحمته وواسع عفوه ومغفرته وثوابه وجنته. ثم يخوف من عذاب الله وسخطه وعذابه في الآخرة. وشتان شتان بين نعيم الدنيا والآخرة، وبين عذاب الدنيا والآخرة[33]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط )[34].
ثالثا: أمثلة على الترغيب والترهيب:
أمثلة على الترغيب في الصدق:
المثال الأول: الصدق يجلب البركة في الرزق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما)[35].
وجه الدلالة من الحديث:
الصدق يجلب البركة لأصحابه وإن كانوا مأجورين عليه، وهذا ترغيب فيه[36].
المثال الثاني: الصدق سبب لدخول الجنة، وللوصول إلى رتبة الصديقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)[37].
وجه الدلالة من الحديث:
الحث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وأن الله تعالى يكتب العبد لمبالغته في الصدق صديقاً إن اعتاده، ويعرف بذلك الوصف عند الخلق[38].
المثال الثالث: الصدق في العمل ينجي صاحبه من المهلكة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه)[39].
وجه الدلالة من الحديث:
تعليم الناس فضيلة الصدق عن طريق الإخبار عما جرى للأمم السابقة، وذكر قصصهم، وفيه جواز التقرب إلى الله بالعمل الصالح الذي صدق فيه صاحبه مع الله[40]. وأن الصدق كما يكون في الأقوال يكون في الأفعال أيضاً. وأنه ينجي صاحبه من المهالك.
أمثلة على الترهيب من ترك الصدق (الكذب):
المثال الأول: الكذب يدخل النار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)[41].
وجه الدلالة من الحديث:
فيه تحذير من الكذب والتساهل فيه؛ لأن الإنسان إذا تساهل في الكذب كثّر منه، فعرف به، وكتبه الله تعالى لمبالغته بالكذب واعتياده له كذّابا، فيعرف بذلك عند الخلق، ويكون ذلك سببا في دخوله النار[42].
المثال الثاني: الكذب يمحق بركة الرزق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)[43].
وجه الدلالة من الحديث:
الكذب يمحق البركة وإن كان أصحابه مأزورين عليه، وهذا ترهيب منه[44].
المثال الثالث: الكذب خصلة من خصال المنافقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ مَن كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومَن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة مِن النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)[45].
وجه الدلالة من الحديث:
إن الكذب من خصال المنافقين، ومن اتصف به فقد تشبه بخصلة من خصالهم، ويكون بكذبه منافقا في حق من حدثه[46].
المطلب الثالث: استخدام الأسلوب القصصيّ.
أولا: تعريف القصة لغة واصطلاحاً:
القصة لغة:
قال ابن منظور: "والقِصّة: الْخَبَرُ وَهُوَ القَصَصُ. وَقَصَّ عَلَيَّ خبَره يقُصُّه قَصّاً وقَصَصاً: أَوْرَدَه. والقَصَصُ: الخبرُ المَقْصوص، بِالْفَتْحِ، وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ حَتَّى صَارَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. والقِصَص، بِكَسْرِ الْقَافِ: جَمْعُ القِصّة الَّتِي تُكْتَبُ"[47].
القصة اصطلاحًا:
"فن حكاية الحوادث والأعمال بأسلوب لغوي، ينتهي إلى غرض مقصود"[48].
ثانيا: أهمية الأسلوب القصصي:
يعتبر الأسلوب القصصي من أنجع الوسائل في الدعوة إلى الله تعالى؛ وذلك لأنه محبب للناس مرغوب فيه، لما يحويه من التشويق والمتعة. ولأن الغرض المقصود يعرض بشكل غير مباشر ولا يفرض. ثم لا يخفى أن حياة الناس متشابهة إلى حد كبير، والنماذج البشرية الخيّر منها والشرير نماذج متكررة، وبالتالي سيجد الإنسان نفسه في أحد تلك القصص التي تعينه على تصحيح مساره في هذه الدنيا، استعدادا للقاء الله عز وجل[49].
ثالثا: مثال على الأسلوب القصصي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذ أصابهم مطر، فأوَوا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز[50]، فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت[51] عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة، فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون[52] من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فيستكنا[53] لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها فأبت، إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها، فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا )[54].
