دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية نظام الأسرة(*)
الدكتور عبدالله محمد أحمد ربابعة / دائرة الإفتاء العام الأردنية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فإن هناك جهودا كبيرة ساهمت في حماية الأسرة من الضياع، وهناك دور بارز للإصلاح الأسري الذي اهتم وعلى مر العصور السابقة، لما لهذا الموضوع من أهمية في حماية الأسرة مما يعتريها من المنغصات والهجمات المتلاحقة والتي تحاول النيل من تبقى من بنيان وأساسات الأسرة الواحدة الكبير، في ظل العولمة والثقافات التي تلازمنا، وتطل علينا بين الفينة والأخرى، وعليه فإن علاج الحالات الأسرية في المجتمعات من خلال حماية الأسرة مما يلحق بها، ليدعو الإنسان للتريث والنظر بعين ثاقبة لما يدور حوله من الأمور التي تحاول تقزيم الأسرة والنيل منها للوصول إلى مجتمعات متفككة لا هم لها إلا الطعن في الثقافات الاستشراقية، والتي لها دور في تحطيم الأسرة، وعلى الصعيد ذاته هناك دور بارز للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية الأسرة مما يحيك بها، ولعل الدور البارز الذي تمثله هذه المؤسسات في حماية الأسرة من العولمة والثقافات الجائرة، وهذه القضايا عسر حلها إلا من طريق الشرع الشريف، قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء:34-35]، وقد بين النبي الكريم العلاج المناسب لهذه الخلافات وحث على التنازل عن هذه الأمور للوصول إلى أسر أمنة وقوية، قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)، وإذا تم تحديد مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني الرسمية وغير الرسمية، عندها يمكن الوصول إلى تلاشي الخلافات والوصول إلى بر الأمان، وقد قام الباحث بدراسة موضوع دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية نظام الأسرة، ولعدم وجود مؤسسات كافية في عالمنا العربي والإسلامي تكفل توفير جهات حكومية تتبنى هذا الموضوع، وقد تم تقسيم هذا البحث إلى مقدمة ومبحثين، واحتوى كل مبحث على أربعة مطالب ثم جاءت الخاتمة، لتبين أهم النتائج والتوصيات التي أوصى بها الباحث.
مشكلة البحث وأسئلته([1]):
بينت هذه الدراسة أن ما للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية الأسرة من دور بارز وهام؛ ذلك أنَّ المقصد الأسمى هو صيانة الأسرة من الهجمة الشرسة من الوقوع في وحل الدمار والانهزامية، وفي الوقت نفسه علينا أن نعي ونفهم دائما ما للأفكار المغالية والمتطرفة من آثار سلبية على الأسرة، فالتطرف والغلو والإرهاب يشكل خطراً كبيراً على أمن الأسرة، ورغبة من الباحث في الاسهام في حل مشكلة التعدي على الأسرة، موضوع البحث، وتقديم عدد كاف من الخيارات البحثية لتلافي السلبيات، ولذلك تحاول هذا الدراسة الإجابة عن الأسئلة الآتية([2]):
1-ما أهداف وقيمة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية الأسرة وما مجالاته وخصائصه؟
2- كيف يمكن للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية التصدي لحملات الإساءة إلى الأسرة؟
3- ما الطريقة التي تعمل بها المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في محاربة التعدي على الأسرة في هذا المجال؟
فرضية الدراسة([3]):
تحاول هذه الدراسة التحقق من فرضية بحثية إشكالية، تكمن في بيان دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في غرس القيم وحماية الأسرة.
أهداف الدراسة:
تتمثل أهداف الدراسة في الأهداف الآتية
1. التعرف على أهداف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية الأسرة، وبيان ما للمؤسسات من دور بارز في الحفاظ على كينونة الأسرة من الضياع.
2. بيان ما للأفكار المعادية للأسرة من آثار سلبية على حياة الأفراد والمجتمعات... وأنها سبيل لهدم البناء وتفتيت كيان المجتمع
3. توضيح الطريقة التي تعمل بها المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للوصول إلى مجتمع أمن وخال من الفكر المتطرف، وكيف يمكن استخدام هذه الدراسات والأبحاث العلمية الرصينة للوقوف صفا في مواجهة ضياع الأسرة.
4. وضع رؤيا بحثية تحفز كليات الشريعة للمحافظة على دور الأسرة البارز، ولبيان دورها في تعزيز الحفاظ على الأسرة المسلمة، وفتح المجال للإبداعات البحثية في مجال بيان قيمة الأسرة والدفاع عن الأعراض والأنفس.
أهمية البحث([4]):
تنبع أهمية هذا البحث من أهمية ديمومة المحافظة على الأسرة، وحمايتها من العولمة، بالإضافة إلى ما يأتي:
1 -مساعدة الباحثين والمختصين في بيان قيمة هذه الأسرة، من خلال توفير عدد من الخيارات البحثية المتنوعة.
2- تحقيق الشمول والتوازن في حماية الأسرة للوصول إلى أسرة سعيدة وأمنة.
منهج البحث([5]):
تعتمد هذه الدراسة على المنهج التكاملي الذي يتخذ من الوصف، ثم الاستقراء، ثم تحليل أدوات منهجية للوصول إلى التقييم، والخروج بنتائج علمية، تكون إجابة عن أسئلة الدراسة ومنسجمة مع أهدافها؛ لتقدم حلولا لمشكلتها الرئيسة، ويمكن توضيح ذلك كما يلي:
1. الوصف والاستقراء: حيث سيقوم الباحث باستقراء كافة مواضيع الأسرة، وتصنيفها وفق منهجية محددة تتوافق مع مفردات الدراسة وأهدافها.
2. التحليل: حيث سيقوم الباحث بتحليل عناصر الموضوعات الخاصة بالأسرة، والتعرف على وسائل حماية الأسرة، وطرائقها المختارة شكلا ومضمونا، وقياس منهجها واستقلاليتها، والكشف عن التقليد والتكرار والنمطية في ذلك.
أداة الدراسة:
تمثلت أداة الدراسة في دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية الأسرة، وفي التصدي للفكر المعادي لنظام الأسرة للوصول إلى مجتمع أمن وخال من أي مظاهر العداء والحقد على الأسرة.
مصطلحات الدراسة:
1. الأسرة: بأنها جماعة تحددها علاقة جنسية محكمة، وعلى درجة من قوة التحمل تمكنها من إنجاب الأطفال وتربيتهم([6]).
2. سلوكيات الأسرة: نقصد بهذا سلوك أحد الزوجين في البيت، وهنا تظهر الصفات النوعية والصفات الخلقية التي جبل عليها الإنسان أو هي الفطرة المركوزة في النفس البشرية.
3. حرية المرأة: الضوابط الشرعية لحال المرأة المسلمة كما فهمه أصحاب الفكر.
خطة البحث:
المبحث الأول: دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية نظام الأسرة.
المطلب الأول: التعريف بمصطلحات البحث (المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، الأسرة).
المطلب الثاني: دور مؤسسات المجتمع المدني، في حماية الأسرة.
المطلب الثالث: دور دوائر القضاء والإفتاء والأوقاف في حماية الأسرة.
المطلب الرابع: دور الدول الإسلامية (محاكم القضاء في المغرب- أنموذجا)
المبحث الثاني: حماية الأسرة المسلمة من التحديات المعاصرة والعولمة.
المطلب الأول: مظاهر حماية الأسرة.
المطلب الثاني: الأسرة في المجتمع المغربي.
المطلب الثالث: حماية الأسرة من العولمة المعاصرة.
المطلب الرابع: التحديات المعاصرة للأسرة وعلاجها.
