القول الراجح في حكم تعطيل الجمعة والجماعات بسبب الوباء (*)
الدكتور عبدالله سعيد ويسي /دكتوراه في الفقه المقارن، رئيس اتحاد علماء الدين الإسلامي في إقليم كوردستان- العراق
ملخص
هذا البحث يدور حول نازلة قديمة متجددة، عمّت بها البلوى في عصرنا الحاضر، ويهدف البحث إلى مناقشة أهم الآراء التي صدرت عن المجامع الفقهية ودور الإفتاء والمؤسسات وبعض الشخصيات الإسلامية حول مسألة تعطيل الجمع والجماعات بسبب انتشار الوباء وبالأخص (كوفيد 19)، مع استعراض نظرة تأريخية حول تعطيل الجمعة والجماعات بسبب الوباء أو غيره في بعض فترات الزمان الماضي.
يتبع الباحث المنهج الاستقرائي، حيث يتتبع الباحث جميع الآراء الفقهية المعاصرة المتعلقة بالمسألة، مستعرضاً أدلتهم إن وجدت، ومن ثم تحليلها ومناقشتها والرد عليها، وترجيح ما يراه الباحث راجحاً من الآراء مع بيان سبب الترجيح.
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد
ضمن التدابير الوقائية الاحترازية للحدِّ من انتشار فايروس كورونا (كوفيد 19) اتخذت المؤسسات الإسلامية في العالم الإسلامي تدابير تتعلق بممارسة الشعائر الدينية الإسلامية، وخرجت بقرارات وفتاوى تحثّ المصلين على عدم الذهاب إلى المساجد لصلاة الجماعة، إلى أنْ وصل الأمر بتعطيل صلاة الجمعة وكافة التجمعات الأخرى في المساجد والجوامع، وكان لمثل هذه الإجراءات تأثير سلبي على نفوس المسلمين.
ويهدف البحث إلى بيان القول الراجح وأسباب ترجيحه في آراء المؤسسات الإفتائية المعاصرة حول الحكم الشرعي في جواز تعطيل الجمعة والجماعات بسبب الوباء.
أسباب اختيار الموضوع
ومن أسباب اختيار هذا الموضوع ما يلي:
1- أهمية هذه المسألة الفقهية وعموم البلوى بها في أيامنا هذه.
2- جهل كثير من الناس بالأحكام الشرعية المتعلقة بمشروعية تعطيل الجمعة والجماعات خوفاً من انتشار الوباء.
3- عدم وجود دراسة فقهية تجمع وتناقش كل الآراء والأقوال التي صدرت عن المؤسسات الإفتائية والمجامع الفقهية حول تعطيل الجمعة والجماعات.
أهمية البحث
تأتي أهمية البحث من أهمية موضوعه (تعطيل الجمعة والجماعات) الذي كثر الكلام حوله مع ظهور فايروس (كوفيد 19) في العالم الإسلامي ما بين مؤيدٍ ومعارض.
الدراسات السابقة
بعد البحث والتقصّي لم أجد مَنْ بحث في بيان حكم هذه المسألة كدراسة فقهية مناقشاً آراء المجوزين والمانعين وأدلتهم ببحثٍ فقهيّ علميّ يُجلي حقيقتها، مع أنَّ الفقهاء القدامى قد تعرضوا لجزئيات هذه المسألة في ثنايا كتبهم الفقهية في معرض حديثهم عن الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة.
أما المعاصرون؛ فقد وجدت بعض البحوث والرسائل العلمية التي تعرضت لجزئيات قريبة من المسألة، منها:
1. أحكام الأمراض المعدية في الفقه الإسلامي، رسالة ماجستير للباحث عبدالإله سعود السيف، مقدمة إلى جامعة الإمام محمد بن سعود في السعودية، 2004م.
2. التدابير الوقائية من الأمراض والكوارث، رسالة ماجستير للباحثة إيمان عبدالعزيز المبرد، مقدمة لجامعة الإمام محمد بن سعود في السعودية، 2005م.
3. الأحكام الفقهية المتعلقة بالأوبئة التي تصيب البشرية، د. محمد بن سند الشاماني، كلية الشريعة، الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بحث منشور في مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، العدد 18- 1440هـ.
4. إغلاق المساجد بسبب كورونا وأزمة العقل الفقهي، د. خالد حنفي، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، دراسة فقهية نقدية منشورة على شبكة الجزيرة نت.
والفرق بين هذا البحث والدراسات السابقة واضحٌ من عناوين كل منها وحدودها، حيث يهتمّ البحث الذي بين أيدينا بجمع آراء المجامع الفقهية والمؤسسات الإفتائية حول حكم تعطيل الجمعة والجماعات ومناقشة أدلتهم وبيان الراجح منها، بينما تتوجه الدراسات الأخرى إلى بيان حكم الأمراض المعدية والأوبئة وبيان التدابير الوقائية من الأمراض بشكل عام، والدراسة الأخيرة عبارة عن دراسة نقدية للظروف التي استصحبت فتاوى إغلاق المساجد.
خطة البحث
اقتضت طبيعة البحث أن تكون في مقدمة ومبحثين وخاتمة، وذلك على النحو الآتي:
المقدمة، وذلك لبيان أهمية الموضوع وسبب اختياره، وخطة البحث، ومنهجية الباحث
المبحث الأول: نظرة تأريخية في تعطيل الجمعة والجماعات، وذلك في مطلبين:
المطلب الأول: تعطيل الجمعة والجماعات بسبب انتشار العدوى في الأزمنة الماضية
المطلب الثاني: تعطيل الجمعة والجماعات بأسباب أخرى في الأزمنة الماضية
المبحث الثاني: حكم تعطيل الجمعة والجماعات خوفاً من انتشار العدوى
المطلب الأول: حكم صلاة الجماعة
المطلب الثاني: آراء المعاصرين حول حكم تعطيل الجمعة خوفاً من العدوى
المطلب الثالث: المناقشة والترجيح
أما الخاتمة، فكانت لبيان أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها الباحث من خلال مسيرة البحث.
