ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية في الشريعة الإسلامية (*)
الدكتور أسامة الربابعة / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعةاليرموك.
ملخص
أكثر العقوبات الشرعية داخلة في باب التعازير وهي عقوبة غير مقدرة بل ترك أمر تقدير العقوبة فيها للإمام، فهل تفويض تقديرها يعني عدم انضباطها؟ هذا ما تسعى هذه الدراسة للإجابة عليه، وقد تتبعت آراء العلماء في هذه المسألة من أمهات الكتب الفقهية، مع أقوال المتأخرين، وقد تبين أن العلماء يرونها مضبوطة، وقد ذكروا هذه الضوابط في ثنايا كتبهم وكان لا بد من إبرازها وتجليتها، ليتضح أن حرية القاضي منضبطة بجملة من الضوابط عددتها هذه الدراسة، حتى إذا تجاوز القاضي هذه الضوابط كان حكمه مشوبا بسوء التقدير.
المقدمة
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويدفع نقمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا وشفيعنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين أما بعد:
يقول تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)([1]).
إن من المعلوم بداهة أن الشرع الحنيف غايته العدل، وهذا يدركه أهل الفقه في كل الأحكام العملية التي تنظم علاقة الأفراد بعضهم ببعض، ولقد حدّد الشرع وسائل متعددة لتحصيل هذه الغاية ويدركها أهل الفقه كذلك بتتبع الأحكام الشرعية وبإنعام النظر في حكم التشريع وعلله، فيعلمون علم اليقين أنه شرع محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفـه يقول تعالى:(لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)([2])ومن ضمن الأحكام الشرعية العملية فقه الجزاء بقسميه: فقه العقوبات الشرعية وفقه أصول المحاكمات الشرعية، فهو دائر ضمن هذه المعادلة، لأنه وسيلة مناسبة لتحقيق غاية نبيلة سامية.
ومن عناوين فقه الجزاء موضوع التعزير وهو الذي ترك أمر تقديره للإمام أو من ينيبه، إلا أن هذا الترك ليس تركاً بلا ضابط، أو إهمالاً دون تبيين، بل فيه ضوابط وتحديدات ذكرها الفقهاء، لينسجم موضوع تقدير العقوبة التعزيرية مع الخط العام للتشريع ألا وهو تحقيق العدل وترسيخه.
ومن هنا جاء هذا البحث ليجمع هذه الضوابط ويبرزها بما يعزز أهمية وجودها بين طلبة العلم الشرعي، والتي يظن البعض أن التعزيرات خالية عنها، وأن للإمام الحرية الكاملة في تقدير العقوبة التعزيرية دون الرجوع إلى الشرع أو العرف. فهل التعزير له ضوابط أو لا، وإذا كانت العقوبة غير مقدرة فهل يعني أنها غير مضبوطة؟ وهذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عنه.
ومنهجي في البحث هو تتبع النصوص الواردة في أمهات الكتب ذات الصلة بالموضوع، وتحليل أقوال الفقهاء، والبحث عن الأدلة النقلية والعقلية الواردة في موضوع البحث، ويرافق ذلك كله توثيق المعلومات بصورة دقيقة وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وبيان معنى غريب الألفاظ.
وقد جاءت خطة البحث على النحو الآتي:
المقدمة
المبحث الأول: بيان المقصود بضوابط التعزير وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: تعريف الضابط لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف التعزير لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثالث: خصائص عقوبة التعزير.
المبحث الثاني: ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: عدم الزيادة على الحد.
المطلب الثاني: توخي الغاية من تشريع العقوبة عند تقديرها
المطلب الثالث: مراعاة ظروف التخفيف والتشديد عند التقدير
المطلب الرابع: عدم النزول بالعقوبة عن أقل قدر مشروع فيها.
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث.
وأسأل الله تعالى وهو القادر على كل شيء أن يجزي علماءنا خير الجزاء فهم أئمة الهدى، ومنارات الرشاد، الذين ما تركوا شاردة ولا واردة إلا وكان لهم فيها قصب السبق، ونحن على إثرهم سائرون، إظهاراً لتفرد أحكام شرعنا الحنيف، وتوضيحاً لبعض مفاهيمه، راجياً من الله تعالى أن يجعل هذا العمل في منفعة العلم وأهله، خالصاً لوجهه الكريم.
والحمد لله رب العالمين
المبحث الأول
بيان المقصود بضوابط التعزير
في هذا المبحث أُوضّح المقصود بضوابط التعزير كما قاله أهل اللغة والاصطلاح، مع توضيح الفرق بين التعزير وبقية العقوبات الشرعية، ليكون بذلك مدخلاً هاماً لموضوع البحث، وقد جعلته في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الضابط لغةً واصطلاحاً
وفي هذا المطلب أتحدث عن تعريف الضابط عند أهل اللغة ثم عند علماء الشرع في اصطلاحهم وقد جعلت هذا المطلب في فرعين:
الفرع الأول: تعريف الضابط لغةً:
الضابط في اللغة من الضبط وهو لزوم الشئ وحبسه، ضبط عليه وضبطه يضبطه ضبطاً وضَباطةً([3]).
وقالوا: الضبط لزوم الشئ لا يفارقه في كل شئ وضبط الشئ حفظه بالحزم([4]).
وقال معن بن أوس([5]) يصف ناقة:
عذافرة([6]) ضبطاء تخدي([7]) كأنها فنيق([8])
غدا يحمي السوام([9]) السوارحا([10])([11])
الفرع الثاني: تعريف الضابط اصطلاحاً
للضابط مفهوم خاص في الفقه، وهو: "كل ما يحصر جزئيات أمر معين".([12]) والبعض عرفه بأنه "حكم كلي تندرج تحته فروع فقهية من باب واحد"، أو "هو ما انتظم صوراً متشابهة في موضوع واحد غير ملتفت فيها إلى معنى جامع مؤثر" وهذا هو اختيار الدكتور الباحسين في القواعد الفقهية([13]).
إلا أن بعض الفقهاء يدخلون مفهوم الضابط ضمن مفهوم القاعدة في الفقه، كما يقول الشيخ محمد التهانوي([14]) عن القاعدة الفقهية: "هي في اصطلاح العلماء تطلق على معاني ترادف الأصل والقانون والمسألة والضابط والمقصد، وعرفت بأنها أمر كلي منطبق على جزئياته عند تعرف أحكامها منه... وأنه يظهر لمن تتبع موارد الاستعمالات أن القاعدة هي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها"([15]).
لكن المدقق يلحظ أن الضابط مختلف عن القاعدة وممن يرى الفرق بينهما د.علي أحمد الندوي في كتابه القواعد الفقهية، وأهم نقاط التفريق الفروق الآتية:
أن القاعدة لا تختص بباب بخلاف الضابط([16]) وهذا ما ذكره جملة من العلماء([17]).
