أسباب الاختلاف الفقهيّ (*)
فضيلة المفتي الدكتور صفوان "محمد رضا" عضيبات/ مدير الإفتاء المركزي، دائرة الإفتاء العام
الملخص
كثرة المذاهب الفقهية، وتعدد وجهات النظر، واختلاف الآراء في المسألة الواحدة، له أسباب كثيرة، حاول الباحث في هذه الدراسة؛ بيان هذه الأسباب بشكل موجز، من غير إخلال بالمقصود، ليستفيد منها طالب العلم الشرعي، ولتكون مساهمة في مشروع وحدة المسلمين على أساس قاعدة الحوار، وحسن الظن، والتماس العذر.
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
اقتضت حكمة الله تعالى في شرعه الشريف، أن يكون كثير من نصوص القرآن والسنة محتملة لأكثر من معنى، وفي ذلك يقول الزركشي: "اعلم أنّ الله تعالى لم يُنَصِّب على جميع الأحكام الشرعيّة أدلّة قاطعة، بل جعلها ظنّيّة، قصداً للتوسيع على المكلّفين، لألا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه"([1]).
كما اقتضت حكمة الله تعالى تفاوت الخلق في العقول، مما أدّى إلى التفاوت في الأفهام، فوقع الاختلاف في الأحكام الشرعيّة، على مرّ العصور والدّهور.
وتكمن فائدة معرفة أسباب اختلاف الفقهاء في تضييق الهوة التي نراها تمزق أوصال كثير من المسلمين، وفي توسيع قاعدة الحوار بينهم على أساس حسن الظن، والتماس العذر, فإن المسلم إذا اطلع على أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع الفقهية, علم أن الله عز وجل له حكمته البالغة في جعل نصوص الشريعة محتملة للمعاني المختلف التي يتفاوت في دركها المجتهدون من العلماء, عندئذ يوسع صدره, ويحسن الظن, ويلتمس العذر, فيكون ذلك من مسالك توحيد الأمة.
وأسباب الاختلاف بين الفقهاء كثيرة، إلا أنّه يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أسباب رئيسة، تندرج تحتها تفريعات كثيرة، سأتناول في هذا البحث أهمّها على النحو التالي([2]):
المبحث الأوّل: أسباب تعود إلى رواية السنن، وأهمّ ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب:
1- عدم الاطّلاع على الحديث.
2- الشك في ثبوت الحديث.
3- نسيان الحديث.
المبحث الثاني: أسباب تعود إلى فهم النص، وتفاوت عقول المجتهدين في ذلك، وأهمّ ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب:
1- اختلاف المجتهدين في فهم النصوص.
2- اختلاف المجتهدين في استنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه.
3- اختلاف المجتهدين في الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة.
4- اختلاف المجتهدين في القواعد الأصوليّة.
المبحث الثالث: أسباب تعود إلى اللغة، وأهم ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب:
1- الاشتراك اللفظي.
2- دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز.
3- اختلاف القراءات.
المبحث الأوّل
أسباب تعود إلى رواية السنن
وهذا النوع من الأسباب متعدِّد الجوانب، مختلف الآثار، وإليه ترجع معظم الاختلافات الفقهيّة التي وقعت بين العلماء.
وأهمّ ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب:
1- عدم الاطّلاع على الحديث.
2-الشك في ثبوت الحديث.
3-نسيان الحديث.
وسأوضحها في المطالب الآتية:
المطلب الأول: عدم الاطّلاع على الحديث:
وذلك بأن يصل الحديث إلى قوم، ولا يصل إلى آخرين، فينبني على ذلك اختلافٌ في حكم الواقعة، والإحاطة بأحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن لأحد من الأمّة، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُحدِّث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل أمراً، فيسمعه أو يراه من كان حاضراً، ثم يبلِّغه لغيره، فيكون عند أقوامٍ من العلم في واقعةٍ معيَّنة ما ليس عند غيرهم، فينشأ الاختلاف بينهم، وإنَّما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم، بكثرة العلم أو جودته([3]).