الخاتمة، وفيها أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية نظام الأسرة
لا يخفى على ذي لب أن هناك دورا بارزا للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في حماية نظام الأسرة؛ لأن الأسرة هي نواة المجتمع، فيجب المحافظة عليها بكل الوسائل للوصول إلى أسرة سعيدة، ولتحقيق قيمة بناء المجتمع، والحفاظ عليه من مكائد وشرور الكائدين المتربصين الذين لا يراعون في الأسر المسلمة إلا ولا ذمة.
المطلب الأول: التعريف بمصطلحات البحث (المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، الأسرة)
نقصد بالمؤسسات الرسمية، هي تلك الجهات التابعة للدولة، والتي تمثل اليوم بما يسمى بالقطاع العام، وهي تلك القطاعات التي تكون مملوكة للدولة، وهذه إما أن تكون استثمارية ربحية أو استثمارية خيرية أو غير ذلك، وهي التي تخدم المجتمع، ولا يمتلكها أفراد، وتشرف عليها الدولة، وتتكفل برواتب موظفيها، وهذه المؤسسات صبغت بالرسمية؛ لأن عملها ذات طابع رسمي يهم الدولة التي تنتمي إليها، والدوائر الرسمية في الدولة الإسلامية، هي الممثل الرسمي للدولة إذ ذاك من جهة القضاء، ومن جهة الفتيا([7])، وقد عرفها وجيزيوت بقوله: "المؤسسات الرسمية هي منظمات أو هياكل يتم إنشاؤها بموجب القانون أو الحكومة أو الهيئات الرسمية الأخرى، وعادة ما يكون لديهم مجموعة واضحة من القواعد واللوائح والإجراءات التي تحكم عملياتهم، وتشمل هذه المؤسسات الوكالات الحكومية والمدارس والمحاكم، والشركات" ([8]).
أما المؤسسات غير الرسمية، فهي منظمة غير حكومية، وذات مصلحة عامة وهي لا تخضع لحكومة ولا لمؤسسة دولية، ولا يمنع ذلك أن تتعاون أو تتلقى مساعدات وتمويلات من الحكومات، ولكنها تأسست وتنشط دون رقابة من الحكومات الوطنية، وتتبناه مؤسسات متخصصة، تهيئ له الوسائل والإمكانيات ليكون وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وبيان الحق للمضللين والمخدوعين، وأن تصدر كتيبات في هذا الشأن توضح الحقيقة وتجلوها في دراسة مبنية على الأسلوب العلمي، والمعالجة الموضوعية والموعظة الحسنة، أو تصدر مجلة متخصصة في هذا الشأن تسير على هذا المنهج([9]).
وقد عرفها وجيزيوت بقوله: "المؤسسات الغير الرسمية هي منظمات أو هياكل لم ينشئها القانون أو الحكومة، يتم إنشاؤها والحفاظ عليها من قبل أفراد أو مجموعات داخل المجتمع، وغالبًا ما تعتمد على القيم أو العادات أو التقاليد المشتركة، تشمل أمثلة المؤسسات الاجتماعية غير الرسمية العائلات والصداقات وجمعيات الأحياء والجماعات الدينية، والفرق الرئيسي بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية هو مستوى شكليتها، حيث تكون المؤسسات الرسمية أكثر تنظيما، في حين أن المؤسسات غير الرسمية أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة" ([10]).
حماية نظام الأسرة:
الأسرة لغة: من أَسَرَهُ يَأْسِرُه أَسْراً وإِسارَةً شَدَّه بالإِسار والإِسارُ ما شُدّ به والجمع أُسُرٌ، وجمعه أُسُرٌ والإِسارُ: الْقَيْدُ ويكون حَبْلَ الكِتافِ([11])، وورد في المعجم الوسيط أن الأسرة تعني: الدرع الحصينة وأهل الرجل وعشيرته والجماعة يربطها أمر مشترك([12])، والأسرة كما يقول الزبيدي: "الرَّهْطُ الأَدْنَوْنَ وَعَشِيرَتُه؛ لأَنَّه يتقوَّى بهم، والأُسْرَةُ، بالضّمّ: أَقاربُ الرَّجلِ مِن قِبَلِ أَبِيه"([13]).
وفي الاصطلاح، بأنها جماعة تحددها علاقة جنسية محكمة، وعلى درجة من قوة التحمل تمكنها من إنجاب الأطفال وتربيتهم([14])، أو هي وحدة اجتماعية تتصف بالإقامة المشتركة والتعاون الاقتصادي ومسؤولية الإنجاب، وهي تضم كحد أدنى شخصين راشدين من الجنسين وطفلاً واحداً على الأقل منحدراً من علاقتهما الزوجية كأب وأم([15])، والأسرة أساس كيان المجتمع؛ لأن من مجموعها يتكون المجتمع فهي بالنسبة له كالخلية لبدن الإنسان، ويترتب على ذلك أن الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع([16])، والأسرة([17]) هي المحضن الأول للإنسان فيها يولد، وفيها ينشأ ويترعرع، وفيها يتعلم المُثل والقيم والمبادئ، ولهذا كان لها دور مهم في حفظ الأمن والاستقرار([18])، ولها دور تربوي وتوعوي ووقائي؛ إذ هي التي تغرس في أفرادها ما يحقق الأمن الاجتماعي من احترام لحقوق الآخرين وحفظها وعدم الاعتداء عليها([19])، وهي المؤسسة الاجتماعية([20]) التي تنشأ من اقتران رجل وامرأة بعقد يرمي إلى إنشاء اللبنة التي تساهم في بناء المجتمع، وأهم أركانها، الزوج، والزوجة، والأولاد([21]).
وينبثق نظام الأسرة من معين الفطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا وللمخلوقات كافّة، قال جل شأنه: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات: 49]، وقال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) [يس: 36].
والخلاصة كما يراه الباحث أن النظام الإسلامي يجعل الأسرة هي العمود الفقري الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي، وقد أحاطها الإسلام برعايةٍ عظيمةٍ في كل مراحل تكوينها، وقد استغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا، وأحاطها كذلك بكلِّ المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى للمجتمع المسلم، وتهدف سياسة حماية الأسرة إلى تعزيز منظــومة اجتــماعية تحقق الحــماية لأفراد الأسرة، وتحفظ كيانها وحقوقها بما يعزز دور الاسرة ومشاركتها الفاعلة في التنمية المجتمعية([22]).
المطلب الثاني: دور مؤسسات المجتمع المدني، في حماية الأسرة
لا يخفى على ذي لب أن هناك دورا مؤثرا لمؤسسات المجتمع المدني، وهذا الدور له وقعه على المجتمع، لكل مؤسسات المجتمع المدني التي ساهمت في هذا الجانب من خلال أمرين، الأمر الأول: الجانب الإيجابي حيث ساهمت بعض المؤسسات في حماية النظام الأسري، وتوفير الحاجات الماسة للأسرة من أجل الحفاظ على كينونة الأسرة ومنع تسرب القوانين الجائرة إلى الأسرة، ومنع التعرض لأحكام الأسرة، والقضاء على أهم ما بقي من أثار للحفاظ على الأسرة من الضياع والترد، والأمر الثاني: هو مساهمات المؤسسات في المجتمع المدني بالناحية السلبية وتشريع القوانين للقضاء على ما تبقى من الأسرة، ومنها على سبيل المثال ما تم تشريعه من اتفاقيات سيداو، وما نتج عنها من أحكام وتشريعات أدت إلى سن قوانين تحارب الأسرة في عقر دارها.
لذلك فإنَّ اتفاقيَّة (سيداو) التي تحارب الأسرة وتحاول النيل من كرامة الأسرة؛ لأن منهجها لا يتوافِقُ مع التصوُّرَ الإسلاميَّ حول قضايا المرأةِ، وإنَّما تُناقِضُه تمامًا، وأنَّه لا بدَّ من قيامِ العُلَماء في جميعِ القطاعاتِ والهيئاتِ بتوعِيةِ الجُمهورِ الإسلاميِّ بأهدافِ الحَرَكة الأُنثَويَّة الجديدة ومخطَّطاتِها، فهي وثيقة أو مُعاهدة يَلْتزم كل طرف من أطرافها أو ميثاق بين دولتين فأكثر يتعلّق ببعض الشُّئون الخاصة بالأسرة([23]).