أن القواعد أكثر شذوذا من الضوابط لأن الضوابط تضبط موضوعاً واحداً، فلا يتسامح فيها بشذوذ كثير([18]).
أن القواعد أعم وأشمل من الضوابط من حيث جمع الفروع وشمول المعاني([19]).
والمراد من الضابط في هذا البحث الأصول التي يسير عليها القاضي في تقدير العقوبة التعزيرية. وارتباط المفهوم الاصطلاحي باللغوي واضح، فإن الضابط يقيد حرية المقدر للعقوبة التعزيرية حتى لا يكون الأمر عائداً لمطلق حريته في التقدير بل يمنعه من أمور ويسمح له بأمور، وهذا من معاني اللغة وهو الحبس والملازمة.
المطلب الثاني: تعريف التعزير لغةً واصطلاحاً
أتناول في هذا المطلب تعريف التعزير لغةً واصطلاحاً وقد جعلته في فرعين:
الفرع الأول : تعريف التعزير لغةً
العزر: اللوم، وعَزَرَهُ يَعْزِرُهُ عَزْرًا وعَزَّرَهُ: ردّه([20]). والعزر: المنع، وأصل التعزير: التأديب([21]).
ومن معانيها: العون والتقوية والنصرة وذلك بأن ترد أعداءه وتمنعهم منه، وأصل التعزير المنع والردّ([22]). قال تعالى: (وتعزروه وتوقروه)([23]).
ولفظ التعزير لفظ مشترك وهو من أسماء الأضداد، فإنه يطلق على التفخيم والتعظيم والنصرة بالسيف وعلى التأديب واللوم([24]).
الفرع الثاني: تعريف التعزير اصطلاحاً:
أما اصطلاحـاً فوجـدت فيـه عـدة أقـوال وتعريفات، ومنها:
1- أنه (الضرب دون الحدّ)([25])، وهذا تعريف غير دقيق لأن التعزير يشمل الضرب وما هو دونه وما هو فوقه، فالاقتصار عليه في التعريف خلل فيه.
2- أنه (تأديب دون الحدّ)([26])، وهذا التعريف لا يستقيم مع ما سنوضحه في مفهوم التعزير، فإذا علمنا أن كلمة التأديب تشمل ما يقوم به الزوج تجاه زوجته، والوالد تجاه ولده، علمنا أن التأديب ليس من التعزير، ثم إن التأديب أثر للتعزير فهو من باب تسمية الشيء باسم أثره. ومثله تعريف الشافعية فقالوا: تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة.([27])
3- أنه (تأديب على معصيةٌ لا حدّ فيها ولا كفارة)([28])، وهذا التعريف لا يستقيم فبعض العلماء يرى أنه قد يكون التعزير للمصلحة بدون وجود معصية كما فعل عمر رضي الله عنه مع نصر بن حجاج عندما نفاه وحلق له رأسه حتى لا يفتن النساء بجماله.
4- أن التعزير (مجموعة من العقوبات غير المقدرة لجرائم لم تشرع فيها حدود ولا تستوجب القصاص أو الدية)([29]). أو أنه (العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها)([30]) أو أنه (عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة)، وهو تعريف الدكتور عبد العزيز عامر([31]).
وفي هذه التعريفات لم ترد إشارة إلى من يملك حق التعزير، وهو الإمام باتفاق العلماء. وإيراده هام لدفع توهم أن العقوبة قد تكون لغير الإمام كما هو حال الأب والزوج والمعلم فهذا كله تأديب لكنه لا يدخل في مسمى العقوبة.
وأستطيع أن أضع للتعزير تعريفا يكون أقرب لما فهمته من هذا الموضوع بعد طول بحث ودراسة، فأقول: التعزير (عقوبة يقدرها الإمام أو من ينيبه بضوابط على فعل أو قول ليس فيه حدّ ولا كفارة ولا قصاص)، ومحترزات هذه القيود هي كما يأتي:
أما قولي: (عقوبة) وذلك لتشمل كلّ أنواع التعزير فهي ليست ضرباً فحسب، بل تشمل كلّ أنواع التعزير، وخرج به تأديب الزوج لزوجته والوالد لولده والمعلم لتلميذه، لأنه تأديب وليس عقوبة.
وقولي: (يقدرها الإمام أو من ينيبه) خرج بذلك من هم دون الإمام من عامة الناس أو الزوج والوالد والمعلم.
وقولي (بضوابط) حتى يخرج التقدير غير المضبوط لأنه خارج عن حدود الشرع.
وقولي: (على فعل أو قول ليس فيه حدّ ولا كفارة ولا قصاص) خرج بذلك كلّ فعل أو قول فيه حدّ أو كفارة أو قصاص، أما الفعل الذي فيه حدّ كالسرقة والزنا، والقول الذي فيه حدّ كالقذف، والفعل الذي فيه كفارة كالتمتع بالطيب في الإحرام([32])، والقول الذي فيه كفارة، كالظهار والإيلاء، فهذه ليست من التعزير.
وناسب هنا بيان أمر ذي علاقة بالمقارنة بين أنواع الجرائم الثلاثة حتى لا يظن القارئ أن الجرائم التعزيرية أقل شأناً وخطورةً من الجرائم الحدية([33]). فهذا التوجه غير دقيق، وأن ما يقوله الفقهاء من أن التعزير هو ما دون الحد، ليس المقصود به أن التعزير أقل خطراً من الحدود على الإطلاق، وإنما أرادوا إثبات مخالفة التعازير لجنس الحدود ؛ وإلا فإن في جرائم التعزير ما هو أشد خطراً من الحدود، كما هو الجاسوس الذي يتجسس للعدو على المسلمين، فإنه تعدٍ على أمن الدولة الإسلامية وهذا أخطر وأجسم من القذف أو السرقة على سبيل المثال. لكن الحدود في الأغلب أشد خطراً من التعازير. والحكم يبنى على الأغلب ثم إن التعزير يقع في الأفعال السلبية والإيجابية- كما هو في مفهوم علماء المنطق- في القول والفعل([34])، أما الفعل الإيجابي مثاله: تقبيل المرأة الأجنبية، وسرقة ما دون النصاب، أو من غير حرز، ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج.
أما الفعل السلبي وهو ترك الفعل أو ما يسميه الفقهاء أفعال التروك([35]): فمثالها ترك الصلاة، وترك الصوم، ومنع الزكاة، وترك قضاء الدين، وعدم أداء الأمانات، وقول عند العلماء أن من ترك الوتر يعزر([36]).
أما القول الإيجابي: فمثاله أن يقول لمسلم: يا خبيث، يا فاسق، يا سارق، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، أو أن يقول له: يا كلب، يا حمار([37]).
أما القول السلبي: فكالامتناع من أداء الشهادة إذا طلبه القاضي لذلك.
