أسلوب الحوار في القرآن الكريم (خصائصه الإعجازية وأسراره النفسية)(*)
الدكتور عبد الله الجيوسي/ كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة اليرموك.
ملخص
تعرض هذه الدراسة موضوع الحوار بوصفه أحد أهم الوسائل التي تملكها الأمة كما يملكها الفرد على حد سواء للتواصل مع الآخرين، فالحوار نمط حياة وأسلوب تفكير، وقد أولى القرآن الكريم عناية كبيرة بالحوار، فهو الأسلوب الغالب في قصص الأمم السابقة وهو الأداة الأولى للأنبياء وأتباعهم في نشر الدعوة، وهو الوسيلة الأولى في عرض مسائل العقيدة، وقد لوحظ أن ساحة الحوار تكاد ترتبط بالشخصية الإنسانية ولهذا كانت شاملة، كما لوحظ أن موضوعاته تكاد تنحصر في موضوع الرسالة ومدى قرب الناس وبعدهم عنها، ولهذا كانت هذه الدراسة تركز على خصائص الحوار الإعجازية وأسراره النفسية، قدمت الدراسة بعض النماذج الحوارية محاولة إلقاء الضوء على الجوانب النفسية، وتوصلت إلى نتائج عدة، قد يكون من أبرزها دور الحوار في التأثير على النفس الإنسانية وإثارة مشاعرها وأحاسيسها.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فعلى الرغم من كثرة الكتابات التي تحدثت عن الحوار بصفة عامة والتي ركزت في حديثها على نصوص القرآن بصفة خاصة، فإن المتأمل المتصفح لهذه الكتابات لا يجد بينها ما يشير إلى تكرار أو غناء بعضها عن بعض، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اتساع دائرة الموضوع وتشابك العلاقات التي تدخل في إطاره، وليس هذا غريبا... فالحوار أسلوب حياة يستخدمه المرء في حياته للتعبير عن ذاته وتوضيح أفكاره.
وقبل الحديث عن الحوار أشير إلى أن النفس تميل في العادة إلى البحث عن الشيء والتعرف عليه عندما تحتاج إليه، والزمان الذي نعيشه تؤكد فيه الحقائق بكل أبعادها على أن البشرية تفتقد هذا النمط من التفكير وتحتاج إلى دروس في بيان ماهية الحوار، كما تحتاج إلى وسائل تعين على تطبيقه أو تحويله من مادة مكتوبة إلى حياة عملية يزاولها الناس.
ولعل المتصفح لعناوين الكتب والأبحاث بل وحتى المؤتمرات والندوات التي عقدت في السنوات العشر الأخيرة يخرج بنتيجة واضحة وهي أن الحوار هو بؤرة الحديث والكتابة في هذا العصر، ولسنا في حاجة إلى ذكر أو تعداد ما يدخل تحت هذا الإطار وتكفينا الإشارة إلى ذلك لنخلص إلى الحقيقتين الآتيتين:
الأولى: انعدام روح الحوار من حياتنا على المستويات المختلفة سواء منها الداخلية أم الخارجية، وعلى المستويات الفردية والجماعية.. ويؤكد هذا حقائق الواقع والنتائج التي نشاهدها، ولعلي اكتفي للتدليل على ذلك بالإشارة إلى كثرة القضايا التي تصل إلى المحاكم والتي تغصّ بها في جميع مستوياتها – هذا على المستوى الفردي- أما على المستوى الأسري.. فحدّث ولا حرج فنِسَبُ الطلاق والنزاع والشقاق تزداد يوماً بعد يوم.. وعلى مستوى العشيرة والقبيلة نجد أن الفرقة والهوة تزداد يوماً بعد يوم.. وقلّ أن نجد قبيلة تتمتع بروح الوحدة والتعاون والترابط على المستويات كلها..
أما إذا انتقلنا من الحديث على المستوى الفردي إلى مستوى الدول فأول ما يجيب عن هذا الأمر.. كثرة الحروب الدائرة بين الدول المجاورة.. فما من زمان مرّ على البشرية تكثر فيه الحروب والمنازعات كالتي نشاهدها في زماننا هذا.. على الرغم من مناداة أتباع النظام العالمي الجديد بالحرية والديموقراطية.. وغير ذلك مع كل هذا نجد أن الذين يحملون لواء الحرب والذين يقتلون روح الحوار.. هم الذين ينادون به وهم دعاته..!
والثانية: اتساع دائرة الحوار من جهة وحاجة البشرية إليه من جهة أخرى، فالحوار – كما أشرنا- نمط حياة، وفلسفة تعامل، وطريقة تفاهم.
هذا هو الإطار الذي رغبت أن أضعه بين يدي الحديث عن موضوع الحوار من وجهة نظر قرآنية حيث سيتركز الحديث على خصائصه الإعجازية وأسراره النفسية، ومن أجل أن تكون هذه الدراسة مستوعبة للموضوع من شتى جوانبه فقد قمت بتقسيمها إلى ثلاثة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: مفهوم الحوار وموضوعاته وأنواعه وآدابه، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الحوار.
المطلب الثاني: موضوعات الحوار.
المطلب الثالث: أنواع الحوار.
المطلب الرابع: آداب الحوار.
المبحث الثاني: الخصائص الإعجازية للحوار، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خصائص إعجازية متعلقة بالحملة الحوارية.
المطلب الثاني: خصائص إعجازية متعلقة بموضوعات الحوار.
المطلب الثالث: خصائص إعجازية متعلقة بأسلوب القرآن الحواري.
المبحث الثالث: أسرار الحوار النفسية ودوره في رسم الشخصية، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قيمة الحوار من الناحية النفسية.
المطلب الثاني: الأفكار المطروحة في الحوار وآثارها النفسية.
