دور مؤسسات الإفتاء المعاصرة في التصدي للفتاوى الشاذة(*)
المفتي الدكتور عبدالله محمد الربابعة/ دائرة الإفتاء العام الأردنية
المقدمة
الحمد لله الذي عز جلاله فلا تدركه الأفهام، وسما كماله فلا تحيط به الأوهام، هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام، حبذ الإيمان للمؤمنين، وشرح صدورهم للإسلام، وحجب الكافرين عن بابه فجرت بشقاوتهم الأقلام، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد المبعوث رحمة للأنام، من أظهر حجج الله تعالى، وبين الحلال والحرام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، ما سال قطر، واضطرب نهر، وتفتح زهر، ومال غصن، وغرد حمام، فقد أنزل الله القرآن بأروع الكلام وأعذب البيان، وخير ما نزل من السماء بأمان، ثم أما بعد:
لا يخفى على ذي لبٍ أن هناك فتاوى في العالم العربي والإسلامي يعتريها الغموض، من حيث هدفها ومنشئها والغاية التي وجدت لها، وتخرج في أصلها العقدي عن المسار الذي رسم لها، من قبل الدين الإسلامي الصحيح، وهذا الانحراف والغموض يبعدها عن هدى النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن هذه الفتاوى شاذة عن اجماع علماء المذاهب، وشاذة عن اجماع علماء المسلمين، وشاذه عن جوهر وحقيقة الإسلام، بتحولها من الفكر الصحيح إلى الفكر الهدام، وقد انبثق في أخر السنوات السابقة، فكر سمي بالإسلام، وتبنى الدين شعارا له، حتى وصل هذا الفكر المنحرف إلى التزمت والتكفير والتبديع والتفسيق والتضليل، وظهرت جماعات في العالم الإسلامي تكفر أبناء المسلمين، ويطعنون في جوهر الدين، وظهر التشدد والإرهاب في الفتاوى، حتى حكموا في نهاية الأمر على بعض المسلمين بالخروج من الإسلام، إلا من كان على شاكلتهم، واختل التوازن الفكري في الفتاوى، وظهرت الجماعات المتشددة في غير وجه من التشديد وظهر التنطع، وأدت هذه الفتاوى إلى استباحة حرمات المسلمين، وترويع الأمنين، وقتل الأبرياء باسم الدين، ويصدق فيهم قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " .... إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، ...قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"([1]).
وساهم هذا الفكر الشاذ في الفتاوى، في خلق جيل منحرف فكريا وعقديا، بسبب ما يحمل من أفكار شاذة لا تمت إلى شرعنا، ولا إلى ديننا بحال، وأدت هذه الفتاوى الشاذة إلى دمار شبابنا وقتل ما تبقى منهم، حيث تتبنى جهات داخلية وخارجية، داعمة لهذا الفكر المنحرف من التكفير والتفسيق والتبديع، وتلويث أفكار المجتمع، من خلال ما يطل علينا بين الفينة والأخرى من عقد اجتماعات وترويج لأفكار هدامة، وفتاوى شاذة عن أصل الإسلام، وأدى هذا إلى الترويج لعادات سيئة ودخيلة على مجتمعنا واقصا لكثير من ثوابتنا الدينية، ومن هذه الفتاوى والأفكار والجماعات المتشددة، والتي انبثق عنها، الفكر التكفيري الملحد الذي دمر أفكار الشباب، وسيطر على الجهلة من أبنائنا، وشاء الله عز وجل أن تنقرض هذه الفئة بشكل عام، وأدى أيضا بهم إلى إصدار الفتاوى المضللة لمجتمعنا الإسلامي، وأدت هذه الفتاوى الشاذة إلى ظهور أفكار غريبة عن شرعنا وديننا، ولا زلنا نعاني حتى الان من قتل لأبنائنا وترويع الأمنين منا، بسبب الفتاوى الشاذة، وهذا الفكر المنحرف متواجد فيما بيننا، وخاصة في أماكن الجهل، ولحسن الطالع أن الأفكار الهدامة من المتشددين أمثال الملاحدة من الأحزاب المتشددة تكاد ان تضمحل بفضل المخلصين من الدعاة، والقائمين على تبصير الناس بدينهم من خلال الفتاوى الوسطية التي تتلائم مع ديننا الإسلامي العظيم، وبفضل دور الإفتاء المتوازنة في عالمنا المعاصر والواعية لكل حركات التشرذم التي تحيك بنا، ومن الملاحظ أن الفتاوى الشاذة سندها الروايات المهجورة، والأقوال المطمورة، منقطعة السند رواية وعملا وفهما، ولا تبين فهم أئمة السلف الراسخين في العلم في الجمع بين الأحاديث في المسألة، وأنهم يعملون بكل ما جاءهم عن ربهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم، خلافا للفتاوى الشاذة التي تتبع ظاهرا وتترك آخر، وكما قال الشاطبي رحمه الله: ما من متبع لظاهر نص إلا هجر نصا آخر([2]).
وقد قسمت هذا الموضوع إلى مبحثين، وكل مبحث قسمته إلى عدة مطالب على النحو التالية:
المبحث الأول: دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة
المطلب الأول: التعريف بالفتوى، والإفتاء.
المطلب الثاني: مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصر
المطلب الثالث: جهود دور الإفتاء في ترشيد الفتوى
المطلب الرابع: جهود دور الإفتاء في التصدي للفتاوى الشاذة
المبحث الثاني: الفتاوى الشاذة الهدامة وأثرها على استقرار المجتمعات.
المطلب الأول: التعريف بالفتاوى الشاذة
المطلب الثاني: ضوابط الحكم على الفتوى بالشذوذ
المطلب الثالث: أثار الفتاوى الشاذة على استقرار المجتمعات الإنسانية
المطلب الرابع: التقييم والعلاج (تطهير المجتمعات الإسلامية من الفتاوى الشاذة ومن العابثين في ديننا)
منهجية البحث:
استخدمت عدداً من المناهج البحثية المعروفة للوصول إلى أهداف هذه الدراسة وهي:
1- المنهج الوصفي، حيث قام الباحث بملاحظة وتنظيم دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصر وتبويبها في مباحث ومطالب.
2- المنهج الاستقرائي: جمع واستقراء النصوص المتعلقة بموضوع الدراسة، والنظر فيها توطئة للوصول إلى النتائج والأحكام العامة التي توصلت إليها الدراسة.
3- استخدم الباحث المنهج المقارن في بعض المواضيع في المقارنة بين الفتاوى المعتدلة والفتاوى الشاذة، وقد استعان الباحث في هذا البحث بعمليات التحليل في دراسة النصوص المختلفة من كتب الفقهاء، من أجل تجزئة القضايا الرئيسية، وبيان موقف دور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي الأمر الذي ساعد على قيام المنهج الوصفي بما هو مطلوب منه، من تصنيف وتبويب لموضوعات البحث ومسائله بطريقة سهلة وميسورة، بعيداً عن التعقيدات والصعوبات، وحرصاً على تحقيق الموضوعية في البحث، وقد راعيتُ الأمور التالية:
-توثيق الآراء من مصادرها الخاصة بها.
-عزو الآيات القرآنية بذكر اسم السورة ورقم الآية.
-تخريج الأحاديث، فما كان منها صحيحاً أو حسناً اكتفيت بذكر مصدره، وما كان غير صحيح بينت درجة صحته أو ضعفه.