وبذا يصبح التعريف- فيما أراه- جامعاً لمفرداته مانعاً من دخول غيره فيه، والله أعلم.
المطلب الثالث: خصائص عقوبة التعزير
إن من أهم مبررات الدراسة في التعزير حاجة هذا الباب إلى التجلية والتوضيح وقد صرح بذلك جملة من الباحثين المعاصرين ومن ذلك قول الشيخ عبد القادر عودة: "إن أحكام التعزير لم تحظ باهتمام الباحثين لأنها تختلف من قطر إلى قطر فما يباح في بلد يحرم في أخرى"([38]). ولذا كان من المناسب توضيح خصائص عقوبة التعزير لينسجم فهم ضوابطها مع فهم خصائصها. فأبحث في هذا المبحث خصائص عقوبة التعزير من خلال التفريق بين القصاص والحدّ والتعزير، وذلك لمعرفة الحدود الفاصلة بينها، وقد ذكرت كتب الفقه([39]) جملة من الفروق بعضها صحيح وبعضها ليس كذلك، والسبب في ذلك أن أي فرق من هذه الفروق يتأثر بما ذهب إليه أصحاب المذاهب في بعض فروع التعزير، ولذلك اخترت ما اتفق مع نتائج هذا البحث.
ومن خصائص العقوبات التعزيرية بالمقارنة مع غيرها من العقوبات ما يأتي:
1. أن الحدّ مقدرٌ والتعزير ليس مقدراً([40])، فالحدود نزل الشرع ببيان قدرها وعدم التجاوز عليها أمر محتوم، أما التعزير فإن تقدير العقوبة متروك لرأي الإمام، مع مراعاة الضوابط الخاصة بذلك.
2. أن الحدّ يدرأ بالشبهات والتعزير يقام حتى مع وجود الشبهة، فإذا وجدت الشبهة. سقط الحدّ وقام التعزير مقامه([41]).
3. أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة بعد الرفع للإمام وتجوز الشفاعة في التعزير ولو بعد الرفع للإمام. أما الشفاعة في الحدود فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: "أتشفع في حد من حدود الله؟" منكراً عليه ذلك([42]). أما التعزير فإن الشفاعة فيها جائزة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء"([43]).
4. أن الحد لا يجوز للإمام ترك إقامته فلا يصح العفو عن الفاعل مطلقاً([44])، ويجوز في التعزير في بعض حالاته، أما في الحدود فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وجب"([45]). وقصة صفوان مع الذي سرق رداءه معلومة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هلا كان قبل أن تأتيني به"، وذلك عندما أراد صفوان أن يعفو عنه([46]). أما التعزير فيجوز ترك إقامته، فما كان منه حقاً للعبد فإنه يجوز له أن يعفو عن الفاعل، وما كان منه حقاً لله تعالى فللإمام أيضا أن يسقطه إذا رأى المصلحة في ذلك([47]).
5. أن الحدّ لا يختلف باختلاف الناس ولكن التعزير يختلف من شخص لآخر([48]).
6. أن التالف بالحد غير مضمون، أما التالف بالتعزير فهو مضمون([49]).
7. أن الحدود لا تختلف باختلاف الزمان والمكان أما التعزير فإنه يختلف، فما يكون في بلد تعزيراً قد يكون في غيره من البلدان إكراماً، والعكس صحيح([50]). وذكر الفقهاء لذلك أمثلة ومنها قلع الطيلسان (غطاء الرأس) فإنه بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلس ليس هواناً وبالعراق, ومصر هوان([51]).
8. أن التعزير يؤخذ به سائر الحقوق للعباد من إقرار وبينة ونكول وعلم القاضي وشهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي، وهذا لا يقبل في الحدود([52]).
9. أن التعزير على وفق الأصل من جهة اختلافه باختلاف الجنايات، وهو الأصل بدليل الزنا مائة وحد القذف ثمانون والسرقة القطع والحرابة القتل وقد خولفت القاعدة في الحدود دون التعازير فسوى الشرع بين سرقة دينار وسرقة ألف دينار وشارب قطرة من الخمر وشارب جرة في الحد مع اختلاف مفاسدها حداً... واستوى الجرح اللطيف الساري للنفس، والعظيم في القصاص مع تفاوتهما، وقتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل مع الوضيع([53]).
المبحث الثاني
ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية
في هذا المبحث أتناول ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية التي ذكرها العلماء لتكون مقيدة لتصرفات القاضي في تحديد قدر العقوبة التعزيرية، لأنه من المعلوم ابتداءً أن اجتهاد القاضي في تقدير العقوبة يرجع لاعتبار الفاعل والمفعول فيه وذات الفعل أو القول([54]).
وقد اتفق الفقهاء على ضرورة وجود هذه الضوابط من حيث المبدأ وحصل خلاف بينهم فيما يعد ضابطاً وما لا يعد. وقد جعلت هذه الضوابط في أربعة مطالب:
المطلب الأول: ضابط الزيادة على الحد وعدمه
اتفق الفقهاء فيما بينهم من حيث النظر الإجمالي لا التفصيلي على أن التعزير يجب ألا يزيد عن الحد([55]). لأن التعزير في الغالب أدنى من الحد.
وإذا تتبعنا أنواع العقوبات الحدية وجدنا أنها القتل أو الرجم أو القطع أو الجلد. ولما كان القتل والرجم لا مزيد عليهما لأنهما العقوبة القصوى لم يكن هو الوارد في معنى الزيادة في هذا المبحث وإنما تعلقت الزيادة بالجلد والقطع على التحديد. وقد اتفقت كلمة العلماء على أن الجرائم التعزيرية التي هي من جنس ما تقام له الحدود لا تجوز الزيادة فيها على الحد([56]). وضربوا لذلك أمثلة: فاللمس والقبلة من جنس الزنا([57]) ومثله عند الشافعية والحنابلة وطء الشريك الجارية المشتركة، أو أمته المزوجة أو جارية ابنه أو وطء امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج فهذا من جنس الزنا([58]).
والقذف بغير الزنا من جنس القذف([59])، ومثله السب والشتم([60]) وقوله يا فاسق أو يا شاهد زور، ودعاء عليه أو قوله الله أكبر عليك أو خصمك الله([61]). وهذا ولا شك بحسب أعراف كل أهل زمان ومكان، لأن قول إنسان لآخر الله أكبر عليك في زماننا لا تشكل قدحاً ولا ذماً.
وسرقة ما دون النصاب أو من غير حرز أو النهب أو الغصب أو الاختلاس من جنس السرقة([62]).
ويستدل لهذا الضابط بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من بلغ حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين"([63]).