تعريف سيداو: كلمة سيداو غير عربية، وهي كلمة تتكون من أربعة أحرف باللغة الإنجليزية ومختصرة من أربع كلمات في اللغة الإنجليزية Cedaw، ويعني حرف (C):Convention ومعناها اتفاقية ,وحرف (E): Elimination ofall ومعناها : إزالة أشكال، وحرف(D): Descriminationومعناهاه: تمييز، وحرف (A): Against ومعناها: ضد، وحرف (W): Women ومعناها: المرأة، وبالنظر إلى معجم اللغة الإنجليزية نجد أن سيداو مؤلفة من جملة ( Convention on the Elimination ofall forums of Descrimination Against Women ) وتعني: إزالة كافة أشكال التميز العنصري ضد المرأة، أو اتفاقية القضاء على كافة التميز العنصري ضد المرأة([24])، وهي معاهدة دولية تم اعتمادها بموجب وثيقة حقوق دولية للنساء، أصدرتها وأقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودخلت حيز التنفيذ عام 1981م، في الوقت الذي رفضت بعض الدول مثل سويسرا وأمريكا التوقيع عليها، وعللت أن بعض بنودها تتعارض مع دستور البلاد. مع التحفظ على بعض بنود الاتفاقية، وبلغ عدد الدول التي انضمت إلى الاتفاقية 191 دولة منها 18 دولة عربية.
وكان الشعار الأساسي لها ينص على التنمية الشاملة والتامة لبلد ما ورفاهية العالم وقضايا السلم، كل هذه الأمور تتطلب أقصى مشاركة للمرأة جنبا إلى جنب مع الرجل في جميع الميادين، وتكشف هذه الاتفاقية عمق العزلة والاضطهاد الذي يمارس على المرأة حول العالم بسبب جنسها، ودعت الاتفاقية إلى تسريع تحقيق المساواة للمرأة مع الرجل، وعدم ممارسة التميز ضدها في جميع المجالات، وشملت الاتفاقية ثلاثين مادة وضعت في قالب قانوني ملزم، ويشمل المبادئ والتدابير الموافق عليها دوليا لتحقيق المساواة للمرأة في الحقوق([25])، وما جاء في هذه الاتفاقية هو في بعض مواده متأخر عما جاءت به الشريعة الإسلامية؛ ذلك لأن الذين وضعوا الاتفاقية كان عملهم ردة فعل لأوضاع مزرية تعيشها المرأة في بلدان لا تُحكم الشريعة الإسلامية، ولما لم يهتدوا بنور الله الذي خلق الذكر والأنثى بالغوا في المساواة مبالغة أنستهم الفروق الحقيقية بين الذكور والإناث؛ وعليه فإن الاتفاقية هي نتاج ثلاثين عاما من جهود متواصلة قام بها مركز المرأة في الأمم المتحدة لتحسين أوضاع المرأة ونشر ثقافة حقوقها، وكانت هذه الاتفاقية قد بدأت عام 1967 كظهور لأول مرة عندما اعتمدت جمعية الأمم المتحدة إعلان القضاء على التميز العنصري ضد المرأة، وفي عام 1972 استطلعت لجنة مركز المرأة في الأمم المتحدة رأي الدول الأعضاء حول شكل ومضمون اتفاقية دولية بشأن حقوق المرأة، ولم تدخل هذه الاتفاقية حيز التنفيذ إلا في عام 1981، بعد موافقة خمسين دولة على التصديق عليها، وكان الهدف من وراء هذه الاتفاقية وضع المرأة ووضع قضايا التميز ضدها في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية، ومنه المساواة أمام القانون وضرورة اتخاذ التدابير المناسبة للقضاء على الأدوار النمطية للجنسين، وعلى الممارسات النابعة من مفهوم الدولية أو مفهوم التفوق لدى جنس على حساب جنس آخر([26]).
وتعد فكرة (المساواة) بين الناس جميعاً هي القاعدة التي انطلقت منها الاتفاقيات والمواثيق المعاصرة، ولا عجب من ذلك حيث إن فكرة أو مبدأ (المساواة) من المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية المشهورة([27]).
ومن تطبيقاتها، المساواة: المساواة بين الذكر والأنثى في كل مناحي الحياة، وهو ما سطره الإعلان سنة (1967م) ثم الاتفاقية سنة (1979م) اللذان استخدما مصطلحاً مضاداً للمساواة، وهو (التمييز) بسبب الجنس، ومن هنا جاء في المادة الأولى من الاتفاقية ما نصه:
"المادة (1): لأغراض هذه الاتفاقية يعني مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان، والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل".
والخلاصة كما يراه الباحث أن هناك دورا إيجابيا ينبع من فكرة المحافظة على المرأة بشكل خاص وعلى الأسرة بشكل عام، وهذا جاء من المنظومة الفكرية الإسلامية التي تقدم الضوابط الشرعية لنظام الأسرة في الإسلام؛ ومع هذا كله فإن هناك دورا سلبيا يحال ما بين الفينة والأخرى القضاء على كل ما جاء من تعاليم شرعية لحماية الأسرة، ومنها اتفاقية سيداو، وهي من أكثر الاتفاقيات المثيرة للجدل وخاصة بين أوساط الدول التي رأت فيها أنها تتعارض مع القوانين التي أخذت موقفا معاديا لها، ومما يؤكد هذه الفكرة ما جاء في ديباجة الاتفاقية من اعتبار المساواة هدفاً منشوداً في قولها: وإذ نؤمن بأن إقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، القائم على الإنصاف والعدل، سيسهم إسهاماً بارزاً في النهوض بالمساواة بين الرجل والمرأة، وهذه المحاولة لم تلقى رواجا في الأوساط الفكرية الناضجة التي تدافع عن الإسلام.
المطلب الثالث: دور دوائر القضاء والإفتاء والأوقاف في حماية الأسرة
الخلاف الأسري هو الموضوع الذي شغل الكثيرين من علماء الشريعة والتربية وعلماء النفس والمصلحين الذين يحاولون إصلاح ما دمر من بيوت، لكن يفاجأ الإنسان، وبعد بذل الجهد كله أن الخلاف الموجود بين الأُسر، خلاف متجذر في قلوب الزوجين أحيانا، ويصعب علاجه في بعض الأحيان الآخر، ولعلي في هذا المبحث أن أصل إلى الأسباب الحقيقية في الخلاف بين الزوجين ومعالجتها، وقد عالج الإسلام مشاكل الأسرة، من خلال بيان الأسباب الحقيقية لهدم الأسرة ومن هذه الأسباب: الأسباب الاجتماعية، وأسباب سلوكية، والأسباب الاقتصادية، ومن المعلوم أن الذين يتولون الإصلاح الأسري في البلاد الإسلامية هم من يمارسون هذا الإصلاح الأسري في حياتهم اليومية، ومن أكبر الجهات الحكومية الدينية التي تمارس هذا العمل الشرعي دوائر القضاء والإفتاء والأوقاف، وعليه فإن دور دوائر القضاء والإفتاء والأوقاف في حماية الأسرة، يقوم على المتابعة والعمل، ويقوم بجهد إصلاحي كبير، وقد صدر قانون في القضاء الإماراتي والأردني والمصري، وسمي هذا القانون بقانون الإصلاح الأسري، وصدرت تعليمات تتعلق بهذا، كقانون الأحوال الشخصية الأردني، وأصبح يعمل به من تاريخ عام 2010م وسمي ب: قانون الأحوال الشخصية وتعديلاته رقم (36) لعام 2010م، وقانون الأحوال الشخصية في الإمارات المتحدة، وكذلك الدور البارز لدور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي، حيث صارت خدمة تسمى اليوم بـ: "خدمة الإصلاح الأسري وحل الخلاف بين المتنازعين"، وهي من الخدمات المميزة التي تقدمها دور الإفتاء في دبي والأردن والمغرب والجزائر وتونس والسودان وكذلك في تركيا وغيرها من البلاد العربية والاسلامية، حيث يمكن لأطراف النزاع الحضور إلى دور الإفتاء، وعرض المشكلة عليهم، ليتم الفصل بين أطراف الخلاف بالرضا والمحبة والتعاون على الخير في كل المجالات المختلف بها([28]).
