الطلاق والإجراءات المتبعة في دائرة الإفتاء للحصول على فتوى طلاق (*)
د. محمد الزعبي / دائرة الإفتاء العام
ركز البحث على المحاور الآتية:
المحور الأول: الأسرة وأهميتها.
المحور الثاني: صور عملية لواقع بعض الأسر.
المحور الثالث: الطلاق معناه وحكمه وأنواعه.
المحور الرابع: الإجراءات المتبعة في دائرة الإفتاء العام للحصول على فتوى طلاق، واستعراض الدراسة الخاصة بأسباب الطلاق.
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بالأسرة؛ وذلك لأنها اللبنة الأولى في بناء المجتمع الذي يتكون من مجموعة أسر، والأسرة تتكون من مجموعة أفراد، فالمجتمع المسلم كالبناء الذي يتكون من الأساس واللبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وتماسكها وانتظامها يكون البناء صرخاً شامخاً وحصناً منيعاً؛ ولذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، وبالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن هذا لا يتحقق إلا إذا وجدت الأسرة المسلمة المتآلفة المتعاونة المتماسكة بحيث يقوم كل فرد من أفرادها بدوره على أكمل وجه، مدركاً أن الحياة الزوجية شراكة، وأن إنشاء الأسرة الإسلامية المنشودة هي مسؤولية الجميع: الزوج والزوجة والآباء والأبناء وهي عبادة نتقرب بها إلى الله.
ومن هنا وضع الإسلام جملة من الأحكام والتوجيهات لتكوين الأسرة ولتحقيق هذه الغاية النبيلة والهدف المنشود؛ ليكون البيت رحمة ومودة وألفة وسكينة، نجملها في ما يلي([1]):
أولاً: أن يحسن كل واحد منهما اختيار الآخر، قال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كبير) رواه الترمذي.
ولم يقـل عليه الصلاة والسلام: ممـن ترضون حسبه ونسبه ومـاله كأساس للقبول، وإنما جعـــل الأساس في الاختيار ممن ترضون دينه وخلقه؛ حتى يُبنى البيت على أساس سليم متين، قال رجـــل للحسن البصري: (ممن أزوج ابنتي؟ قـال الحسن: زوج ابنتك ممـن يتقي الله، فــإن أحبها أكرمها، وأن أبغضها لم يظلمها) رواه الترمذي.
فصاحب الدين إذا أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها، ولا يسيء معاملته لزوجته ولا لأبنائه؛ وذلك لأنه يضع نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) رواه الترمذي. فهو يرى أن إدخال السعادة على زوجته وأولاده وتهيئة الجو الأسري السعيد عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل.
وهذا التوجيه أيضاً في حسن اختيار الزوجة ليكتمل البناء صحيحاً، قال عليه الصلاة والسلام: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) متفق عليه؛ لأن صاحبة الدين جنة الدنيا ومتاعها، قال عليه الصلاة والسلام: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) رواه مسلم. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَا اسْتَفَادَ الْمُسْلِمُ فَائِدَةً بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ؛ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا) رواه ابن ماجه.
ثانياً: نظر كل من الخاطبين للآخر؛ لأن الإسلام يريد أن يؤسس لبيت إسلامي سعيد، له هدف وغاية، فندب الخاطبين أن ينظر كلٌّ منهما للآخر؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) متفق عليه، وروي عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) سنن الترمذي؛ وذلك لأن الإسلام ينظر إلى العلاقة الزوجية على أنها حياة مستمرة يسودها تعاون وتآلف، وحب ووئام، وسعادة واستقرار، وطمأنينة وسكينة، وأنس وسعادة، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان اختيار الزوجين لكل منهما عن قناعة ورغبة في بناء هذا البيت الزوجي السعيد.
ثالثاً: بيان حقوق وواجبات كل منهما على الآخر، وأوجب عليهما القيام بذلك على أكمل وجه، حتى تصل سفينة هذه الأسرة إلى بر الأمان، وصدق الله إذ يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة/228، وقال أيضاً موجهاً الخطاب للأزواج والزوجات على حد سواء بحسن المعاشرة: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) النساء/19؛ ولذا قال أبو الدرداء لزوجته مبيناً لها فناً من فنون التعامل الأسري: (إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب)([2]).
ما أحوجنا لأن نكتب هذه النصيحة بماء من ذهب نهديها لكل زوج وزوجة، نهديها لكل مقبل على الزواج، نهديها لكل من يجهل فن التعامل مع زوجته، أو تجهل فن التعامل مع زوجها عند أبسط سوء فهم يحدث بينهما.
يروى أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه سوء خلق زوجته، فوقف على بابه ينتظر خروجه، فسمع هذا الرجل زوجة عمر تخاصمه، فانصرف الرجل راجعاً، وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي؟! وخرج عمر فرآه مولياً عن بابه فناداه، وقال له: ما حاجتك أيها الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق زوجتي واستطالتها عليّ، فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟! قال عمر: يا أخي، إني أحتملها لحقوق لها عليّ: إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي، ويسكن قلبي بها عن الحرام، فأنا أحتملها لذلك. فقال الرجل: فكذلك زوجتي. فقال عمر: فاحتملها إذن. رواه النسائي.