إلا أن مما لا بد من ذكره في هذا المقام أن هناك عوامل أدت إلى اختلاف الحكم حتى بالنسبة للقضية الواحدة نتيجة لاجتهاد أحد الأئمة، أو فهم خاص بالأدلة، ومن ذلك الاختلاف فيما يعد من جنس الحدود وما لا يعد. فالمالكية استدلوا على جواز الزيادة في تقدير العقوبة عن قدر الحد إن لم تكن الجريمة من جنس الحدود بعدة أدلة منها:
أن مالكاً- رحمه الله- أمر بضرب رجل وجد مع صبي قد جرده وضمه إلى صدره فضربه أربعمائة فانتفخ ومات ولم يستعظم مالك ذلك([64]). وبقوله قال ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية([65]). وما دام أن الفاعل لم يعرف حاله من الإحصان وعدمه فإن تخريج فعله رضي الله عنه لا يتجاوز إحدى حالتين، إما أن يكون الفاعل غير محصن فيكون التخريج لحكم مالك رضي الله عنه أن الفعل من غير جنس الزنا لأنه من مقدمات اللواط فجاوز به حد الزناة. أو أن يكون الفاعل محصناً فالفعل من جنس الزنا والأربعمائة جلدة دون عقوبة الزاني المحصن وهي القتل. وبغير أحد هذين التخريجين يصبح هذا الجلد معارضاً للنصوص الشرعية الصحيحة.
ولتحرير محل النزاع يجب أن يشار إلى أن الزيادة التي نتحدث عنها هي الزيادة على ذات الجريمة لا نتيجة لظروفها المشددة. كما هو الحال في قضية وردت في مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنه أتي بالنجاشي([66]) قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين الحد وعشرين سوطاً لفطره في رمضان([67]). فاقتران بعض الجرائم الحدية بظروف مشددة قد يتجاوز الإمام فيها عن قدر الحد لا لذات الجريمة وإنما لما لحق بها من ظروف التشديد فهذا يجعل العقوبة ضمن الضابط المذكور لأن العبرة في التجاوز عن الحد بذات الجريمة لا بظروفها.
وأمر آخر لا بد من الإشارة إليه أن بعضاً من الجرائم الحدية لا يعلم بطريق اليقين ماهية الزيادة عليها، فالقطع مثلاً لا يُعلم يقيناً حد الزيادة عليه في الجلد، فهل أربعمائة جلدة أو ألف جلدة أزيد من القطع أو أن القطع أزيد؟ وقد ورد في الأثر أن معن بن زائدة([68]) عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالاً فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه([69]). وقال الفقهاء أن فعل عمر لم يخالفه فيه أحد من الصحابة فكان إجماعاً([70]). ففعل معن من جنس السرقة، لكنه ليس بسرقة باتفاق الفقهاء، ففي تقدير عمر رضي الله عنه أن جلده ثلاثمائة جلدة إنما هو أقل من القطع ولذا حكم عليه بها. ويرى كثير من الفقهاء المعاصرين أن القطع أزيد من الجلد مهما كثر الجلد حتى لو بلغ ألفاً أو ألفين، لأن صورة الجلد كما ذكرها الفقهاء في كتبهم لا تؤدي للقطع ولا للهلاك، كما أن من حكم بالجلد الكثير من السابقين جعله مقسطاً ولم يتتابع حتى لا يؤدي للهلاك أو التلف لأنه غير مقصود يقيناً.
ولعل أمثلة على هذه المعايير تفسر اختلاف الفقهاء في هذا الضابط وسنجد هذه الأمثلة في المباحث القادمة عند الحديث عن الزيادة عن مقدار الحد في العقوبة التعزيرية.
لكن بعد هذا الاتفاق حصل خلاف في أمور متعددة وهي:
هل تجوز الزيادة على عشر جلدات في التعزير؟
هل الزيادة مضبوطة بجنس الجريمة الحدية ذاتها أو بجنس الجرائم الحدية كلها؟
ولو فعل ما ليس من جنس الحد فهل يزاد في الجلد عن الحدود أو لا؟
ولمناقشة هذه القضايا أفردت كل واحد منها في فرع خاص.
الفرع الأول: الزيادة على عشر جلدات في التعزير.
وقع خلاف بين العلماء في الزيادة على عشر جلدات في التعزير وكان السبب في حصول هذا الاختلاف هو فهم الآثار الواردة في هذا الموضوع حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله". وفي صحيح مسلم: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله".([71])
وقد أورد فهم هذه النصوص إشكالية في تقدير عقوبة التعزير، فظاهره يوهم منع الإمام من تجاوز الجلدات العشر في غير الحد، والتعزير هو غير الحد، فلا يصح تجاوز العقوبة فيه على العشر جلدات، وقد تقيد بعض العلماء بهذا الظاهر كما هو حال المالكية والحنابلة([72]) وبعض الشافعية([73])، والليث([74])، وإسحاق([75]) فقالوا: "ولا يزاد في جلد على عشر من الأسواط"([76]) واستثنى الحنابلة من ذلك إباحة الزوجة أمتها لزوجها، وشرب مسكر في نهار رمضان ووطء الأمة المشتركة، وسبب هذا الاستثناء ورود آثار عن الصحابة الكرام يجيز فعل ذلك، دون بيان سبب مخالفة الصحابة الكرام لظاهر هذا النص.
وردّ البعض ما نقل عن الصحابة الكرام فقال إن فعل بعض الصحابة ليس بدليل، ولا يقاوم النص الصحيح... ولعله لم يبلغ الحديث من فعل ذلك من الصحابة([77]).
وهذا ما حمل بعض الشافعية على القول أن مذهب الشافعي هو عدم التجاوز على العشرة أسواط لأن الإمام الشافعي قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي" فقالوا لو أن الحديث بلغ الشافعي لقال به([78]).
وكذا الحال عند المالكية فقال الداودي([79]) معتذرا للإمام مالك: "فلو بلغه ما عدل عنه فيجب على من بلغه أن يأخذ به"([80]).
إلا أن هذا الأثر معارض بأدلة أخرى كثيرة، ولا تقف هذه الأدلة على ما روي عن الصحابة الكرام، بل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض العقوبات وزاد فيها على عشر جلدات، ولذا وجب التوفيق بين الأدلة ما أمكن لأن "إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما"([81]).
ولأجل فهم المراد من هذه النصوص أقول:
1- إن المراد بهذا الحديث من عدم السماح له بالجلد فوق عشر جلدات هو مخاطبة الآباء والأزواج والأسياد والمعلمين، لا أولياء أمور المسلمين أو القضاة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أن هناك نصوصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز فيها الجلد فوق عشر جلدات، كما هو الحال في حديثي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الرجل للرجل: يا مخنث فاجلدوه عشرين، وإذا قال الرجل للرجل: يا لوطي فاجلدوه عشرين"، ولفظ الترمذي: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الرجل للرجل يا يهودي فاضربوه عشرين وإذا قال يا مخنث فاضربوه عشرين ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه([82]). أما الآثار الواردة عن الصحابة الكرام فكثيرة عديدة.
1- فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد معن بن زائدة لما نقش على خاتمه نقش بيت المال فضربه ثلاثمائة جلدة([83]). والفعل من جنس السرقة فزاد على عشر جلدات.
2- وروي أن صبيغا([84]) كان يسأل في المشكلات والمتشابهات وكان يسأل عن الذاريات وغيرها وكان يأمر الناس بالتفقه في المشكلات من القرآن فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فضربه أكثر من الحد ونفاه وأمر بهجره، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك([85]).
3- وروي عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف "يضربان مائة"([86])، وهذا يعني أنهما كانا محصنين وكانت عقوبتهما الرجم فجلد المائة دون الرجم فكأن زنا المحصن من غير جنس زنا غير المحصن ولذا قدرت عقوبتهما مساوية لزنا غير المحصن.
4- وروي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جئ برجل يسب عثمان فقال: ما حملك على أن سببته قال: أبغضه قال: وإن أبغضت رجلاً سببته. قال فأمر به فجلد ثلاثين جلدة([87]). وهذه زيادة على العشر.
5- وقصة مالك في حكمه على الرجل الذي وجد مع صبي وقد ضمه إلى صدره فجلده أربعمائة جلدة فانتفخ ومات ولم يستعظم مالك ذلك([88]). وهذا زيادة على العشر.
6- ومن ذلك أن أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال أبو الأسود: أعجلتموه المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطاً وخلى سبيله([89]).
ونقل عن بعض العلماء أنه ينتهي به إلى ثلاثمائة جلدة ولا يزيد عليه([90]).
وهذه الآثار مع الحديث الأول في ظاهرها تعارض لا يدفع إلا بالتوفيق.
وأفضل ما يجاب به هذا الحديث ما ذكره صاحب كتاب إدرار الشروق على أنوار البروق الشيخ قاسم الأنصاري المعروف بابن الشاط في التعليق على صاحب كتاب أنوار البروق وهو الإمام القرافي حيث يقول: "جميع ما قاله في هذا الفرق صحيح، ولكنه أغفل من الأجوبة عن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلدوا فوق عشر جلدات من غير حدّ من حدود الله" أصحها وأقواها وهو أن لفظ الحدود في لفظ الشرع ليس مقصوراً على الزنا وشبهه، بل لفظ الحدود في عرف الشرع متناول لكلّ مأمور به ومنهيّ عنه، فالتعزير على هذا من جملة حدود الله تعالى، فإن قيل الحديث يقتضي مفهومه أنه يجلد عشر جلدات فما دونها في غير الحدود، فما المراد بذلك؟ فالجواب: إن المراد به جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم"([91]).
وقد ذكر مثله ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية فقال: "والحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله تعالى" قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحِقِّ الله، فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقول في الأول: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) ([92])، ويقول في الثاني: (تلك حدود الله فلا تقربوها)([93]) وأما تسمية العقوبة المقدرة حداً، فهو عرف حادث ومراد الحديث أن من ضرب لحقّ نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات([94]).
وبهذا التوفيق الدقيق نكون قد أعملنا الآثار كلها دون أن نهمل أحدها، وإعمال الدليلين عند التعارض أولى من إهمال أحدهما.
الفرع الثاني: هل الضابط هو جنس الجريمة الحدية أم جنس الجرائم الحدية؟
وصورة المسألة أن يفعل الجاني جريمة من جنس الحدود كأن يفعل غير محصن ما دون الزنا فهل ضابط التعزير للإمام هو جنس هذه الجريمة من الحدود وهو مائة جلدة فله أن يقدر ما دونها إلى أن يبلغ تسعة وتسعين جلدة. أم أن ضابط التعزير هنا هو كل جنس الحدود ممثلاً بأدنى أنواع الحدود عقوبة وهو شرب الخمر وجلده أربعين وهذا على أقل الأقوال في جريمة شرب الخمر، وبالتالي يجوز له أن يقرر عقوبة حتى تسعٍ وثلاثين جلدة.
وثمرة هذا الخلاف أن صحة قضاء القاضي مترتبة على هذا الضابط إبراماً ونقضاً، فإن زاد عن الحد كان حكمه باطلاً وجاز التعرض له بالنقض وإن كان ضمن المدى المقبول كان قضاؤه في هذه الجزئية صحيحاً.
وتفصيل أقوال العلماء في هذه الجزئية كما يأتي:
القول الأول: يرى أن القاضي لا يزيد على أقل جنس الحدود، فإن فعل ما يوجب تعزيراً دون حد الزنا فلا يبلغ به أدنى مطلق الحدود وهو الشرب أو القذف في رأي بعضهم. وهذا القول قول الحنفية فقالوا: إن اقتضى رأيه الضرب فلا يزيد على تسعة وثلاثين([95]). لأن هذا أقل الحد لأنه حد العبد في القذف والشرب وعند أبي يوسف الاعتبار بحد الأحرار لأنهم الأصول وهو ثمانون ونقص عنها سوطاً في رواية وخمسة في رواية أخرى([96]). وبمثل قوله قال ابن أبي ليلى([97]).
وعند الشافعية قالوا عن الإمام: "إن جلد وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة وفي حر عن أربعين جلدة أدنى حدودهما وقيل عشرين أدنى الحدود على الإطلاق، ويستوي في هذا جميع المعاصي السابقة في الأصح"([98]) وهو قول الحنابلة- خلافاً للإمام أحمد- فقالوا: "ولا يبلغ به أربعين سوطاً"([99]) واستثنى الحنابلة حالات خاصة وهي، وطء الرجل جارية امرأته ووطء الرجل جارية مشتركة وذلك لورود أدلة من أفعال الصحابة([100]) كما سيظهر في أدلة الفريق الثاني وبهذا عللوا اختلاف قول الإمام أحمد أنه متعلق بالأثر وإلا فقوله على أصل المذهب([101]) لكن هذا التعليل لم يجب على التساؤل المطروح لماذا يخالف الصحابة ما اعتمده أصحاب هذا القول من نص في تأكيد مذهبهم، وكان الذي أجاب عن ذلك -كما سيتبين- هم متأخروا الحنابلة كابن تيمية وابن القيم.
وكان الذي استدل به هذا الفريق من أدلة هو:
1- حديث أبي بردة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين"([102]) والحديث صريح في منع الزيادة فكل عقوبة حدية وجب النقص عنها وعدم الزيادة عليها في التعزير.
2- أن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمهما([103]).
القـول الثـاني : يرى أصحاب هذا القول أن القاضي يراعي في تقدير العقوبة جنس ذات الجريمة الحدية لا جنس كل الجرائم الحدية فله إن فعل غير المحصن ما دون الزنا أن يبلغ ما دون حد الزنا وهو تسع وتسعون جلدة، وإن فعل أحدهم ما دون القذف كان للإمام في تقدير العقوبة بلوغ تسع وسبعين جلدة ولا يزيد على ذلك، وهكذا.