وقد وقع ذلك بين الصحابة رضوان الله عليهم، أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلمهم بسنته، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أنّ الجدّة جاءت على أبي بكر تسأله ميراثها، (فقال لها أبو بكر: "ما لكِ في كتاب الله شيء، وما علمتُ لكِ في سنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس"، فقال المغيرة بن شعبة: "حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطاها السدس"، فقال أبو بكر: "هل معكَ غيرك"؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق)([4]).
ولم تكن هذه الظاهرة مقصورة على الصحابة فحسب، بل كانت منتشرة في التابعين ومن بعدهم، لأن الصحابة تفرَّقوا في الأمصار، فكلٌّ حدَّث بما عَلِم ([5])، فوصل أقوام من التابعين ومن بعدهم من العلم ما لم يصل غيرهم، فانبنى على ذلك الكثير من الاختلاف في المسائل الفقهيّة، ومن الأمثلة على ذلك:
مسألة نقض المرأة شعرها عند الاغتسال:
فقد ورد أنّه بلغ عائشة أنّ عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن يَنْقُضْن رؤوسهنّ، فقالت: " يا عجباً لابن عمرو هذا، يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهنّ، أفلا يأمرهنّ أن يحلقن رؤوسهنّ، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناءٍ واحدٍ، ولا أزيد على أن أُفْرِغَ على رأسي ثلاث إفراغات"([6]).
فهذا عبد الله بن عمرو لم يبلغه حديث عائشة هذا، ولو بلغه لما أمر النساء أن ينقضن رؤوسهنّ، وقد ترتّب على هذا الاختلاف بين الصحابة، اختلاف الفقهاء في المسألة على أقوال:
فمن بلغه حديث عائشة، أخذ بعدم وجوب نقض الشعور للغسل، سواء من حيض أو جنابة([7])، ومن لم يبلغه الحديث، قال بوجوب نقض الشعور للغسل([8])، ومن فرَّق بين غسل الجنابة وغسل الحيض فلزيادة علمٍ وصله([9]).
المطلب الثاني: الشكّ في ثبوت الحديث.
فقد يصل الحديث إلى قومٍ فيأخذوا به، ويبنوا عليه الأحكام، ويصل إلى آخرين فيَشُكُّوا في صحته، ولا يعملوا به، فيحصل الاختلاف في الآراء في المسألة الواحدة.
ومن المسائل الفقهيّة التي حصل فيها الاختلاف بسبب الشكّ في ثبوت الحديث:
مسألة: من مات بعد العقد، وقبل الدخول، ولم يكن سمَّى مهراً، ماذا يجب لزوجته؟
ورد في ذلك أنَّ: (ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط ([10])، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي([11])، فقال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بَرْوَعَ بنت واشِقٍ([12]) امرأة منا مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود)([13]).
ثم اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأوّل: ذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وهو مذهب ابن عمر، وزيد ابن ثابت، ومذهب أهل الحجاز، إلى أنّه: ليس لها مهر، ولها المتعة والميراث([14])، وحُجّتهم في ذلك قياس الموت على الطلاق في هذه، فكما أنّه لا يجب في الطلاق شيء، فكذلك لا يجب بالموت، ولم يعمل مالك بحديث ابن مسعود لأنّه يقول بتقديم القياس على الأثر.
القول الثاني: ذهب الشافعي إلى أنّه لا مهر لها ولا متعة، لأنّها غير مطلّقة، والمتعة للمطلقة، ولها الميراث([15])، ولم يحتجّ الشافعي بحديث ابن مسعود، لما عنده من الشك في ثبوت الحديث، ولذلك قال عن الحديث: " فإن كان ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو أولى الأمور بنا، ولا حُجّة في قول أحد دون النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كثروا، ولا في قياس... وإن كان لا يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن لأحدٍ أن يثبت عنه ما لم يثبت، ولم أحفظه بعد من وجه يثبت مثله "([16]).
القول الثالث: ذهب الحنفية([17])، والشافعية في الأظهر([18])، والحنابلة في الصحيح من المذهب([19])
وهو قول ابن مسعود، وابن شبرمة ([20])، والثوري، وإسحاق([21])، إلى أنّه لها مهر المثل، واحتجّوا لذلك بحديث ابن مسعود.