وهناك جهود كبيرة جداً تبذل من خلال الخطباء والمدرسين والواعظين التابعين لوزارات الأوقاف في البلاد الإسلامية، والحقيقة أن هناك ثمارا موجودة في المجتمع الذي نعيش، لكن على الصعيد الرسمي لوزارة الأوقاف، فإنهم يقومون بجهد كبير من خلال الدروس والمواعظ والندوات والدورات والخطب، وتتولى إدارة التوجيه الأسري في مختلف الوزارات مهمة تقديم الاستشارات الأسرية (القانونية والدينية)، وتختص بالنظر في معالجة الخلافات الزوجية مثل: الطاعة الزوجية، والمعاملة الأسرية، والنفقة الزوجية، والطلاق وإثباته، وإثبات الحضانة وإسقاطها، ونفقة المحضونين وأجرة الحضانة، ومسكن الحضانة وبدل السكن ومصروفات المدارس، ورؤية المحضون، والسفر بالمحضون، وطلب وثائق تخص المحضون، والنظر ومعالجة الخلافات الأسرية مثل عضل الولي، ونفقة الوالدين، والخلافات بين الأخوة، كما يقوم بإصدار شهـادات الطلاق، وإقرارات المراجعة الزوجية وعدم المراجعة([29]).
ومن الأمثلة العملية لطبيعة عمل الإصلاح الأسري في دبي والأردن والبلاد الإسلامية أن الهدف هو معالجة الخلافات الأسرية، ولم شمل الأسرة بالوسائل الودية، والأخذ بأيدي الطرفين باتفاق أسري ملزم يحفظ لكل واحد منهما حقوقه دون التقاضي في المحاكم؛ لذا فالتوجيه الأسري يسعى إلى إيجاد الحلول للخلافات الأسرية إذا قصد الطرفان إنهاء خلافاتهما بالإنصاف ورضي كل واحد منهما أن يؤدي الحق الذي عليه، وبخلاف ذلك تحال النزاعات إلى المحاكم بدرجاتها المتفاوتة، ويتم تسجيل الشكوى في التوجيه الأسري بإجراءات بسيطة من خلال تعبئة استمارة المعلومات المطلوبة ويرفق صورة إثبات شخصيته وصورة عقد الزواج، إذا كان الخلاف بين الزوجين، ويتم إعلام الطرف الآخر بطلب الطرف الأول وشكواه عن طريق الهاتف والموعد المقترح، وإذا تعذر فيتم إعلامه رسميا عن طريق المحكمة ويحدد له موعدا للحضور، وإذا تعذر إعلامه نهائيا تحال الشكوى للمحكمة إذا رغب بذلك الطرف المشتكي، كما يتم فتح ملف يتضمن سجلاً خاصًا بمختلف الشكاوى للأسرة الواحدة، ويحفظ في أرشيف التوجيه الأسري وفق سياسة الخصوصية المتبعة، ويعاد السير بأية شكوى بطلب الطرفين أو أحدهما في حال نشوء خلاف جديد أو لتوثيق حق من حقوق أحد الطرفين بطريقة رسمية معتمدة([30])، وتتولى إدارة التوجيه الأسري مهمة تقديم الاستشارات الأسرية (القانونية والدينية)، بواسطة الهاتف أو باستقبال المعنيين في مقر التوجيه الأسري، وتختص بالنظر في معالجة الخلافات الزوجية، كما يقوم بإصدار شهـادات الطلاق، وإقرارات المراجعة الزوجية وعدم المراجعة([31]).
والخلاصة كما يراه الباحث أن هناك جهودا كبيرة تبذل لحماية الأسرة من التفرقة والنزاع، وهذه الجهود هدفها الوصول إلى حل الخلاف بين الأطراف المتنازعة، والتوصل إلى حل يحمي الأسرة من الضياع، ويحمي الأولاد من التشرد، وإذا وصل الأمر إلى طريق مسدود، يمكن للإصلاح الأسري تأجيل الطرفين المتنازعين آملا بالإصلاح، ثم إذا تطور الأمر أكثر من هذا فيمكن أن يكون الحل الأخير، هو الفرقة والطلاق لا قدر الله وهذا هو العلاج الأخير لحل النزاعات بين الأطراف.
المطلب الرابع: دور الدول الإسلامية (محاكم القضاء في المغرب- أنموذجا)
القضاء الشرعي في المغرب العربي المعاصر تعرض لتغييرات وتطورات مختلفة، نتيجة للظروف التي عاشتها معظم الدول العربية والإسلامية في التاريخ الحديث، شأنه في ذلك شأن النظم الأخرى التشريعية والإدارية والاقتصادية؛ وعليه فالمحاكم القضائية في المغرب العربي شأنها شأن المحاكم في العالم العربي والإسلامي، وتقسم إلى قسمين:
أولاً: المحاكم النظامية، وهي المحاكم التي تفصل في القضايا الخاصة بالناس، مثل قضايا الإفراز في الأراضي والخلاف على الأراضي، والخلاف على تقسيم العقار، وقضايا الجرائم الإلكترونية، وقضايا جرائم القتل بأنواعها والحقوق المالية، والتجارة، وغيرها، والقضاء المغربي هدفه تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع الواحد، وهو قضاء مستقل تنظمه السلطة القضائية، حيث جاء في نص القانون في المادة 82 من الدستور المغربي على أن "القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية". والمَلِك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية. ويتم تنظيم المحاكم في المغرب بموجب المرسوم بقانون المؤرخ 15 يوليو 1974 في شأن تنظيم المحاكم بصيغته المعدلة وينقسم القضاء في المغرب العربي إلى ثلاثة أنواع رئيسية من المحاكم وهي:
- محاكم الاختصاص العام
- محاكم الاختصاص المتخصصة
- محاكم خاصة
وطبقا لأحكام الفصل 107 من الدستور، تعتبر السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، والملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، وتمارس السلطة القضائية من قبل القضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة، وطبقا لأحكام الفصل 56 من الدستور، يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وطبقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 113 من الدستور، يسهر المجلس على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ومن أجل ذلك يقوم بتدبير وضعيتهم المهنية وفق مبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية والحياد والسعي نحو المناصفة، وكذا المعايير المنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي والشروط المحددة في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وتكون جميع المقررات المتعلقة بالوضعية المهنية للقضاة الصادرة عن المجلس أو رئيسه المنتدب معللة، ويؤلف السلك القضائي بالمملكة المغربية من هيئة واحدة، تشمل قضاة الأحكام والنيابة العامة المعينين بمحاكم أول درجة ومحاكم الاستئناف ومحكمة النقض([32]).
ثانياً: المحاكم الشرعية، ونظمت على درجتين:
- محاكم القضاة والمجلس الأعلى للاستئناف، وكانت تطبق أحكام الشريعة الإسلامية حسب المذهب المالكي.