المطلب الثالث: نماذج حوارية وأسرارها النفسية.
خاتمة البحث.
المبحث الأول
مفهوم الحوار وموضوعاته وأنواعه وآدابه
المطلب الأول: مفهوم الحوار
أصل مادة "حور" يدل على معنى الرجوع، إما إلى الشيء أو عن الشيء، والمحاورة: الرجوع والمراودة في الكلام، أو مراجعة المنطق في المخاطبة([1])، قال الراغب: "الحور: التردد، إما بالذات وإما بالفكر"([2])، والمراجعة في الكلام تكون عادة بين طرفين، وقد وردت المادة في القرآن: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ..)[37: الكهف]، و(وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)[1: المجادلة].
ومن الألفاظ التي تتصل بلفظ الحوار: لفظ الجدل: مأخوذ من الجدال وهو "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة... فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه"([3])، ومن هنا نستطيع التمييز بين الجدل والحوار، إذ الحوار: تقوم المراجعة فيه على اللين واللطف، أما الجدال فالمراجعة في الكلام يصحبها خصومة ونزاع، وقد وردا في سياق واحد، قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[1: المجادلة].
المطلب الثاني: موضوعات الحوار
المتأمل في القرآن الكريم يلحظ أن الحوار هو الأسلوب الذي لا يكاد يغيب عن آياته فهو الوسيلة المعبرة عن آراء الآخرين، حيث يعتبر الحوار أهم الوسائل التي يستخدمها القرآن وأبرزها لنقل أحداث القصص وذكر الحجة والبرهان.
والقرآن بوصفه كتاب البشرية ينقل لنا أفكار الناس على اختلاف مستوياتهم ومراكزهم، والأداة التي تسهم في إبراز هذه الأفكار والوسيلة التي يمتلكها كل إنسان لنقل ما لديه من أفكار هو الحوار، ولهذا كان الحوار هو الطريقة التي تعبّر عن آراء الآخرين، ثم هو الوسيلة التي تنقل للآخرين أهداف الرسالة، والمتأمل يجد أن محور الحوار في القرآن يتمركز حول الرسالة فكأنها العمود الذي تحوم حوله البشرية، وبقدر ما تكون الحاجة للحوار، إذ الطبيعي أن قرب التلاقي بين نقطتين يشير إلى أن الحاجة إلى توضيح الأمور أقل مما لو كانتا متباعدتين.
وكلما ازداد البون بينهما كانت الأمور في حاجة إلى ما يوضح معالم كل منهما، وبالعبارة السابقة نكون قد وقفنا على موضوع الحوار في القرآن الكريم، فالحوار مهما تعددت صوره وأشكاله يتمركز حول فكرة الرسالة ودعوة الناس إليها، فهو حين يحدثنا عن الصالحين يحدثنا عن قربهم من الرسالة ووظيفتهم في بيان حقيقتها، وهو حين يحدثنا عن المفسدين يحدثنا عن بعدهم عنها ويقف بنا على أسباب ذلك البعد.
والقرآن حين يسوق لنا النماذج الحوارية يقف بنا على معالم الرسالة وغاياتها، والمتأمل أكثر يجد أن حضور الحوار في أسلوب القرآن كان يتمشى مع مراحل الدعوة التي مرت بها الرسالة.
فالدعوة أول ما بدئت كانت سرية، وهذا يعني أن فرصة التلاقي بين أصحاب الرسالة وغيرهم قليلة، ولهذا كنا نلمس أن عنصر الحوار في النازل من النصوص في هذه الفترة يكاد يكون معدوماً، حيث القصص الذي كان يتنـزل في هذه الفترة كان في أغلبه سرداً لأحداث القصة، وهو ما نلمسه في سورة الفجر، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)[6-12: الفجر].
فهذا الحديث بصيغة الغائب يلمح إلى غياب عنصر الحوار وبالتالي عنصر التلاحم بين أصحاب الرسالة وأقوامهم.
ثم كان التدرج شيئاً فشيئاً، حتى صرنا نلمس حضور الحوار مع بدء الدعوة الجهرية، فمن أوائل القصص في هذه الفترة على الأرجح قصة أصحاب الجنة في سورة القلم، قال سبحانه: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلَا يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ* أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ* فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ* وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ* قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ* عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ* كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[17-33: القلم]، فلو تأملنا قليلاً فإننا سنلمس ظهور عنصر الحوار في المقطـع المتقـدم يكشف عن تفكيرهم السطحي الواضح من عباراتهم.
والذي نلمسه أن الحوار في القرآن كان لأحداث منتقاة ولم يكن نقلاً لكل ما يجري في الحوار، بل كان يقتصر على ذكر العبارات التي تتصل بموضوع الرسالة.
المطلب الثالث: أنواع الحوار
تختلف تقسيمات الحوار باختلاف الجهة التي يقسم من خلالها، فبالنظر إلى وصف الحوار يمكن تقسيمه إلى محمود ومذموم، وبالنظر إلى طبيعة المحاورين يقسم إلى: حوار الجاهل الذي لا يريد الوصول إلى الحقيقة وحوار المتعلم الذي ينشد الحقيقة، ومن حيث طبيعة الحوار السائد، هناك الحوار الهادئ والحوار العنيف، ومن حيث عدد المتحاورين هناك الحوار الفردي والجماعي، وبالنظر إلى الجو المصاحب للحوار هناك الحوار الإيجابي والحوار السلبي، ولكل واحد أنواع وأنماط، ونظرا لأن بعضها يتداخل مع بعض فإني سأعمد إلى التقسيم التالي الذي أظن أنه يتحاشى التكرار:
* الحوار المحمود: وهو الحوار الذي توافرت فيه شروط وآداب الحوار ويلتزم أطرافه بهذه الآداب، ويكون القصد منه التوصل إلى نتائج.