وجه الدلالة من الحديث:
تعليم الناس فضيلة الصدق عن طريق الإخبار عما جرى للأمم السابقة، وذكر قصصهم، وفيه جواز التقرب إلى الله بالعمل الصالح الذي صدق فيه صاحبه مع الله[55]. وأن الصدق كما يكون في الأقوال يكون في الأفعال أيضا.
المطلب الرابع: تأديب المخطئ وإن كان صادقا ليحصّل النفع:
أولا: التأديب لغة:
التأديب: أصل التعزير[56]،والأدب: ما يتأدب به الأديب من الناس، وسمي كذلك؛" لأنه يأدب الناس إلى المحامد. وينهاهم عن المقابح". ويقال: أدّبه فتأدب: علمه[57].
ثانيا: التأديب اصطلاحًا:
هو "المعاقبة على الإساءة"[58]، وإذا كان التأديب دون الحد يسمى تعزيرا[59].
ثالثا: أهمية التأديب:
التأديب منهج للتوجيه والإصلاح والتهذيب؛ ليرجع العبد إلى جادة الصواب، ولا يعود للانحراف عن الطريق الصحيح. يقول ابن تيمية: "العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلناكَ إِلّا رَحْمَةً للعَالَمِينَ) الأنبياء/107[60] فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم، وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشرّ ويتركونه من الخير رأفة بهم فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم"[61].
رابعا: مثال على تأديب المخطئ وإن كان صادقاً:
وسأذكر هنا القصة التي رواها الصحابي الجليل كعب بن مالك، لكن بشيء من الاختصار:
قال كعب بن مالك: "تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتدّ بالناس الجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط[62] الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت... فلما بلغني أنه –أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل[63] قادما زاح[64] عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، فجئته فلما سلمت عليه فقال لي: (ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك). فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيتُ جدلا، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق، تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك) فقمت، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة... قال كعب: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها... فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ[65]، أوفى[66] على جبل سَلْع[67] بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: "لا، بل من عند الله". فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا، ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) التوبة/117 إلى قوله: (وكونوا مع الصادقين) التوبة/119. فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم) التوبة/95 إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة/96
وجه الدلالة من الحديث:
عاقب النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا وصاحبيه مع أنهم صدقوا ولم يكذبوا، فأمر المسلمين بهجرهم خمسين يوما، وأمر نساءهم باعتزالهم عشرة أيام عقوبة لهم على تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغزو دون عذر. وقد ذكر الحافظ في الفتح فوائد عدة من الحديث السابق، أهم ما يتعلق منها بالصدق قوله: "وفيه فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب،...عاقب من صدق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب وأخر من كذب للعقاب الطويل،..وفيه عظم مقدار الصدق في القول والفعل وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به"[68].
المبحث الثالث
أثر الصدق في الواقع المعاصر
المطلب الأول: أثر الصدق في حياة الفرد:
للصدق آثار بالغة على حياة الفرد الملازم له، ومن أهم هذه الآثار:
أولا: الترقي في مقامات وأحوال السالكين إلى رب العالمين؛ لأن الصدق أساس ينبني عليه غيره من الأخلاق، فهو كالباب للصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس بالله تعالى. فكل تلك الأحوال أصلها الصدق[69].
فالعبد إن لازم الصدق في كلامه، وقصده واعتنى به، لا شك أنه سيكون صادقاً في أحواله، فبتمكنه في مقام الصدق يكون صادقا في عبادته، صابرا عليها، ومبتعدا عن المحرمات وصابرا عنها، ومستقبلا قضاء الله بصبر جميل، فيتحقق بمقام الصبر في مبتدئه ومنتهاه و(إنَّمَا يُوَفّى الصّابرِوُنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10[70]. ومن تحقق بمقام الصبر بصدق حصّل القناعة، فكان قانعا بما قسمه الله تعالى له، لا يلتفت لما في أيدي الناس، بل يكون أغنى الناس، فيزهد بما عندهم، ولا يطلب غير وجه الله تعالى، لمعرفته بحقيقة الدنيا الفانية، فيعرض بقلبه عنها، ولا يلتفت إلى زخرفها. وبصدقه في الزهد ينتقل إلى الرضا، فيرضى بقضاء الله تعالى، ويسلم الأمر إليه ولا يعترض على قضائه وقدره، وبرضاه عن الله وما عند الله ينال رضاه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة/8. وإذا حلق العبد في فضاء الرضا نال الأنس بالله، ولم يأنس بسواه. وهكذا ينتقل العبد من صدق اللسان إلى الصدق في الأفعال والأحوال، ولا يزال يتحرى الصدق في كل ذلك حتى ينال مرتبة الصديقية، ويكتب عند الله صديقا. وهذا من المعاني التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا) سبق تخريجه. والصديقية من أعلى الرتب حيث تلي درجة النبوة[71]، قال الله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) النساء/69. والفرق بين الصادق والصديق، أن الصادق من صدق في حديثه وكلامه، أما الصديق فتجاوز صدق اللسان إلى صدق الأفعال والأحوال[72].