- المحاكم العرفية: هي محاكم أوجدتها إدارة الحماية في قسم كبير من المغرب، بمقتضى ظهير 16 ماي 1930 الذي عرف باسم الظهير البربري، وسميت الدوائر التي أقيمت فيها هذه المحاكم "دوائر العرف"؛ وعليه فلا بد من رصد التغييرات الحاصلة في القضاء الشرعي بالمغرب المعاصر، حيث يعد القضاء الشرعي منذ عهد الحماية جزءا من النظام القضائي المتبع في المغرب، ويجمع الدارسون على التمييز فيه بين ثلاثة عهود بارزة، وهي نفسها التي مر منها تاريخ المغرب المعاصر: قبل الحماية، وعهد الاستعمار الأجنبي، ثم عهد الاستقلال([33]). وقد اهتم علماء وحكام المغرب بالقضاء الشرعي اهتماما بليغا للوصول إلى حلول شرعية للمتخاصمين في قضايا مختلفة شرعية، وقد انبرا لهذه القضايا علما أكفاء لهم خبرة شرعية ولهم تقوى وعلم، حيث سجل التاريخ عناية ملوك المغرب بتنظيم القضاء والإشراف على مجالسه العليا مثل: يوسف بن تاشفين، ويعقوب المنصور الموحدي، وأحمد المنصور الذهبي، ومحمد بن عبد الله العلوي، الذي أصدر أحكاما لإصلاح القضاء وتوجيه القضاة إلى كيفية التعامل مع الأقوال المختلفة في المذهب المالكي، ختمها بتذكير القضاة بوجوب تنفيذ هذه التوجيهات، وإلا تعرضوا للعقوبات التأديبية، قال: "وأما أنا فكل قضية وصلت إلينا فإننا ننظر في الحكم الذي حكم به القاضي، فإن وجدناه حكم بما تقدم فعلى بركة الله، وإن وجدناه حكم بغير ذلك فلا يلومن الا نفسه، ويجب على السلطان نزعه وعقوبته، وكان منصب القضاء لا يسند الا للعلماء المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة"([34]).
والخلاصة في هذا المبحث أن أحكام القضاء بنوعيه النظامي والشرعي قد سجل تطورا كبير، لحل الخلافات النظامية والشرعية، وكان العلماء من القضاة النظامي والشرعي يقومون بحل وفض الخلافات المتنازع عليه بين الأطراف، وشاء الله تعالى أن يحقق القضاة نقلة نوعية في العدالة بين المتخاصمين، حتى وصل القضاء بنزاهته وعلمه إلى الحلول المناسبة ضمن الضوابط القانونية والشرعية، مما جعل القضاء بنوعيه، قضاء متميزاً ومتطوراً، وأصبح هذا القضاء علامة من علامات التقدم والازدهار والعدالة في الدولة المغربية.
المبحث الثاني
حماية الأسرة المسلمة من التحديات المعاصرة والعولمة
الحديث عن حماية الأسرة حديث عن حماية الإسلام للأسرة، ومنع التغول عليها، وقد أكرم الإسلام الأسرة قبل تكوينها، فاهتم بجميع أفراد الأسرة ذكوراً وإناثاً، وحارب الإسلام كل من تسول له نفسه التعدي على كينونة الأسرة؛ لأن الأسرة تمثل الحياة، فلا حياة بدون وجود أسرة، ولا تنعم الدنيا إلا بوجود أسرة مترابطة متعاونة، لها نظامها الذي يحرم ويجرم من يتعدى عليها، حتى نصل إلى الأسرة السعيدة التي ننشد في ظل الإسلام العادل الجميل.
المطلب الأول: مظاهر حماية الأسرة
لعل الإسلام سبق العديد من الملل والنحل فيما يتعلق ببيان وظائف الأسرة للوصول إلى حماية الأسرة من أسباب الدمار التي تحيك بها، وأكثر من تناول هذا الموضوع هم علماء الإسلام، الذين بينوا هذه المظاهر ووسائل حمايتها، فقد عالج الإسلام مشاكل الأسرة، وجعل الحماية التي تعصم بالأسرة من الوقوع في الأخطاء، ومن أهم مظاهر حماية الأسرة ما يلي:
حماية الأسرة من تدخل الأهل غير المبرر بين الأطراف المتنازعة من أجل التفرقة بين الزوجين، وعندما يحصل الخلاف بين الزوجين، لا بد من التدخل من قبل الأهل لحل هذه الخصومات، أو تدخل الحكمين للصلح وليس التدخل لفصل الأسرة بالطلاق مثلاً، يقول الإمام الزمخشري في تفسير الكشاف عند حديثه عن واجب الحكم الذي يجب أن يكون أثناء النزاع لحل الخلاف بقوله: "وهو الرجال والنساء حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعاً رضياً يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما، وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما؛ لأنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته وما يزويانه عن الأجانب ولا يحبان أن يطلعوا عليه"([35]).
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة بالتعاون مع المصلحين أو الحكمين لإصلاح الزوجين، والأولى بالحكمين أن يتصفوا بصفات العدل، وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمين وأن يكونوا عادلين، حيث قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء:35]، يقول المحب الطبري: "يوفق الله" بين الحكمين فيتفقا على الإصلاح بينهما([36])، ويقول الزحيلي: "(وَإِنْ خِفْتُمْ) علمتم شِقاقَ نزاع وخصام أو خلاف، كأن كلّا منهما في شقّ وجانب، فَابْعَثُوا إليهما برضاهما، حَكَماً أي رجلاً عدلاً محكماً مِنْ أَهْلِهِ أقاربه، وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أقاربها، ويُوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتُوكل هي حكمها في الفرقة، إِنْ يُرِيدا أي الحكمان بَيْنِهِما بين الزوجين، أي يقدرهما اللّه على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق"([37]).
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة من الخلافات عن طريق الأب أو الأم ووجود الأخوة والأخوات الذين يسكنون في بيت واحد مع الزوجين، فإذا وقعت خلافات بين الزوجين سرعان ما نجد التدخل المباشر من قبل الأب أو الأم لصالح الزوج غالباً على اعتبار أن الزوجة هي غريبة عن أهل البيت، وقد يكون من أسباب المشاكل الغيرة من الأب أو الأم أو الأخوات اللواتي يسكنن في بيت الأهل، فتقوم الدنيا ولا تقعد بسبب بغض الأخوات والأخوة لزوجة الأخ، والأفضل من هذا كله أن لا يسكن الزوج عند أهله، وقد أشار قانون الأحوال الشخصية الأردني إلى هذا الموضوع في المادة(74) حيث جاء فيه:" ليس للزوج أن يسكن أهله وأقاربه معه دون رضا زوجته في المسكن الذي هيأ لها، ولها الرجوع عن موافقتها على ذلك ويستثنى من ذلك أبناؤه غير البالغين وبناته الفقيرات إذا لم يمكنه الإنفاق عليهما استقلالاً، وتعين وجودهما عنده؛ وذلك بشرط عدم إضرارهم بالزوجة، وأن لا يحول وجودهما في المسكن دون المعاشرة الزوجية"([38])، والحقيقة أن هذه المادة حلت جوهر الخلافات بين الزوجين، واشترطت قضية هامة جداً للزوجة وهي: عدم الإضرار بها، وهذا يشكل باكورة خير للزوجة وحقها وفرج كبير لها وعدم وجود أي شخص يسكن في بيت الزوجية المستقل للزوجين.
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة من عدم اهتمام كل من الزوجين بالأخر، وعدم الاحترام المتبادل بين الطرفين، وينتج عن هذا الغفلة وسوء التدبير والتبذير والإسراف، وقد أرشدنا الإسلام إلى المحبة والتعاون فيما بيننا كأزواج.
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة من الوقوع في الجانب السلوكي السيئ، مثل الألفاظ التي يستحى منها، من السب والشتم والتحقير، وهذا مخالف لتعاليم النبي الكريم، قال صلى الله عليه وسلم (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)([39])، ومن المسؤولية الأخلاقية للأسرة وأنها مسؤولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام، ومن هذه المسؤولية تعليم البنين والبنات على الأمور الأخلاقية الطيبة التي جاء الإسلام ليتممها كمكارم أخلاق([40])، وقد أشار القرني إلى هذه الوظيفة واعتبرها من أهم الوسائل بقوله: "رعاية الجيل الناشئ هي من أهم وظائف الأسرة، فالمجتمع الذي هذا شأنه هو المجتمع المتحضر؛ لأن الأسرة هي البيئة التي تنشأ وتنمي فيها القيم والأخلاق الإنسانية متمثلة في الجيل الناشئ"([41]).