وقال بهذا القول بعض الشافعية([104]) فقالوا: "والثاني (أي القول الثاني) بل يعتبر كل معصية منها بما يناسبها مما يوجب الحد، فتعزير مقدمات الزنا أو الوطء الحرام الذي لا يوجب الحد ينقص عن حد الزنا لا عن حد القذف والشرب، وتعزير السب بما ليس بقذف ينقص عن حد القذف لا عن حد الشرب وتعزير سرقة ما دون النصاب يعتبر بأغلب حدود الجلد وهو مائة جلدة لأن القطع أبلغ منها"([105]).
وهذا القول مثله مروي عن الإمام أحمد فقال: "ما كان سببه الوطء جاز أن يجلد مائة إلا سوطاً لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود"([106]) لكن الحنابلة عندهم أنه لا يزاد على أدنى الحدود إلا في مواضع محددة كما تبين مسبقاً.
واستدل هذا الفريق بأدلة متعددة منها:
1. أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه([107]) وهو أمير على الكوفة فقال: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وان لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدها أحلتها له فجلده مائة([108]). فعقوبة أمثاله الرجم حداً لكن زوجته أحلتها له فعقوبته التعزير فبلغ في العقوبة ما يزيد على أدنى الحدود لأنه ضربه مائة جلدة وأدنى الحدود أربعون.
2. وروي كذلك عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً واحداً. رواه الأثرم واحتج به أحمد([109]).
3. أن من يخالف ذلك يؤدي إلى أن من قبّل امرأة حراماً يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد على حده فما دونه أولى([110]).
والرأي الراجح في هذا الخلاف: هو قول الفريق الثاني فالآثار الشرعية دالة على صحة قول هذا الفريق ومن ذلك ما ذكرناه سابقا من فعل عمر رضي الله عنه مع معن بن زائدة ومع صبيغ فكلها دالة على أن الضابط في ذلك هو جنس الجريمة ذاتها وليس جنس الجرائم الحدية كلها.
الفرع الثالث: الزيادة على الحد في الجرائم الخارجة عن جنس الحدود.
والمسالة الأخيرة في الزيادة على الحدود فيما لو ارتكب الجاني فعلا ليس من جنس الحد فهل يزاد في الجلد عن الحدود؟ وهنا يرد للعلماء في ذلك قولان:
الأول: لا يجوز، وقال به الحنابلة([111]) واستدلوا بالحديث الذي ذكرناه آنفا من عدم جواز تجاوز عشر جلدات، وقد رسم له العلماء طريقا لا يتعارض بها مع غيره من الأحاديث الشريفة.
الثاني: أنه يجوز، وقال به المالكية([112]) ومتأخروا الحنابلة([113]) لأنه من غير جنس الحدود واستدلوا على ذلك بفعل الصحابة الكرام:
فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد معن بن زائدة لما نقش على خاتمه نقش بيت المال فضربه ثلاثمائة جلدة([114]).
وفعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ عندما ضربه أكثر من الحد ونفاه وأمر بهجره، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك([115]).
ورد أصحاب الفريق الأول على أدلة الفريق الثاني بما يأتي:
أما حديث معن فيحتمل أنه كانت لديه ذنوب كثيرة فأدّب على جميعها، أو تكرر منه الأخذ أو كان ذنبه مشتملاً على جنايات أحدها تزويره والثاني أخذه لمال بيت المال بغير حقه والثالث فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا([116]).
ورد الفريق الثاني على الفريق الأول بأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلدوا فوق عشر في غير حدود الله تعالى" فإنه خلاف مذهبهم فإنهم يزيدون على عشر، والجواب عليه أنه محمول على طباع السلف رضي الله عنه كما قال الحسن: إنكم لتأتون أموراً هي في أعينكم أدق من الشعر إن كنا لنعدها من الموبقات([117]). فكان يكفيهم قليل التعزير ثم تتابع الناس في المعاصي حتى زوّروا خاتم عمر رضي الله عنه. وهو معنى قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور([118]).
والذي أراه راجحاً ما قاله الفريق الثاني فإن الأدلة في هذا المجال عديدة وقد سار على ذلك كل الحكام والقضاة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، حتى صار عرفاً مستقراً.
ولذلك، فالإمام قد وكل الأمر إليه وهو يرى بعين المصلحة للأمة ما يصلحها، وما هو خيرها، وهذا ما يقرره العلماء في أن الأمر موكول للإمام. ويمكن اعتبار أقصى ما نقل من قدر في الجلد حداً أعلى للعقوبة التعزيرية فلا يزاد عليه.
ولا يتصور أن فعل عمر رضي الله عنه يراد به نسخ حكم، بل المجتهد فيه ينتقل له الاجتهاد لاختلاف الأسباب([119]).
المطلب الثاني: ضابط توخي الغاية من تشريع العقوبة عند تقديرها
الضابط الثاني من ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية والذي يمنع الإمام أو من ينيبه من تجاوزه هو مناسبة العقوبة للجريمة، وتوخي الغاية من تشريع العقوبة، يقول الإمام القرافي: "والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه لا أنها هنا إباحته البتة ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له، هواه أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء فهذا فسوق وخلاف الإجماع([120]). ويقول د. عبد العزيز عامر: "وليس معنى تفويض التعزير إلى القاضي أنه حر في فرض العقاب الذي يراه لكل حالة حسب هواه أو بغير ضابط، بل هو مقيد في ذلك تقييداً دقيقاً بقيد عام هو ألا يتجاوز المناسب من العقوبة إلى غيره ويقف عند العقوبة التي تلزم وتكفي لتحقيق أغراض الشارع من فرض عقوبة التعزير وأهمها ردع الجاني وزجره".
وقد ذكر العلماء لهذا الضابط حداً يعرف به أنه تجاوز المناسب أو لم يتجاوزه، وهو ذاته ضابط تحديد فعل المدافع عن ماله أو عرضه في دفع الصائل إن كان متجاوزاً لحد الدفاع الشرعي أو غير متجاوز له.