ثانيا: التحلي بفضائل الأخلاق، ومحاسن الأعمال الموصلة إلى الجنة؛ لأن الصدق يوصل إلى البر وهو اسم جنس جامع لصنوف الخير، فالصادق في كلامه وأحواله صادق في أفعاله، فلا يعرف الغش ولا الخديعة ولا المكر ولا التحايل. إن عَبَدَ الله تعالى عبده وتقرب إليه بصدق، وإن باع واشترى تعامل بصدق، وإن قضى حكم بصدق، وإن كُلف بعمل أنجزه بصدق، فالصدق يحمله على مكارم الأخلاق والأعمال، حتى يتهيأ ليكون من أهل الجنة؛ لأن الصادق يتحلى بالفضائل ويتخلى عن الرذائل، وهذا مختصر طريق السالكين إلى جنة رب العالمين. وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة) متفق عليه.
ثالثا: العيش بطمأنينة وسلام داخلي، للنفس والروح، فلا يعاني الصادق من الفصام في الشخصية، حيث يخالف قوله فعله، فهو صادق فيهما، لذلك يشعر براحة البال، وسلامة الصدر، وسموّ الروح، وقربها من الله تعالى، وما تحقق به من الطمأنينة والرضا، لتحققه بعبوديته لله تعالى حيث سار على المنهج الذي أراده الله تعالى له أن يسير عليه، وأن يكيّف حياته وسلوكه على وفقه، فكان هذا السلام الداخلي من الثمار التي يجنيها العبد في الدنيا، حيث ينال جنة القرب من الله تعالى، وفي الآخرة حيث يكون في جنان الخلد والنعيم المقيم، قال الله تعالى: ( يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر/27-30، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الطمأنينة المتولدة من الصدق بقوله: (فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) رواه الترمذي.
رابعا: تحصيل ثناء الناس وثقتهم؛ لأن الصادق حريص على آخرته، لا يبيعها بعرض من الدنيا قليل، همه القرب من الله تعالى والاقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبلوغ جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فالصادق زاهد بما عند الناس، لا يعاملهم إلا بالصدق الذي تحقق به، واصطبغت أخلاقه بلونه، واكتسى ثوبه الذي لا ينزعه عنه أبدًا، فينال بذلك محبة الناس وثناءهم وثقتهم، فلا يردون قوله، ويقبلون منه دون ريبة.
المطلب الثاني: أثر الصدق في المجتمع:
أولا: انتشار الفضائل؛ لأن الصدق منبع الفضائل، والطريق المؤدي إليها، وكما ذكر سابقا فالصدق أساس ينبني عليه غيره من الأخلاق، فهو كالباب للصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس بالله تعالى. فمتى تحلى الأفراد بالصدق انتشرت الأخلاق والفضائل ومحاسن الأعمال حتى تصير الأساس في الفرد والجماعة، وهذا ملاحظ في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر) سبق تخريجه[73]. حتى إن من شذّ عن الفضائل ومحاسن الأخلاق شعر بغربته، ونبَذِ المجتمع له، فيحمل نفسه عليها إن لم يكن قناعةً منه بها، سيكون ذلك مجاملةً لغيره، أو قهرًا رغمًا عنه.
ثانيًا: تقليل الرذائل، بما أن الصدق باب مفتوح موصل للفضائل، فهو في الوقت نفسه باب موصد أمام الرذائل، فبعدد الفضائل التي يثمرها الصدق، يكون عدد الرذائل التي يئدها ويقضي عليها. وكلما زاد الصدق زادت الفضائل، وكلما نقص الصدق زادت الرذائل، فالعلاقة بين الصدق والفضائل طردية، والعلاقة بين الصدق والرذائل عكسية. ولا عجب؛ لأن الصدق قرين التقوى، وقد قال الحق سبحانه مخاطبا جماعة المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة/119، والتقوى: أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك[74]. فإن التزم المؤمنون بالصدق كانوا من أهل التقوى الذين يفعلون الطاعات، ويجتنبون المحرمات، ومجتمع كهذا تقل فيه الجريمة والرذائل.