* الحوار المذموم: وهو الحوار الذي لم تتوافر فيه شروط وآداب الحوار، ولم يلتزم أفراده بآداب التحاور، وهذا النوع يضم ألوانا عدة من ألوان الحوارات المذمومة، نذكر منها([4]):
1- حوار الطريق المسدود: وهو الحوار الذي تعلن النتيجة فيه منذ البداية ولا يستمع فيه إلى رأي الطرف الآخر، ومما في القرآن من هذا النوع حوار ابني آدم في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[27: المائدة] فقد أعلنت النتيجة أولا وكانت النهاية كذلك.
2- الحوار الإلغائي (التسفيهي): وهو الحوار الذي يسير به أصحابه إلى حصر الصواب في جهتهم فلا رأي إلا رأيهم، ولعل من ذلك مقولة فرعون لقومه: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[26: غافر]، ولا يكتفي أصحاب هذا اللون بذلك بل يعمدون إلى تسفيه كل وجهة نظر تخالفهم، ومن ذلك مقولة فرعون عن موسى عليه السلام: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ)[52: الزخرف]. فهو على ما قال أبو السعود: "قاله افتراءً عليه وتنقيصه عليه السلام في أعين الناس"([5]).
3- الحوار السلبي التعجيزي: وهو الحوار الذي ينظر فيه إلى سلبيات الطرف الآخر ويعمد فيه إلى إبرازها ولو كانت عيوبا لفظية، وينتهى فيه إلى عدم تحقيق أي فائدة، وهذا النوع من الحوار يترك نوعا من الإحباط لدى أحد أو كلا الطرفين المتحاورين، كما أنه يوصد كل باب قد يوصل إلى نتائج، ولعل من هذا النوع مقولة كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم)[32: الأنفال]، إذ ليس غرضهم الوصول إلى الحق بدليل ما طلبوا وإلا لقالوا إن كان هذا هو الحق فإننا سنتبعه.
4- الحوار السلطوي: وهو الحوار الذي يستخدم فيه المحاور سلطته في تهديد الطرف الآخر، ويظهر فيه إلغاء كيان الطرف الآخر، ولعل من ذلك ما كان من حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه حيث ينطلق والده في حواره مع الابن من الواقع السلطوي مستخدما سلطة الأبوة: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)[46: مريم]، وأما نتائج هذا اللون من ألوان الحوار فهي متمثلة في إلغاء قدرات الطرف الآخر وإرادته، لكن يعلمنا القرآن كيف يتخلص المحاور من مثل هذا اللون من ألوان الحوار: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [47: مريم]، ومنه حوار فرعون مع السحرة حين خروا سجداً: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) وانظر إلى ردهم عليهم: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ)[72: طه].
5- الحوار المبطن: وهو الحوار الذي يستخدم فيه أحد الأطراف المحاورة بعض الألفاظ فيجعل منها أداة للسخرية بالطرف الآخر، ولعل من ذلك مقولة فرعون: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى)[38: القصص]، وقد تكون التورية هي الأداة المستخدمة في هذا اللون بحيث يلمس المستمعون حجم التفاوت بين الطرفين، بقصد إعلام الناس بالحقيقة وإقامة الحجة، ولعل من ذلك مقولة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)[63: الأنبياء]. وهناك أنواع أخرى كثيرة يمكن ذكرها أو الإشارة إليها دون تفاصيل([6]) لأن هذا البحث سيقوم بإيراد أمثلة متنوعة لهذه الحوارات، فمن أنواع الحوار غير الذي تقدم: حوار المناورة أو السطحي الذي يتمسك بظاهر الألفاظ، كما في حوار الذي حاج إبراهيم في ربه، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)[258: البقرة].
أما أنماط الحوار وأشكاله في القرآن فنجدها تارة تدور بين شخصين، كما في حوار موسى مع فرعون، وتارة بين شخص من طرف وأكثر من واحد من طرف آخر كما في حوارات الأنبياء مع أقوامهم، وقد يكون الحوار بين فئتين كما في حوار أهل الجنة وأهل النار، كما نجد في القرآن حوارات متعددة المحاور، كما في حوارات إبراهيم عليه السلام، حواره مع أبيه، وحواره مع قومه وحواره مع الملائكة وحواره مع ابنه، كما نجد في القرآن حوارا يجري بين إنسان من طرف وطائر من طرف آخر، كما في حوار سليمان مع الهدهد، كل هذا يخلص بنا إلى القول بشمولية أشكال الحوار وأنماطه التي اشتمل عليها القرآن الكريم.
المطلب الرابع: آداب الحوار
قد يرد في الذهن تساؤل عن الطريقة التي ينجح بها الحوار، والآلية التي ينبغي أن تتبع والجـو الذي ينبغي أن يصاحب الحوار حتى يكون حوارا هادفا، يصل إلى نتائجه، ولعلي أتمكن من ذكر ذلك على شكل نقاط مع التدليل لذلك من نصوص القرآن إذا دعت الحاجة حتى لا يطول البحث، لكن قد يكون من المناسب أولا أن يشار إلى بعض الآفات التي تحول دون أن يحقق الحوار نتائجه المرجوة منه، فمن ذلك: اتباع الظن والأهواء الشخصية والتقليد، والتعصب للرأي كما في مقولة المشركين:(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)[22: الزخرف].
أما الوسائل التي ينبغي اتخاذها من أجل الوصول إلى النتائج المرجوة من الحوار فيمكن إجمالها في الآتي:
* التجرد من الهوى وحظوظ النفس.
* الإنصات إلى الخصم وحسن الإصغاء إلى حججه.
* الانطلاق من النقاط المتفق عليها في المحاورة
* قصد التوصل إلى النتائج المرجوة من الحوار.