فنلاحظ كيف اختلف الفقهاء في مسألة من مات بعد العقد، وقبل الدخول، ولم يكن سمّى مهراً، ماذا يجب لزوجته، فبعضهم قال بمهر المثل، وآخرون قالوا ليس لها مهر، وسبب هذا الاختلاف؛ هو الشكّ في ثبوت حديث ابن مسعود.
المطلب الثالث: نسيان الحديث.
فالسنّة لم تكن مدوّنة في صدر الإسلام، لذلك كان الاعتماد فيها على الحفظ، وقد ذكر ابن تيمية هذا السبب بقوله: " أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهذا يرد في الكتاب والسنة"([22]).
ثم مثّل له بحديث التيمّم من الجنابة عند عدم وجود الماء، ونصّ الحديث: " أنّ رجلاً أتى عمر، فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تصلّ، فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سريّة فأجنبنا، فلم نجد ماءً، فأمّا أنت فلم تصلّ، وأمّا أنا فتمعّكت في التراب وصلّيت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتّق الله يا عمّار، قال: إن شئت لم أحدِّث به، وفي رواية أن عمر قال له: نولّيك ما تولّيت)([23]).
فنسيان عمر رضي الله عنه للحديث، جعله يفتي من أجنب ولم يجد الماء بعدم الصلاة، وعندما ذكّره عمّار رضي الله عنه لم يتذكّر، بدليل قوله له: اتّق الله ياعمّار، ولكنّه لم يمنع عمّار من التحديث به، حيث قال له: نولّيك ما تولّيت، أي: ندعك وما تتقلّد([24]).
المبحث الثاني
أسباب تعود إلى فهم النصّ، وتفاوت عقول المجتهدين في ذلك
تتفاوت عقول المجتهدين في فهم النصّ الثابت، واستنباط الحكم الشرعي منه، وذلك يرجع إلى أحد أمرين: إما لسبب يعود إلى النصّ نفسه، كأن يكون اللفظ مشتركاً بين معنيين، أو بسبب يعود إلى المجتهد في فهم ذلك النصّ، كأن يأخذ مجتهد بظاهر النص، ويأخذ آخر بباطنه.
وأهم ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب أمور أربعة:
1- اختلاف المجتهدين في فهم النصوص.
2- اختلاف المجتهدين في استنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه.
3- اختلاف المجتهدين في الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة.
4- اختلاف المجتهدين في القواعد الأصوليّة.
وسيوضحها الباحث في المطالب الآتية:
المطلب الأول: اختلاف المجتهدين في فهم النصوص.
وهذا أمر راجع إلى نفس المجتهد في فهمه للنصّ، فقد ينظر بعض المجتهدين إلى ظاهر النص، فينبني الحكم على ذلك، في حين نجد مجتهدين آخرين ينظرون إلى معنى النصّ والمقصود منه، ويبنون الحكم عليه.
وخير مثال على ذلك اختلاف الصحابة يوم الأحزاب في فهمهم لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا يصلينّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة)([25]).
ففهم البعض أنّ مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم الإسراع في المسير، فصلّوا العصر في الطريق، ووقف الآخرون عند ظاهر النصّ، فلم يصلّوا العصر إلا في بني قريظة.
ومن الأمثلة على اختلاف الفقهاء في فهم النصوص:
اختلافهم في فهم علّة الحكم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تُخَلِّفَكُم أو توضع)([26]).
فاختلف الفقهاء في علّة القيام للجنازة([27]):
فقوم قالوا: لتعظيم الملائكة، فيعمّ المؤمن والكافر، وقال آخرون: لهول الموت، فيعمّ المؤمن والكافر أيضاً، وقال الشافعي: هذا لا يعدوا أن يكون منسوخا ً، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قام لها، لعلّة قد رواها بعض المحدّثين، أنّها كانت جِنازة يهودي ٍ، فقام لها كراهية أن تطوله"([28]).
وقال أحمد بن حنبل: " إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس به "([29]).
فاختلاف الفقهاء في هذه المسألة سببه اختلافهم في علة الحكم.
المطلب الثاني: اختلاف المجتهدين في استنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه.