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة بإعداد وتهيئة الأسرة المسلمة لتقوم بواجبها الشرعي الذي أراده سبحانه وتعالى، ففي قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21]، تبيان للقواعد الروحية المُؤَسِسَة للكيان الأسري، بالسكينة التي تظلل على الزوجين، والمودة والرحمة([42]).
ومن مظاهر حماية الأسرة، حماية الأسرة بتحقيق الوظائف الهامة للأسرة لتحقيق الاستقرار والطمأنينة النفسية، فالأسرة المسلمة تهدف إلى تحقيق الطمأنينة لأفرادها، يقول الحق تبارك وتعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21]([43]).
والخلاصة في هذا المطلب أن الواجب على الجميع، الآباء والأمهات والمصلحون، الاهتمام بهذا الجانب السلوكي، الذي يؤدي إلى حماية الأسرة مما يحيك بها، وإذا تمت الحماية الصحيحة للأسرة صارت الأسرة نموذجية في السلوك والأخلاق، وصار تدخل الآباء والأمهات تدخلاً إيجابياً يؤدي إلى حماية الأسرة مما يكيد لها من قبل الأعداء، وعندها حفظنا الأسرة وحفظنا المجتمع، وأزلنا فتيل الأزمات بين الزوجين، وصارت العلاقة على طاعة الله يحبوها المودة والرحمة والحب الحقيقي، وانعكس هذا على البنين والبنات، وانعكس أيضا على المجتمع الكبير، فصار عندنا المدينة الفاضلة التي تغنى بها افلاطون وعلماء التربية.
المطلب الثاني: الأسرة في المجتمع المغربي
لا يخفى على ذي لب أن الأسرة في المجتمع المغربي يميزها بأنها أسرة متماسكة، وبنيانها مرصوص، كشأن البلاد العربية، لكن ما يميز الأسرة المغربية، أنها أسرها ثقافتها متميزة، وعلمائها فقهاء وعلماء يحفظون المتون ودقائق الأمور، ولعل من أبرز علماء المغرب ذلك العالم الكبير صاحب كتاب الشفاء القاضي عياض رحمه الله تعالى الذي أعطانا صورةً مشرقةً وتصوراً كاملاً عن الأسرة المغربية الكبيرة، وكانت أطروحة الدكتورة للطالب محمد مجلي أحمد، والتي نوقشت في الأردن/جامعة اليرموك/ عام 2008م، حول القاضي عياض المالكي، والذي أعطانا هذا الطالب تصورا كاملا عن حياة الأسرة زمن سيدي الإمام القاضي عياض رحمه الله تعالى.
وقد أشار الدكتور هراس، في التحولات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية التي أثرت بشكل كبير على مفهوم الأسرة المغربية، إلا أن الهوية المغربية وروح الإسلام -كما يقول- ساعدت على الحفاظ على هوية الأسرة، ومساعدتها على الاستمرار، ولعبت دورها الفعال والداعم لكل أفرادها، فمنذ الاستقلال، وبفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حدثت هناك مجموعة من التغييرات الجذرية التي أثرت على الأسرة المغربية، فأصبح لدينا أسر نووية، تمثل أكثر ثلثي هيكلة الأسرة بالمغرب مقابل الأسر العشائرية الجامعة.
وجاء في مجلة العبر للدراسات التاريخية والأثرية إلى أن الزواج يعتبر السبيل الوحيد لتكوين الأسرة وإنجاب الأولاد في أي مجتمع كان من المجتمعات الإسلامية، التي تعتبر وجود أسرة في غير إطار الزواج أمرا محرماً وغير مقبول أخلاقيا، وفي هذا الصدر فإن الشريعة الإسلامية حثت على ضرورة وأهمية الزواج، والملاحظ أن عادات وتقاليد الزواج في بلاد المغرب الإسلامي لم تتغير كثيرا عما هي عليه ومجتمع الأمس، ففي حين نرى الرجل في أيامنا هذه عازف عن الزواج، فإن الرجل في العصر الوسيط، كان يولي أهمية قصوى لتكوين الأسرة و إنجاب الأولاد([44]).
وقد أشار الهراس إلى بعض التغييرات التي حدثت على مستوى حجم الأسرة والتغيرات التي حدثت على مستوى العلاقات الأسرية الداخلية، وأكد الهراس على أنه إذا كان الخضوع والطاعة من أهم مميزات الأسرة المغربية القديمة، كطاعة المرأة لزوجها، وطاعة الأبناء للوالدين، وطاعة الصغير للكبير… فإن جيل الشباب اليوم أصبح يفضل التفاهم والحوار عوض الطاعة والخضوع في علاقتهم مع باقي أفراد الأسرة، وحتى الأشخاص ما بين 40 و60 سنة، أصبحوا يبنون علاقاتهم على التفاهم والحوار، أما الرجل وفي علاقته بالمرأة فيفضل علاقة مبنية على الطاعة، أما المرأة فتفضل علاقة مبنية على الحوار والتفاهم([45]).
وانطلاقاً من اهتمام الإسلام بحياة الأسرة -باعتبارها الركيزة الاجتماعية الأساسية للفرد، القائمة على المودة والمحبة والرحمة والسكينة- تعالت أصوات الفقهاء المغاربة خلال الفترة المدروسة موجهةً جملة من النصائح تُحَمّل الزوجين مسئولية الحفاظ على استمرار العلاقة الودية؛ من خلال قيام كل طرف بواجباته تجاه الآخر، حيث أوجبوا على الزوج النفقة على زوجته وسكناها وكسوتها وحسن معاشرتها، وعلى الزوجة أن تحفظ زوجها في نفسها وماله، ولا تحمّله من المئونة ما لا يطيق، وأن تطيعه ولا تمنعه من نفسها ولا تخرج إلا بإذنه، وهو ما دفع بعض الآباء إلى منح بناتهم وصايا خاصة عند إقبالهن على الزواج، تتعلق بحسن معاشرة الزوج، والحفاظ على بيت الزوجية؛ وعليه فقد أفاضت المصادر في ذكر ما بذله بعض الأزواج من جهود مشهودة لتحقيق صفاء العلاقة، ودوام العشرة، والمحافظة على كيان الأسرة، والتفاني في خلق علاقة يسودها الاحترام والمودة والتآلف والانسجام، والتغاضي عن الزلات، والتصدي بكل قوة لما يعكر صفو الحياة الزوجية.....إلا أن تلك الصورة المشرقة لمظاهر التوافق التي تميزت بها علاقات بعض الأزواج، ما كان لها أن تحجب جوانب أخرى لأجواء التوتر والتنافر التي خيّمت على حياة آخرين، حيث تتردد في مصادر الفترة إشارات عمن شارر زوجته، وعمن تشاجر مع زوجته، وعمن ظاهر زوجته بسبب شر جرى بينه وبينها، وعمن وقع بينه وبين زوجته مشاجرة، وعمن جرى بينه وبين زوجته شر، وعمن وقع بينه وبين زوجته نزاع، وعمن تزوج ابنة عمه ثم ظهر بينهما مشاجرة وخصومة وتفاقم وعدم عشرة، وعمن تزوج أرملة فوقع بينهما في بعض الأيام شر أو منازعة، وعمن تزوج بكراً ثم بعد قدر عامين تشاجرا، وعمن ترافع هو وزوجته إلى القاضي مراراً لا تنحصر، وعن زوجين وقعت بينهما خصومة، وعمن زاد الخلاف بينها وبين زوجها فتفاقم الأمر واشتد الفساد حتى بلغ الأمر إلى اليد الغالبة([46]).