منهجية الباحث
يسلك الباحث -بإذنه تعالى- المنهج الاستقرائي، حيث يتتبع الباحث جميع الآراء الفقهية المعاصرة المتعلقة بالمسألة، مستعرضاً أدلتهم إن وجدت، ومن ثم تحليلها ومناقشتها والردّ عليها، وترجيح ما يراه الباحث راجحاً من الآراء مع بيان سبب الترجيح، وفق الخطوات التالية:
1- جمع المادة العلمية المتعلقة بالموضوع من البيانات والقرارات التي صدرت من وزارات الأوقاف والمجامع الفقهية والمؤسسات الإفتائية، والتي نشرت عن طريق الشبكة الإلكترونية.
2- ذكر الأقوال الفقهية في المسائل اتفاقية كانت أو خلافية، مقتصراً في بيان ذلك على آراء المذاهب الأربعة، مع توثيقها من كتبهم المعتمدة.
3- عرض أدلة الأقوال مع بيان وجه الدلالة قدر الإمكان، ثم مناقشة الآراء والردّ عليها إن وجدت.
4- عزو الآيات القرآنية الواردة في ثنايا البحث مع كتابتها بالرسم العثماني.
5- تخريج الأحاديث النبوية الواردة في البحث مع ذكر درجة الحديث -إن لم يكن في الصحيحين- معتمداً على كتب التخريج.
6- ترجمة الأعلام باستثناء الصحابة الكرام والأئمة الأربعة.
7- ترجمة الأماكن الجغرافية الواردة في ثنايا البحث.
وأخيراً؛ فقد بذلت ما في وسعي وقدرتي من أجل إخراج البحث بهذه الصورة، ولا أدّعي الكمال، فإنْ أصبت فمن الله تعالى، وإنْ أخطأتُ فمن نفسي، وأستغفر الله من ذلك، وأسأله تعالى أنْ يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأنْ يلهمنا الحكمة والصواب، ومن يؤتِ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والله الموفق.
المبحث الأول
نظرة تأريخية في تعطيل الجمعة والجماعات
المطلب الأول: تعطيل الجمعة والجماعات بسبب انتشار العدوى في الأزمنة الماضية
نعلمُ أنّ ما جرى مع ظهور فايروس كورونا من إيقاف للجُمَع والجماعات خشية المساهمة في نشر هذا الوباء لا يمكن أنْ يُعدَّ استثناءً تاريخيًّا غير مسبوق، بل المتتبع بدقة يرى أنَّ المؤرخين قد سطّروا نظائره في تاريخ العالم الإسلامي لدواعٍ صحية، وسنحاول تقديم نظرة سريعة لسرد تأريخي حول إيقاف الجمعة والجماعات في الفترات التأريخية المختلفة بسبب الوباء والمرض.
نبدأ أوّلاً بحادثة طاعون عِمَواس([1]) الذي عمّ بلاد الشام سنة 18هـ، وأدى إلى وفاة عددٍ من كبار الصحابة وأعيان التابعين فيها، وبالرغم من أنَّ الأخبار المتعلقة بتفاصيل الحياة اليومية -بما فيها إقامة صلاة الجُمَع والجماعات- شحيحةٌ جدًّا، ولكن بالتمعن في تفاصيل الحادثة ومجرياتها من الممكن استنتاج أنَّهم لم يتمكنوا في نهاية الأمر من إقامة الجمعة.
فالرّوايات التأريخية المتعلقة بطاعون عِمَواس كلّها تُشير إلى أنَّ الصحابي عمرو بن العاص أمر النّاس بالتفرّق في رؤوس الجبال والشِّعاب وبطون الأودية، وهو أوّل من نادى بالعزل الجماعي لمواجهة الأوبئة([2])، مع أن الروايات لم تُشر إلى أنَّهم عطلوا الجمع والجماعات بسبب الطاعون والوباء، إلا أنَّه يمكننا أنْ نستنتج أنَّ التفرّق في رؤوس الجبال وبطون الأودية يحول -بلا شكّ- دون إقامة صلاة الجمعة والجماعات، إذ لا تجبُ الجمعة شرعاً إلا على أهل الأحياء والقرى والمدن والحواضر([3])، كما أنّ انتهاء هذا الوباء يستغرق أسابيع إنْ لم يكن أشهراً، ولم يثبت أنّ النّاس رجعوا إلى المدينة أيّام الجمعة لإقامة صلاة الجمعة ما يرجّح كفّة إيقافها طيلة فترة العزلة خارج المدينة.
وفي ظلّ شح المصادر التأريخية في ذكر تفاصيل الحياة اليومية في طاعون عِمَواس لا يمكننا أنْ نجزم قطعاً بأن الصحابة الكرام -ومن معهم من التابعين- قد تركوا فعلاً الجمعة والجماعة جراء وقوع الوباء، لكن لدينا على الأقل دعوةٌ ضمنيّة تشير إلى عدم تمكنهم من أدائها.
وقد ذكرت كتب التاريخ الإسلاميّ أنَّه تمَّ فعلاً تعطيل المساجد بسبب الأوبئة مرارًا، حيث روى ابن عذاري المراكشي([4])(ت695هـ) أنَّه وقع في تونس وباءٌ عظيم سنة 395هـ، ووصف تلك الفترة الزمنية بالشدة العظيمة التي أخلت المساجد من المصلين، وقال: "وانكشف فيها الستور، وغلت الأسعار، وعُدِم القوت، وهلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج، فلا ترى متصرفاً إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذاً في جهاز ميت، وخلت المساجد بمدينة القيروان"([5]).