فإذا لم يوجد في المسألة نص من آية أو حديث، لجأ المجتهد إلى القياس والاجتهاد، كما قال
الشاعر([30]):
إذا أعْيَ الفقيهَ وجودُ نصٍّ تعلَّق لا محالة بالقيــاس
وهذا باب واسعٌ من أبواب الاختلاف بين الفقهاء، إذ من الثابت أنّ النصوص محدودة، والوقائع كثيرة ومتجدّدة، وقد تتماثل بعض هذه الوقائع مع حادثة جرت في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان له فيها حكم، وقد تختلف عنها اختلافاً بيّناً، وهذا ما حدا بأبي بكر رضي الله عنه إلى أن يجمع رؤوس الناس وفقهاء الصحابة كلّما حدثت حادثة من هذا القبيل، فيتشاوروا حتى يجدوا لها حكماً([31]).
ومن الأمثلة على ذلك:
مسألة قتل الجماعة بالواحد:
ورد: " أنّ امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها، غلام يقال له أصيل، فاتّخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت لخليلها: إنّ هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، واجتمع على قتله الرجل، ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقتلوه ثم قطَّعوه أعضاءً، وجعلوه في عَيْبَةٍ ([32]) من أدم، فطرحوه في رَكِيَّةٍ([33]) في ناحية القرية، وليس فيها ماء، ثم صاحت المرأة فاجتمع الناس، فخرجوا يطلبون الغلام، قال: فمرَّ رجل بالركيَّة التي فيها الغلام، فخرج منها الذباب الأخضر، فقلنا: والله إن في هذه لجيفة، ومعنا خليلها، فأخذته رِعْدة، فذهبنا به فحبسناه، وأرسلنا رجلاً فأخرج الغلام، فأخذنا الرجل فاعترف، فأخبرنا الخبر،
فاعترفت المرأة، والرجل الآخر وخادمها، فكتب يعلى([34]) وهو يومئذٍ أمير بشأنهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أنّ أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين "([35]).
فمسألة قتل الجماعة بالواحد حدثت في زمن عمر، ولم يرد فيها نصّ في القرآن أو السنة، فاجتهد عمر، ثمّ حصل اختلاف بين الصحابة، ثم بين من بعدهم من العلماء، فوافق عمرَ في قضائه عليٌ، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال الشعبي، وقتادة، والحسن من التابعين، وهو قول فقهاء الأمصار؛ منهم الثوري، والأوزاعي، والليث، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلّهم قالوا: تقتل الجماعة بالواحد، كثرت الجماعة أو قلّت، إذا اشتركت في قتل الواحد([36]).
وخالف عمرَ ابنُ الزبير، وروي عن معاذ، وبه قال محمد بن سيرين، وابن شهاب والزهري، وحبيب بن أبي ثابت، وداود الظاهري، وهو رواية عن أحمد، كلّهم قالوا: لا تقتل الجماعة بالواحد، ولا يقتل بنفس واحدة أكثر من واحد([37]).
المطلب الثالث: اختلاف المجتهدين في الجمع([38]) والترجيح([39]) بين النصوص المتعارضة.
فقد يقف المجتهد أمام دليلين متعارضين، أحدهما يقتضي حكماً، والآخر يقتضي حكماً ينافي الحكم الأوّل، كما لو كان الأوّل يقتضي الحِل، والثاني يقتضي الحرمة، وعندئذٍ يختلف العلماء في الحكم بناءً على اختلافهم في طرق الجمع والترجيح عند تعارض الأدلة، وقد بحث العلماء ذلك تحت باب التعارض([40]) والترجيح، هذا مع ملاحظة أن التعارض بين الأدلّة أمر صوري لا حقيقي، بمعنى أنّ التعارض يكون فيما يظهر للمجتهد بحسب فهمه، لا في الواقع ونفس الأمر، " فالشريعة كلّها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنّها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك "([41]).
ومن الأمثلة على اختلاف الفقهاء بسبب تعارض النصوص، وطرق دفع هذا التعارض ([42])، ما ورد من أحاديث في صفة صلاة الكسوف:
فمنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأوّل، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأوّل، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأوّلى...)([43]).