ووجه هذا التشابه أن الإمام أو من ينيبه حاله حال من يدافع عن الأمة من اعتداء الجاني، ودفع ذلك يكون بردعه وزجره، وهذا هو حد المناسبة فإن تجاوز ذلك صار فعله خارجاً عن حد التبرير، فيسأل وقد ينقض حكمه بسبب ذلك، فإن كان الجاني ينزجر بالكلام بحسب ما يتعارفه أهل الاختصاص لم يجز تجاوز الكلام إلى الذي فوقه، وإن كان يندفع وينزجر بالضرب والجلد لم يكن للإمام القتل وهكذا شأنه في سائر التعزيرات، ومن الشواهد على أن هذا الفهم يعد ضابطاً ما يأتي:
يقول المالكية: "التعزير إنما يجوز منه ما أمنت عاقبته غالباً وإلا لم يجز([121]). وقالوا: وعزر الإمام لمعصية الله أو لحق آدمي حبساً بما فيه ظن الأدب وردع النفس([122]). وهذا يدل بصراحة على أن القاضي ليس له مطلق الحرية في اختيار العقوبة التعزيرية، وقد فصّل البعض من المالكية في قضية تخيير الإمام في تقدير العقوبة فقال ابن الشاط في حاشيته على الفروق: "إن التخيير في الشريعة لفظ مشترك بين شيئين أحدهما الإباحة المطلقة كالتخيير بين أكل الطيبات وتركها، وثانيهما الواجب المطلق، وتحته نوعان: الأول: انتقال من واجب إلى واجب بشرط الاجتهاد ليؤدي إلى ما تعين سببه وأدت المصلحة إليه فيجب عليه فعله ويأثم بتركه كتصرفات الولاة، والنوع الثاني: انتقال من واجب إلى واجب بهواه وإرادته كيف خطر له، وله أن يعرض عما شاء ويقبل ما شاء من تلك الواجبات([123]).
يقول الحنفية عن العقوبة التعزيرية في أحد الروايتين عندهم: وظاهره أنه ليس مفوضاً إلى رأي القاضي وأنه ليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه"([124]) ويقول ابن عابدين: إن التعزير يختلف باختلاف الأشخاص فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه فيكون مفوضاً إلى رأي القاضي يقيمه بقدر ما يرى المصلحة فيه."([125]) ويقول الزيلعي: التعزير للتأديب ولا يجوز الإتلاف وفعله مقيد بشرط السلامة. ([126])
وعند الشافعية: "وتجب مراعاة الأخف فالأخف كالصيال"([127]).
وعند الحنابلة: أنه إذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قُتل وحينئذ فمن تكرر منه جنس الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على الفساد فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل([128]).
أما الرواية الثانية عند الحنفية أن الإمام مفوض بالكلية فيما يعمل وبالتالي لا يتقيد بهذا الضابط ولا غيره.([129]) وقد صرح ابن نجيم في البحر الرائق بهذا الخلاف فقال: "وصرح السرخسي بأنه ليس في التعزير شئ مقدر بل هو مفوض إلى رأي القاضي لأن المقصود منه الزجر وأحوال الناس مختلفة فيه، ونقل عن بعض علماء الحنفية قوله: إن التعزير على مراتب أشراف الأشراف وهم العلماء والعلوية([130]) بالإعلام وهو أن يقول له القاضي: إنك تفعل كذا وكذا فينزجر به، وتعزير الأشراف وهم الأمراء والدهاقين([131]) بالإعلام والجر إلى باب القاضي والخصومة، وتعزير الأوساط وهم السوقة([132]) بالجر والحبس، وتعزير الأخسة بهذا كله وبالضرب. وظاهره أنه ليس مفوضاً إلى رأي القاضي وأنه ليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه، وظاهر الأول أن له ذلك([133]).
فعلى التقدير الأول لا يحق للمحكوم عليه الطعن في قرار القاضي وحكمه لأن له مطلق الحرية في تقدير العقوبة ، وعلى القول الثاني يحق له ذلك كله إن خالف ضوابط تقدير العقوبة، وهذا هو ثمرة الخلاف.
إلا أن التعارض بين القولين عند الحنفية توسط فيه من يرفع إشكاله ويزيل لبسه فقالوا: ما قاله بعض العلماء لا يكون على إطلاقه فإن أشرف الأشراف إن ضرب غيره فأدماه فلا يكتفى بتعزيره لأنه لا ينزجر بذلك. وقالوا: إن هذا القول بيان لما تضمنه قول السرخسي، فصار حاصل القول بالتفويض إلى رأي الإمام أن ينظر إلى الجناية وإلى حال الجاني فإذا كانت الجناية صغيرة والجاني ذا مروءة ممن ينزجر بمجرد الإعلام لا يزاد عليه بخلاف ما إذا كانت جنايته كبيرة كاللواطة وشرب الخمر فإن هذا لا يصدر من ذي مروءة وإن كان من الأشراف فلا ينبغي أن يقال أنه يكفي فيه مجرد الإعلام، لأن نحو العلماء والعلوية يراد بهم من جنايته صغيرة صدرت منه على وجه الزلة والندور والمراد بالمروءة الدين والصلاح([134]).
وهذا التوجيه صحيح لأن القائلين بأن التعزير ليس فيه شيء مقدر لا يقصدون إطلاق يد القاضي في تقدير العقوبة بما يريد بل يتم تقييده بما يحصل به الغرض من تشريع العقوبة، وهاهو الإمام الزيلعي بعد أن قرر أن القاضي له مطلق الحرية وأرجع أمر التقدير لشخص القاضي عاد وقال: "وينظر في أحوال الناس فإن من الناس من ينزجر باليسير ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير([135]). فدل على أن الأصل في تقدير العقوبة هو القاضي لكنه بالوقت ذاته مقيد بما يحصّل الغرض من العقوبة وهو الزجر والردع كما تبين.
فلو قرر جلد المعاقب بما يعلم أنه زيادة على مقدار عقوبته المفترضة جاز اعتراض حكمه، كمن فعل جريمة هينة فقرر جلده تسعاً وتسعين، مع علمه أن فعله لا يعاقب أمثاله بهذه العقوبة كان حكمه باطلا مع ما يستتبع ذلك من أحكام الحكم الباطل. يقول تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)([136]). وبناء على هذا الضابط يرى الفقهاء عدم جواز الصفع في التعزير وحلق اللحية وتسويد الوجه وعللوا ذلك بأنه أعلى ما يكون من الاستخفاف، وكذلك منعوا كشف العورة أو التمثيل في الجسد([137]). وكل ذلك عائد إلى أن الغاية من التعزير غير متحققة في هذه الصور من العقوبات.
المطلب الثالث: ضابط مراعاة ظروف التخفيف والتشديد عند التقدير
قد ذكر العلماء في باب تقدير العقوبة التعزيرية ضابطاً آخر هاماً وهو أن الإمام أو من ينيبه يقدر العقوبة بعد أن يراعي حال المعاقَب وهذا ما يعرف الآن بالظروف المتعلقة بالجريمة تخفيفاً وتشديداً. وقد نقل اتفاق الفقهاء على هذا الضابط كثير من الفقهاء ومن ذلك قول ابن فرحون: اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد، بحسب الجناية في العظم والصغر وحسب الجاني في الشر وعدمه([138]). والمراد من إقرار هذه الظروف أن تكون العقوبة مناسبة للجريمة امتثالاً لقوله تعالى:(وجزاء سيئة سيئة مثلها)([139]) وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)([140]).