لأن الله تبارك وتعالى جعل الزواج آية من آياته، قال تعـالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَـلَقَ لَكُمْ مِــنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعـَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فـِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقـَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم/21، فالزواج جعله الله سكناً وأمناً واستقراراً، وأي شيء أبلغ من قوله تعالى: (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، أليس السكن يؤوي الإنسان إليه، وهو ملاذه بعد تعبه، ومستقره بعد مشقته وسفره؟!
ومع ذلك لنتأمل بعض الصور العملية من حياة بعض الأسر، ولنعقد بينهما مقارنة سريعة؛ لندرك الفرق بين حياة أسرية يسودها الحب والتفاهم، وأخرى يسودها العنف والخصام:
الصورة الأولى: امرأة([3]) بلغها أن زوجها قد طلقها، وبعث إليها برسالة قال فيها: "كنت فبنّت وهذه العشرة ألاف متعةٌ لك". أي: كنت زوجة فأصبحت مطلقة طلقة بائنة، فقالت لحامل الرسالة غير نادمة على هذه العلاقة الزوجية: "كنا فما سعدنا، وبنّا فما حزنا وهذه العشرة آلاف لبشارتك "! لماذا ؟ لأنها لم تشعر بمعنى الحياة الزوجية التي يسودها السكن والمودة والاستقرار، بل كانت حياتهما جحيماً لا يطاق؛ ولذا قالت: "كنا فما سعدنا، وبنّا فما حزنا".
إن نظرة إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيلة إذا ما اقتدينا به أن نعيش حياة زوجية سعيدة يملؤها الحب والوئام، فلم يضرب عليه الصلاة والسلام زوجة له قط، كان صلى الله عليه وسلم يحب خديجة رضي الله عنها حباً كبيراً؛ لأنها كانت مثالاً للزوجة الصالحة التي تقف مع زوجها. ويذكر كل مسلم موقفها عند بدء نزول الوحي حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". ولذا استحقت بحسن معاملتها لزوجها صلى الله عليه وسلم بشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أنه سئل: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ" متفق عليه، بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير.
رضي الله عنها وأرضاها كان يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتها ويثني عليها خيراً، ويكرم عجوزاً كبيرة كانت تأتيه زمن خديجة، فلما سئل عن ذلك؟ قال: (إِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ) رواه الحاكم.
الصورة الثانية: خلل في موازيين الاختيار، حيث يعمد بعض الآباء مثلا إلى منع ابنته من زواج من تراه كفؤا لها لسبب مادي، أو يزوجها لمن يدفع أكثر وكأنها سلعة تباع وتشترى؟ لأن المقياس المادي هو الأساس في الاختيار.
فهذه إحدى الفتيات التي تعاني من ممارسة العنف الأسري ضدها من قبل والدها، حيث منعها الزواج ليبقى له راتبها، كتبت له برسالة تعاتبه فيها على هذا الظلم الذي وقع عليها قائلة له بعد مقدمة طويلة جاء فيها:
لما كتبتُ رسالتي ببناني والدَّمعُ قد ذرفت به العينانِ
أرسلتها للوالد الغالي الذي قد ضمّني برعاية وحنانِ
أرسلتها ووددت أني لم أقل لكن تلهّبَ خاطري وكياني
أرسلتُها والدّمُع خط مدادَه وكتبتُها من واقعي الحيرانِ
فلقد كتمتُ من الهموم ولم يزل متفطّراً قلبي من الكتمانِ
إلى أن قالت :
يا والدي قد سـنَّ ربي هكذا لا بد من زوج ومن ولدانِ
هذا قضاء الله حكماً عادلاً قد سنَّه ربي على الإنسان
إن كنتَ تبغي راتبي ووظيفتي فخذ الذي تبغي بلا أثمانِ
أو كنت تبغي بيع بنتك للذي دفع الكثير فذاك أمرٌ ثاني
هذا وربِّ البيـت بيعٌ كاسد بيعٌ كبيع الشـاة والخرفانِ
أبتاه حسبُك لا تُضِعْ مستقبلي أوَما كفى ما ضاع من أزمانِ
إن لم تزل ْلم تلتفتْ لرسالتي فاعلم بأن الله لن ينسـاني
يوم القيامة نلتقي لحسابنا عند الإله الواحد الديانِ
وأتت جهنم والملائكُ حولها ورأيتَ ألسنةً من النيران
فهناك تعلمُ حقَّ كل بُنَيَّة سُجنت بلا حق ورا القضبان([4])
ولكن في المقابل فإننا قد سمعنا عن كثير من الناس ممن يخطبون لبناتهم ممن يرجون منهم الخير والصلاح؛ لأنهم يعتقدون أن هذه الفتاة أمانة في عنقه، سائله اللهُ تعالى عنها يوم القيامة، أحفظ أم ضيع؟ ولذا فهو يحرص على أن يضعها في أيد أمينة، عند صاحب الدين والخلق الذي إذا أحبها أكرمها وإذا أبغضها لم يظلمها.