وحديث أبي بكرة([44]) قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانكسفت الشمس، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم يجرّ ردائه حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلّى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلّوا وادعوا حتى يكشف ما بكم)([45]).
فحديث عائشة يفيد أنّ صلاة الكسوف فيها ركوعين في كلّ ركعة، وهناك أحاديث أخرى تؤيّد هذا المعنى.
وحديث أبي بكرة يفيد أن صلاة الكسوف ركعتين، بدون إشارة إلى الركوعين في كل ركعة.
وأمام هذا التعارض بين النصّين، اختلف الفقهاء في صفة صلاة الكسوف على أقوال:
القول الأوّل: ذهب مالك، والشافعي، وأصحابهما، وجمهور أهل الحجاز، إلى أنّ صلاة الكسوف ركعتان، وفي كل ركعة قيامان وركوعان، وبذلك قال الليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور([46]).
القول الثاني: ذهب الكوفيّون ومنهم أبو حنيفة، والثوري، إلى أنّ صلاة الكسوف ركعتان مثل صلاة الصبح، وهو قول إبراهيم النخعي([47]).
القول الثالث: وذهب بعض أهل العلم كالطبري، إلى أنّ الأمر على التخيير، فيجوز أن تصلّي على أيٍ من الصورتين المذكورتين لصحتهما([48]).
فأصحاب القول الأوّل رجّحوا حديث عائشة وما في معناه من الروايات الصحيحة، التي تفيد أن صلاة الكسوف ركعتان، كلّ ركعة بركوعين وقيامين، وقالوا عن هذه الأحاديث: أنّها من
أصحِّ ما يروى في صلاة الكسوف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم([49]).
وقالوا: " ولو قُدِّر التعارض لكان الأخذ بأحاديثنا أولى، لصحّتها، وشهرتها،واتّفاق الأئمّة
على صحّتها، والأخذ بها، واشتمالها على الزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة "([50]).
وأصحاب القول الثاني رجّحوا رواية أبي بكرة وما في معناها من الروايات، لموافقتها للقياس ـ أي على المعهود من الصلوات ـ، وأوّلوا حديث عائشة على أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم طوّل الركوع فملّ بعض القوم، فرفعوا رؤوسهم، وظنّ من خلفهم أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع رأسه، فرفعوا رؤوسهم، ثمّ عاد الصفّ المتقدّم إلى الركوع اتّباعاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركع من خلفهم أيضاً، وظنّوا أنّه ركع ركوعين في كلّ ركعة، ولو كان الأمر كذلك، لنقله كبار الصحابة من يصلّون خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه أمر خلاف المعهود، ولكن ذلك لم يحصل([51]).
وأما أصحاب القول الثالث فذهبوا لما قالوا من أجل الجمع بين الصورتين([52]).
المطلب الرابع: اختلاف المجتهدين في القواعد الأصوليّة.
يراد بالقواعد الأصوليّة: " تلك الأسس، والخطط، والمناهج، التي يضعها المجتهد نصب عينيه، عند البدء والشروع بالاستنباط، يضعها ليشيّد عليها صرح مذهبه، ويكون ما توصّل
إليه ثمرةً ونتيجةً لها "([53]).
ومن العسر بمكان، حصر أسباب الاختلاف التي من هذا النوع، فكلّ قاعدة أصوليّة مُخْتَلَفٌ
فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنيّة عليها([54]).
ويندرج تحت هذا النوع من الأسباب: مباحث دلالات الألفاظ، ومباحث العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والأمر والنهي، ومنها كذلك القواعد المتعلّقة بالقرآن والسنّة، والإجماع، والقياس، والأدلّة المُختلف فيها، فهو باب واسع من أبواب اختلاف الفقهاء، أدّى إلى التمايز بين مناهجهم، ولعلّه من أهم أسباب الاختلاف([55]).
ومن الأمثلة على هذا النوع من الأسباب:
مسألة: بيع الثمر الذي على النخل بخرصه تمراً.