والخلاصة كما يرى الباحث في هذا المطلب أن الأسرة في المجتمع المغربي شأنها شأن المجتمعات المسلمة في البلاد العربية، فهي أسرة محافظة يميزها بأنها أسرة متماسكة، وبنيانها مرصوص، كشأن البلاد العربية، لكن ما يميز الأسرة المغربية، أنها أسرها ثقافتها عالية متميزة، وعلمائها كبار، وهذه الأسرة تربطها المودة والسكينة فيما بينها، ولها أحوالها الخاصة، ويظهر فيها أوجه الخلافات المنتشرة في البلاد العربية والإسلامية مثل التشاجر والتقاضي والخصومة، لكن بالجملة فالأسرة المغربية أسرة محافظة تقوم على المبادئ الصحيحة والمتوازنة للوصول إلى أسرة عالمية تفاخر بها الدين.
المطلب الثالث: حماية الأسرة من العولمة المعاصرة
ولعل أخطر التحديات التي تواجه الأسرة على مستوى الأمة هو التحدي والفرقة والانقسام وفقدان الهوية وذوبان الشخصية، وهنا يأتي الفقر وانعكاساته، ولا ننسى التفكك الاجتماعي وتحدي العولمة، وإلغاء خصوصيات الشعوب، وتذويب ثقافتها، وهناك أمر أخر وهو التحدي على المستوى الفردي مثل الجهل المطبق بأحكام الإسلام ومثله وقيمه وأهدافه.
والعولمة هي عملية التفاعل والتكامل بين الأشخاص والشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم، وظهر مصطلح العولمة لأول مرة في أوائل القرن العشرين، ويُقصد بالعولمة جعل الأشياء عالمية أو جعل انتشارها عالميًا، فهي العملية التي تقوم من خلالها المؤسسات؛ وخاصةً العملية الاقتصادية ليتّبعها العملية السياسية ثم الاجتماعية والثقافية، أمّا المقصود بجعلها عالمية أن تكون مفهومةً أو مناسبة لتكون في يد الجميع، فلا بُدّ من معرفة ما هي العولمة التي تعمل على التحكم والسيطرة من خلال وضع القوانين والأنظمة وإزالة الحواجز بين الدول وبين بعضها البعض، على الرغم من أن الدُول الرأسمالية والتي تتحكم بالاقتصاد العالمي قامت بالبحث عن مصادر لأسواقها الجديدة، مما ساهم في حدوث العديد من العلاقات مع الدُول النامية إلا أنّها تجاوزت الحدود بتدخلها بجميع المستويات في الدول الأخرى على الرغم من احتفاظها بهويتها الخاصة، فتعدّت العولمة البعد المالي والاقتصادي، ووصلت للبعد الثقافي الحيوي المُتمثل بعادات والتقاليد للبلاد([47])، ولعل المثال الأكثر سطوعا للعولمة الإيجابية، أي النابعة من الالتقاء بين أجندة داخلية حقيقية تعكس مرآة التحول المجتمعي المعبر عن خروج المرأة من العزلة التاريخية، نحو الحرية من جهة، ونشوء المجتمع العالمي بوصفه إطار التفاعل والتضامن بين قطاعات الرأي العام العالمية عبر الحدود من جهة ثانية، فقد أحدث هذا الالتقاء طفرة حقيقية جعلت من الحرية النسوية نموذجاً ناجحاً للمجتمع المدني العربي، بل ربما النموذج الوحيد الناجع والناجح، في حين بقيت حريات حقوق الإنسان والمنتديات الفكرية ضعيفة وهشة ومعزولة إلى حد كبير عن الجمهور الواسع، ويمكن القول إن القضية النسوية تشكل، مع مسألة الأقليات، أحد الملفات الاجتماعية الرئيسية التي استفادت من العولمة، وذلك بقدر ما أصبح التركيز على التمييز الحقيقي الموجه ضد المرأة، وضد الأقليات في العقدين الماضيين مجال التأييد الرئيسي للتضامن العالمي مع المجتمعات العربية والتشهير بنظمها الاجتماعية، وليس هناك شك في أن دعم قضايا تحرر المرأة، قد جاء عند قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي استجابة لدواعي أخلاقية تنسجم مع حركة الانعتاق العام، وتعميم القيم الكونية، وفي مقدمها المساواة بين الجنسين ورفض التمييز العنصري تجاه أي فئة اجتماعية([48]).
وحماية الأسرة في الوقت المعاصر من كل ما يتعرض لها، ويجب تكاثف الجهود لحماية الأسرة من العولمة المعاصرة، فإذا حدث الشقاق من ناحيتها.... فللزوج أن ينصحها بالكلام اللين وبأسلوب الملاطفة، فإن أصرت فله أن يهجرها في المضجع، فإذا عاندت فله أن يضربها ضربًا خفيفًا غير مبرح([49]).
ومن أهم القضايا المدمرة للأسرة من خلال العولمة الجديدة موضوع اتفاقية سيداو، التي كانت من مدمرات الأسرة المباشرة.
يقول الدكتور أبو البصل في بحثه "الموقف الإسلامي من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة":
صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، عدة اتفاقيات وتوصيات و(بروتوكولات) ووثائق، تخص المرأة، وأهمها- حسب تاريخ صدورها:
1. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة (1948م).
2. الاتفاقية رقم (100) الخاصة بمساواة العمال والعاملات في الأجر لدى تساوي قيمة العمل، وهذه الاتفاقية اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في (29/ حزيران/ 1951م) وبدأ نفاذها في أيار (1953م).
3. الاتفافية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم، وقد اعتمدت هذه الاتفاقية من قبل المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في (25/ حزيران/ 1958م)، وبدأ نفاذها في حزيران (1960م).
4. توصية بشأن الرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل عقود الزواج الصادر بقرار الجمعية العامة (2018) (د-20) المؤرخ في تشرين ثاني (1965م).
5. إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة، وقد صدر رسمياً بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (2263) (د-22) المؤرخ في (7/ تشرين ثاني/ 1967م).
6. اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وقد اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وعرضتها للتوقيع والتصديق والانضمام بقرارها (34/ 180) المؤرخ في (18/ كانون الأول/ 1979م)، وقد بدأ نفاذها في (3/ أيلول/ 1981م).
7. البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وقد اعتمد هذا البروتوكول من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ (6/ 10/ 1999م).
ويضيف بأن دراسة هذه الوثائق دراسة فاحصة تسبر أغوارها، وتبحث في جزئيات موادها، وما يترتب عليها من التزامات على الدول، وما تحدثه من تغيرات في المجتمعات، يحتاج ذلك كله إلى وقت أكبر بكثير مما هو مخصص لهذا الموضوع في هذه الدورة، ولهذا السبب سيكون التركيز على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، الصادرة سنة (1979م)، وهي التي تعد تتويجاً لجميع الأعمال التي سبقتها منذ (1948م) وتتكون الاتفاقية من ديباجة وستة أجزاء تتضمن ثلاثين مادة، منها مواد تتعلق بأمور إجرائية([50])، شكلية، وأخرى تصب في صلب موضوع المرأة وحقوقها والنظرة إليها([51]).
الخلاصة كما يراه الباحث أن أكبر مدمر للأسرة في العصر الحديث، هو مشروع اتفاقية سيداو، والتي كانت بنودها تنص على دمار الأسرة، والذهاب بها إلى الحضيض، وشاء الله تعالى أن ينبري لها، ويدافع عن حمى الإسلام علماء كبار وفقهاء من جميع أنحاء العالم، حتى لا يمر هذا المشروع المجرم بحق الأسرة المسلمة؛ ولأنه يتعارض مع الثوابت الدينية، المنطلقة من الكتاب والسنة، والحمد لله أنه لم يتيسر لهذه الاتفاقية القبول.