وفي الأندلس سنة 448هـ وقع قحطٌ وغلاء، وبعدها انتشر الوباء بين الناس، وأغلقت المساجد، فقد ذكر الإمام الذهبـي([6]) تفاصيل أحداث هذه السنة وما حصل بالأندلس، فقال: "وفيها كان القحط العظيم بالأندلس والوباء، ومات الخلق بإشبيلية، بحيث إنَّ المساجد بقيت مُغلقة ما لها من يُصلي بها"([7])، وروى القصة نفسها في سير أعلام النبلاء قائلاً: "إنَّه كان في هذه السنة والقحط العظيم بالأندلس، وما عُهد قحط ولا وباءٌ مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مُصَلِّ، وسُمي بعام الجوع الكبير"([8]).
وقدّم لنا ابن الجوزي([9]) تفاصيل فظيعة عن وباء عظيم سريع الانتشار والقتل، تفشى سنة 449هـ فيما يعرف اليوم بآسيا الوسطى، وأفنى فيها نحو مليونين من البشر، ويصف تلك الأيام الصعبة وكأنَّه عاش بعضاً من أجواء عالمنا اليوم، وقد خيّم عليه رعب "كورونا" فقضى عليه بالجمود والركود، ويقول: "والناس يمرّون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، وطويت التجارات وأمور الدنيا، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهيز والدفن، وخلت أكثر المساجد من الجماعات"([10]).
ورصد المقريزي([11]) الآثار الاجتماعية لانتشار وباءٍ سُمي بالطاعون الكبير الذي وقع سنة 749هـ في القاهرة، وأدى إلى تعطيل الحياة اليومية لعامة الناس، وكذلك تعطيل المساجد من الأذان والصلاة في عدة أماكن، فقال: "وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس، فلم يُعرف أنَّ أحدًا عمل فرحًا في مدة الوباء، ولا سُمع صوت غناء، وتعطّل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد، وغلّقت أكثر المساجد والزوايا"([12])، وأضاف المؤرخ ابن تغري بردي([13]) من قيام الأمير شيخون العمري([14]) وأمير آخور([15]) تغسيل الأموات وتكفينهم ودفنهم، وبطل الأذان في عدّة مواضع، وبقي في المواضع المشهورة يؤذّن مؤذّنٌ واحد، وغلّقت أكثر المساجد والزوايا([16]).
ولم تسلم من ذلك مكة المكرّمة، حيث وقع فيها وباءٌ عظيم في سنة 827هـ، وحصد أرواح الكثيرين، ممّا أدّى إلى عدم إقامة الصلاة في المسجد الحرام، ووصف الحافظ ابن حجر([17]) الواقعة بقوله: "وفي أوائل هذه السنة وقع بمكةَ وباءٌ عظيم، بحيثُ مات في كل يوم أربعون نفساً، وحصر من مات في ربيع الأول ألفاً وسبعمئة، ويقال إنَّ إمام المقام لم يُصلِّ معه في تلك الأيام إلا اثنان، وبقية الأئمة بطلوا الصلاة لعدم وجود من يصلي معهم"([18])، فنستنتج من كلام ابن حجر أنَّ ازدياد عدد الموتى يدل على أنَّ الناس امتنعوا من الصلاة بالمسجد الحرام خشية انتقال العدوى.
المطلب الثاني: تعطيل الجمعة والجماعات بأسباب أخرى
لم تكن الأوبئة والأمراض السببين اللذين لم يتمكن الناس من إقامة الجمعة والجماعة فقط، بل إنَّ الأحداث والفتن الأخرى كانت سبباً لعدم إقامة الجمعة والجماعات.
فقد ذكرت المصادر أنَّ الصراع القديم بين السنة والشيعة كان سبباً في عدم إقامة الجمعة في بغداد، فذكروا أنه وقعت فتنةٌ بين السنة والشيعة في بغداد سنة 349هـ، وتعطلت بسببها الجمعة من الغد في جميع المساجد الجامعة في الجانبين سوى مسجد براثا، فإن الصلاة تمت فيه([19]).
وكانت المشاكل الموجودة بين المسيحيين والمسلمين في سنة 403هـ سبباً آخر لتعطيل الجمعة والجماعات في بغداد، ففي "شوال من سنة 403هـ توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارًا، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم، فانهزموا حتى لجؤوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وتتبعوا النصارى في البلد، وانتشرت الفتنة ببغداد، وعُطلت الجُمُع في بعض الأيام"([20]).
بل إنَّ تعطيل الجماعات وقع أحياناً جراء فتنة التعصب المذهبـي بين المسلمين أنفسهم، فابن كثير ذكر أيضاً أنه في سنة 447هـ وقعت في بغداد فتنةٌ وصراعٌ بين الأشاعرة والحنابلة، فغلب الحنابلة على الأشاعرة، بحيث إنَّه لم يكن لأحدٍ من الأشاعرة أنْ يشهد الجُمُعة ولا الجماعات([21]).
وفي أواخر الحرب العالمية الأولى تعطّلت الصلوات في المسجد النبويّ الشريف، حيث تذكر المصادر التأريخية أنَّه عندما اشتدّ الحصار على المدينة المنورة واتخذ فخري باشا من المسجد النبوي الشريف ثكنة للجنود والأسلحة، واتخذ من منائر المسجد النبوي الشريف أبراجاً للمراقبة، تعطلت الصلوات ولم يرفع الأذان من المنائر لفترة من الزمن([22]).