وهي مبنيّة على اختلاف العلماء في تعارض العام مع الخاص، ولذلك اختلف العلماء في جواز بيع الثمر الذي على النخل بخرصه تمراً على قولين:
القول الأوّل: ذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز هذا النوع من البيوع، سواء أكان أقلّ من خمسة أوسق أو أكثر، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من النهي عن بيع المزابنة، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المزابنة،والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالكَرْم كيلاً)([56]).
ولأنّه مال ربوي، فلا يجوز بيعه بجنسه مع الجهل بتساويهما، كما لوكانا موضوعين على الأرض ([57]).
فأبو حنيفة استشهد بعموم النصوص التي فيها النهي عن بيع المزابنة، وبعموم النصوص التي تحرّم الربا في أموال معيّنة، ولم يأخذ بالنصّ الخاص الذي فيه جواز بيع العرايا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيع العرايا بخَرْصِها من التمر فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق، شكّ الراوي في ذلك)([58]).
وكثير من الحنفية أخرج بيع العرايا من باب البيوع، وفسّر العريّة بالعطيّة، وتأويله أن يبيع المعرّى له ما على النخيل من المعرّى بتمرٍ مجذوذ، وهو بيع مُجازٌ لأنّه لا يملكه فيكون بُراً مبتدأ([59]).
القول الثاني: ذهب الجمهور([60]) إلى جواز بيع الثمر الذي على النخل بخرصه تمراً، واستدلّوا بحديث الترخّص ببيع العرايا، وقالوا بأن هذا الحديث يخصّص عموم النهي عن بيع المزابنة وعموم ما ورد في تحريم الربا في أصناف معينة، ولكنهم اختلفوا في تفسير العرايا التي جاء الترخّص بها:
فذهب الشافعي إلى أنّ العرايا هي: بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض، أو العنب في الشجر بزبيب، فرخّص في ذلك بشرط أن لا يزيد عن خمسة أوسق، فقال: " ولا يجوز أن يبيع صاحب العريّة من العرايا إلا خمسة أوسق أو دونها "([61]).
وذهب أحمد إلى أنّ العرايا هي: بيع الرطب في رؤوس النخل، خرصاً بمثله من التمر كيلاً، فيما دون خمسة أوسق، إلا أنّ ذلك خاص عند حاجة المشتري ([62])، بدليل ما روي أنّ زيد بن ثابت عندما سئل: (ما عراياكم هذه ؟ فسمّى رجالاً محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً، وعندهم فضولٌ من التمر، فرخّص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونه رطباً)([63]).
المبحث الثالث
أسباب تعود إلى اللغة
وأهم ما يندرج تحت هذا النوع من الأسباب:
1- الاشتراك اللفظي.
2- دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز.
3- اختلاف القراءات.
وسأوضحها في المطالب الآتية:
المطلب الأول: الاشتراك اللفظي.
والمشترك هو: " اللفظ الواحد الدال على معيّنين مختلفين أو أكثر على السواء، عند أهل تلك اللغة "([64]).
مثل: العين اسمٌ لعين الناظر، وعين الشمس، وعين الميزان، وعين الماء وهكذا([65]).
ولوجود الاشتراك اللفظي في النصوص الشرعيّة، وقع الاختلاف بين العلماء، ومثال ذلك:
قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ([66]).
فالقروء جمع قرء، والقرء لفظ مشترك لغة بين معنيين هما: الطهر والحيض([67]) ، ولذلك اختلف العلماء في عدّة الحائض المطلّقة على قولين:
القول الأوّل: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه: أنّها ثلاثة قروء، بمعنى ثلاثة أطهار، وهو قول زيد، وابن عمر، وعائشة، والزهري، وغيرهم([68]).
واستدلّوا على قولهم بأدلّة منها لسان العرب، فقالوا: والقرءُ اسمٌ وُضِع لمعنى، فلمّا كان الحيض دماً يرخيه الرّحِم فيخرج، والطهر دماً يُحتبس فلا يخرج، كان معروفاً من لسان العرب أنّ القُرء الحبس([69]).
وممّا استشهدوا به قولهم: أنّ الله تعالى قال: ثلاثة قروء، فأثبت التاء في العدد، وإثباتها يكون في معدودٍ مذكّر... والطهر مذكّر والحيض مؤنّث، فوجب أن يكون جمع المذكّر متناولاً للطهر المذكر دون الحيض المؤنّث([70]).