مشكلة الدراسة:
يمكن عرض إشكالية الدراسة من خلال بيان، ما دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة، ويتفرع عنها الأسئلة التالية:
1- هل يوجد هناك دور للمؤسسات الدينية ودور الإفتاء في التصدي للفتاوى الشاذة؟
2- هل هناك فتاوى شاذة؟
3- ما التوجه العقدي لأصحاب الفكر الضال المنحرف وأصحاب الفتاوى الشاذة؟
أهمية الدراسة:
تتجلى أهمية الدراسة في الأمور الآتية:
1-أنها تبين أراء دور الإفتاء وجهودهم للتصدي للفكر الضال.
2-أنها تعرض عقيدة وفكر أصحاب الفتاوى الشاذة.
3- أنها تيسر اطلاع طلبة العلم وعامة القراء على دور المؤسسات والهيئات في الإفتاء المعاصر وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة، بيان مفهومها وأنواعها وأسبابها وأثارها على استقرار المجتمعات الإنسانية وسبل علاجها.
أهداف الدراسة ومبرراتها (أسباب اختيار الموضوع):
أولاً: أهداف الدراسة
تهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن الأسئلة التي أوردناها آنفاً في مشكلة الدراسة، إضافة إلى أهداف أخرى، ونجمل هذه الأهداف فيما يلي:
-بيان دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة.
-بيان مفهوم ونواع وأسباب ظهور الفتاوى الشاذة والمنحرفة وسبل علاجها.
-بيان دور الإفتاء المعاصرة وجهوده في التصدي للفتاوى الشاذة.
-تقديم صورة واضحة وميسرة لآراء دور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي رجاء أن تساهم في توضيح العقيدة الإسلامية لعامة المتعلمين والناس وترسيخها.
ثانياً: مبررات الدراسة (أسباب اختيار الموضوع)
1- عدم وجود دراسة مستقلة شاملة حول موضوع دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة، مع أنه كتب في بعض الموضوعات الجزئية مثل الفكر المنحرف والإرهاب.
2- الفائدة العلمية المرجوة: رفد المكتبة الإسلامية بمرجع جديد سواء أكان للدارسين أم للمدرسين في جميع المعاهد الدينية في جميع البلاد الإسلامية.
3- إعطاء الصورة العلمية التامة لدور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة.
المبحث الأول
دور مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة
لا يخفى على ذي لب أن هناك دورا بارزا لمؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصرة وجهودها في ترشيد الإفتاء والتصدي للفتاوى الشاذة؛ ويظهر هذا الجهد من خلال الدور البارز في التصدي إلى الفتاوى الشاذة؛ والتي فرقت كلمة المسلمين، من خلال أثرها المرير في هدم بنيان المجتمع الديني المحافظ، والذهاب بهذه الفتاوى إلى التكفير والتفسيق والتبديع، وربما محاولة التشكيك في المنهج الإسلامي المتكامل.
المطلب الأول: التعريف بالفتوى، والإفتاء
التعريف بمصطلحات البحث أمر مهم في الأبحاث العلمية؛ لأنها تعتبر مدخلا لفهم هذه المعارف والمراجع من مضانها الأصلية؛ وعليه فتعريف الفتاوى الشاذة من خلال ما يلي:
أولاً: التعريف بالفتوى لغة.
قال ابن منظور: الفُتْيَا والفُتْوَى والفَتْوَى: مَا أَفتى بِهِ الْفَقِيهُ، الْفَتْحُ فِي الفَتْوَى لأَهل الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وإِنما قَضَيْنَا عَلَى أَلف أَفتى بِالْيَاءِ لِكَثْرَةِ ف ت ي، وَقِلَّةِ ف ت و، وَمَعَ هَذَا إِنه لَازِمٌ، قَالَ: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَن انْقِلَابَ الأَلف عَنِ الْيَاءِ لَامًا أَكثر([3]).
وجاء في لسان العرب أيضاً: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال: أفتيته فَتْوى وفُتْيا؛ إذا أجبته عن مسألته، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتَوْا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، وفُتًى وفَتْوَى: اسْمَانِ يُوضَعَانِ مَوْضِعَ الإِفْتاء، وَيُقَالُ: أَفْتَيْت فُلَانًا رُؤْيَا رَآهَا إِذا عَبَّرْتَهَا لَهُ، وأَفْتَيْتُه فِي مسأَلته إِذا أَجبته عَنْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: أَن قَوْمًا تَفَاتَوا إِليه؛ مَعْنَاهُ تَحَاكَمُوا إِليه وَارْتَفَعُوا إِليه فِي الفُتْيا، يُقَالُ: أَفْتَاه فِي المسأَلة يُفْتِيه إِذا أَجابه، وَالِاسْمُ الفَتْوَى؛ قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
أَنِخْ بِفِناءِ أَشْدَقَ مِنْ عَدِيٍّ ... وَمِنْ جَرْمٍ، وهُمْ أَهلُ التَّفَاتِي أَي التَّحاكُم وأَهل الإِفتاء([4])
وجاء في لسان العرب: أَي التَّحاكُم، قَالَ: والفُتْيَا تبيين الْمُشْكِلِ مِنَ الأَحكام، أَصله مِنَ الفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْحَدَثُ الَّذِي شَبَّ وقَوِي، فكأَنه يُقَوّي مَا أَشكل بِبَيَانِهِ فيَشِبُّ وَيَصِيرُ فَتِيّاً قَوِيًّا، وأَصله مِنَ الفَتَى وَهُوَ الْحَدِيثُ السِّنِّ، وأَفْتَى الْمُفْتِي إِذا أَحدث حُكْمًا، وَفِي الْحَدِيثِ: الإِثْمُ مَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ وإِن أَفْتَاك الناسُ عَنْهُ وأَفْتَوكَ، أَي وإِن جَعَلُوا لَكَ فِيهِ رُخْصة وجَوازاً، وَقَالَ أَبو إِسحق فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً؛ أَي فاسْأَلهم سُؤَالَ تَقْرِيرٍ، أَهم أَشد خَلْقًا أَمْ مَن خَلَقْنَا مِنَ الأُمم السَّالِفَةِ"([5]).
والخلاصة في تعريف الفتوى الشاذة لغة أنه اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال: أفتيته فَتْوى وفُتْيا؛ إذا أجبته عن مسألته، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتَوْا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، وهو بهذا أعاد لفظ الفتوى إلى مضانها ومصادرها وإلى جذرها الثلاثي.
ثانيا: التعريف بالفتوى في الاصطلاح
أما الفتوى في الاصطلاح، فقد عرفها العلماء بتعريفات عديدة، وهي على النحو التالي:
- قال القرافي: الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة([6]).
- وقال ابن الصلاح: «قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى»([7]).
- وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله: «تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه»([8])، وعرفها الفاسي بقوله: الْفَتْوَى هِيَ الْإِخْبَارُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْإِلْزَامُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ([9])، وفي القاموس الفقهي: الفتوى: وهو الجواب عما يشكل من المسائل الشرعية، أو القانونية، فتاو، وفتاوى. - عند المالكية: الإخبار بالحكم الشرعي على غير وجه الالزام، الفتيا: الفتوى، والمفتي: من يتصدى للفتوى بين الناس- عند الاصوليين([10]).
والخلاصة في التعريف الاصطلاحي- كما يرى الباحث- أن الْفَتْوَى هِيَ الْإِخْبَارُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْإِلْزَامُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وهذا التعريف هو الذي اخترته من تلك التعريفات، لكونه متضمناً لما قبله من الإخبار عن حكم الله تعالى، ويزيد عليها: اعتماد الحكم الشرعي على دليل، وكونه مشتملاً على السؤال عن الوقائع وغيرها، لهذا كان أوْلى بالاختيار من غيره.