وفي خاتمة هذا السرد التاريخيّ الموجز، يتّضح لنا أنّ ما يجري علينا اليوم من إيقاف للجُمَع والجماعات -خشية انتشار وباء كورونا- ليس استثناءً تاريخيًّا غير مسبوق، وأنّه جرت نظائره في تاريخ العالم الإسلامي لأسباب كثيرة، بعضُها يُشبه ما نحن فيه من دواع صحية، وبعضُها أقلّ منه ضرورةً وقهرًا، وبعضُها أعظمُ منه خطراً بكثير، ولسنا بصدد الموازنة بين ما نحن فيه من البلاء، وبين ما وقع من الأوبئة في العصور السابقة، فسنجد أنَّ ما نحن فيه لا يساوي شيئاً بالنسبة للكثير من الحوادث والأوبئة التي حصلت قبلنا، وثم إن هذه الغُمّة -وإن طالت- لا بدّ لها وأنْ تنتهي كما انتهت من قبل، نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للتوبة الصادقة من كل المعاصي والذنوب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المبحث الثاني
حكم تعطيل الجمعة والجماعات خوفاً من انتشار العدوى
توطئة:
فيروسات كورونا هي فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان والإنسان، ومن المعروف أنَّ عدداً منها تستهدف الجهاز التنفسي لدى الإنسان، وتتراوح حدَّتها من نزلات البرد الشائعة إلى أمراض أشدُّ فتكاً مثل: متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (السارس)، أما المُكتشف أخيراً والذي تمت تسميته بـ(covid 19) فلم يكن للإنسان العلم بوجوده إلا عند ظهوره في مدينة (ووهان) الصينية، في كانون الأول - ديسمبر 2019، وهذا المرض ينتقل من الشخص المصاب للآخرين عن طريق الرذاذ المتطاير من الأنف أو الفم عند العطاس أو السعال أو حتى التحدث عند اقتراب المسافة بين الأشخاص أو ملامسة الأسطح التي وقع عليها الرذاذ، ونظراً للخطورة البالغة لهذا الفايروس على حياة الإنسان توجب على كل شخص الوقاية منه والابتعاد عن مصادره بالطرق التي بيّنها المختصون في هذا المجال، وذلك حماية لنفسه وللمحيطين به سواء في البيت أو العمل([23]).
ونظراً لسرعة انتشار هذا الفايروس؛ فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية على لسان مديرها العام (تيدروس أدهانوم غيبريسوس) ونهاية كانون الثاني 2020 حالة الطوارئ على نطاق دولي لمواجهة تفشي الفيروس الذي أثار حالة الرعب في العالم، كما أعلن بعد ذلك في 11 آذار 2020م أنَّ المنظمة التابعة للأمم المتحدة اعتبرت "فيروس كورونا المستجدّ المسبّب لمرض "كوفيد-19" والذي يتفشّى في مختلف أرجاء المعمورة وباء عالمياً، مؤكداً على أنَّه لم نشهد من قبل جائحة يسببها فيروس من فيروسات كورونا، وهذه أول جائحة يسببها هذا الفيروس"([24]).
على إثر ذلك اتخذت معظم الدول التدابير الوقائية الاحترازية للحدَّ من انتشار الفايروس، كما اتخذت المؤسسات الإسلامية من وزارات وهيئات ومجامع الإفتاء تدابير تتعلق بممارسة الشعائر الدينية الإسلامية، وخرجت بقرارات وفتاوى تحث المصلين على عدم الذهاب إلى المساجد لصلاة الجماعة، وأخيراً عطلت صلاة الجمعة وكافة التجمعات الأخرى في المساجد والجوامع.
المطلب الأول: حكم صلاة الجماعة
حريٌ بنا أن نقف وقفة سريعة لبيان حكم صلاة الجماعة، وذلك لأنَّ أغلبية الفتاوى المتعلقة بالمسألة ذكرت الجمعة والجماعة معاً، وذلك لتلازمهما، إلا أنَّه من المعلوم أن حكمهما مختلفٌ من الناحية التكليفية، لذا يستوجب علينا التفريق بينهما.
صلاة الجماعة سنةٌ مؤكدة([25])، ويرى بعض الفقهاء أنها فرضُ عينٍ يأثم تاركها، وإن صحّت صلاته لوحده([26])، وبعضهم يرى أنها فرضُ كفاية يأثم كل أفراد المجتمع إذا تركوها([27]).
ولا شكّ فإنَّ الثواب عليها عظيم جدًّا، فقد ثبت عن النبـي ﷺ فضلها، حيث قال: "تَفْضُلُ صَلاَةٌ فِي الْجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"([28])، وفي حديث أبن عمر بسبعٍ وعشرين درجة([29])، فلا يتهاون فيها إلا منْ حرَّم نفسه الأجر والثواب، أما إذا كان الإنسان معذوراً فلا بأس من أداء صلاته منفرداً، وقد ذكر الفقهاء أعذار ترك الجماعة، فليراجعها من أراد.
ومعلوم أنَّ الجماعة تصحّ في غير المسجد، لكن أداءها في المسجد أفضل([30])، ويرجع فضلها إلى الحِكم التي شرعت من أجلها، وذلك من إظهار العبودية الجماعية لله تعالى، والتوادد والتحابب والتعارف والتواصل بين المسلمين، وتعويدهم على اجتماع قلوبهم على الخير والألفة، وإزالة الغلِّ والغش، والابتعاد عن التفرق، وتحقيق شعورهم بالمساواة، وتحطيم الفوارق الاجتماعية والتعصب للجنس واللون والقبيلة والبلد، وتفقُد بعضهم أحوال بعض، وفيها أيضاً إظهار عزة المسلمين وقوتهم واتحادهم وترابطهم، بالإضافة إلى غيظ المنافقين، وغير ذلك من الحِكم العظيمة التي شرع الله سبحانه وتعالى من أجلها صلاة الجماعة، فمن لم يتيسر له الذهاب إلى المسجد جاز له أنْ يصلي الجماعة في بيته أو في أي مكان آخر.