المطلب الرابع: التحديات المعاصرة للأسرة وعلاجها
ومن أهم التحديات التي أشار إليها الباحثون، عدم الأخذ بتوجيهات الشارع الحكيم، حيث جاءت الدعوة عند الرغبة في الزواج بضرورة السؤال والتحري والاعتماد على خبر الثقات من كلا الطرفين، وأشاروا إلى أن الزواج لا يخلو من بعض الخلافات التي يتعين علاجها برفق وهدوء واحترام.
ومن المشكلات التي تواجه الأسرة والتي توقف عندها الباحثون، نظرة الكثير من الناس إلى المظاهر والمادة وعنايتهم بالمظهر والصورة وإعراضهم عن الجوهر والمخبر، وعدم اعتبار الأخلاق والقيم والمثل العليا، ومن التحديات متابعة القنوات الفضائية الهابطة، التي تعنى بنشر التبرج والسفور والرذيلة، ويدخل في هذا ما يعرف بالشبكة العنكبوتية، وغرفة المحادثات والهاتف الخلوي، فيجب على الآباء والأمهات القيام بذلك، وقد حلت المدرسة الحديثة محل المؤدبين الذين كانوا يتابعون من قبل الآباء، فهي البيئة الثانية التي يواصل فيها الطفل تعليمه وإعداده، ودورها يأتي بعد دور الأسرة، وهي تسهم في تشكيل شخصية الطفل، وعلى الآباء اختيار المدرسة الصالحة حتى تسهم في كمال شخصية الأبناء، ومن المعلوم لكل ذي لب أن الله تعالى ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) ([52])، والخلاف الأسري هو نوع من الأمراض المستعصية عند الأسرة، والواجب على من يلي أمر المسلمين أن يجدوا لهذا المرض العلاج المناسب، ومن العلاج محاولة التوفيق بين الزوجين بالطريقة المناسبة، إما عن طريق الوسطاء، وهو ما يسمى اليوم بالحكمين العدول، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)، [النساء:35]، يقول صاحب الظلال معلقاً على النص القرآني: "إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة -عند خوف الشقاق- فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلا.. يبعث حكم من أهلها ترتضيه، وحكم من أهله يرتضيه، يجتمعان في هدوء بعيدين عن الانفعالات النفسية، والرواسب الشعورية، والملابسات المعيشية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين، طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، وتبدو - لقربها من الزوجين - كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما، حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين، مشفقين على الأطفال الصغار، بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر، كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف، راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار... وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين، لأنهما من أهلهما.... فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر اللّه الصلاح بينهما والتوفيق"([53]).
وقد اشترط العلماء شروطاً في الحكمين، لا بد من توافرهما كما يقول الدهلوي:
- أن يكون أحدهما من أهل الزوج، والآخر من أهلها.
- وأن يكونا عدلين مسلمين.
- وممن عرفوا بالاستقامة والصلاح والإصابة في الرأي.
- وأن يتفقا على حكم واحد ليكون نافذا، وأما إذا اختلفا فلا اعتبار لحكمهما.
وعلى الحكمين أن يبذلا وسعهما لمعرفة سبب الشقاق وإزالته وإصلاح ما بين الزوجين، فإن رَأَيا أن النشوز من قبل الزوجة ذكراها ونصحاها لترجع إلى رشدها، وإن رَأَيا أن النشوز من قبل الزوج فَعَلا معه مثل ذلك، فإن وفقهما الله للإصلاح فهو المبتغى، وأما إن لم يقدرا على الصلح بينهما، فلهما أن يفرقا بين الزوجين إن رأيا المصلحة في ذلك([54]).
ومن العلاج الموعظة والهجر بالمعروف، قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34]، ويعلق صاحب الظلال بقوله: "ومثل هذه النصوص والتوجيهات والملابسات التي أحاطت بها ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية، مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم، في هذا المجال...؛ وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية، ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار -الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة-، فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام بقدر خطورتها في بناء المجتمع، وفي إمداده باللبنات الجديدة، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده"([55])، وقد أشار المختار إلى طرق العلاج من خلال هذه الوسيلة بقوله: "فإذا حدث شقاق بينهما طلب الإسلام إلى الزوج أن يتريث ويتأنى ولا يغضبَ؛ لأن الله تعالى قال: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِي مِنْهَا آخَرَ)([56])، وبذلك يتغلب على الخلاف الطارئ الذي قد يهدد الأسرة بالانهيار، فإذا حدث الشقاق من ناحيتها... فللزوج أن ينصحها بالكلام اللين وبأسلوب الملاطفة، فإن أصرت فله أن يهجرها في المضجع، فإذا عاندت فله أن يضربها ضربًا خفيفًا غير مبرح([57]).
والخلاصة كما يراه الباحث أن قلة الوازع الديني عند الزوجين، وعند الآباء والأمهات، ونعني به تدخل الآباء والأمهات لصالح أنفسهم بعيداً عن مصلحة الزوجين الضيقة، وإن عدم الأخذ بتوجيهات الشارع الحكيم، يؤدي إلى تأزم الخلاف الذي كان بسيطا، ولكن مع تدخل الأهل زاد الخلاف بين الأطراف، وانعكس هذا على الأزواج وعلى الأطفال وعلى الأولاد، وإن النظرة المادية إلى المظاهر والتباهي بالموضات الحديثة أدى إلى حصول الخلل بين الأزواج أحياناً، وكم نحن اليوم بحاجة ماسة إلى الحكماء العدول، لصدع ما تبقى من الأسرة المسلمة للوصول بها إلى بر الأمان، حتى تعيش الأسرة المسلمة بالسكينة والمودة والرحمة، كما رسم ذلك القرآن الكريم، بعيداً عن المماحكات والصرعات التي تؤدي إلى دمار الأسر دون مبرر، وبعدها يظهر فينا معنى قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21].
الخاتمة
وفيها أهم النتائج والتوصيات:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فإن موضوع الأسرة وحمايتها من الموضوعات التي تبنتها المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وظهر دورها في الدفاع عن الأسرة وحمايتها من الكيد لها، وإبعادها عن مواطن التشرذم والتقزم والانفلات، في ظل العولمة التي نعيش وصولاً بالأسرة إلى بر الأمان لتعيش السعادة التي رسمها لها الإسلام، وقد جاءت النتائج والتوصيات على النحو الاتي:
أولاً: النتائج: ومن أهم النتائج
1- النظام الأسري، فالأسرة مقدسة يجب العناية بها وحفظها من الكائدين لها، لتكون النواة الأولى، التي جعلها الإسلام علامة فارقة بينها وبين الأسر الأخرى.
2- النظام الأسري محمي بحكم القانون الإسلامي، لا يجوز التعدي عليه ولا بأي حال من الأحوال.
3- بيان دور القضاء والإفتاء والأوقاف في حماية الأسرة من الضياع.
4-دور الدول الإسلامية في حماية الأسرة، ودور محاكم القضاء في المغرب العربي
ثانيا: التوصيات، ومن أهم التوصيات ما يلي:
1- محاولة إشراك المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من أجل وضع صيغة صحيحة وواقعية لعلاج الأسرة وحمايتها من العبث بها.
2- العمل على توفير قسم خاص بالإصلاح الأسري في جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، للوصول إلى أسرة سعيدة، مع توفير علماء مصلحين من كافة التخصصات العلمية.
3-عقد دورات خاصة للمتزوجين وللمقبلين على الزواج، من خلال التعاون مع منظمات الإصلاح الأسري وتوفير بيئة آمنة للأسرة.
(*) بحث مقدم للمؤتمر الدولي: مدونة الأسرة المغربية: الثابت والمتغير ورهانات الإصلاح/ جامعة ابن زهر- المغرب.
الهوامش:
([1]) السيد، عزمي طه السيد، مناهج البحث عند علماء المسلمين، ص221.