المطلب الثاني: مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصر
لا يخفى على ذي لب أن مؤسسات وهيئات الإفتاء المعاصر في العالم العربي والإسلامي، وباقي دول العالم، هي مؤسسات تقوم بواجب كبير جدا، وجهود مباركة، تسعى هذه المؤسسات والهيئات الدينية لتقديم الفتاوى، ضمن منهج شرعي متوازن، بعيدا عن الغلو والتطرف، وهذه المؤسسات لها دور بارز في القضاء على الفتاوى الشاذة، وتُجيب الناس على أسئلتهم، سواءً منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، ونظرًا لظهور أمور جديدة في حياة المواطنين، وتعدد المسائل وكثرة المدارس الفقهية، فقد اقتضت المصلحة البحث في المسائل المستجدة التي تعم المجتمع، ومن مهام دور الإفتاء في العالم، الإشراف على شؤون الفتوى وتنظيمها، وإصدار الفتوى في الشؤون العامة والخاصة، وإعداد البحوث والدراسات الإسلامية اللازمة في الأمور المهمة والقضايا المستجدة، وإصدار مجلة علمية دورية متخصصة، تعنى بنشر البحوث العلمية المحكَّمة في علوم الشريعة الإسلامية، والدراسات المتعلقة بها، والتعاون مع علماء الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي، فيما يتعلق بشؤون الإفتاء العامة والخاصة، ومن المهام أيضاً نشر الفتاوى التي صدرت عن دور الإفتاء، لينتفع بها المسلمون، ففيها فقه وتطبيق وتخريج لواقعات جديدة، وهى في ذات الوقت منهل حافل ينهل منه الدارسون لعلوم الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد، إذ تحمل الاستفتاءات الرسمية والشعبية صورة لواقع حياة الناس([11])، وأول من قام بالإفتاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يفتى بوحى من الله سبحانه، كما تشير إليه آيات القرآن الكريم، وقد كانت الفتوى ينزل بها القرآن أو يخبر بها صلوات الله عليه وسلامه بجوامع كلمه، مشتملة على فصل الخطاب، وهذه الأخيرة من السنة الشريفة في المرتبة الثانية من كتاب الله تعالى، ما لم تنقل متواترة ليس لأحد من المسلمين العدول عن العمل بها أو القعود عن اتباعها، بل على كل مسلم الأخذ بها متى صحت، امتثالا لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7]، وقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]، ومن بعده - صلى الله عليه وسلم - قام بالفتوى الفقهاء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وقد غدت قضية الفتوى الشغل الشاغل لكل المعنيين بالمسائل الإسلامية في العقود الأخيرة، ويرجع ذلك إلى بروز المسألة الدينية في حقبة الصحوة الإسلامية، وما تفرع عنها من مناهج متطرفة وتشدد، ومع صعود موجات التدين القوية وانتشار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي تفاقمت قضية الفتوى وصناعتها وتأثيراتها المختلطة، حتى طرحت قضية ما سمي اليوم بفوضى الفتوى.
من هنا كانت الحاجة ماسة لإبراز الفتوى الرسمية الناتجة عن أهل التخصص الشرعي والمعرفة، خاصة في القضايا العامة، ووجوب توحيد الفتوى على مستوى البلد الواحد فيما يخص الشأن العام، وحماية هذه الفتاوى عن طريق قانون يمنع غير أصحاب الاختصاص من الولوج في الفتوى، كما أن المؤسسات الدينية اليوم -خاصة مؤسسة الفتوى- يطرح عليها مطالب التجديد والمنصب على أمرين: المستجدات في حياة المسلمين، وثانياً: ماذا يمكن للمؤسسة الدينية أن تسهم في رؤيتها للعالم بالفتاوى البعيدة عن العنف والشذوذ([12]).
ومن هذه المؤسسات العالمية في العالم العربي والاسلامي ما يلي:
أولا: دائرة الإفتاء العام الأردنية
أُسست دائرة الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية في عام (1921م)، وكانت منذ تأسيسها تعتمد في الفتوى المذهب الحنفي، والذي كان معمولاً به في أيام العهد العثماني، وكان المفتي يُجيب الناس على أسئلتهم سواءً منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وكان يعيّن إلى جانب كل قاضٍ مفتٍ في المدن الكبيرة والصغيرة، ويستعين القاضي بالمفتي على حل المشكلات الاجتماعية، كما أن المفتي يُحيل إلى القاضي الأمور التي لا تدخل تحت اختصاصه مما يحتاج إلى بينات وشهود([13]).
ثانيا: دار الفتوى المصرية.
دار الإفتاء المصرية أنشئت في عام (1895م)، تعد في طليعة المؤسسات الإسلامية التي تتحدث بلسان الدين الإسلامي في جمهورية مصر العربية، وتدعم البحث الفقهي بين المشتغلين به في كل بلدان العالم الإسلامي؛ حيث تقوم بدورها التاريخي والحضاري من خلال وصل المسلمين المعاصرين بأصول دينهم، وتوضيح معالم الإسلام وإزالة ما التبس منها([14]).
ثالثاً: إدارة دار الفتوى/الإمارات، وقد أنشئت عام 2005م، وتم تعين سماحة الدكتور نوح سلمان من الأردن، مدير إدارة الفتوى، وكانت تابعة إلى وزارة العدل الإماراتية ولا زالت.
رابعاً: الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء/ السعودية
هدفها بيان أحكام الشريعة الإسلامية في القضايا العامة والتوجيه للعمل بها، ونشر وإعداد المادة العلمية السليمة التي تبلغ رسالة الإسلام، وتسهم في رفع مستوى الوعي لدى الأمة الإسلامية، وتوفير مصادر المعرفة للعلماء والباحثين، وتيسير سبل الحصول عليها، والمساهمة في حفظ الإنتاج العلمي للأمة، وإصدار الفتوى في الشؤون الخاصة للجهات الحكومية أو الشخصية أو الأفراد([15]).
خامساً: دار الإفتاء الليبية
دار الإفتاء الليبية تأسست في عام 1951م، واستمرت في فترة الحكم الملكي في ليبيا، وشغل منصبها في 1951 مفتي طرابلس آنذاك محمد أبو الأسعاد العالم، بعد وصول القذافي للحكم واستمرت حتى العام 1983، حيث تم إلغاؤها([16]).
سادساً: دار الإفتاء الفلسطينية والقضاء الشرعي، تابعة في إداراتها إلى دائرة الإفتاء الأردنية وإلى دائرة قاضي القضاة.
سابعاً: دار الفتوى الجزائرية
المجلس العلمي للإفتاء التابع لوزارة الشؤون الدينية الجزائرية يعتبر الجهة المخوّلة للإفتاء في الجزائر، ويتكون المجلس من علماء وخبراء في المجالات التي يتم التناقش حولها، لإصدار الفتوى إضافة إلى ممثلي المجلس العلمي التابع لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وإلى جانب المجلس العلمي الوطني تم تأسيس مجالس علمية خاصة بكل ولاية.
ثامناً: دار الفتوى المغربية
المجلس العلمي الأعلى في المغرب، وهو أعلى سلطة دينية رسمية في المغرب، ويضمّ الهيئة العلمية للإفتاء، وقد ذكرت الفتوى الواجبات الأساسية المتعلّقة بالأحكام الإسلامية التي تخص المسلمين.