المطلب الثاني: آراء المعاصرين حول حكم تعطيل الجمعة خوفاً من العدوى
مناط مسألتنا بالدرجة الأولى هي صلاة الجمعة لكون حكمها فرض عينٍ، مع أنَّ الفتاوى الصادرة من المعاصرين حول هذه المسألة ذكرت الجمعة والجماعات معاً وذلك لتلازمهما، فبعد البحث والتحري والتقصي في آراء المعاصرين يتضح لنا أنَّه كان لهم أربعة آراءٍ في المسألة:
الرأي الأول: الـقـولُ بجـواز إيقاف الجمع والجماعـات في المساجد في الدول أو المدن التي ينتشر فيها الوباء، مـع الإبقـاء علـى رفـع الأذان شعيرة الإسـلام، وهـذا ما أفـتى بـه جمـهـور الـفقهاء المعاصـرين، وكـبـار هيئات الـفـتوى المحلية والعالمية مثل:
هيئة كـبـار العلماء بالأزهــر الشريف([31])، وهيئة كـبـار العلمـاء بالمملكة العربية السعودية([32])، ودار الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية ([33])، ودار الـفـتوى فـي الجمهورية اللبنانية([34])، والمجمـع الفقهـي العـراقـي لكبار العلماء للدعـوة والإفـتاء([35])، والمجـلس الأوربـي للإفـتاء والبحوث([36])، والمجلس الإفتائي العراقي الأعلى في ديـوان الوقـف السني العـراقي([37])، والهيئة الـعـامة للأوقـاف الليبية([38])، ووزارة الشؤون الدينية في ماليزيا([39])، والاتحاد العالمـي لعلماء المسلمين([40])، والمجلس الـعلمي الأعلى بالمملكة المغربية ([41])، ولجنة الفتوى فـي جمهورية الجـزائـر([42])، وهيئة الـفتوى بـدولـة الكـويت([43])، ومجلس الإفـتـاء الشرعــي بـدولـة الإمـارات العربية ([44])، والمجلس الأعلى للإفـتـاء فـي إقليم كـوردستان([45])، وكــذلك مـجمع فـقهـاء الـشـريعة فـي أمريكا فـي فتواهم الأخيرة([46])، والمرجع الديني السيد علي السيستاني الحسيني([47])، هذا بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الدينية والأكاديمية.
وقد استند أصحاب هذا القول في جواز تعطيل الجمع والجماعات في المساجد، وأنْ يُصلي الناس في بيوتهم ولهم أجرها، وأنْ تُصلى الجمعة ظهراً أربع ركعات إلى عدة أدلة، من أهمها:
1. ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أنَّ النبـي ﷺ قال: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحّ"([48]).
وجه الدلالة: أنَّ النبـي ﷺ نهى المريض عن الاختلاط بالأصحاء خشية انتشار العدوى وانتقاله، وقد يذهب رجلٌ إلى المسجد ولا يعلم أنَّه حاملٌ للفايروس فينقله إلى غيره، وقد يتسبب بعدواه العشرات من الأصحاء، وهكذا.
2. أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم، فلما جاء بسَرغ([49]) بلغه أنَّ الوباء وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه"([50])، فرجع عمر من سرغ.
وجه الدلالة: أنَّ الطاعون أصبح وباءً في الشام، فلما أراد عمر بن الخطاب الدخول إلى الشام، أُسمع هذا الحديث الذي يدلُّ أنَّه لا يجوز له أن يدخل إلى المكان الذي حصل فيه الوباء، ولا يجوز لأحدٍ أن يخرج من الأرض الموبوءة كي لا ينقل العدوى إلى غيره، عدا من أراد الخروج من أجل العلاج، فيخرج بالإشراف التام من قبل أهل الاختصاص، فإذن هذا هو الذي يُطلق عليه بالحجر الصحي والالتزام في البيوت وعدم الخروج منها لمسجدٍ ونحوه.
3. ما رواه البخاري وأحمد أنَّ رسول الله ﷺ قال: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد"([51]).
وجه الدلالة: يجب الابتعاد عن كل إنسانٍ مصابٍ بمرضٍ معدٍ، ووباء كورونا من أشدِّ الأوبئة المعدية على ما ذكره أهل الاختصاص، لذا يجب الابتعاد عن كل ما من شأنه أن ينقل المرض، كالتجمعات واللقاءات، ومنها الحضور للمسجد لأداء الجمعة والجماعات.
4. الاستناد إلى عموم فقه الأعذار، حيث إنَّ الفقهاء قد نصّوا على أنَه يجوز ترك الجماعات تفاديًا للمشقة الحاصلة بسبب المطر أو المرض أو الخوف وغيرهما([52])، ومعلومٌ أنَّ خطرهما أقلّ بكثير من خطر انتشار عدوى الكورونا، فلا شك أنَّ خطر الفيروس أعظم من مشقَّة الذهاب للصلاة مع المطر أو المرض أو الخوف.
وقد نقل الفقهاء أنَّ الخوف يُعدُّ عذراً مقبولاً لترك الجمعة والجماعات، فإذا خاف المسلم من هلاك نفسه أو إتلاف عضو من أعضائه، فيحقُ له عدم الذهاب إلى المسجد، وصرَّحوا بأنَّ وجوب الجمعة مشروطٌ بما إذا لم يكن على الإنسان ضررٌ في نفسه أو ماله([53])، وهذا ينطبق تماماً على الخوف من المرض المعدي وبالأخص فايروس كورونا.
ورُوي عن النبـي ﷺ أنَّه قال: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض؛ لم تقبل منه الصلاة التي صلى"([54])، إلا أنَّ الخوف المراد من الحديث يجب أن يكون بغالب الظن، ومرض كورونا خوفه متحققٌ، وفيه غلبة الظنِّ على رأي أهل الطب ونحوهم.
5. القياسُ على وجوب اعتزال المساجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً، فيكون من باب القياس، وترك الجماعات لما هو أخطر من باب أولى، وذلك لكون المتوقع القريب كالواقع([55]).
6. الاعتماد على قواعد مقاصد الشريعة التي تؤكد ضرورة حفظ النفس من الموت أو الهلاك، وإقامة الجماعة في المسجد من الضروريات التكميلية للدين، فيقدم ضرورة الحفاظ على النفس على الضرورة التكميلية للدين، وذلك لأنَّ صحة الأبدان من أعظم مقاصد الشريعة([56])، وهذا بالإضافة إلى الاستناد إلى القواعد الفقهية التي تؤكد على إزالة الضرر([57])، وإلى عموم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى التيسير ورفع الحرج([58]).