القول الثاني: ذهب أبو حنيفة، وأحمد في الصحيح من المذهب: إلى أنها ثلاثة قروء، بمعنى ثلاث حيضات، وبذلك قال عمر، وعلي، وابن مسعود، والأوزاعي، والثوري،وغيرهم([71]).
وقالوا: " ثمّ الشافعي رحمه الله تعالى رجّح الأطهار باعتبار حرف الهاء المذكور في قوله (ثلاثة قروء)، فقال: جمع المذكّر يؤنّث، والطهر هو المذكّر، ولكنّا نقول: الإعراب يتبع اللفظ دون المعنى، يقال: ثلاثة أفراس وثلاث دواب "([72]).
فنلاحظ في هذه المسألة كيف اختلفوا بسبب اللفظ المشترك، واحتجّ كل فريق باللّغة ولسان العرب.
المطلب الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز.
فالحقيقة هي: " اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب"([73]).
والمجاز هو:" اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح "([74]).
ومجال الاختلاف هنا: هل يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي، حال كونهما مقصودين في الحكم.
ومثال ذلك قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) ([75]).
فلفظ (لامستم) تردّد بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقصود بالحكم وهو نقض الوضوء، وبناءً على ذلك اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأوّل: ذهب الشافعية([76])، وأحمد في رواية عنه([77]): إلى أنّ لمس المرأة الأجنبية والزوجة ينقض الوضوء بكلّ حال، ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وغيرهم([78])، وذلك لكون " اللفظ حقيقة في مطلق المسّ، وهو ملاقاة البشرتين، مجازي في الجماع، جمعاً بين الحقيقة والمجاز"([79]).
القول الثاني: ذهب الحنفية([80])، وأحمد في رواية([81])عنه: أنّ اللمس لا ينقض الوضوء بحال، فلا يجب الوضوء بلمس المرأة إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها، وروي هذا القول عن علي، وابن عباس، وعطاء، وغيرهم([82]).
وقالوا: إنّ حقيقة اللمس يكون باليد، والجماع مجاز فيه، لكن المجاز مراد بالإجماع، حتى حلّ للجنب التيمم بالآية، فبطلت الحقيقة، لأنّه يستحيل اجتماعهما مُرادَين بلفظ واحد، ثم إنّ اللمس إذا قُرِن بالمرأة، كان حقيقة في الجماع([83]).
القول الثالث: مذهب مالك([84])، والمشهور من مذهب أحمد([85]): أنّ اللمس ينقض الوضوء إن كان لشهوة، ولا ينقضه لغير شهوة، وقال بذلك علقمة، والنخعي، وحمّاد، والثوري، وغيرهم([86]).
وقالوا: " أئمّة اللغة قالوا اللمس هو الطلب، ولمّا كانت النساء تلمس طلباً للذّة ؛ قال الله تعالى(أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) ([87])، والأصل في الاستعمال الحقيقة "([88]).
وقد استدلّ أصحاب كلِّ قول إضافة لما ذُكِر، بأدلّة أخرى من السنّة، لم نذكرها للاختصار، ونلاحظ كيف أنّ سبب اختلافهم في هذه المسألة: هو تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فمن قصد المعنى المجازي، قال بأنّ اللمس هو الجماع، ومن قصد المعنى الحقيقي، قال بأنّ اللمس هو اللمس باليد، ومن اشترط اللذّة، رأى أنّ ذلك من باب العام أريد به الخاص([89]).
المطلب الثالث: اختلاف القراءات.
والمقصود بالقراءات في الاصطلاح: " مذهبٌ من مذاهب النطق في القرآن، يذهب به إمامٌ من الأئمّة القرّاء مذهباً يخالف غيره، وهي ثابتة بأسانيدها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"([90]).
وقد أدّى اختلاف القراءات إلى اختلاف العلماء في كثير من الأحكام الفقهيّة، ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )([91]).
فقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص: (وأرجلَكم) بالنصب، وقالوا بأنّها معطوفة على الوجوه والأيدي، فأوجبوا الغسل عليهما.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر: (وأرجلِكم) بالخفض، عطفاً على الرؤوس، فأوجبوا المسح عليهما([92]).