** هيئة الفتوى والمراكز الإسلامية في أوروبا
ومنها دار الفتوى الاسترالية، وهي مؤسسة مستقلة تأسست عام 2004م، ولكن لا يمنع ذلك الاستنارة والاستشارة مع مجالس إسلامية معتمدة موثوق بها أو علماء عاملين خارج استراليا([17]).
** رئاسة الشؤون الدينية التركية، والمعروفة باسم ديانت، هي الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة الشؤون المتعلقة بالدين الإسلامي في تركية، أسست وفق القانون رقم 429 الصادر في 3 مارس 1924 م، يرأسها اليوم علي أرباش خلفًا لـمحمد كورماز([18]).
والخلاصة كما يرى الباحث أن دور الإفتاء في العالم العربي واٍلاسلامي لها دورها الرائد والبارز، وعلى عاتقها يقع القيام ببيان الحكم الشرعي الصحيح، بعيدا عن الغلو والتطرف، والتصدي للفتاوى الشاذة التي تخالف اجماع المسلمين، وتحذير الناس من أصحاب الفتاوى الشاذة للوصول إلى حكم شرعي مقبول عند الله تعالى.
المطلب الثالث: جهود دور الإفتاء في ترشيد الفتوى
لم تعد المؤسسات الدينية اليوم تقود عملاً ثانوياً في المجتمع الإسلامي، بل أصبحت المؤسسات الدينية قادة لمؤسسات تربوية وإعلامية ومالية متطورة، وهذا يفرض على هؤلاء القادة تطوير الأداء الإداري وتطوير طرق وأساليب الخطاب الدعوي([19])، وتتلخّص هذه الميزة لعلماء الشرع الحنيف في كونهم حملة الأمانة التي أبت السماء والأرض والجبال حملها، قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]، وهذه الأمانة تحتاج إلى شروط في حاملها، وأبرزها القوة والأمانة؛ لقوله تعالى:(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 26]، وهذا ما أشار إليه رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، في الحديث المروي عن سيدنا أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) ([20])، ومقصود القوة جميع مكنونات هذا اللفظ من قوة الشخصية والعلم والخبرة والإدارة([21]).
وقد حققت دور الإفتاء في العالم طفرة كبيرة خلال السنوات الأخيرة في جميع المجالات، من حيث ترشيد الفتوى ضمن ضوابط شرعية، انطلاقا من قول الله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، ومن هذه الضوابط في ترشيد الفتوى منع صدور الفتوى من غير أهلها، وأهلها هم أهل الاختصاص في هذا المجال، الموقعون عن رب العالمين، قال الإمام الشاطبي: "المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم([22])، ومنع أن تصْدُرَ الفتوى في غير محلّها وذلك أن يكون موضوع الفتوى من المسائل المقطوع بحكمها في الشريعة، الثابتة بأدلة قطعية في ثبوتها ودلالتها، المعلومة من الدين بالضرورة، وهذه ليست محلا ولا مجالا للاجتهاد، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم الاجتهاد فيها من جديد، و أن تعارض الفتوى نصا من القرآن الكريم، فأي فتوى تخالف نص القرآن بدعوى الرأي أو الاجتهاد أو التجديد معارضةً جَلِيَّةً بيِّنة؛ فهي فتوى شاذّة مردودة، غير مقبولة([23])، ومن الضوابط كذلك مخالف الفتوى مقاصد الشريعة؛ ذلك أن الاهتداء بالمقاصد في الفتوى أساسٌ لمن يريد حُسْنَ تنزيل الحكم الشرعي، وأن لا يكتفيَ بالوقوف عند حرفية النصوص، ويجْمُدَ على ظواهرها، ولا يتأملَ فيما وراء أحكامها من علل، وما تهدف إليه من مقاصد، وما تسعى إلى تحقيقه من مصالح، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا"([24])، ومن ضوابط الفتوى ان تراعي الفتوى الذرائع والمآلات أي النتائج والعواقب، لأن الذرائع، سدا وفتحا؛ مرتبطة بفقه المآل ارتباطا وثيقا، وهي أساس الفتوى والإفتاء القويم، ومن غَفَلَ عنها أو أغفلها، ولم يُراعها من الْمُفْتِين كانت فتواه شاذة، وقد حَثَّ الإمام الشاطبي المالكي على هذا الفقه الرشيد في التعامل مع السائل والمستفتي، فجعل من صفات المفتي الذكي: "أنه ناظر في المآلات، قبل الجواب عن السؤالات"([25])، ومن ضوابط الفتوى أن تراعي المصالح المرسلة وتغيّر الزمان والمكان والحال والعُرف، فلا بد للمفتي أن يتابع التكنولوجية والبيولوجية والإلكترونية والفضائية والمعلوماتية الْمُذْهِلة وغيرها([26]).
ومن جهود دور الإفتاء في ترشيد الفتوى استخدام التكنولوجيا الحديثة ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث سعت دور الإفتاء إلى الاستفادة من الطفرة التكنولوجية الهائلة، وكل ما هو جديد في عالم السوشيال ميديا من أجل الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المتابعين، ولبناء الوعي وتقديم الخدمات الإفتائية المختلفة والمعلومات الصحيحة وَفق منهجية علمية وسيطة تواجه التشدد والغلو والتطرف، وتعالج الكثير من الظواهر والمشكلات التي تطرأ على المجتمع، وتمتلك دور الإفتاء على كل منصات التواصل الاجتماعي مكانًا لها على الفيس بوك بلغات مختلفة، كما تقدم دار الإفتاء خدمات عديدة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لها، وهناك علماء متخصصين في مجال علم النفس والاجتماع والإرشاد الأسري لحفظ كيان الأسرة، وهذه الخدمة متخصصة في حل المشكلات بين أفراد الأسرة الواحدة وخاصة مشكلة الطلاق([27]).
والخلاصة كما يرى الباحث أن هناك جهوداً واضحة لدى دور الإفتاء في ترشيد الإفتاء وتطوير الأداء الإداري، وتطوير طرق وأساليب الخطاب الدعوي، وترشيد الفتوى حتى تصدر الفتوى من أهلها المعتبرين، وأهلها هم أهل الاختصاص في هذا المجال الموقعون عن رب العالمين، ومن جهود دور الإفتاء في ترشيد الفتوى استخدام التكنولوجيا الحديثة ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، والاستفادة من كل ما هو جديد في عالم السوشيال ميديا من أجل الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المتابعين، ولبناء الوعي، وتقديم الخدمات الإفتائية المختلفة والمعلومات الصحيحة، وَفق منهجية علمية وسيطة تواجه التشدد والغلو والتطرف.
المطلب الرابع: جهود دور الإفتاء في التصدي للفتاوى الشاذة
بذل العلماء وعلى مدار السنوات السالفة جهدهم بتبصير الناس بدينهم من خلال الندوات والمحاضرات وخطب الجمعة والدروس، وصاحب ذلك المشورات واللقاءات مع جميع الأحزاب الدينية على وجه الخصوص، وخاصة المتشددين منهم من اتباع المذهب السلفي المتشدد، والذي انبرى عنهم الفكر التكفيري الذي لا يقبل الرأي الآخر.