ومن ذلك ما فعله الإمام العالم سعيد بن المسيب رحمه الله حيث اختار لابنته تلميذاً من تلامذته، كان مثالاً في الخلق والدين، في الوقت الذي تقدم لخطبتها الأمراء والوزراء إلا أنه ردهم، فقال لتلميذه: ألا تتزوج؟ فقال: ومن يزوجني يا إمام؟! قال: أنا أزوجك، فقال له متعجباً: أنا أتزوج ابنة سعيد التي يخطبها الأمراء والوزراء ويردهم عنها؟! فقال له: أنا أزوجك، فدعا من كان في المسجد وعَقَدَ عَقْدَ زواجهما على درهمين، يقول هذا الرجل: فطرت من الفرح وعدت إلى بيتي، وإذا في المساء وعند غروب الشمس -وكنت يومها صائماً- فإذا بطارق يطرق الباب، وإذ به الإمام سعيد، فقلت في نفسي: لعله تراجع عن كلامه، وقلت له: لماذا أتيت يا إمام؟ لو أخبرتنا لأتينا إليك، فقال له: مثلك يؤتى، أنت إنسان ونحن قد زوجناك وخفت أن تبيت الليلة عزباً فيحاسبني الله عز وجل، فدفع له ابنته وأعطاه مبلغاً من المال وقال له: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما على الخير([5]).
ترى هل ثمة مقارنة بين هذا الأب وذاك؟!
الصورة الثالثة : نظرة كـل من الزوجين للأخر، لقد أكد ديننا الحنيف علـى أن النساء شقاـئق الرجال فقال عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال) رواه أبو دواد. وهذا ما قرره ربنا عز وجل بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) النساء/1.
ومع هذا الوضوح في التأكيد على نظرة الإسلام للمرأة إلا إننا وللأسف نجد من الرجال من ينظر إلى زوجته نظرة سوداوية فيقول:
إن النساء شياطيـن خُلقــن لنـا نعوذ بالله من شر الشياطين
فهن أصل البليات التي ظهرت بين البرية في الدنيا وفي الدين.
ولكن نجد في المقابل من يقول:
إن النساء رياحين خُلقـن لنا وكلنا يشتهي شـمّ الرياحين([6])
وقال أخر:
لقد گنت محتاجا إلى موت زوجتي ولگـن قرين السوء باق معمـر
فيا ليتها سارت إلــى القبـــر عاجلا وعذبها فيه نگير ومنگر
بينما قال أخر:
بعدتم و أنتم أقربُ الناس في الحشا وغبتُم و أنتم في الفُؤادِ حُضُورُ
فـو اللهِ مـا قد ملتُ عنكُـم لغيرِكُم وإني على جَورِ الزمانِ صَبُور
تمرُّ الليالي فـــي هواكُم و تنقضي وفي القلبِ مني زفرةٌ و سعيرُ
وكنت فتىً لا أرتضي البعد ساعةً فكيف وقد مرّت عليه شهور؟
أغار إذا هبّت عليكم نُسيمةٌ وإني على الغِيد الملاح غيور([7])
فشتان بين هذه الأسرة وبين تلك؟
الصورة الرابعة: سوء المعاشرة الزوجية:
فالحياة الزوجية فن يجب على كل من الزوج والزوجة تعلمه، ولذا قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف) النساء/19. وهو خطاب للرجال والنساء على حد سواء.
ومن حسن العشرة ما قاله ابن عباس رضي الله عنه: "إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستوجب كل حقي الذي لي عليها، ولا تستوجب حقها الذي لها علي؛ لأن الله تعالى يقول:) وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة/228". سنن البيهقي الكبرى.
وقد دخل على الخليفة عمر زوج أشعث أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا، فعرف كراهية المرأة لزوجها، فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره، فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته، فاستغربته ونفرت منه ثــم عرفته فقبلت به ورجعت عــن دعواها، فقال عمر :هكذا فاصنعوا لهن، فـو الله إنهـــن ليحببن أن تتزينوا لهــن كمـا تحبــون أن يتزين لكم. فلنتعلم فنون صناعة الحب بين الأزواج.
ومن سوء العشرة مع زوجته أن يلجأ إلى شتمها وضربها والإساءة إليها وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أزواجاً يضربون زوجاتهم فقال: (ما أولئك من خياركم، خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله). وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) أخرجه أبو داود في سننه.
فهذا شريح القاضي يتزوج زينب، فيعجب من أولئك الرجال الذين يضربون زوجاتهم فأنشد قائلا:
رأيتُ رجالاً يضربونَ نساءَهم فشُلَّتْ يميني حينَ أضربُ زينبا
أأضربُها من غيرِ ذنبٍ أتتْ بهِ وما العدلُ مني ضربُ مَن ليس مذنبا
فزينـبُ شمسٌ والنساءُ كواكبٌ إذا طلعتْ لم تُبــدِ منهـنَّ كوكبا
وكلُّ محبٍّ يمنحُ الودَّ أليفَهُ ويعذرُه يوماً إ ذا هو أذنبا([8])
هذه بعض الصور العملية الواقعية لبعض الأسر و مما لا شك فيه أن ثمة فرق كبير بين الصورتين فشتان بين أسرة يسودها الحب والوئام، وبين أسرة يسودها الخلاف والخصام فهذه أسرة تسير سفينتها إلى بر الأمان، وتلك أسرة مصيرها التفكك والانفصال، ولذا ارتفعت ظاهرة الطلاق في المجتمع الأمر الذي يتوجب علينا دراسة هذه الظاهرة، ومعرفة أسبابها مقدمين النصح والإرشاد الأسري لأفرادها للحد من هذه الظاهرة، فيسود الأسرة الحب والوئام بدل الخلاف والخصام، ويكون شعارها التراضي بدل التقاضي.