* تجنب إطلاق الأحكام الجاهزة، فانعدام روح الحوار هو الذي أدى إلى خيار القتل في حوار ابني آدم عليه السلام.
* محاولة استثمار كل نقطة من نقاط الحوار للخروج منها إلى التي تلي وبالتالي الخروج من الحوار ببعض الفوائد.
* ترك ساحة الحوار إذا انتقل إلى ساحة الجدال والمراء وأدرك أنه لا يؤدي إلا إلى خصومة، ففي الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ»([7]).
* النظر إلى المقول لا إلى القائل واتباع الحق ولو ظهر على ألسنة الخصم، إذ المطلوب كشف الحقيقة وإزاحة الموانع.
* التمييز بين المسائل الجوهرية والثانوية ومحاولة الانتقال مباشرة إلى الموضوع، وضرورة تحديد موضوع الحوار، فإبراهيم عليه السلام يضع النقاط على الحروف في حواره مع قومه: ( وَحَـآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ...)[80: الأنعام].
* عدم إسقاط الخصم أو النيل من شخصه أو من معتقداته، ولعل في النهي عن سب آلهة الكفار ما يحقق هذا المقصد، قال سبحانه: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم..) [108: الأنعام].
* العمل على إيجاد المناخ الإيجابي والجو الهادئ المناسب لإجراء الحوار.
* وضوح ألفاظ الحوار وتجنب المبهمات، وهذا واضح في حوار الانبياء مع أقوامهم بل هو السمة البارزة في حوارهم، حيث وضوح العبارات وسهولة الألفاظ.
المبحث الثاني
الخصائص الاعجازية للحوار القرآني
الحديث عن جوانب الإعجاز في النصوص الحوارية يلتقي مع الحديث عن جوانب الإعجاز في الجملة القرآنية، فمنها يتشكل الموقف الحواري، كما لا ينفك عن جوانب الإعجاز في القصة القرآنية، وهذا يعني، أن بعض خصائص الإعجاز تظهر في بنية الجملة الحوارية وبعضها في الأسلوب والقالب الذي عرضت فيه، يوضح ذلك الحديث عنه ضمن المطالب الآتية:
المطلب الأول: خصائص الإعجاز المتعلقة في بنية الجملة الحوارية
وهي في مجملها تدخل تحت الإعجاز البياني، ولا يخفى حضور ذلك في أي مقطع حواري مهما كان قصيرا، ولعل الاكتفاء بمثال على كل نوع يكفي لتوضيح مظاهر الإعجاز من ذلك:
أولا: التأكيد: فالمعروف أن علم المعاني هو علم تعرف به أحوال اللفظ العربي الذي يطابق مقتضى الحال([8]) ففي حين نرى بعض الجمل الحوارية تخلو من أدوات التأكيد نجد بعضها الآخر يحوي أكثر من أداة من أدوات التأكيد، وأحيانا نجد بعض الجمل الحوارية تكشف بما حوته من أدوات التأكيد عن أسرار دقيقة.
من ذلك مثلا ما ورد على لسان إخوة يوسف عليه السلام: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فقد قال ابن الأثير: "فإنما جيء باللام هنا لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه، ليبلغوا من أبيهم السماحة بإرساله معهم"([9]).
ومن ذلك أيضاً: ما نجده من أدوات التأكيد في كلام السحرة مع فرعون، كقوله تعالى، على ألسنتهم: (أَئنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)[41: الشعراء]. ومثله ما في رده عليهم: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ)([10])، فهذه المؤكدات تشير إلى فقدان الثقة وانعدامها بين الطرفين([11])، إذ لو كانت بينهم ثقة لما وجدت هذه التأكيدات، وغير ذلك كثير.
ثانيا: التقديم والتأخير: نجد في المواقف الحوارية تقديم كلمة على أخرى لأغراض بيانية وقد وقع ذلك كثيراً في القرآن، نكتفي بالمثالين التاليين:
الأول: ما ورد على لسان سحرة فرعون من قوله تعالى: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم)[115 – 116: الأعراف]. فقد ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم على ما ذكره ابن عاشور: "إظهارا لثقتهم بمقدرتهم وأنهم الغالبون، سواء ابتدأ موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين، ووجه دلالة التخيير على أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادئ لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها، فتكون النفوس أشد تأثرا بها من تأثرها بما يأتي بعدها، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم، فإن لاستضعاف النفس تأثيرا عظيما في استرهابها وإبطال حيلتها...ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله: (ألقوا) استخفاف بأمرهم إذ مكنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم، لأن الله قوى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقع حجة وأقطع معذرة، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغا في إقامة الحجة عليهم"([12]).
الثاني: من ذلك ما ورد خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد) فقد قدم لفظ مثتنى على لفظ فرادى مع أن الترتيب الطبيعي من الأدنى للأعلى كما في قوله: (مثنى وثلاث ورباع) فقد قال أبو حيان في توجيه ذلك: "وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة. قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكـل غريبـة فيزداد بعض القوم من بعضهم علما"([13])
ثالثا: الفصل والوصل: وهو أحد المباحث الجليلة في البلاغة، وقد اكتفي بإيراد المثالين التاليين على أحد مسائله التي تندرج تحت توارد حروف العطف:
الأول: ما جاء من قول موسى عليه السلام للسامري: (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا)[97: طه]. انظر كيف جيء بـ (ثم) لتنقل لنا إحساس موسى عليه السلام النفسي ورغبته في التشفي والتي تبرز من خلال معاودة الفعل مرة بعد مرة- كما يشير إلى ذلك التشديد في لفظة (لَنُحَرِّقَنَّهُ)([14]).