ولا يخفى على ذي لبٍ أن الفتاوى الشاذة أدت إلى اختلال التوازن الفكري عند كثير من أفراد المجتمع خلال السنوات السالفة، مما كان له الأثر السيئ على مجتمعاتنا، وساهم في خلق جيل منحرف فكريا وعقديا بسبب ما يحمل من أفكار لا تمت إلى شرعنا ولا إلى ديننا بحال، ومن هذه الأفكار التحزب إلى فكر ضال أدى إلى دمار شبابنا وقتل ما تبقى منهم، حيث تتبنى جهات داخلية وخارجية داعمة لهذا الفكر المنحرف من التكفير والتفسيق والتبديع، وتلويث أفكار المجتمع من خلال ما يطل علينا بين الفينة والأخرى من عقد اجتماعات وترويج لأفكار هدامة مثل الترويج لعادات سيئة ودخيلة على مجتمعنا، ومحاولة اقصا لكثير من ثوابتنا الدينية، ومن هذه الأفكار السلفية المتشددة والتي انبثق عنها فكر داعش التكفيري الملحد الذي دمر أفكار الشباب وسيطر على الجهلة من أبنائنا، وشاء الله عز وجل أن تنقرض هذه الفئة، ومن هذه الأفكار الشاذة ما دعا إليه بعض الإباحيين لعرض حالة نادرة وشاذة من الاختلاط وإظهار أفكار شيطانية ملحدة، تحاول النيل من ثوبتنا، ولا زلنا نعاني أثارهم من قتل لأبنائنا وترويع الأمنين منا، وهذا الفكر المنحرف الشاذ متواجد فيما بيننا وخاصة في أماكن الجهل في بلدنا، ولحسن الطالع أن الأفكار الهدامة من المتشددين أمثال الملاحدة من الأحزاب المتشددة، تكاد ان تضمحل بفضل المخلصين من الدعاة والقائمين على تبصير الناس بدينهم، ويشاء الله تعالى أن الفكرة التي استمرت لعقود من الزمن من المتشددين والذين كفروا الناس، وبدعوهم باسم الإسلام وقتلوهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (... إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، ...قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ)([28])، وكذلك يخرج علينا اليوم دعاة تعتذر عن هذا التشدد الذي استمر لسنوات، لكن ماذا نقول لمن أفسدوا شبابنا لعقود من الزمن؟ ومن دمر عقول أبنائنا، وهل هناك مجال لإصلاح الماضي، ومن التحديات التي واجهت المجتمعات ظهور الغلو والتطرف والتعنت والتعصب والميل إلى الحزبية والإرهاب وترويع الأمنين.
يقول البوطي رحمه الله تعالى: "ولا بد أن نتعامل مع إرهاب المعتدين على الأوطان والحقوق من خلال قوله تعالى: (َأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60] ([29])، حيث جاء في تفسير قوله تعالى(ترهبون): "وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام، ولو لم تمتد بالفعل إليهم، والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين، ولتكون كلمة الله هي العلياء، وليكون الدين كله لله"([30])، جاء في تفسير أبي السعود: "والمعنى تخوفون به وتخزون أعداء الله"([31]).
وجاء في كتاب التطرف أن من أثار الفتاوى الشاذة والفكر والغلو هو تخويف الآمنين، وإدخال الرعب والفزع عليهم.... وفي الجميع إفساد في الأرض"([32]).
ومن الفتاوى الشاذة: الأفكار المنحرفة في المعاملات، وهو التشدد بتحريم كل شيء، ومثله الأفكار المنحرفة التي نادت بها بعض الجماعات التكفيرية، بتحريم كل أنواع المصارف الإسلامية، حيث قالوا: بأنه لا فرق بين هذا البنك وهذا البنك، ومنها الدعوة إلى تدمير مقامات الصحابة الكرام والأولياء والصالحين، بحجة أنها تُعبد من دون الله تعالى، والدعوة إلى إخراج قبور الصالحين إلى أماكن خارج المساجد، مع علمنا جميعا أن مقامات الصحابة تزار ولا تعبد، ولم يمر على مسامعنا أن هناك أحد عبدها من دون الله تعالى.
وعليه فإن ظاهرة الغلو في الدين من القضايا التي ظهرت قديماً قدم الإسلام منذ حصل القتال بين ابني أدم عندما قتل أحدهما أخاه، ثم تدرجت في الأزمان التالية، في عهد يعقوب عليه السلام عندما ألُقي يوسف عليه السلام في البئر من قبل أخوته، ومرورا بعهد بني إسرائيل عندما قتل أصحاب الرس نبيهم، وجعلوه في البئر حتى مات، وعندما قتل بنو إسرائيل يحيي و زكريا عليهما الصلاة والسلام، يقول ابن بطال القرطبي: "فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًا عليه من العبادة فادحًا له، ثم لم يقدر على التمادي فيه كان ذلك إثمًا"([33])، يقول المناوي: "أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء، والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها (فإنما هلك من كان قبلكم) من الأمم (بالغلو في الدين)، والسعيد من اتعظ بغيره([34])، مثل غلو أهل الكلام في الصفات حتى أدى بهم إما إلى التمثيل أو التعطيل([35]).
والخلاصة كما يرى الباحث أن ظاهرة الفتاوى الشاذة والغلو في الدين من القضايا التي ظهرت في مجتمعنا الذي نعيش، وهذه الفتاوى المتشددة أثرت علينا، وقد بذل علمائنا وسعهم في سبيل علاج هذه الظاهرة التي انتشرت، وكان من أعظم العلاج الحوار والجدال بالتي هي أحسن، حتى استطاع الدعاة الوصول بشبابنا إلى بر الأمان والانتهاء من هذا الأمر الذي أخاف العباد والبلاد.
المبحث الثاني
الفتاوى الشاذة الهدامة وأثرها على استقرار المجتمعات
كان الناس في أول الخلق على الفطرة السليمة، يعبدون الله وحده، ولا يشركون به أحداً، فلمّا تفرقوا واختلفوا، أرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى جادة الصواب، وينتشلوهم من الضلال، قال تعالى: (كان النَّاس أمَّةً واحدةً فبعث الله النَّبِيِّينَ مبشرين ومنذرين) [البقرة: 213]، أي: كان الناس أمّة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله فاختلفوا فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين، ثم كُلُّ رسول يقوِّم الانحراف الحادث في عصره ومصره، فالانحراف عن الصراط المستقيم لا يحصره ضابط، وهو يتمثل في أشكال مختلفة، وكلُّ رسول يُعنى بتقويم الانحراف الموجود في عصره([36]).
المطلب الأول: التعريف بالفتاوى الشاذة
الشذوذ في اللغة: مصدر شَذَّ يشُذُّ شذوذا، والشَّاذّ: المنفرد عن الجمهور، أو الخارج عن الجماعة، وشَذَّ الكلام: خرج عن القاعدة وخالف القياس([37]).
ولم تَرِد هذه اللفظة في القرآن الكريم، ولكن وردت في السنة النبوية، فقد روى الإمام الترمذي في سننه عن ابن عباس مرفوعا: "يد الله مع الجماعة، ومن شَذَّ شَذَّ في النار([38])، أما الشذوذ في اصطلاح الأصوليين والفقهاء: فالشّاذُّ في اصطلاح الحنفية والمالكية: هو ما كان مقابلا للصحيح أو المشهور أو الراجح، أي أنه الرأي المرجوح أو الضعيف أو الغريب([39]).
الفتوى الشاذة اصطلاحا
لم أقف على من عرَّف (الفتوى الشاذة المعاصرة) بخصوصها تعريفا دقيقا جامعا مانعا، لكن إذا جَرَيْنا على المعنى العام للفتوى، وهي الإخبار عن الحكم الشرعي، أمكن القول: بأن الفتوى الشاذة هي الحكم المصادم للنص أو للدلالة القطعية للكتاب أو السنة، أو كان مصادما لما عُلم من الدين بالضرورة، أو مصادما لمقاصد الشرع أو قواعده أو مبادئه، فما كان من الفتوى بهذه الصفة، فهي الفتوى الشاذة، التي شذت عن المنهج الصحيح([40]).
