بسم الله الرحمن الرحيم
سنة صلاة الجمعة القبلية([1])
سماحة المفتي العام الدكتور نوح علي سلمان
من المعلوم أن صلاة الجمعة تحل محل صلاة الظهر - يوم الجمعة - في حق من وجبت عليه الجمعة، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة كما تقدم.
ومن المعلوم أيضاً أن صلاة الظهر تتبعها سنة قبلية وسنة بعدية.
فهل لصلاة الجمعة سنة قبلية وسنة بعدية؟ هذا ما نبحثه في هذا الموطن فنقول:
أولا: السنة البعدية:
اتفقت المذاهب الأربعة على أن للجمعة سنة بعدية([2])، وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات)([3])
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته)([4])
ثانيا: السنة القبلية:
وأما قبل الجمعة:
فقد قال الحنفية([5]) والشافعية([6]) أن سنة الجمعة القبلية كسنة الظهر القبلية، وقتاً وعدداً.
وقال المالكية: يكره لشخص يُقتدى به - كعالم - التنفل عند الأذان الأول، لا قبله، لجالس في المسجد، لا داخل؛ خوف اعتقاد العامة وجوبه، أما عند الأذان الثاني فحرام، لكن هذا أيضاً في حق من يقتدى به([7]) من العلماء وولاة الأمور.
وقال الحنابلة([8]): ليس للجمعة سنة راتبة قبلها، بل يستحب أربع ركعات على وجه النفل المطلق.
وقد احتج القائلون بسنة الجمعة القبلية بما يلي:
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها([9]): والظاهر أن هذا توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس اجتهاداً من ابن مسعود رضي الله عنه.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثاً، وقال في الثالثة لمن شاء)([10])
3- عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما مرفوعاً: (ما من صلاة مفروضة إلا بين يديها ركعتان)([11]) وهذا بعمومه يشمل صلاة الجمعة.
قال ابن حجر رحمه الله: "وأقوى ما يتمسك به من مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعاً: (ما من صلاة مفروضة إلا بين يديها ركعتان) ([12])
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهما([13])، وهذا - وإن ضعفه العلماء - لكن يشهد له الأحاديث الصحيحة التي قبله.
5- وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)([14])
6- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان، قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين)([15])
وجاء هذا الحديث مفسراً في رواية ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء سُليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصليت ركعتين قبل أن تجيء، قال لا، قال: فصلِّ ركعتين وتجوز فيهما)([16])
ووجه الدلالة في هذه الرواية أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قبل أن تجيء) يدل على أن الركعتين سنة الجمعة القبلية، وليستا سنة تحية المسجد.
7- إن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظهر، فتكون سنتها كسنة الظهر، وهذا ما جعل البخاري رحمه الله يقول في صحيحه: "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها" ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)([17])، فالإمام البخاري رحمه الله يرى الجمعة كالظهر، مع أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ركعتين بعد الجمعة، ولم يذكر شيئاً قبلها، فرأى الإمام البخاري أن ما قبل الجمعة هو ما ذكره ابن عمر قبل الظهر، فقال: "الصلاة بعد الجمعة وقبلها".
ومن دراسة هذه الأقوال وأدلتها يبدو تقاربها، فكل المذاهب تحث على صلاة النافلة قبل جلوس الإمام على المنبر ليخطب الجمعة، عملاً بحديث: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام: إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)([18])، وقد تقدم.
لكن هذه الصلاة النافلة التي قبل الجمعة هل هي نافلة مطلقة كما يرى المالكية والحنابلة، ولذا تكون قبل الأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب، أم هي نافلة تابعة للجمعة تكون قبل الصلاة ولو كان الإمام على المنبر كما يرى الحنفية والشافعية؟
يقول ابن رجب رحمه الله: " بعد زوال الشمس وقبل خروج الإمام - يعني يوم الجمعة -: هذا الوقت يستحب الصلاة فيه بغير خلاف نعلمه بين العلماء سلفا وخلفا، ولم يقل أحد من المسلمين إنه يكره الصلاة يوم الجمعة، بل القول بذلك خرق لإجماع المسلمين - ثم ذكر آثارا كثيرة عن الصحابة في استحباب هذه الصلاة، ثم قال: - وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة: هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلها، أم هي مستحبة مرغب فيها كالصلاة قبل العصر؟ وأكثر العلماء على أنها سنة راتبة، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في " شرح المذهب " وابن عقيل، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي. وقال كثير من متأخري أصحابنا : ليست سنة راتبة، بل مستحبة"([19])
لقد ساق الحنفية والشافعية أدلتهم، وبعضها في حق مَن دخل والإمام يخطب، وهو حديث سُليك الغطفاني، وأما المالكية والحنابلة فدليلهم عدم ورود نص في الموضوع من وجهة نظرهم، مع ملاحظة أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد للجمعة عند جلوسه صلى الله عليه وسلم على المنبر، ولم تكن مراعاة التوقيت دقيقة كما هي في زماننا، ويبدو هذا مما سبق من خلاف في وقت الجمعة، فالبعض يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل بها وكأنها قبل الزوال - كما يرى الحنابلة -، والبعض يرى أنه كان يؤخرها إلى ما بعد الزوال - كما هو مذهب المالكية والحنفية والشافعية - وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كل السنن في بيته، فلعله كان يصلي سنة الجمعة القبلية في بيته، ثم يخرج فيصعد المنبر، ويؤذن المؤذن بين يديه.