الثاني: مقولة فرعون للسحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام وتوعدهم قائلاً: (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)[124: الأعراف]، فـ (ثم) هذه تصور لنا شدة حنق فرعون، وما تنطوي عليه نفسه من إرادة التشفي والانتقام، وإنه انتقام يجسّد لنا مقدار التعذيب الذي يشعرون به قبل تصليبهم، وغير ذلك كثير من النصوص القرآنية التي تدخل في هذا الإطار مما لا يتسع بسطه هنا([15]).
رابعا: الحذف: فقد وردت جمل حوارية كثيرة وفيها ما فيها من الحذف الذي ظهر تارة في الكلمة وتارة في الجملة، فمن وظائف الحذف مراعاة حال النفس في محنتها وشدتها، إذ النفس مجبولة على اختصار الكلام والحديث عندما تصاب بكرب، إذ من طبعها أنها تعاف طول الكلام في هذه اللحظات، ولا تقوى على بسط الكلام، فكأنّ السياق القرآني في هذه الحالة يحذف من الكلام ما يراعي حال النفس، ومن ذلك: الحذف في المقطع الآتي: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)[84: يوسف]. إذ أصل الكلام: تولى عنهم وانصرف بعيداً وراح يبكي ويشكو إلى ربه.. فالحذف يصور لنا حال يعقوب عليه السلام حيث تفجّعت نفسه على يوسف فحذف أكثر من جملة، وحينما تكون النفس في حالة استئناس يبسط لها الكلام([16]).
ومن أمثلة الحذف في الجمل الحوارية، قوله تعالى: (قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[113: الأعراف].في سورة الأعراف وقوله تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين)[41: الشعراء]. من سورة الشعراء فقد حذفت همزة الاستفهام في سورة الأعراف وذكرت في سورة الشعراء وذلك أنه لما كان المقام مقام إطالة ومبالغة في المحاجة جيء بهمزة الاستفهام لتشترك في الدلالة على قوة الاستفهام والتصريح به([17]).
وأمثلـة الحذف كثيرة لا يسع المقام لبسطها، لكن نشير إلى أن الجملة الحوارية أبرز ما فيها من الحوار ما كان داخلا تحت مبحث إيجاز الحذف.
وهنالك أمور كثيرة تحمل جوانب في الإعجاز من خلال الجملة القرآنية كما في التغاير بين الجملتين الاسمية والفعلية في السياق الواحد، مثل قوله تعالى عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ)[25: الذاريات].
المطلب الثاني: خصائص إعجازية متعلقة بموضوعات الحوار
أولا: الشمولية
فالمواقف الحوارية التي يعرضها القرآن شاملة، يدل على ذلك حضور الحوار في التعبير القرآني بشكل كبير في نصوصه فهي تشكل أكثر من الثلث، كما أن كثرة ورود اللفظ الدال على الحوار وهو لفظ (القول) وما اشتق منه يؤكد هذا الحضور فقد عمدت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لأنظر عدد ورود اللفظ فوجدته ورد أكثر من (1720) مرة مما يعني كثرة المواقف الحوارية التي حدثنا عنها القرآن الكريم([18]).
كما أن وجود نماذج لأشكال الحوار ومستوياته المعروفة جميعها في زماننا دليل واضح على الشمول، ففيه الحوار مع الملائكة، ومع الأنبياء، ومع أتباع الأنبياء ومع مخالفيهم، ومع إبليس، والقرآن يعلمنا أن الحوار يدخل في كل شأن من شؤون حياتنا، ففيه نماذج للحوار الأسري، ونماذج للحوار بين أبناء المجتمع، ونماذج للحوار بين أفراد المجتمع وقيادتهم، ونماذج لحوار الأمة المسلمة مع غيرها من الأمم، وفيه قبل هذا كله حوار الإنسان مع نفسه، وفيه نماذج متنوعة ومناسبة لكل نمط أسري يمكن أن يوجد، فتارة يكون الزوج مؤمنا في حين الزوجة كافرة كما في قصة نوح ولوط -عليهما السلام-، وتارة تكون الزوجة مؤمنة في حين زوجها كافرا كما هو الحال مع امرأة فرعون، وأحيانا يكون الابن مؤمنا و أبوه كافرا كما هو شأن إبراهيم مع أبيه، أو يكون الأب مؤمنا وابنه كافرا كما هو شأن نوح عليه السلام مع ابنه في سورة هود وتارة تكون الأسرة كلها مؤمنة مع اختلاف في نماذج الأسرة، أحيانا ذكور ولا إناث كما في قصة يوسف، وأحيانا إناث ولا ذكور كما في قصة ابنتي العبد الصالح في مدين، وأحيانا يدخل في الحوار (ابن) كما في قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، وأحيانا (بنت) كما في قصة أخت موسى عليه السلام،.. وهكذا.
ففي كل مشهد من المشاهد المتقدم ذكرها نجد أن الحوار هو الوسيلة التي كانت تستخدم للتفاهم بين أفراد الأسرة، فإبراهيم عليه السلام يحاور ابنه: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[102: الصافات]، بهذا الحوار الهادئ، فالابن له حق المشاركة في الحوار.
وإبراهيم عليه السلام يحاور والده بالأسلوب الهادئ (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)[42: مريم]، لكن والده هو الذي ينقل ساحة الحوار إلى الطريق المسدود: (يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، ومع ذلك نجد إبراهيم عليه السلام السلام يحافظ على هدوئه الدعوي: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[47: مريم].
والبنت كذلك لها حق الحوار في البيت، وينبغي أن يسمع لرأيها وهي تبديه بكل صراحة، (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)[26: القصص]، فكل فرد من أفراد الأسرة له حق الحوار.