والفتاوى الشاذة بهذا المعنى تعنى الخروج عن المألوف الصحيح، والبعد عن النص المحكم والوصول إلى رأي يخالف الإجماع أو النص المعتبر والمحكم والبعد عن المحور الشرعي المطلوب([41]).
جاء في كتاب التقرير والتحرير في علم أصول الفقه:" بأن الفتوى الشاذة هي: الحكم المصادم لنص الكتاب أو السنة، أو كان لفظهما أو دلالتهما لا يحتمله تأويل المفتى، أو كان حكمه مصادم لما علم من الدين بالضرورة، أو مصادم لمقاصد الشرع أو قواعده أو مبادئه؛ وذلك لأن الحكم لا يكون باطلا مردودا إلا في هذه الحال، فما كان من الفتـوى بهذه الصفة فهي الفتوى الشاذة.
وباستقراء مواضع استعمال الفقهاء للفظ "الشاذ" وصفا لقول أو رأى فإنـهم عند الإطلاق لا يقصدون به المعنى الذي ذكرت، لاشتراطهم في المفتي شروطا يبعد معها أن يقع في فتوى أو قول أو رأى هذا وصفه، وإن أرادوه نصوا على أن هذا القول مردود لمصادمته لنص الكتاب أو السنة أو مقاصد الشارع ومبادئه.
وعليه فالقول أو الرأي أو الفتوى الشاذة بالمعنى الخاص في إطلاق الفقهاء والأصوليين ما كان داخلا في عموم أدلة الشرع جملة ولا يشكل على ذلك قول إمام الحرمين: إن الفتوى في الدين بغير دلالة أو إمارة خطأ، فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ"([42]).
وقد تختلف الفتوى الشاذة بالمعنى العام –أي المصادم للنصوص– عن الاختلاف الفقهي المعتبر اختلافا واسعا، من حيث الأصل الذي يبنى عليه كل منهما، ومن حيث اعتبار الأثر أو الحكم، فالفتوى الشاذة – كما سـبق – إنما شـذت لفقدانها المسـتند الشـرعي، أو لمصـادمتها النص، أو لخروجها عن القواعد والمبادئ المؤصلة فقها المعتبرة شرعا، فما بني على ذلك فيها لا يحتمل إلا الرد؛ لأنه أمر مما ليس عليه كتاب أو سنة بطريق مباشر أو غير مباشر.
أما الاختلاف الفقهي فهو مازال في دائرة القبول جملة أو تفصيلا إذ الأصل في الاختلاف الفقهي اختلاف وجهات النظر أو الاجتهاد في النص، أو في التخريج عليه، أو في القواعد الأصولية أو الفقهية المعتبرة في المذاهب، أو في التخريج عليها، أو لاختلاف مناهج الاستنباط تبعا لقواعد المذهب، أو لاختلاف مناطات العلل والأحكام، أو في تخريج المناطات أو تنقيحها، ومن أوسع مراجع الاختلاف، الاختلاف في طرق دلالات الألفاظ ، فاختلف منهج الحنفية عن منهج الجمهور ، كما اختلفوا في الاستدلال بالمفاهيم من حيث الاعتبار بها من عدمه، ثم كان للقواعد المتعلقة بدلالة الألفاظ محل للاختلاف من حيث دلالة العام والمطلق والمقيد وأحكامهما، وكذا الألفاظ المشتركة واستعمالاتها، ثم باب التعارض بين ظواهر النصوص، من حيث أسبابه وأحكامه حتى وضع الأصوليون له بابا خاصا به هو باب ” الترجيح عند التعارض ”، أضف إلى ذلك الاختلاف في طرق نظر الأصوليين في الاستنباط والاحتجاج، خصوصا فيما إذا كان الحديث خبر آحاد، أو خالف القياس، وأحاديث المراسيل، وقول الصحابي والمصـالح المرسلة والاسـتحسان والاسـتصحاب وإجماع أهل المدينة، وفي عموم ما سمى بالأدلة المختلف فيها . فهذه هي محال الاختلاف في الجملة، وكلها في نطاق الخلاف المقبول السائغ؛ لأنه اختلاف مبناه النظر والاجتهاد في النصوص، أو في دلالتها، وليس شيء منها مصادم للنص، أو خارج عن مبادئه؛ وذلك أمر مختلف لا ريب عن دائرة الشاذ المبتوت عن أصول الشرع ومبادئه، فالشذوذ في الفتوى باب منفصل عن باب اختلاف الفقهاء، ولعل الفقهاء والأصوليين لم يفردوا للفتوى الشاذة بابا يخصها لاتفاقهم على أن الاجتهاد لا يصح ولا يسوغ إلا إذا وقع من أهله، وفي محله ووفق ضوابطه، فمن افتقد الأهلية لم يقبل منه فتوى بحال ، وكان فتواه المنسوبة إلى الشرع قول في دين الله بلا دليل، وهذا تنبيه مهم لفهم مصطلح ” الشاذ ” عند الأصوليين والفقهاء عند الاستعمال.
والخلاصة كما يرى الباحث أن الفتوى الشاذة هي الحكم المصادم للنص أو للدلالة القطعية للكتاب أو السنة، أو كان مخالفا لما عُلم من الدين بالضرورة، ومخالفا لمقاصد الشرع أو قواعده أو مبادئه، فما كان من الفتوى بهذه الصفة، فهي الفتوى الشاذة، التي شذت عن المنهج الصحيح، والواجب على العقلاء أن يدافعوا عن هذا الدين وان ينبذوا الفتاوى الشاذة؛ لأنها مضرة بالدين والعباد، ولها أثارها السيئة على أمن المجتمعات الديني.
المطلب الثاني: ضوابط الحكم على الفتوى بالشذوذ
الحكم على الفتوى بالشذوذ والمخالفة للنص والمخالفة للإجماع الأمة الإسلامية، ومن خلال المقصد من هذه الفتوى، وبناء عليه نحكم على الفتوى بالشذوذ؛ لأنها خالفت الحكم المقطوع بصحته، ونستطيع التعرف على الفتاوى الشاذة من خلال الضوابط التالية:
أولاً: أن تصدر الفتوى من غير أهلها
وأهلها هم أهل الاختصاص في هذا المجال الموقعون عن رب العالمين، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم([43])، قال الإمام ابن حزم، رحمه الله: (لا آفة على العلوم وأهلِها أضرُّ من الدُّخلاء فيها، وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجْهَلُون ويظنون أنهم يَعْلَمُون، ويُفْسِدُون ويُقَدِّرُون أنهم يُصْلِحُون) ([44])، وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: (إذا تَكَلَّمَ المرءُ في غير فَنِّهِ أَتَى بهذه العجائب) ([45]).
ثانياً: أن تصْدُرَ الفتوى في غير محلّها
وذلك: أن يكون موضوع الفتوى من المسائل المقطوع بحكمها في الشريعة، الثابتة بأدلة قطعية في ثبوتها ودلالتها، المعلومة من الدين بالضرورة، وهذه ليست محلا ولا مجالا للاجتهاد.
ثالثاً: أن تعارض الفتوى نصا من القرآن الكريم
فالقرآن يحرم وهي تبيح، أو هو يبيح وهي تحرم، أو يُوجب وهي تُسقط، فأي فتوى تخالف نص القرآن بدعوى الرأي أو الاجتهاد أو التجديد معارضةً جَلِيَّةً بيِّنة؛ فهي فتوى شاذّة مردودة، غير مقبولة، ومثالها الفتوى الشاذة التي جنح إليها البعض في تجويزه زواج المسلمة بغير المسلم.