الرأي الثاني: لا يجوز تعطيل المساجد بحجة انتشار الوباء، ووجوب استمرار إقامة الجمع والجماعات، ومنعُ المصابين من المرض أو الذين يخشون على أنفسهم ولو بالمظنة من أداء الجمعة والجماعة في المساجد، والحفاظ على أداء الجمعة والجماعة في المساجد ولو بالعدد القليل.
ولم أقف علـى أيّ مـن المؤسسات الدينية الـرسمية فـي العالم ذهب إلـى هـذا الـرأي، ولـكـن عـلـى نطاق الشخصيات الدينية والأكـاديمية، قـال بـهـذا الــرأي كــــلٌّ مـــن الدكتـور حـاكـم المطيري فــي دولـــة الــــكويت([59])، والشـيخ محمد سـالـم الـددو فـي مـوريتانـيـا([60])، والشيخ الصادق بن عبدالرحمن الغرياني في ليبيا([61])، والشيخ الدكتور سمير مراد الشوابكة في الأردن([62])، والشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقاً([63])، والشيخ أحمد علم الهدى إمام جمعة مدينة مشهد إيران([64]).
واستند أصحاب هذا الرأي إلى عموم النصوص التي تدعو إلى إقامة الجمع والجماعات، وأنَّ النصوص التي تبيح التخلف عن الجماعات إنما هي لأصحاب الأعذار، أو من يخشون على أنفسهم فقط، أما الأصحاء فالواجب في حقهم إقامة الجمع والجماعات، ومع خشية انتشار المرض تُقام الجمع والجماعات بالحد الأدنى، لأنَّ إغلاق المساجد ومنع المصلين منها في أوقات الصلوات محرمٌ بالنص والإجماع لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة: 114]، وأنَّ المساجد لله فليس للدول عليها ولاية منع وإغلاق، بل ولاية رعاية وإدارة.
الرأي الثالث: يُرخَّص بترك صلاة الجمعة والجماعة في المساجد لمن أراد أسوة بترك بقية التجمعات في المدن أو الدول التي ينتشر فيها الوباء، ويمكن تأدية الجُمعة والجماعة في مجموعات صغيرة في البيوت ونحوها عند أمن المرض والأخذ بالاحتياطات والإجراءات اللازمة من التعقيم وتقليل الخلطة، وهذا ما أفتى به المجلس الإسلامي السوري([65]).
واستند أصحاب هذا الرأي إلى قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، (والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة) في الرخصة بترك الجمعة والجماعات في المساجد حفاظاً على النفس، وكذلك استدلوا على قاعدة (الضرورات تقدر بقدرها) في أداء الجمعة والجماعة في مجموعات صغيرة في البيوت.
الرأي الرابع: من الممكن عدم التعليق المطلق للجمعة، وذلك بأنْ يقتصر حضورها في كل مسجدٍ من المساجد على الخطيب والمؤذن والعاملين في المسجد، وذلك بعد الأخذ بكل الاحتياطات الصحية، وهذا ما قال به الدكتور هاشم جميل عبدالله([66])، والشيخ محمد الحسـن الددو([67]).
المطلب الثالث: المناقشة والترجيح:
ما استدل به أصحاب الرأي الأول لا يخلو من اعتراضات، حيث إنَّهم استندوا إلى:
1- عموم فقه الأعذار، بناء على أنَّ الفقهاء قد نصّوا على أنَه يجوز ترك الجماعات تفاديًا للمشقة الحاصلة بسبب المطر أو المرض وغيرهما، أو وجوب اعتزال المساجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً.
واعترض عليهم: بأنَّ الفقهاء ذكروا أعذاراً لمنع حضور الجمعة أو الجماعات، فمرادُ الفقهاء أصحاب العذر وليس الأصحاء، فالرخصة بالتخلف عن الجماعة وعدم حضور الجمعة للمريض أو الخائف من المرض لا لعموم الناس، فإنَّ أصحاب القول الأول قاموا بحمل العموم على الخصوص.
ويُردُّ على ذلك: أنَّ بعض الفقهاء نصّوا على أنَّ صلاة الجمعة والجماعات تسقط على المريض مرضاً معدياً إذا لم يجد المرضى موضعًا يتميزون فيه عن الناس، وذلك لتضرُّر الناس بهم، وأما لو وجدوا وجبت عليهم بشرط عدم المخالطة([68])، ولا يُمكن تميز مرضى كورونا، لأنَّ مقبض باب المسجد إنْ أمسكه شخصٌ حامل للفايروس فإنه ينقل العدوى لشخصٍ سليمٍ سيمسك بالمقبض ذاته بعده، وإذا عطس أحدهم داخل المسجد من يضمن عدم انتقال الفايروس لعدة أمتار، وإذا صافح أحد المصلين حامل الفايروس بعد الصلاة أو عند الخروج، وماذا عن انتقال الفيروس عبر السجاد، حيث النفس عند السجود، وغير ممكن أنَّ كل واحد سيخصص لنفسه مكاناً ثابتاً؟! ولو فرضنا أتى كلُ واحدٍ بسجادته مَنْ يضمن أنْ لا ينتقل الفايروس إلى سجاد المسجد أو إلى البيوت، ومن ثم إلى المجتمع؟ فالغاية من وقف الجمعة والجماعة هو الوقاية من العدوى، وقد أرجع النبـي ﷺ رجلاً جاء يبايعه لما علم أنَّه مصابٌ بمرضٍ معدٍ، فقد جاء في صحيح مسلم: كانَ في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذومٌ، فأرسلَ إليهِ النَّبـيُّ صلى الله عليه وسلم: "ارجِع فقد بايعناكَ"([69])، فالنبـي ﷺ لما علم أنَّ الرجل مصابٌ بمرضٍ مُعدٍ منعه من دخول المسجد والقدوم عليه، ومنعه من دخول المدينة كي لا يختلط مع الناس حماية لها من الوباء، ولم يقل له صلى الله عليه وسلم: قف بعيداً عني!!