ويدل على شمولية الحوار كون نصوص القرآن تبقي ساحة الحوار مفتوحة وتؤكد عليه في جميع الظروف والأحوال، فالحوار هو الوسيلة التي تعبّر عن القيم، وانعدامه يعني غياب التفاهم بين الطرفين، ويؤكد اهتمام القرآن بالحوار تنوع النماذج الحوارية التي عرضها.
ثانيا: الواقعية
لو تأملنا في حوارات القرآن التي يقصها الله علينا نجد أن ثبات شخصية المتحاورين يؤكد واقعية الشخصية بحيث يلمس القارئ أن الشخصية تتصرف باختيارها ولا أحد يلقنها الألفاظ التي تنطق بها([19])، فمثلا ثبات شخصية يعقوب عليه السلام يظهر من خلال قوله: (فصبر جميل) عين العبارة التي قالها حين فقد يوسف عليه السلام يرددها عند فقد أخيه، وواقعية الحوار تظهر– أيضاً- من كون القرآن يحدد– أحياناً- مسرحي الزمان والمكان اللذين صاحبا الموقف الحواري، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[46: العنكبوت]. وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)[63: الكهف]. وقوله: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ)[16: يوسف]، والتاريخ خير شاهد على صدق الأحداث.
ثالثا: الصدق ودقة النقل
ينقل القرآن لنا ما دار من حوار بين أصحاب الدعوة وخصومها بكل موضوعية ونزاهة أو انحياز إلى صف الدعاة دون خصومهم، ويدل لذلك أمور عدة:
1- أن القرآن الكريم يذكر الرأي الآخر وينقله لنا كما هو رغم فساده، ومنه ما ورد على لسان فرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد)[29: غافر]، ومقولة فرعون: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)[38: القصص].
2- يبرز على الرأي الآخر جمال لغته وبيانه ويعطيه الفرصة الكافية للحضور التاريخي والحضور الجمالي في الوقت ذاته ومن ذلك ما ذكره ابن عاشور عند تفسيره لما ورد على لسان الملأ من قوم صالح: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[75-76: الأعراف] حيث قال: "ومراجعة الذين استكبروا بقولهم (إنا بالذي آمنتم به كافرون) تدل على تصلبهم في كفرهم وثباتهم فيه، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسمية المؤكدة، والموصول في قولهم( بالذي آمنتم به) هو ما أرسل به صالح عليه السلام. وهذا كلام جامع لرد ما جمعه كلام المستضعفين حين (قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم"([20])، وعند قوله تعالى على لسان فرعون: (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)، قال الألوسي: "وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله"([21]).
3- في عرض القرآن الكريم لرأي الخصم ما يشير إلى خلود هذا الكلام فقد تكفل الله بحفظ القرآن، وفيه الكثير من الكلام الذي ورد على ألسنة الخصوم، كما ورد على لسان فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)[38: القصص]، ومنه قوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[29: غافر]. وبهذا نجد أنه يحفظ مواقفهم الحوارية، وفي هذا ضمان لاستمرارية الحوار مما يعني أن القرآن الكريم يسير في خطوات تضمن بقاء الحوار، فهو يضع أسس الحوار، وأول مراحل التأسيس للحوار: أن يستحضر الرأي الآخر، ومن ثم الإبقاء على ضمان الحوار واستمراريته فالخصم دائماً هو الذي يلجأ إلى إغلاق باب الحوار، ويدل لذلك أمور، لعل من أبرزها:
4- أن القـرآن ينتـقل في الحوار من التركيـز على الأشخاص إلى صفة العموم، فمثلاً حادثة الظهار الواردة في مطلع سورة المجادلة:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا..)[1: المجادلة]، يأتي الخطاب بصيغة العموم والجمع والتنكير:(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم...)[2: المجادلة]، حتى في حديثه عن صاحبة القصة عبر بالاسم الموصول: (التي)، فالتعبير بالاسم الموصول علامة واضحة على ضمان العمومية في الحوار، فلا تكاد تخلو بضع آيات منه، والعربية فيها ما يقارب التسعة عشر اسماً موصولاً([22]).
خلاصة الأمر أن "التعبير بالاسم الموصول هو الضمان الذي يستخدمه القرآن للإبقاء على العمومية في الحوار، وإبعاد ساحة الحوار عن الشخصية، وإبقائه خارجاً عن إطار الزمان والمكان"([23]).
ثم إنه لو تأملنا في القصص الذي أورده القرآن على كثرته، فإننا لا نجد ذكراً للمكان ولا تحديداً للزمان الذي تجري فيه الأحداث إلا في القليل النادر، وهذا يؤكد موقف القرآن الذي يريد أن ينتقل بالحوار إلى جانب العموميات.
حتى النداءات التي نجدها في الخطاب القرآني كانت في أغلبها نداءات عامة وليست لأشخاص بأعيانهم، أو حتى نداءات بوظائف الأشخاص لا بأسمائهم، حتى صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يذكر باسمه إلا في أربعة مواضع([24])، أما بقية المواضع فقد كان النداء إما بوظيفة الرسالة: (يا أيها الرسول) أو بوظيفة النبوة: (يا أيها النبي)، ولم يذكر اسم أحد من الصحابة في القرآن إلا زيد بن حارثة([25]) t على الرغم من كثرة أحداث السيرة التي قصها علينا القرآن.