رابعاً: أن تعارض الفتوى حديثا نبويا صحيحا صريحا أو متواترا
أن تكون هذه المخالفةُ الشاذةُ؛ لأحاديث العقيدة المتواترة القطعية الْمُثْبِتَة لعصمة الأنبياء ومعجزاتهم أو الغيب وأشراط الساعة، ومثاله: ما ذهب إليه البعض من إنكارٍ لعصمة الأنبياء مطلقا، أو لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية.
خامساً: أن تعارض الفتوى إجماعا متيقنا قطعيا
لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وهي معصومة بمجموعها، فمن خالف من أهل الفتوى إجماعَ الأمة في قضية من القضايا، أو مسألة من المسائل؛ عُدَّت فتواه شاذة، لا تقوم بها الحجة، ولا تكون على المحَجَّة، ولا يُعْتَدُّ بها عند علماء الأمة، ومن أمثلة ذلك، ما لا يزال يُفتي به البعض في عصرنا هذا بعدم وجوب زكاة عروض التجارة أي السلع والبضائع المعروضة للبيع([46]).
سادساً: أن تعتمد الفتوى على قياس غير صحيح أو فاسد، أو يكونُ المقيسُ عليه واقعةَ عينٍ أو حالٍ لا عموم لها، كمسألة رضاع الكبير التي أثارت ضجة لا معنى لها.
سابعاً: أن تخالف الفتوى مقاصد الشريعة، ومثاله في عصرنا: إصرار البعض على الإفتاء بوجوب إخراج زكاة الفطر من الأطعمة فقط، ورَفْضِ القول بجواز إخراجها بقيمتها نقدا رفضا مطلقا.
ثامناً: أن تسيء الفتوى فقه واقع المسألة، وإذا تصور المفتي الواقع على غير ما هو عليه؛ تكون فتواه شاذة ولابد؛ ولذلك تميز أئمة المالكية بخصيصة الفقه الواقعي؛ إذ كان مالك رضي الله عنه إذا سُئل عن مسألة يقول للسائل: أوقعت؟ فيقول له: لا، فيقول: أنظرني حتى تقع([47]).
تاسعاً: ألا تراعي الفتوى الذرائع والمآلات أي النتائج والعواقب، وقد حَثَّ الإمام الشاطبي المالكي على هذا الفقه الرشيد في التعامل مع السائل والمستفتي، فجعل من صفات المفتي الذكي الزكي: "أنه ناظر في المآلات، قبل الجواب عن السؤالات".
ومن أمثلة ذلك النظر في المآل أي العواقب قبل العزم على الفعل، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة: لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم([48]).
عاشراً: ألا تراعي الفتوى المصالح المرسلة وتغيّر الزمان والمكان والحال والعُرف، وفي ذلك يقول الإمام القرافي المالكي وما أعظم ما قال: "إن استمرار الأحكام التي مدركُها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلافُ الإجماع، وجهالةٌ في الدين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة"([49]).
والخلاصة كما يرى الباحث أن هناك ضوابطاً للحكم على الفتاوى بالشذوذ، ومن هذه الضوابط، صدور الفتوى من غير أهلها ومعارضة الفتوى الاجماع، وصدور الفتوى في غير محلّها أو في غير وقتها المناسب، كالحديث عن الزواج في وجود الجنازة مثلاً، ومعارضة هذه الفتوى لكتاب الله تعالى، ومعارضتها للحديث النبوي الشريف، وعليه فلا بد من ضبط هذه الفتاوى حتى لا تنتشر إلا بضوابطها شرعية صحيحة.
المطلب الثالث: أثار الفتاوى الشاذة على استقرار المجتمعات الإنسانية
من أثار الفتاوى الشاذة التَشَدُّدُ في الفتوى، والتحجير فيما وسع فيه، وإلزام الناس بالعُسر دائما، وقد قال إمام الفقه والحديث والورع سفيان الثوري: "إنما العلم الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كلُّ أحد"([50])، والفكر الذي يقود صاحبه إلى الطريق المعوج يسمى بالفكر المتطرف والفكر الشاذ، ومن أهم مخاطر الفتاوى الشاذة على المجتمع ما يلي:
1- الضرر بعقيدة المجتمع وتدمير الأخلاق الإسلامية، بما يحمله من أفكار مُخالفة لشريعة الإسلام، ومُناقضة لأركانه، ومُنافية لمنهجه القائم على الوسطية والاعتدال.
2- إن الفتاوى الشاذة سبيل لنشر البدع والشركيات، وطريق لانتشار السحر والشعوذة المفسدة للعقيدة، والمخلة بالدين.
3- الفتاوى الشاذة تؤدي إلى تشويه صورة الإسلام وقيمه النبيلة، المتمثلة في الرحمة والعدل والتسامح والشورى وغيرها، وهي سبب للتنفير من الدخول فيه واعتناقه، ويترتب عليه تشويه سمعة الإسلام وتنفير الناس منه، وإلصاق التهم، والإسلام منها براء، بل يُحذّر الإسلام من الإرهاب، ومن أصحاب الفكر الشاذ، وينهى عن الميل والتجاوز والتطرف والغلو في الدين.
4- التشكيك في ثوابت الأمة ،وهز قناعات أفرادها في عقيدتهم؛ وذلك من خلال ما تنشره المذاهب الشاذة([51]).
5- أنه سبب في الإفساد في الأرض وتهديد للضرورات الخمس التي أمر الإسلام بحفظها، ووضع الحدود، ورتّب العقوبات على من انتهك حُرمتها، فهو طريق لسفك الدماء وانتهاك الأعراض، والإضرار بالأموال.
6- يؤدي إلى التشرذم، والفرقة، ويُضعف الصف، ويُحقق الانقسام، ويُهدد الوحدة الوطنية ويبث روح الكراهية بين مختلف طبقات المجتمع ويعود بالمجتمع إلى دعاوي الجاهلية، من خلال تشجيعه على التعصب الطائفي والقبلي والفئوي والمناطقي([52]).
7- تكفير أفرادها المجتمعات جميعها؛ والحكم عليهم بالردة والخروج من الإسلام.
8- تصفية وقتل كل من خالفهم أو رد عليهم؛ لأن من خالفهم في اعتقادهم كافر وتجري عليه أحكام المرتد- حسب قولهم-.
9- التكفير بالمعاصي والخلود بها في نار جهنم.
10- تشويه صورة سماحة الإسلام بين الناس، ووافق ذلك لمزهم بالتطرف، وتفريق المسلمين، وبث الفوضى والخوف وعدم الأمن بينهم، ومع الأسف الشديد أنهم يعتقدون أن تصرفهم هذا ديانة لله وجهاد، جهلا بالعلم والدين ومقاصده.
11- السعي لزعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم، والسخرية من كل أهل الدعوة إلى الله تعالى وتكفيرهم وتفسيقهم.
12- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في مجتمعات المسلمين، من الأخوة والإيثار والطهر والعفاف، وحفظ العهود واحتساب الأجر، واستبدال ذلك بقيم النفعية، والنظر للمصلحة المادية دون سواها، والنفع والتحلل والإباحية.
13-تمييع قضية الحلال والحرام في المعاملات والأخلاق والفكر والسياسة.
14- محاولة إبعاد المسلمين عن الدين الحق إلى أديان الضلال والغواية، وتشكيك الناس بدينهم([53]).