2- واستدلوا بأنَّ حفظ النفس من الضروريات، وتتمثل في كل ما يحفظ النفس من الهلاك أو ما يؤول به إلى الهلاك المتحقق، لذا يستوجب الأمر على ولاة أمور المسلمين شرعاً وعقلاً أنْ يقوموا بحفظ أرواح الناس بإحيائها وتنميتها ووقايتهم من هذا الوباء الذي بات يُهدد حياتهم ويعطل مصالحهم، واحتواء هذا الفايروس لا يتم إلا بالعزل الطوعي أو بترك مسافة واسعة بين الأفراد، فإنْ لم تتم الاستجابة للعزل الطوعي فإن انتشار الفيروس سيقود إلى كارثة إنسانية كما حدث في بعض الدول.
واعترض على هذا الاستدلال: بأنَّه استدلالٌ مبالغٌ فيه، لأنَّ حفظ النفس من الضروريات التي تأتي بعد مرتبة حفظ الدين، وقدَّم معظم العلماء حفظ الدِّينَ على النفس، وجعلوه في الرتبة الأولى من الضروريات، لأن الدِّين هو الأساس الذي تقوم عليه باقي الضَّروريات([70]).
ورُدَّ على ذلك: بأنَّا لسنا بصدد تقديم حفظ الدين على حفظ النفس، فالأمر هنا بين مقصد الحفاظ على النفس وبين الضرورة التكميلية للدين، وليس مع حفظ الدين مباشرة، فالوقاية من العدوى وتؤكد على ضرورة حفظ النفس من الموت أو الهلاك، وإقامة الجماعة في المسجد من الضروريات التكميلية للدين، فيُقدَّمُ ضرورة الحفاظ على النفس على الضرورة التكميلية للدين([71]).
3- واعترض على الاستدلال بقواعد الضرر بأنَّ حمل المسألة عليها متعذرٌ، وذلك لأنَّ الخاص لا يأخذ حكم العام، فلا يجوز إثبات الحكم للصحيح وكأنَّه مصابٌ بحجة دفع الضرر، لأنَّ قاعدة الدفع يصحّ تطبيقها على من جزم أنَّه محل للإصابة بالوباء أو الضرر، أما غير ذلك فلا، وإلا كان ضرباً من التعسف في إسقاط الأحكام على غير محلها.
ورُدَّ على ذلك: بأنّ إزالة الضرر من إحدى القواعد الفقهية الكبرى، ولا يمكن تحقق إزالة ضرر هذا الوباء إلا بمنع التجمعات؛ خوفاً من انتشار الوباء كما صرّح به أهل الاختصاص، حيث إنَّ منظمة الصحة العالمية أشارت إلى عدم القدرة على تشخيص حامل الفايروس في مراحله الأولية، فقد يكون الشخص حاملاً للفايروس، ولا تظهر عليه الأعراض إلا بعد مضي أسبوعين أو أكثر، وفي هذه المرحلة سيكون هذا الشخص الذي يذهب إلى الجامع لأداء صلاة الجماعة أو الجمعة ناشراً للفايروس دون علمه([72])، فكيف يمكننا إزالة الضرر.
واعترض على ما استدل به أصحاب القول الثاني من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ [البقرة: 114]، بأنَّه استدلالٌ في غير محله، لأنَّ هناك فرقاً بين (إغلاق المساجد) و(تعليق أو تعطيل صلاة الجمعة والجماعات)، فالكلُ متفق على أنَّ إغلاق المساجد بشكلٍ دائمٍ لا يجوز، فالمساجد هي بيوت الله التي تهوي إليها قلوب المؤمنين، وهي المكان الأطهر على وجه البسيطة الذي ترتاده الملائكة، ويحسّ فيه المؤمن بالسكينة والطمأنينة، وهي البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُه، ولا أعتقد أنَّ هناك مؤمناً واحداً موحِّداً يرضى أنْ يكون ممن يمنع مساجدَ الله أن يُذكر فيها اسمه، والقول بتعليق أو تعطيل صلاة الجمعة والجماعات إنّما هو إجراءٌ مؤقتٌ لغرض الوقاية من العدوى وعدم انتشاره بشكلٍ واسع بين أفراد المجتمع، ويؤكد ابن عثيمين على ذلك في تعليقه على صحيح البخاري في قوله: "باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء" أنَّ المؤلف رحمه الله أراد أنْ يُبين أنَّ إغلاق المساجد والكعبة للحاجة لا بأس به، ولا يُقال: إنَّ هذا مِنْ منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه، لأنَّ هذا لمصلحةٍ أو لحاجةٍ أو لضرورةٍ أحياناً، فلا حرج في ذلك([73]).
وأما قولهم: إنَّ التخلف لأصحاب الأعذار فقط، ووجوب الجمعة والجماعة على الأصحاء فمردودٌ بسؤال أهل الاختصاص الذين أثبتوا باليقين أنَّ الشخص المصاب قد يكون حاملاً للفايروس وهو لا يعلم، لعدم ظهور آثار الإصابة إلا بعد أسبوع أو أكثر.
وأما قولهم بأنَّه ليس للدولة ولاية منعٍ وإغلاق، فمردودٌ أيضاً بما ذكرناه من الأدلة لأصحاب الرأي الأول، وهو منع النبـي ﷺ من اختلاط المجذوم بغيره، وعدم جواز اختلاط المريض بالصحيح.
وأما ما قاله أصحاب الرأي الثالث من تمكن إقامة الجمعة في البيوت ونحوها، فاعترض عليه بأنَّه مخالفٌ لكثير من التقريرات التي قرّرها السادة الفقهاء في شروط صحة صلاة الجمعة:
1. فقد ذكر الحنفية أنَّ من شروطها إذن الإمام([74]).
2. ذكر المالكية أنَّ من شروطها: إقامة وجامعٌ وجمعةٌ وإمام([75]).