فما معنى الطلاق وما حكمه وما هي أركانه وألفاظه وما هي أسبابه وما هي الإجراءات المتبعة في دائرة الإفتاء العام للحصول على فتوى الطلاق؟
أولاً: معنى الطلاق لغة:
مصدر طلق طلاقاً: بمعنى تحرر من قيده، يقال أطلق الأسير خلى سبيله، وأطلق الناقة من عقالها، أي: فك قيدها، وطلقت المرأة من زوجها أي تحللت من قيد الزواج وخرجت من عصمته([9]).
أما معنى الطلاق اصطلاحاً: فتكاد تتقارب عبارة الفقهاء([10]) في تعريف الطلاق، ولكني أختار منها تعريف الشافعية بقولهم: هو اسم لحل قيد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه([11]).
ثانياً: حكم الطلاق:
لقد جعل الإسلام لعقد الزواج قدسية فسماه الله تعالى في كتابه الحكيم بالميثاق الغليظ حين قال: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) النساء/21، وهذا العقد كسائر العقود الشرعية له وواجبات وحقوق يجب على الطرفين الوفاء بها استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ) رواه البخاري ومسلم، ومع هذا فإن الإسلام راعى اختلاف الطباع بين الزوجين فقد يحدث بينهما ما يعكر الصفو ويكدر الحياة وقد يكون السبب فـي ذلك الزوج أو الزوجة أو هما معاً فقدم القرآن الكريم ما يعالج ذلك كله فقـال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) النساء/128.
ومع هذا كله فقد تستحيل العشرة الزوجية وتتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق وبدلاً من السكن والمودة والرحمة يصبح الشقاق والخصام وسوء الأخلاق، وبهذا تفوت الحكمة التي من أجلها شرع الزواج، يقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله: (ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة وضرراً محضاً بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه)([12])، ويقول العلامة الكاساني رحمه الله: (شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة؛ لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى للنكاح مصلحة؛ لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد –أي مقاصد النكاح- فتغلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه)([13]).
ومع هذا فقد اختلف العلماء في حكم الطلاق هل هو الإباحة أو الحظر فهناك من يرى أن الأصل فيه الإباحة لقوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) البقرة/229، ولقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) البقرة/236، فالتعبير القرآني (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) يفيد رفع الحرج عن الأمة وهو ما يعني الإباحة([14]).
وذهب فريق آخر إلى أن الأصل فيه الحظر، وإنما أبيح لحاجة، قال شيخ الإسلام ابـن تيمية رحمه الله: (إن الأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح منه قـدر الحاجة)([15])، ويقول العلامة ابـن عابدين: (وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه)([16]) واستدلوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجَنَّةِ) ولولا أنه محظور ما استحقت المرأة هذا العقاب الشديد.
ولكن الراجح من أقوال العلماء أن يقال إن الطلاق كالزواج تعتريه الأحكام الخمسة حسب الظروف والأحوال التي ترافقه، جاء في المغني لابن قدامة: (والطلاق على خمسة أضرب واجب ومكروه ومباح ومندوب إليه ومحظور)([17]) وعليه فقد يكون الطلاق:
1. واجباً إذ رأى الحكمين في الشقاق أن ذلك أصلح للزوجين، وكل طلاق تكون الحياة بدونه فيها ضرر لا يحتمل ومفسدتها أكبر من مصلحتها.
2. وقد يكون مكروهاً وهو الطلاق من غير حاجة، وقيل هو حرام؛ لأنه ضرر بنفسه وبزوجه وإعدام للمصلحة القائمة بينهما من غير حاجة.
3. وقد يكون مباحاً عند الحاجة إليه لسوء خلق زوجة وسوء عشرتها، مع عدم نفع النصح والموعظة وتماديها في ذلك.
4. وقد يكون مندوباً إذا فرطت المرأة في حقوق الله تعالى الواجبة عليها، مثل ترك الصلاة ونحو ذلك إذا لم يجد معها وسائل الاصلاح والتقويم وخشى على نفسه وولده.
5. قد يكون حراماً وهو الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، وهو المسمى عند الفقهاء بطلاق البدعة، وكذلك الطلاق من غير سبب.
ثالثاً: أركان الطلاق:
للطلاق أركان ثلاثة تتعلق بالمطلق والمطلقة والصيغة، وسأختصر هنا على ما هو مطبق في المحاكم الشرعية وفق قانون الأحوال الشخصية الأردني دون ذكر تفاصيل أقوال الفقهاء:
أولاً: الشروط المتعلقة بالمطلق:
وهو من بينه وبين المطلقة عقد زواج صحيح([18])، وهو الذي يملك حق إيقاع الطلاق، وغالبا ما يكون الزوج([19])، وقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط فيه لوقوع الطلاق أن يكون الزوج أهلا لإيقاع الطلاق، وذلك بأن يكون مكلفاً بالغاً عاقلاً، فلا يقع طلاق الصبي ولا المجنون لرفع التكليف عنهم وذلك لحديث: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ) رواه البخاري.