والخلاصة في هذا المطلب أن أثر الفتاوى الشاذة واضح الدلالة؛ من حيث نتائج هذا الفكر الضال على أبناء المجتمع، حيث تم استقطاب هؤلاء الشباب وتعليمهم كل ما هو شاذ في الفتاوى وغيرها، حتى انتشرت الفتاوى الشاذة في بلاد المسلمين، وأضعفت شبابنا ودمرت عقولهم، وحكموا على الناس بالكفر والضلال والتبديع والتفسيق، ثم الحكم بالقتل...فتأمل.
المطلب الرابع: التقييم والعلاج (تطهير المجتمعات الإسلامية من الفتاوى الشاذة ومن العابثين في ديننا)
هذا تداركٌ للفتوى الشاذة إذا وَقَعَت وذاعت وفشت، أما قبل وقوعها فينبغي البحث عن سبل الوقاية منها، والوقاية خير من العلاج كما قيل، وفي الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم:(ومن يتحرَّ الخيرَ يُعْطَه، ومن يَتَوقَّ الشَّرَّ يُوقَه) ([54])، وهذه جملة أمور يمكن أن تقيَ من شرور ومخاطر الفتاوى الشاذة:
أولا: أن لا يُنَصَّبَ للفتوى إلا المؤهلون: ومَنْ شَهِدَ له العلماء الثقات، الراسخون الأكابر، والمؤسسات العلمية المعتبرة، الذين عرفوه وخبروه بالمخالطة والمعاشرة، فليس مجردُ تخرجه من جامعة شرعية أو حصوله على درجة علمية، يَسْمَحُ له بالإفتاء.
ثانيا: إحياء نظام الإجازات العلمية للمفتين: وهي سُنَّةٌ علميةٌ مُعَطَّلَةٌ اليوم، حتى أضحى أمرُ الإفتاء فوضى، وقد كان منهج علماء الأمة، أن لا يُقْدِمُ أحدُهم على الفتوى إلا بعد إجازة كبار علماء عصرهم لهم بذلك، قال إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه: "ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك"([55]).
ثالثا: ضرورة نفرة العلماء المؤهلين المأذون لهم وتصدرهم للفتيا: في مختلف المواقع والفضائيات ووسائل الإعلام، وعدم إحجامهم عن ذلك، فإنهم إذا لم يتصدَّوْا لأسئلة الناس ومشاكلهم؛ فإن كثيرا من أدعياء الفقه والفتوى سيخلو لهم الجو، فيجدونه حِمًى مستباحا يرتعون فيه ويمرحون، ويصولون ويجولون، إذ الطبيعة لا تقبل الفراغ كما يقال.
هذا وبقدر ما يتحمل العلماء المؤهلون المكلفون مسؤولية العمل للاستجابة، كماً وكيفاً لطلب الجمهور على الفتاوى، بقدر ما يتحمل المتجرءون على الفتوى طلباً للزعامة الكاذبة، واستجابة وخدمة لمختلف الأهواء، يتحملون مسؤوليتهم أمام الله في الفتنة التي يحدثونها أمام الله، فليس لعملهم أصل شرعي لا في عمل السلف الصالح، ولا في مناهج الدعوة، وخدمة الدين، وفي ما يحمد من نفع عباد الله المؤمنين.
رابعا: التكوين المستمر لأهل الفتوى: بما يوسع مداركهم وانفتاحهم على مستجدات العصر، وتدريبهم على ممارسة الفتوى.
خامسا: اقتراح إنشاء كلية أو معهد متخصص في الفتوى؛ وذلك لإعداد العلماء المؤهلين، والمفتين الراسخين.
سادسا: الفتوى الجماعية المؤسسة والمنظمة تَأْمَنُ من منزلقات الفتاوى الشاذة: وبخاصة في قضايا الشأن العام من شؤون المجتمع أو الدولة، فهذه لا ينبغي أن تكون مجالا للاجتهاد الفردي وفتاوى الأفراد، وإنما ينبغي إحالتها على الهيئات العلمية الشرعية.
والخلاصة كما يري الباحث في هذا المطلب أن تطهير المجتمعات الإسلامية من الفتاوى الشاذة أمر لا بد منه، ويحتاج إلى أنجع السبل للوقاية من انفراط الفتوى وعدم انضباطها، مع المحافظة على تآلف الأمة، وجمع كلمتها، وتجنبها الشقاق، والتفرق المذموم؛ ذلك أن عصرنا يمتاز بكثرة النوازل المستجدة، والوقائع المستحدثة؛ في المجالات الطبية والمالية والسياسية وسائر القضايا المعاصرة، وهذه مسائل معقدة، تحتاج إلى بذل غاية الوسع لفهمها وتصورها، وهذا أمر تنوء به العصبة أولو القوة، فكيف بجهد فرد من الأفراد، بل قد لا تستطيع المؤسسة العلمية والفقهية نفسُها فهمَها إلا من خلال مراجعة الخبراء والمتخصصين في مجالاتها، لذا كان أمرُ الاجتهاد الجماعي المؤسسي في مثل هذه القضايا ضرورةً يوجبها الدين، وحاجةً يقتضيها العصر، ولتوحيد جهة الفتوى ومرجعيتها، ومنع تضاربها وشذوذها القيام بأمانة الإفتاء الشرعي في النوازل الطارئة والوقائع المستجدة، والانكباب على هذه المهمة الملحة باجتهاد جماعي ينأى بها عن الذاتية والانغلاق، ويحقق به مقاصد الشرع الأسمى في التيسير ورفع الحرج.
الخاتمة
بعد التطواف في موضوع (الفتاوى الشاذة وأثرها على المجتمع)، جاءت الأدلة تبين أن الفتاوى الشاذة أثرها السلبي واضح على المجتمعات الإنسانية، وقد توصلت إلى أهم النتائج والتوصيات، وعلى النحو التالي:
أولاً: النتائج
1. أن الفتاوى الشاذة المخالفة والمصادمة للنصوص أثرت على حياة الناس الدينية، تأثيرا بليغا، ووصل الأمر إلى الغلو والقتل والتكفير والتطرف والنزاع بين أفراد الأمة الواحدة.
2. من أثار الفتاوى الشاذة المتشددة التي واجهة المجتمعات الإنسانية، ظهور التعصب والغلو والتطرف والتنطع.
3.إن تطهير المجتمعات الإنسانية من العابثين في أمنه واستقراره يقوم على جهود الدعاة والمخلصين، وإبعادهم عن الفتاوى الشاذة التي يدافع عنها أصحابها العابثين بعقول وأفكار الناس.
4. هناك دور كبير لعلماء المسلمين في توعية شبابنا وفي توطين دعائم المجتمع من خلال الدعوة إلى الله تعالى بالموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن.
ثانيا: التوصيات
أ- يوصي الباحث كليات الشريعة في العالم العربي والإسلامي بتخصيص مساقات متكاملة لجميع طلاب الجامعات وعلى مختلف التخصصات، لبيان أخطار الفتاوى الشاذة والفكر التكفيري المنحرف، وبيان دور علماء المسلمين في التصدي لها بالحجة والبرهان.
ب- التوصية بتخصيص محاضرات وندوات من أهل العلم والفضل لبيان أضرار الفتاوى الشاذة والفكر التكفيري الجائر، ومحاورة أصحاب الفتاوى الشاذة بالحسنى والكلمة الطيبة وبالجدال بالتي هي احسن، ومحاورة المنحرفين فكرياً في الفتاوى، وفي الفكر الظالم المعوج.
(*) بحث مقدم للرابطة العالمية للفقهاء، المؤتمر العلمي الدولي الثاني، الفتوى والإفتاء المعاصر: الضوابط والمنهجية والآثار.
الهوامش
([1]) صحيح البخاري (4 / 137)