ثالثا: تقوية العلاقات بين الناس؛ لأن من جانس جالس، والناس إن التزموا الصدق صارت طباعهم متقاربة، وأفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من جنس الصدق، فيأنس بعضهم ببعض، ويجالس بعضهم بعضا، وتنمو العلاقات على بساط الصدق والمحبة، فتتقوى أواصر الصداقة والأخوة بينهم، وتصبح العلاقات بين الناس متينة، وعندها يصبحون كالجسد الواحد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) متفق عليه. فبالصدق تقوى علاقات الأفراد في المجتمع، ويصبح أفراده يحب بعضهم بعضا، ويكون المجتمع سعيدا.
المطلب الثالث: أثر الصدق في وسائل الإعلام:
أولا: بناء جسور الثقة بين وسائل الإعلام والجمهور، فالإعلام من أهم مصادر المعلومات بالنسبة للناس، وما يبث من معلومات وأخبار وتحليلات يتلقاه الناس ويتناقلونه بينهم، ويكون له أثر بالغ في تشكيل قناعاتهم ومواقفهم، وهنا تكمن خطورة الإعلام. فإن الخبر الكاذب يؤثر سلبا في المجتمع، ويجعل المواقف تتشكل على أساس خاطئ وغير صحيح، وعندها ستضعف الثقة بالإعلام الكاذب، ولن تقبل منه الحقائق فيما بعد، بل ستكون محل بحث وشك عند الجمهور. وعندها لن يتمكن الإعلام من أداء رسالته بالشكل المطلوب، وهذه الرسالة ملخصها، كشف الحقائق. فأداء هذه الرسالة يحتاج إلى المداومة على الصدق، كي تمتد جسور الثقة بين الإعلام والجمهور، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) سبق تخريجه.
ثانيا: الارتقاء بوظيفة الإعلام؛ عن طريق التنافس؛ لأن رسالة الإعلام تتلخص بتقديم الخبر الصادق والمعلومة الصادقة، وعندها ستحرص كل وسيلة إعلامية على تقصي الحقائق، وبذل الجهد كي تكون سباقة لنشر الخبر أو المعلومة الصادقة. وهذا يتطلب معرفة المصادر الصحيحة والأخذ عنها. وبذلك تكون وسائل الإعلام مصادر موثوقة، تعمل بمهنية وتجرد، ويتلقى الناس منها المعلومات والأخبار دون شك أو ريبة.
ثالثا: المساهمة بدور إيجابي في عملية الإصلاح والتنمية، حيث تبين وسائل الإعلام السلبيات في المجتمع بصدق، وتسلط الضوء عليها بمهنية وتجرد، دون خداع أو تلبيس أو تدليس، كي تتم عملية الإصلاح المطلوبة. وبنفس المصداقية تركز على المكتسبات والإنجازات لرفع الروح المعنوية، وللدفع باتجاه المزيد من التنمية والإنجاز، فتعطي كل ذي حق حقه.
المطلب الرابع: أثر الصدق في الحياة التجارية:
أولا: النماء والبركة؛ لأن الصدق محبوبٌ صاحبُه، ويشعر الناس بالارتياح تجاهه، فيُقبلون عليه دون مَن يرتابون منه، أو يشكون في كلامه. لذلك يُقبل الناس على التعامل مع التاجر الصادق، بيعًا وشراءً، وبهذا تزدهر تجارته وتنمو، ويضع الله تعالى له البركة في رزقه. وإلى هذا المعنى أشار نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) سبق تخريجه. فكما أن الكذب يمحق البركة فالصدق يجلبها.
ثانيًا: الحصول على الكسب الطيب؛ لأن الإنسان إذا تعامل بصدق ووضوح، بعيدًا عن الكذب والغش والتدليس والخداع، فهو بذلك ينأى بنفسه عن أكل أموال الناس بالباطل، الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) النساء/29. والتاجر الصادق يأكل من الطيبات التي أمر الله تعالى بالأكل منها، وبالتالي فهو بصدقه في تجارته يتعاطى أسباب الوصول إليها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البقرة/172. وفي هذا النهج بعدٌ عن المال الحرام، الذي يُعاقب صاحبه في الدنيا والآخرة. أما عقوبة آكل الحرام في الدنيا فهي حرمانه من إجابة دعائه، فالنبي صلى الله عليه وسلم (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.