فالمسألة تحتمل ما قاله كل مذهب، وإذا كانت صدور الفقهاء من المالكية والحنابلة واسعة في الموضوع، فصاحب كتاب "الجواهر الزكية" للشيخ أحمد بن ترك المالكي يقول: "يكره للجالس أن يتنفل عند الأذان الأول كما يفعله الشافعية والحنفية خيفة اعتقاد وجوبه".
أي أن سبب الكراهة خشية التباس السنة بالفريضة لا لورود نهي عنها.
ويقول الإمام الصفتي في الحاشية معلقاً على هذا: "فائدة: إذا كان شخص مالكي بحضرة جماعة شافعية أو حنفية فلا بأس أن يصلي عند الأذان - أي الأول - كما قرره بعض شيوخنا"([20])
ورحم الله الشيوخ الذين يزنون كلامهم بميزان الفقه ويكرهون تفرق المسلمين واختلافهم.
وابن قدامة يقول في "المغني": "فأما الصلاة قبل الجمعة فلا أعلم فيه إلا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع من قبل الجمعة أربعاً" رواه ابن ماجه، وروى عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال: كنت ألقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعاً" ثم ذكر بعض ما احتج به الشافعية لمذهبهم([21]) فكأنه يميل إلى قول الشافعية والحنفية نظراً لأدلتهم، ولكنه ما أحب الخروج عن مذهبه في المسألة.
ومِن كل ما تقدم يبدو لي رجحان مذهب الحنفية والشافعية في هذه المسألة، وأن الجمعة لها سنة قبلية مثل صلاة الظهر، والأحاديث والآثار فيها كثيرة، وصرفها عن ظاهرها لا موجب له، والله تعالى أعلم.
([1]) هذا البحث كان مختصرا في الأصل، فأحببت أن أوسعه نظرا لكثرة الكلام فيه بين طلاب العلم في هذه الأيام، حتى صار البعض ينكر على من يصلي سنة الجمعة القبلية تأثرا بالمذهب الذي تفقه عليه.
([2]) انظر: عند الحنفية: "الاختيار": 1 /228، وعند المالكية "الاستذكار" (2 /630)، حديث رقم: (423)، قال: "ويركع الإمام في منزله بعد الجمعة ركعتين وكذلك من خلفه"، وانظر: "الشرح الصغير": (1 /511)، وعند الشافعية "المنهاج" للنووي (2 /215)، "مغني المحتاج" (1 /220)، وعند الحنابلة "الكافي" (1 /302) و"نيل المآرب" (1 /70).
([3]) رواه مسلم رقم: (2073)
([4]) روه البخاري رقم: (895)، ومسلم رقم: (2077).
([5]) الاختيار (1 /2228).
([6]) المنهاج (1 /216).
([7]) الشرح الصغير (1 /511).
([8]) نيل المآرب (1 /70)، الكافي (1 /300)، كشاف القناع (1 /496)، (2 /46).
([9]) روى الترمذي (2 /399، رقم: 523)
([10]) رواه البخاري رقم: (627)
([11]) رواه ابن حبان في صحيحه رقم: (2488)
([12]) فتح الباري (3 /351).
([13]) ابن ماجه رقم: (1129)
([14]) سنن البيهقي (2 /349)، وصحيح ابن حبان (6/220)
([15]) رواه البخاري رقم: (888)، ومسلم رقم: (875).
([16]) سنن ابن ماجه رقم: (1114)
([17]) انظر صحيح البخاري رقم: (895)
([18]) رواه البخاري رقم: (883)
([19]) فتح الباري (5 /541)
([20]) الجواهر الزكية (2 /74).
([21]) المغني (4 /220).