وهذا ما نصت عليه المادة (80) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "يكون الزوج أهلا للطلاق إذا كان مكلفا واعيا مختارا". ونلاحظ هنا أن القانون أضاف على شرط التكليف:
- أن يكون الزوج واعيا مدركا لما يصدر عنه من تصرفات قولية وفعلية.
- أن يكون الزوج مختارا غير مكره.
وهذا ما فصلته المادة (86) من القانون:
- لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره ولا المعتوه ولا المغمى عليه ولا النائم.
- المدهوش هو الذي غلب الخلل في أقواله وأفعاله نتيجة غضب أو غيره بحيث يخرجه عن عادته([20]).
ثانياً: الشروط المتعلقة بالمطلقة:
وهي الزوجة التي هي محل الطلاق ويشترط لصحة وقوع الطلاق عليها شروط:
- أن تكون الزوجة في زواج صحيح، وهو كل زواج استوفى أركانه وشروط صحته وترتبت عليه آثاره.
- أن تكون الزوجة غير معتدة، فلو طلق الزوج زوجته أثناء فترة العدة وقبل أن يراجعها فلا يقع طلاقه؛ لأنها ما زالت في العدة، وفي هذا محافظة على بقاء الأسرة وحماية لها من وقوع الطلاق في فترة العدة.
وهذا ما نصت عليه المادة (81) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "لا يقع الطلاق على الزوجة إلا إذا كانت في زواج صحيح وغير معتدة".
مع التنبيه على ما نصت عليه المادة (89) من أن: "الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة والطلاق المكرر في مجلس واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة".
ثالثاً: الشروط المتعلقة بالصيغة:
إن الطلاق هو عبارة عن تصرف قولي من الزوج، ويقع به كل لفظ يدل عليه إذا وضحت دلالته واستبان القصد من إيقاعه([21]) ويكون بأحد أمرين:
الأمر الأول: الألفاظ الصريحة: وهو كل لفظ استعمل في الطلاق دون غيره([22])، فهو لفظ لا يحتمل ظاهره غير الطلاق([23]). وقد اتفق الفقهاء على أن كل لفظ اشتق من مادة (ط ل ق)([24]) هو لفظ صريح، كأن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك([25]).
وهذا ما نصت عليه المادة (84) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة دون الحاجة إلى نية وبالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية".
هذا وتقوم الكتابة المستبينة الواضحة المرسومة المعبرة عن إرادة الزوج مقام اللفظ الصريح إذا قصد الزوج منه إيقاع الطلاق، كأن يرسل إليها رسالة أو مسجاً ويقول فيه مخاطبا زوجته: أنت طالق، أو يسميها فلانة طالق، فإنه يقع الطلاق إذا قصده، وقد يكون الزوج عاجزاً عن اللفظ والكتابة، فيقع بالإشارة المفهمة للعاجز عنهما([26])، وهذا ما نصت عليه المادة (83) من قانون الأحوال الشخصية:
- يقع الطلاق باللفظ أو الكتابة وللعاجز عنهما بإشارته المعلومة.
- لا يقع الطلاق بالكتابة إلا بالنية.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أن اللفظ الصريح للطلاق قد يكون منجزاً؛ كأن يقول لها: أنت طالق، وقد يكون غير منجز؛ كأن يعلق الزوج الطلاق على فعل شيء أو عدمه، كأن يقول لزوجته: أنت طالق إن فعلت كذا، فهذا لا يقع به الطلاق إذا قصد به الزوج الحمل على فعل شيء أو تركه، وهذا ما نصت عليه المادة (87) من قانون الأحوال الشخصية: "لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه".
الأمر الثاني: الألفاظ الكنائية: وهو كل لفظ يستعمل في الطلاق وفي غيره؛ كأن يقول الزوج لزوجته: الحقي بأهلك، أو أمرك بيدك، لا سبيل لي عليك، غطي شعرك، وغيرها من الألفاظ المحتملة للطلاق وغيره، وهذه الألفاظ لا يقع الطلاق بها إلا بالنية([27]).
بقي أن أشير هنا إلى أمرين يتعلقان بالطلاق من حيث الصيغة:
الأمر الأول: ظاهرة الحلف بالطلاق: وهي ظاهرة أخذت تتفشى وتنتشر بين أفراد المجتمع، يرددها المتزوج وغير المتزوج على حد سواء، فتراه يحلف بالطلاق في بيعه وفي شربه وفي مأكله وملبسه، فتراه يردد دائماً: علـــيّ الطلاق لأفعلن كــذا، أو علـــيّ الحرام لتفعلي كذا، وهذه عادة سيئة ورجولة مزيفة وسلاح لا يلجأ له من يستشعر كلمة الله وأمانة الله التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) رواه أبو داود.