وهذا منسجم مع منهجية القرآن، فالسمة الغالبة على نصوصه التعبير بالعموم، حتى في الآيات التي لها أسباب نزول وتحدثنا عن أشخاص بأعيانهم وكيف واجهوا الرسالة، لم نجد ذلك الحديث الفردي فالصيغة الجماعية هي طريقة التعبير، ولعل القاعدة التي ذكرها أسلافنا في هذا الخصوص والتي مفادها: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)([26]) تجسِّد هذا المفهوم، كما لم نجد في نصوص القرآن ما يصف خصوم الدعوة بأوصاف شخصية ذميمة، فالنصوص تميل إلى عموم الخطاب، كما في قوله تعالى:(أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[18:هود]، وكقوله:(فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)[12: المائدة]، حتى تلك الآيات التي يكاد يجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[10- 15: الآية]، فيها الخطاب العام، (كل حلاف) فالخطاب لم يكن يطال صاحب القصة وحده، بل يدخل في الخطاب كل من توافرت فيه هذه الخصال، وفي قصة الذين كانوا ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات على الرغم من أن النص يحدثنا عن أشخاص بأعيانهم والسيرة تفصل القول فيهم إلا أن الخطاب القرآني يأتي بالاسم الموصول الذي يدل على العموم: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ..)، ثم حين يحكم عليهم لا يأتي بالتعميم الذي يشمل جميع الأفراد المذكورين (أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)[4: الحجرات]، ولا نجد في النص ما يثير الحساسية عند المتحدث عنهم، بل نجد أبعد من هذا، فالمعروف أن أكثر الناس خصومة للدعوة في بدايتها كانوا كفار مكة (قريش) ومع ذلك لم نجد في سورة قريش ما يصفهم بوصف الكفر([27])، بل نجدها تحمل لهم دعوة لطيفة تؤكد أن القرآن لم يتخذهم خصوما لها: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)[3: قريش].
المطلب الثالث: خصائص إعجازية متعلقة بأسلوبه
لو تأملنا في الخطاب القرآني الذي ينقل المواقف الحوارية سنخلص إلى القول بتنوع الأسلوب تبعا لاختلاف أحوال المخاطبين وهذا هو عين البلاغة، وهو امتداد للإعجاز البياني وقد قمت باستقراء المواقف الحوارية التي عرض لها القرآن فوصلت إلى الآتي:
* يغلب على الأسلوب القرآني أسلوب التصوير وهو أسلوب منسجم مع المشاهد الحوارية.
* تنوع الأساليب التي قدمها القرآن الكريم في عرض مادة الحوار والكشف عن فلسفة الحوار ما بين المكي والمدني، ولا عجب فالعلماء تحدثوا عن وجود اختلاف بين الآيات المكية والمدنية من حيث الأسلوب([28])، فحين نتأمل نجد أن النصوص التي نزلت في المراحل الأولى تكاد تخلو من الحوار، وهذا متناسب مع مرحلة الدعوة السرية، فالحوار محدود بحكم الدعوة السرية، ثم بانتقال الدعوة إلى المرحلة الجهرية لمسنا حضور الحوار لكن بشكل تدريجي، وهذا نلمسه من خلال النصوص الأولى([29])، وقد تتبعت القصص الوارد في الآيات بوصفه يحوي مواقف حوارية فوجدت أن أغلب القصص النازل في أوائل الفترة المكية كان لأقوام سابقة لا حضور فيه للحوار، من ذلك قوله تعالى: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)[7-13: الفجر]. وقوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[4-8: البروج].
وهكذا بدأ بالتدرج حتى كانت أغلب المواقف الحوارية التي قصها الله علينا في الفترة المكية، ولعل هذا الذي يفسّر حضور القصص القرآني في الآيات المكية.
وقد قمت باستقراء مادة القول وما اشتق منها فوجدت أن أغلب ورودها كان في الآيات المكية، وإن كان لذلك من دلالة فلعله يدل على أن الآيات المكية كانت تحرص على ساحة الحوار، وفقا للمرحلة التي يعيشها المسلمون آنذاك.
في حين نجد الآيات المدنية يقل فيها هذا الأسلوب التلقيني والحواري من جهة أخرى، وإن كان لهذا من تفسير فهو مؤشر على وجود درجة من التلاحم والتفاهم وانصراف عن المماحكات الكلامية إلى السلوك العملي بين صفوف المؤمنين، وهذا ما تفسره كثرة التشريعات والأحكام التي نلمسها في الآيات المدنية بخلاف الآيات المكية في الغالب، هذا على المستوى الداخلي أما على المستوى الخارجي- أعني علاقة المسلمين بغيرهم فما نلمسه من النصوص أن ساحة الحوار مفتوحة.. والدعوة متاحة أكثر إلى الحوار والأسلوب الهادئ يؤكد هذا نصوص عدة، منها قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)[63: آل عمران]، وقوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[46: العنكبوت]. والذي تغيّر ليس موقف القرآن من الحوار، وإنما طريقة الرد على الحوار والتدرج فيها، فحينما يغلق خصوم الدعوة باب الحوار والتفاهم أمام الدين الجديد نجده ينتقل بهم إلى ساحة القتال لكن حتى هذه النصوص نجدها مشحونة جداً بالحوار، وأخلاقيات القتال في الدين الإسلامي مليئة بالمواقف والقواعد التي تضمن سلامة الحوار، فالاختلاف كان في ردود فعل أهل الإيمان على مواقف الخصوم ففي الوقت الذي كانت تقتصر فيه ردود الفعل في الفترة المكية على الصبر وتحمل الأذى، تنتقل إلى ساحة القتال في الفترة المدنية وهذا منسجم مع مراحل الدعوة التي مرّ بها المسلمون.
مما تقدم يتبين لنا أنّ:
* القرآن الكريم يجعل الحوار سبيلا لكل قضايـاه، كما أنه السبيل لبيان الخلافات التي تظهر على ألسنة مخالفيه، وليس في القرآن وسيلة للتفاهم مع الخصوم غير الحوار، أما القوة فإن التهديد بها لا يكون إلا بعد الفشل مع المتحاورين وإصرارهم على الباطل مع سطوع الحق.
* للحوار دوره المهم في قصص القرآن، وهو الذي يبعث الحياة والحركة على الأحداث التي يقصها علينا.