وانبنى على هذا الاختلاف في القراءات بين القراء؛ اختلاف بين الفقهاء في الرجلين، هل فرضهما الغسل أم المسح على قولين:
القول الأوّل: وهو قول جمهور العلماء من أهل السنّة، وأئمّة المذاهب الأربعة وأتباعهم([93])، قالوا: بأنّ فرض الرجلين الغسل وليس المسح، وقال النووي: " أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يُخالف في ذلك من يعتدّ به "([94]).
واحتجّ أصحاب هذا القول بقراءة النصب في الآية ، والنصب صريح في الغسل، وتكون معطوفة على الوجه واليدين، إضافةً إلى الأحاديث الصحيحة في وجوب غسل الرجلين، والتي منها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (ويلٌ للأعقاب من النار)([95])، وأوّلوا قراءة الجرّ بوجوه منها: أنّ الجرّ على مجاورة الرؤوس مع أنّ الأرجل منصوبة، وهذا مشهور في لغة العرب، من ذلك قولهم: "هذا حجرُ ضبٍّ خربٍ" , بجرِّ خرب على جوار ضب، وهو مرفوع صفة لحجر([96]).
وقيل: المراد مسح الخفين لا الرجلين([97]).
القول الثاني: وهو قول الإماميّة، بوجوب مسح الرجلين دون غسلهما([98])، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت رجوعهم عن ذلك([99]).
واحتجّ أصحاب هذا القول بقراءة الجرّ في (وأرجلِكم) ، وهو عطف على قوله (برؤوسِكم)، وقالوا: وهي قراءة صحيحة سبعيّة مستفيضة، وأوّلوا قراءة النصب بأنّها معطوفة على محلّ قوله تعالى: (برؤوسِكم)، ومنهم من يجعل الباء الداخلة على الرؤوس زائدة، وأنّ الأصل: (وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم) ([100]).
فهذا الاختلاف بين أهل السنّة والشيعة الإماميّة([101])، ما كان لينشأ، لولا اختلاف القراءات في الآية السابقة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشيعة الإمامية رجحوا ظاهر قراءة الجر فأوجبوا المسح ولم يوجبوا الغسل لعاملين مهمين هما:
1- عدم اعترافهم بالسنة النبوية المفسّرة للقرآن.
2- عدم اعترافهم بالإجماع، لأن الإجماع المعتبر عندهم إجماع العترة فقط.
الخاتمة
من خلال ما سبق يمكن الوقوف على النتائج التالية:
أولاً: معظم الاختلافات الفقهية ترجع إلى أسباب تعود إلى رواية السنن، مثل عدم الاطلاع على الحديث، أو الشك في ثبوته، أو نسيانه.
ثانياً: تتفاوت عقول المجتهدين في فهم النصّ الثابت، واستنباط الحكم الشرعي منه، وذلك يرجع إما لسبب يعود إلى النصّ نفسه، أو لسبب يعود إلى المجتهد نفسه في فهم ذلك النص.
ثالثاً: عند الاجتهاد في مسألة ينظر بعض المجتهدين إلى ظاهر النص، والبعض الآخر ينظرون إلى معنى النص.
رابعاً: إذا لم يوجد في المسألة آية أو حديث، لجأ المجتهد إلى القياس والاجتهاد، وهذا باب واسع من أبواب الاختلاف بين الفقهاء.
خامساً: يندرج تحت اختلاف المجتهدين في القواعد الأصولية: مباحث دلالات الألفاظ، ومباحث العام والخاص، والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، وغيرها.
سادساً: أهم ما يندرج تحت أسباب اختلاف الفقهاء التي تعود إلى اللغة: مباحث الاشتراك اللفظي، والحقيقة والمجاز، واختلاف القراءات.
(*) مجلة البحث العلمي الإسلامي، العدد(23)، 1436هـ/2014م.
([1]) الزركشي، محمد بن بهادر بن عبد الله، البحر المحيط في أصول الفقه (تحقيق د. محمد محمد تامر)، ج4، ص406، دار الكتب العلميَّة، لبنان، 2000م.