وجه الدلالة من الحديث:
على الرغم من أن المسلم قد يكلف نفسه السفر الطويل في الطاعات، كالحج والعمرة وزيارة الأرحام، إلا أنه لا يتورع عن أكل الحرام أو شرب الحرام أو لبس الحرام، فيكيف يستجيب الله تعالى دعاءه وهذه صفته.
ويعاقب آكل الحرام في الآخرة بنار جهنم، قال رسول الله صلى عليه وسلم: (إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه الترمذي.
وجه الدلالة من الحديث:
توعد النبي صلى الله عليه وسلم آكل السحت (المال الحرام) بالنار، ويدخل في السحت المحرم أكل أموال الناس بالباطل، كالتطفيف، والغش، وقطع الطريق، والسرقة وغير ذلك. لذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الكسب فقال: (بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) أخرجه أحمد.
وجه الدلالة من الحديث:
أفضل المكاسب البيع الذي فيه اتساعٌ في الخير، وتنزيهٌ عن الإثم، هو الذي لا كذب ولا غش فيه.
ثالثا: تحصيل الرتب العلية في القيامة؛ لأن التاجر الصدوق الذي يخدم المسلمين ويقضي حوائجهم، ويأمّن احتياجاتهم، ويسهّل لهم الوصول إليها، وهو في كل ذلك صادق لا يكذب ولا يغش ولا يخدع أحدًا، يؤجر على كل نواياه الصالحة، وأفعاله المبرورة. وبكل ما مرّ يستحق المراتب العليا في الآخرة، لذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي.
وجه الدلالة من الحديث:
إذا كان التاجر أمينا صدوقا فقد امتثل أمر الشرع، وأطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجزاء المطيع أن يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء[75]، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) النساء/69.
كان هذا آخر ما جاد به الله تعالى علي من البحث والنظر، في حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق والبشر، سائلا المولى أن يتقبله، ويأجرني عليه، ويجعله لي يوم القيامة ذخرا وفخر.
الخاتمة
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعزيز قيمة الصدق عند الفرد والمجتمع بمختلف شرائحه وطبقاته. وذلك من خلال منهج يتلاءم مع الطبيعة البشرية، ويراعي احتياجاتها ومخاوفها. ومن أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث:
- أن الفضائل لن تنتشر إلا بالصدق، وأن الرذائل لن تمحى إلا بالصدق، وتنمية المجتمع لن تتحقق إلا بالصدق، لذلك نجد التركيز على الصدق واضحا في السنة وبشتى الوسائل المعززة له، من ترغيب وترهيب، وقدوة حسنة، وسرد للقصص، وتأديب، وغير ذلك..لزرع بذرة الصدق في نفس الفرد والجماعة، كي تؤتي أكلها بإذن ربها.
- ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين التحلي بالصدق والجنة، ليؤكد على الإيمان بالغيب، وليربط المؤمنين بعقيدتهم، لتشكل الوازع الأكبر في التزامهم. فنهضة الأمة لن تتحقق إلا بالصدق، صدق في الأقوال، والأفعال، والأحوال.
- أن الصدق قيمة محورية هامة وفعالة، حيث تشكل الشجرة التي تتفرع عنها الأخلاق الإسلامية من صبر و وزهد وتقوى وغيرها.
- أن حبال التواصل والاتصال الفعال بين الأفراد والجماعات، أو بين الأفراد ووسائل الأعلام لن تكون فاعلة إلا تحت مظلة الصدق.
- ركز النبي صلى الله عليه وسلم على قيمة الصدق في الحياة التجارية، كي يرتفع بهمة التجار من حب الدنيا إلى النظر إلى الآخرة؛ لأن الحياة التجارية وما فيها من عوامل جذب نحو الربح والتكسب، تقل معه الأخلاق، ويضعف الوازع الديني.
[1]الرازي الحنفي: محمد بن أبي بكر (ت:666هـ)، مختار الصحاح، ص320، المكتبة العصرية بيروت. د.ت.