فعقد الزواج ليس تجارة ولا بيعاً، بل إنه عقد ثمارة الأرواح، وربحه لمن وفى بمستلزماته جنة عرضها السماوات والأرض([28])، والحلف بالطلاق من الأيمان الآثمة التي يأثم الزوج بمجرد التلفظ بها([29])؛ لأن المسلم مطالب إن كان حالفاً ولا بد أن يحلف بالله عز وجل لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) ، ولا يقع الطلاق به إلا إذا نواه، وإلا فعليه كفارة يمين إذا حنث به([30]).
وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية في المادة (90): "اليمين بلفظ عليّ الطلاق وعليّ الحرام وأمثالهما لا يقع الطلاق بهما ما لم تتضمن صيغة الطلاق مخاطبة الزوجة أو إضافته إليها([31]) وبنية إيقاع الطلاق".
الأمر الثاني: الطلاق الصامت: وهو ظاهرة خطيرة أخذت تخيم على حياة بعض الأسر، وهو عبارة عن عيش الأزواج معاً وتحت سقف واحد كالغرباء، فتسمع صوتاً يخرج من أعماق الزوجة المتألمة لتصف لنا هذا الطلاق الذي تعيشه بقولها: هل أنا قطعة أثاث في البيت؟؟ وفي المقابل نسمع من الأزواج من يقول: هل أنا (طرطور) في البيت؟؟.
فهذه تفتقد المشاعر والأحاسيس وهذا يفتقد الاحترام والتقدير، ومع هذا فإنهم يحرصون على بقاء اسم العلاقة الزوجية كشكل أمام الناس يخلو من مضمون دون أدنى علاقة حب أو وئام بينهما، فعندما يختفي الحب بين الأزواج، وينعدم الحوار والتفاهم بينهما، وهروبا من تبعات لقب مطلق أو مطلقة، ومحافظة على البريستيج والظهور بمظهر لائق أمام المجتمع، يلجأ كلا من الزوجين للطلاق الصامت، رافضين بذلك أن يقدم أي منهما للآخر تنازلات، وصدق الله إذ يقول: (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة/237.
بل قد لا يعترف بعضهم أصلا بوجود مشكلة لديه رافضاً بذلك الرجوع إلى المختصين بالإصلاح الأسري لتقديم النصح والمشورة له، وهنا مكمن الخطورة في هذه الظاهرة حيث لا يمنح كل من الزوج والزوجة فرصة البدء بحياة زوجية جديدة، قال تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) النساء/130، كما أنه لا يسمح لهما العيش بسعادة ووئام، وصدق الله إذ يقول: (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) النساء/129.
رابعاً: أقسام الطلاق من حيث آثاره: يقسم الطلاق من حيث آثاره إلى قسمين:
الأول: الطلاق الرجعي: وهو الطلاق الذي يملك فيه الزوج إرجاع زوجته إلى عصمته من غير اختيارها ودون الحاجة إلى عقد ومهر جديدين([32]) وهذا ما نصت عليه المادة (98) من قانون الأحوال الشخصية: "للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا أو فعلا وهذا الحق لا يسقط بالإسقاط ولا تتوقف الرجعة على رضا الزوجة ولا يلزم مهر جديد".
الثاني: الطلاق البائن، ويقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بائن بينونة صغرى: وهو الطلاق الذي ينهي الحياة الزوجية بينهما ولا يملكان الرجوع إلا بعقد ومهر جديدين ويشترط رضاها، ومن صوره: الطلاق البائن قبل الدخول، والطلاق الأول أو الثاني والتي انتهت فيه عدة الزوجة دون إرجاعها، وهذا ما نصت عليه المادة (92) من القانون: "كل طلاق يقع رجعيا إلا المكمل للثلاث والطلاق قبل الدخول ولو بعد الخلوة والطلاق على مال، والطلاق الذي نص على أنه بائن في هذا القانون".
القسم الثاني: بائن بينونة كبرى: وهو الطلاق المكمل للثلاث ويزيل الزوجية في الحال، ولا تحل المطلقة في هذه الحالة لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها دخولا صحيحا، ودونما اتفاق بينهما، وهذا ما نصت عليه المادة (94) من القانون: "لا تحل المطلقة البائن بينونة كبرى لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها دخولا حقيقيا".
خامساً: إجراءات الحصول على فتوى طلاق من دائرة الإفتاء العام:
يعد الإفتاء جانبا مهما من حياة الناس، وحيث يتعذر عليهم الإحاطة بكافة الأحكام الشرعية كان لا بد من وجود مؤسسات دينية يرجعون إليها لمعرفة الحكم الشرعي فيما يعترضهم من قضايا لبيان حكم الله فيها، ونحن في هذا البلد الطيب وبقيادة هاشمية مباركة تم تأسيس دائرة الإفتاء العام لتتولى شؤون الفتوى وتقديمها للمواطنيين عبر خدمات متنوعة ومتعددة([33]).
ومن أهم هذه الخدمات خدمة الحصول على فتوى طلاق علما بأن هذه الخدمة لا تقدم عن طريق الهاتف، ولا عن طريق الرسائل الخلوية والإيميلات، وإنما تكون عن طريق المقابلة الشخصية مع أحد المفتين، حيث يتم التعامل -وبسرية تامة- بحيث لا يطلع على الفتوى وحيثياتها إلا الزوجان والمفتي المختص فقط حماية لخصوصيات الأسر، وتتم الفتوى عن طريق:
1. حضور الشخص المستفتي عن واقعة الطلاق شخصياً إلى دائرة الإفتاء العام أو أقرب مكتب إفتاء في المحافظة أو اللواء القريب من مكان سكناه مصطحباً معه وثيقة إثبات شخصيته.