3. ذكر الشافعية أنَّ من شروطها ألا يسبقها جمعةٌ، ولا يقارنها أخرى([76])، كما صرَّح العزّ بن عبدالسلام أنَّ الجمعة لا تصحُ في الخيام والأخبية([77]).
4. ذكر الحنابلة والشافعية أنَّ من شروطها أن يكون العدد أربعين([78]).
5. أنَّ أهلَ الأعذار مِن السُّجناء والمرضى ونحوهم لا تُشرّع لهم إقامة الجمعة في أمكنتهم مع توفّر شروط وجوب إقامة الجمعة فيهم، وهذا ما عليه جمهورُ الفقهاء([79])، وأنَّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لبثَ في سجنه ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: أكثر مِن ذلك، ولم يؤثر أنَّه صلَّى الجمعة بِمَن معه في السّجن، وكذلك الشيخُ ابن تيمية سُجِنَ سبع سنين متفرِّقة، ولم يُنقلْ أنَّه صلَّى جمعة بالسّجناء، فكيف بنا أنْ نقول من إقامتها في البيوت.
فبناءً على ما بيناه؛ يتضح لنا أنَّ إقامة صلاة الجمعة في البيوت ونحوها غير صحيح نظراً للشروط التي اشترطها الفقهاء في صحة صلاة الجمعة.
وبالنسبة لأصحاب الرأي الرابع؛ فإنَّ هذا القول من الفقهاء قد جاء بناءً على عدم اشتراط العدد الكبير لحضور صلاة الجمعة عند أغلب الفقهاء، وهو في نظري رأي وجيه، ولكن يشترط فيه إذن الإمام أو من يقوم مقامه كإدارة الأوقاف وما شابهها، على أنْ لا يتسبب ذلك في إثارة اللغط.
وما ذهب إليه الدكتور هاشم جميل بقوله: من الممكن عدم التعليق المطلق للجمعة -أي بعد الإذن بها- ثم قال: ويجوز لكل من لم يبعد عن المسجد بمسافة لا تزيد على 150 متراً أنْ يصلي بصلاتهم سواء كان في بيته أو أي مكانٍ آخر إذا كان يسمع صوت الإمام وتكبيراته في الصلاة ولو بواسطة مكبر الصوت([80])، حتى وإن كان بيتهُ أمام المسجد فصلاته صحيحة عند وجود العذر عند المالكية، وفي قولٍ عند الشافعية، وقول في مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية([81]).
بعد مناقشة أدلة كل رأي، والأخذ بنظر الاعتبار خطورة الوباء وخفاء أعراضه وسرعة انتشاره؛ يتضح لنا رجحان ما ذهب إليه جمهور المعاصرين -أصحاب الرأي الأول- من جواز تعطيل المساجد في الجمع والجماعات مع الإبقاء على رفع الأذان شعيرة الإسلام في الأماكن التي تحقق فيها خوف انتشار الوباء، حفاظاً على النفس وعملاً بالتيسير ودفعاً للضرر، وإذا أمكن في منطقة من المناطق إقامة الخطبة، وذلك باقتصار حضورها على الخطيب والمؤذن والعاملين في المسجد، وذلك بعد الأخذ بكل الاحتياطات الصحية كان ذلك هو الأفضل لئلا تعطل الخطبة بالكلية، وإنْ لم يتمكنوا فلا حرج في ذلك، ومتى زال الوباء أو المرض المعدي يجب الشروع في فتح أبواب المساجد والجوامع عملاً بقاعدة (إذا زال المانع عاد الممنوع)([82]). والله أعلم.
الخاتمة
بعد هذه الجولة السريعة في ثنايا هذا البحث، اتضح للباحث ما يلي:
1- مع شحّ المصادر التي تشير إلى تفاصيل كيفية التعطيل، إلا أنَّ كثرة الأوبئة والطواعين التي نزلت بالبشرية على مر العصور الماضية، أدت إلى تعطيل الجمعة والجماعات.
2- إنَّ القول بجواز تعطيل المساجد في الجمع والجماعات مع الإبقاء على رفع الأذان شعيرة الإسلام في الأماكن التي تحقق فيها خوف انتشار الوباء هو الراجح والصواب، وذلك حفاظاً على النفس وعملاً بالتيسير ودفعاً للضرر، وهو ما ذهب إليه أكثرية المجامع الفقهية والمؤسسات الإفتائية في العالم الإسلامي.
3- إذا أمكن في منطقة من المناطق إقامة الخطبة، وذلك باقتصار حضورها على الخطيب والمؤذن والعاملين في المسجد بعد الأخذ بكل الاحتياطات الصحية كان ذلك هو الأفضل لئلا تعطل الخطبة بالكلية، وإنْ لم يتمكنوا فلا حرج في ذلك.
4- فتاوى جواز تعطيل الجمعة والجماعات خوفاً من انتشار الوباء تجلى فيها مقصد الحفاظ على النفس الذي هو المقصد الأسنى من مقاصد الشريعة الإسلامية.
كما يوصي الباحث بما يلي:
1. العناية بالنوازل الفقهية في المجالات الطبية ونحوها من المجالات المعاصرة، وتبصير الناس بحكم الشرع فيها.
2. العناية بنشر الثقافة الصحية وعقد الدورات الطبية لعلماء الدين وأهل الفتوى لضرورة اطلاعهم على أنواع الفايروسات وشدة خطورتها وانتقالها وانتشارها.
3. ضرورة التواصل المستمر بين المؤسسات الإفتائية والمجالات الطبية لإصدار الفتاوى الصحيحة وبالأخص في حالات انتشار الوباء.
4.ضرورة تعمق أهل الاختصاص في أهمية مقاصد الشريعة الإسلامية، وتطبيقها في الواقع الإفتائي.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الثالث، 1442هـ/ 2020م.
الهوامش
[1] عِمَواس: هي قرية فلسطينية على بعد ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس. ينظر: ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (ت 626هـ)، معجم البلدان، دار صادر- بيروت، الطبعة الثانية، 1995م:ج4، ص157.