وهذه الظروف منها ما هو تقديري فأمره متروك للإمام أو من ينيبه ليقرر وجوده وقدر تأثيره في العقوبة زيادةً ونقصاً، لكن كل ذلك دون الحدود العليا للتعزير إن كان الفعل من جنس الحدود، وفوق الحدود الدنيا كما سيظهر عند بعض العلماء، ومن هذه الظروف ما هو منصوص عليها فعلى الإمام وجوباً مراعاة هذه الظروف في تقدير العقوبة التعزيرية.
ومن ذلك إن كانت الجريمة تعزيرية وثبت في جنسها من الحدود ما هو ظرف مخفف وجب الأخذ به في الحد فهو كذلك في التعزير يجب الأخذ به، ومثاله الحمل، فإن الحمل ظرف مخفف بالنص لا يسع الإمام أن يغفل هذا الظرف لأنه منصوص عليه فعن معاذ بن جبل، وعن أبي عبيدة، وعن عبادة بن الصامت، وعن شداد بن أوس رضي الله عنهم أجمعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة إذا قَتلت عمدا لا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً، وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها".([141]) وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إنها زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: أحسن إليها، فإذا وضعت فجئ بها، فلما أن وضعت جاء بها، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها([142])" والأدلة في هذا كثيرة ولا يتسع المقام لسردها جميعاً([143]). فهذا ظرف مخفف بالنص ووجه التخفيف فيه أن إقامة العقوبة على الفور أشد من تأخيرها لاحتمال حصول ما يسقط العقوبة؛ فإن كان الجرم ثبت بإقرار فيسقط بالتراجع، والتأخير يشجع على ذلك، وإن كان ثبت بالشهود فقد يتراجع شاهد من الشهود فيسقط الحد عن المشهود عليه إلى التعزير، فوجه التخفيف على هذا محتمل لا متيقن، وهذا ولا شك أخف من انتفاء هذا الاحتمال إذا لم يؤجل التنفيذ. وهذا الظرف مؤثر في الحدود والتعازير على حد سواء، فمن باب أولى أن يؤثر في التعازير لأنه وصف معتبر شرعاً فوجب الأخذ به.
يقول الإمام الماوردي عن التعزير ما نصه: "ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله... وتأديب ذي الهيئة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود([144]). ويقول ابن نجيم: ولو ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضاً فإنهما يعزران بإقامة التعزير بالبادي منهما لأنه أظلم والوجوب عليه أسبق([145]).
ومن الظروف كذلك ظروف التشديد، ومثاله العود والتكرار فإن أبا حنيفة يرى التعزير بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل، كمن تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك. وبمثله يرى ابن تيمية من الحنابلة وقال إن المفسد إذا لم ينقطع شره إلا بالقتل فإنه يقتل([146]). وفي سياق الحديث عن التعازير والمعاصي التي ليس لها حد مقدر يقول: إن العقوبة نوعان أحدهما على ذنب ماضٍ جزاء بما كسب نكالاً من الله... والثاني العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب وإلا قتل وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه([147]).
المطلب الرابع: ضابط عدم النزول في تقدير العقوبة عن أقل قدر مشروع فيها
وهذا الضابط مختلف في تقريره عند العلماء، فهم وإن اتفقوا على أن الإمام له أن يعاقب بما يريده لكن في حالة الجلد جعل بعض العلماء للجلد حداً لا يجوز النزول دونه في التعزيرات. وجاءت أقوال العلماء على النحو الآتي:
الفريق الأول: يرى هذا الفريق أنه لا سبيل إلى تحديد أقل التعزير وبه قال المالكية([148]) والحنابلة([149]). وبعض الحنفية.
يقول بعض الحنفية: إن أدنى الضرب على ما يرى الإمام، يقدره بقدر ما يعلم أنه ينزجر به لأنه يختلف باختلاف الناس([150]). وقالوا في تعليلهم للرأي الآخر في مذهبهم القائل أن ما دون الثلاث لا يقع به الزجر فقالوا إنما هو لمن يناسبه لما عُلمَ أنه ليس لازماً لاختلافه باختلاف الناس([151]).
وقال المالكية: اتفقوا على عدم تحديد أقله، فعندنا هو غير محدد بل بحسب الجناية والجاني والمجني عليه، ونقل ابن فرحون في التبصرة قول المازري في بعض الفتاوى أن تحديد العقوبة لا سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب([152]).
وقال الحنابلة: أنه ليس أقله مقدراً لأنه لو تقدر لكان حداً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص([153]).
أما الفريق الثاني: فإنه يرى أن أقله يمكن تقديره وقدروه بالجلد بثلاث جلدات وقال بهذا القول بعض الحنفية([154]).
وقال الحنفية: إن أقل الجلد ثلاث جلدات وأن ما دون الثلاث لا يقع به الزجر([155]).
والراجح في هذا قول الفريق الأول، فإن تحديد أقله كما يراه الفريق الثاني إنما لأن الزجر لا يقع بما دون الثلاث، فلو ثبت بالاستقراء أن الزجر قد يحصل به في بعض الأحوال صارت العقوبة مشروعة، ولذا يمكن القول أن الأقل مضبوط بضابط المناسبة للفعل، فإن عاقب بالثلاث لمن يستحق العشر فقد نزل عن الحد الأدنى للعقوبة في أمثاله، وإن عاقب بجلدتين لمن يستحق اللوم بلا جلد كان متجاوزاً الحد المسموح به في التعزير.
الخاتمة
خلصت في هذا البحث إلى جملـة من النتائج أختم بها بحثي هذا:
التعزير عقوبة يقدرها الإمام أو من ينيبه بضوابط على فعل أو قول ليس فيه حد ولا كفارة ولا قصاص.
العقوبة التعزيرية لها خصائص تجعلها متميزة عن غيرها من العقوبات الشرعية ومن أهمها أنها في الأصل غير مقدرة ولكنها في ذات الوقت مضبوطة.
الجرائم التي عقوبتها التعزير والتي هي من جنس الحدود لا يجوز الزيادة في تقديرها على الحد الذي تنتمي الجريمة لجنسه من الجرائم الحدية.
تجوز الزيادة في التعزير على عشر جلدات.
تجوز الزيادة عن الحدود في تقدير العقوبة التعزيرية الخارجة عن جنس الجرائم الحدية.
من ضوابط تقدير التعزير توخي الغاية من تشريع العقوبة عند تقديرها وضابطه ضابط دفع الصيال وحد المناسبة مشترك بينهما.
من ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية مراعاة ظروف التخفيف والتشديد عند تقديرها.
ليس هناك حد أدنى للعقوبات التعزيرية بل للإمام الخيار في تحديد أقله.
والحمد لله رب العالمين
(*)المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية المجلد الثاني، العدد (3)، 1427 ه/2006م
الهوامش:
([1]) سورة النحل، الآية رقم 90.