2. إحضار ما يثبت قيام الزوجية كعقد الزواج، أو دفتر العائلة.
3. تعبئة الطلب المخصص للطلاق.
4. الاستعلام عن وجود طلاق سابق وذلك من خلال سؤال الزوج عن ذلك، ومراجعة الحاسب الآلي إن كان الطلاق السابق قد صدر عن دائرة الإفتاء العام.
5. تحويله إلى المفتي لإصدار الفتوى.
6. طباعة الفتوى.
7. تدقيق الفتوى من قبل موظف مختص، ومن ثم توقيعها من قبل المفتي.
8. تصدير الفتوى بوضع رقم صادر وختم المعاملة بالخاتم الرسمي للدائرة.
9. الطلب من المستفتي في حال وقوع الطلاق مراجعة المحمكة الشرعية لتسجيل هذه الواقعة حسب الأصول.
الحالات التي يتم فيها طلب حضور الزوجة:
1. الطلاق قبل الدخول.
2. الطلاق للمرة الثالثة، وتشكل له لجنة مختصة للنظر في واقعة الطلاق.
3. ادعاء الإكراه من قبل الزوج.
4. انتهاء فترة العدة بالنسبة للزوجة أو الاشتباه بانقضائها.
5. التردد في عدد حالات الطلاق.
6. ادعاء عدم تذكر اللفظ الذي صدر منه.
7. عدم وضوح العبارات إما لضعف شخصيته أو أنه يعاني الشخص من مرض نفسي.
8. يطلب المفتي الزوجة في أي حالة أخرى يرى فيها المصلحة، كما لو أراد أن يقدم نصيحة لكلا الزوجين([34]).
الإحصائية العملية لحالات الطلاق التي تعاملت معها دائرة الإفتاء العام([35]):
لقد تعاملت دائرة الإفتاء العام مع كثير من حالات الطلاق والتي هي في ازدياد مستمر، ولعل الجدول التالي يبين عدد حالات الطلاق التي تم التعامل معها خلال الأعوام الثلاثة:
العام
|
الطلاق الواقع
|
الطلاق غير الواقع
|
المجموع
|
2012م
|
11078
|
18346
|
19424
|
مديرية إفتاء العاصمة
|
4375
|
7459
|
11834
|
2013م
|
12602
|
17140
|
29742
|
مديرية إفتاء العاصمة
|
4449
|
7158
|
11607
|
2014م لغاية نهاية شهر تموز
|
7830
|
10855
|
18685
|
مديرية إفتاء العاصمة
|
2873
|
4113
|
6986
|
وحتى لا تبقى الإحصائية لحالات الطلاق مجرد أرقام، فقد قامت مديرية إفتاء العاصمة ومنذ شهر آذار من العام الحالي بمحاولـة دراسة أسبـاب الطلاق، هـذه الظاهرة التي أخذت أرقامها بازدياد؛ لعلنا نتلمس مواطن الخلل ونضع أيدينا على مواضع الألم فنساهم في تقديم النصح والمشورة للحد من هذه الظاهرة، حيث تم اختيار عينة عشوائية لحالات الطلاق التي راجعت مـديرية إفتاء العاصمة، وتـم رصد الأسباب التي أدت إلـى الطلاق، علما بأن العينة التي خضعت للدراسة خلال الأشهر الخمسة كانت حوالي (2315) حالة موزعة على النحو التالي([36]):
الأسباب الدافعة للطلاق
|
عدد الحالات
|
النسبة
|
عدم الالتزام الديني والبعد الأخلاقي
|
258
|
11,1
|
تهديد الزوج لزوجته
|
365
|
15,7
|
عدم التسامح وإظهار اللطف والمودة بين الزوجين
|
335
|
14,5
|
عدم تحمل المسؤولية اتجاه البيت والأولاد
|
167
|
7,2
|
الغيرة وعدم الثقة بين الزوجين
|
106
|
4,5
|
عدم استماع كل من الزوجين للأخر
|
235
|
10,1
|
جمال المنظر والهيئة والنظافة الشخصية
|
10
|
0,4
|
تدخل الأهل
|
315
|
13,6
|
الإمكانيات المادية
|
154
|
6,6
|
عمل الزوجة
|
62
|
2,7
|
الخيانة الزوجية
|
57
|
2,5
|
فتور العلاقة الجنسية بين الزوجين
|
21
|
0,9
|
عدم الكفاءة العلمية بين الزوجين
|
10
|
0,4
|
عدم التناسب العمري بين الزوجين
|
14
|
0,6
|
وسائل الاتصال الحديثة ( كالخلوي والإنترنت والتلفزيون...)
|
15
|
0,6
|
تعدد الزوجات
|
16
|
0,7
|
أسباب أخرى
|
175
|
7,6
|
يظهر لنا من خلال جدول التوزيع السابق([37]) أن تهديد الزوج لزوجته جاء في المرتبة الأولى (365 حالة) لكثرة الحلف بالطلاق، وقد أشرت سابقاً عند الحديث عن ظاهرة الحلف بالطلاق أن الطلاق سلاح أصبح وللأسف يستخدمه كثير من الأزواج، معرضين بنيان أسرهم للانهيار وعرى الزوجية للانفصال.
بينما جاء في المرتبة الثانية: عدم التسامح وإظهار اللطف والمودة بين الزوجين (335حالة) مع أن المسلم مطالب بالعفو والتسامح مع الآخرين، فمن باب أولى أن يفعل ذلك في بيته ومع أسرته متناسين ما قاله الشاعر:
وإذا الحبيب جاءك بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
واحتل تدخل الأهل المرتبة الثالثة (315حالة)، وهنا لا بد لنا أن نوجه نصيحة لأولياء الأمور بأن يتقوا الله في حياة أبنائهم الخاصة، وأن كان ولا بدّ من تدخلهم فيكن في الوقت المناسب، مبتغين بذلك هدف الأسرة والمحافظة على كيانها .
بينما جاء في المرتبة الرابعة: عدم الإلتزام الديني (حالة258)، وهذا يوجب علينا أن يحسن كل واحد منا اختيار شريك حياته، وأن يكون على أساس الدين والخلق كما ذكرت ذلك سابقا.
وجاء في المرتبة الخامسة عدم استماع كل من الزوجين للأخر (235حالة) وهذا يعطينا مؤشر عن مدى الجفوة والقطيعة التي تعيشها بعض الأسر، فهو يستمع لكل الناس إلا لزوجته، وهي تستمع لكل الناس إلا لزوجها، فسبحان الله أين المودة والرحمة التي أرادها الله من الزواج؟
وفي المرتبة السادسة: عدم تحمل المسؤولية تجاه البيت والأولاد (167حالة) ([38]) فالوالد يظن أن مهمته تنتهي بمجرد توفير الطعام والشراب، فلا يهتم بتربية ولا يغرس ثقافة، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وكذا الأم فهي ليست أحسن حالا منه فترى أن مهمتها تنتهي بالوضع والفطام، وتنشغل بمتابعة المسلسلات والفضائيات، ولربما الموديلات والسهرات خارج البيت، ورحم الله من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هـم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هـو الــذي تلقـى لـه أما تخلت أو أبا مشغولا
ثم جاءت الإمكانيات المادية لتحتل المرتبة السابعة (154حالة)، وفي هذا دعوة لنا جميعا من أجل التخفيف من الأعباء المالية على المقبلين على الزواج حتى لا تنعكس سلباً على حياتهم الأسرية.
وجاء في المرتبة الثامنة الغيرة وعدم الثقة بين الزوجين (106حالة)، مع أن خلق الغيرة محمود، ولكنها الغيرة المنضبطة بضوابط الشرع، فهذا الإمام علي كرم الله وجهة يغار على زوجته فاطمة من عود الآراك الذي تستاك به:
قد فزت يا عود الأراك بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكَ؟!
لو كنتَ من أهل القتال قتلتكَ ما فاز مني يا سِواكُ سواكَ
أما أن تصل الغيرة إلى درجة المرض وسوء الظن، فهذا المرض العضال الذي يفتك بالأسرة ويوقعها في شباك الظن والشك.
وفي الختام فديننا يريد منا أن نكوّن أسرة تلتقي فيها النفوس على المودة والرحمة والتعاطف، أسرة تقيم أمر الله عز وجل في حياتها، أسرة تتخذ من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة لها، أسرة تتربى على آيات الرحمن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ديننا يريد منا أن نكوّن أسرة يعطف كبيرها على صغيرها، ويحترم صغيرها كبيرها، حينها تكون هذه الأسرة قرة عين لأهلها ولمجتمعها، قال تعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) الفرقان/74.
فما أجمل أن يتسامح الزوجان ويغفر كل منهما زلة الآخر عبر التراضي لا التقاضي مستذكرين قول الشاعر:
ولقد ندمت على تفرق شملنـا
|
|
دهرا وفاض الدمع من أجفاني
|
ونذرت إن عاد الزمان يلمـنـا
|
|
لا عدت أذكـر فرقـة بلسـانـي
|
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يحفظنا ويحفظ أسرنا ووطننا وقائدنا من كل سوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التوصيات:
- نشر الوعي الأسري بين أفراد المجتمع الأردني عن طريق عقد الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، وتخصيص برامج تلفزيونية وإذاعية تعنى بشؤون الأسرة وإصلاحها.
- إلزامية عقد دورات للمقبلين على الزواج، كما هو الحال في إلزامية الفحص الطبي قبل الزواج.
- تفعيل دور المؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المحلي في الإصلاح الأسري من خلال المشاركة في الندوات والمؤتمرات المعنية بذلك.
- إدامة التشاور و التنسيق بين المؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المحلي التي تعنى بأمور الأسرة.
(*) بحث علمي بالتعاون مع المجلس الوطني لشؤون الأسرة، ألقي يوم الإثنين 8/9/2014م في المؤتمر الذي عقد لمعالجة ظاهرة الطلاق.
الهوامش
([1]) هذا مقال للباحث بعنوان الأسرة التي نريد منشور على موقع دائرة الإفتاء العام بتاريخ 27/6/2011.