* الحوار صورة صادقة للكشف عن مقدار وحجم الصراع الذي تم بين الأطراف المتخاصمة.
* تنوع أشكال الحوار وألوانه ناشئ عن اختلاف مقتضى الحال، ففي حين نراه حوارا مبسوطا مفصلا مطولا، نجده موجزا مختصرا، وفيما بين هذين الحالين نماذج مختلفة في طريقة العرض، وكذا الأمر فيما يخص لهجة الحوار ما بين شدة ولين، كل ذلك يحكمه مقتضى الحال([30])، وهنالك المتركز.. وهنالك الواسع الفضفاض، وهنالك شديد النبرة، وهنالك الهادئ الوديع، وهنالك الساذج البسيط، وهنالك المركز المشحون بالأدلة والبراهين.
* الحوار في القرآن الكريم يركز على العناصر البارزة ويضفي عليها الحياة، فتارة تكون الجملة الحوارية مركزة مختصرة تحمل موقفا قصصيا متكاملا، وأحيانا تأتي الجملة الواحدة مبسوطة في أكثر من آية، وهي مع ذلك تعرض جزءاً من قصة، وكما تقدم، فإن غرض القرآن من إيراد الموقف المذكور هو الذي يحكم المشهد، ويمكن حصر الأمور التي تتحكم في المشهد الحواري في الآتي: (موضوع السورة، طبيعة الموقف، طبيعة المخاطبين، المرحلة التي نزلت فيها الآيات، الغرض من عرض المشهد، شخصية المحاور، (حيث يمكن أن نتلمس من خلال مفردات كل محاوِر ما يمكن أن نحكم على صاحبه من خلال اختياره للألفاظ).
وينتج عن ذلك: اختيار الألفاظ، اقتطاع المشهد، مدة العرض، طبيعة الأسلوب (شدة ولينا).
المبحث الثالث
أسرار الحوار النفسية ودوره في رسم الشخصية
يعتبر الحوار أهم عناصر القصة وأبرزها في القرآن الكريم، ولا يخفى ما لهذا العنصر من دور في إبراز الشخصيات التي تدور حولها أحداث القصة من جهة، ثم إبراز المعاني النفسية التي يشتمل عليها الموقف الدائر حوله الحوار.
في هذه السطور سيتركز الحديث حـول الحـوار باعتباره أسلوباً عملياً يستخدمه المرء في حالة التعبير عن أفكاره مقابل أفكار الآخرين وسوف يكون محور الحديث حول تلك الجوانب النفسية التي ينطوي عليها هذا الأسلوب، ثم استعراض نماذج حوارية وإبراز أهم ما فيها من جوانب نفسية أو بعبارة أخرى القيام بتحليلها من الجانب النفسي.
والحوار أهم وأنجح الوسائل التي يستخدمها المرء لتحقيق أهدافه والتعبير عن أفكاره، ولذلك نجد أن القرآن الكريم اعتمد كثيراً على هذا الأسلوب في عرض الأحداث قصيرها وطويلها، فالقرآن -بلا شك- يرسم منهجاً متكاملاً للحوار، وقد تميّز القرآن بهذا الأسلوب فقد أتى لنا بنماذج وأمثلة تشمل كل أنماط الحوار المعروفة أو المقصورة في الذهن حتى قال بعضهم: "القرآن كتاب حوار"([31])، وهو ما تقدمت الإشارة إليه.
غني عن القول بأن الأحداث التي تدور حول شخصية معينة من الشخصيات قد تنقل لنا حديثاً عن الشخصية وليس على لسان الشخصية، وقد تعرض من خلال كلام الأشخاص الذين يشتركون في حدث ما، فما تم فيه الحديث على لسان الشخصيات المتحدثة وحصل فيه تبادل الحديث فهو الحوار.
المطلب الأول: قيمة الحوار من الناحية النفسية([32])
يلعب الحوار دوراً بارزاً في الكشف عن الأبعاد النفسية للإنسان باعتباره أحد الوسائل التي يتم بها رسم الشخصية الإنسانية، وإبراز الملامح الأصلية للنماذج البشرية، حيث يمكن إجمال هذا الدور في النقاط الآتية:
يعتبر "الحوار" أحد الطبائع المتجسّدة في النفس الإنسانية، وهو من الصفات اللازمة للإنسان في طبيعة خلقه وتكوينه (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا)[54: الكهف]. وهذه الطبيعة شأنها شأن سائر الصفات الفطرية التي تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، ويدل على أنها من الطبائع المتجسدة في النفس كون الإنسان يستخدم هذه الوسيلة للدفاع عن نفسه حتى أمام خالقه، قال سبحانه وتعالى:(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا..) [111: النحل]، والإنسان يستخدم هذا الأسلوب للإقناع تارة وللتبرير والدفاع تارة أخرى، كما نجده أحياناً يستخدمه للتلاعب بالألفاظ، وذلك عندما يكون غرضه قمع الخصم أو إرهاقه من ناحية الفكر، لا بقصد إمداده بالمعلومات وهذه الأمور كلها ترجمة للجوانب النفسية، وناشئة عن أمور نفسية، يمكن إجمال الفوائد التي يضيفها الحوار إلى النفس الإنسانية بالآتي:
1- يسهم الحوار في تبريد الأجواء النفسية لدى المتحاورين حيث ينقل ساحة الحوار إلى مواقع ونقاط الالتقاء بين الطرفين([33]).
2- يلجأ المرء إلى الحوار كوسيلة من وسائل التنفيس عما في النفس من أمور داخلية، ولذلك فإن المرء إذا قوبل بقمع الأفكار ومنعه من طرحها فإن ذلك يكون نوعاً من الكبت النفسي، ولم يكن في حوار الأنبياء شيء من هذا، بل كان في كلام خصومهم، كما في قول قوم نوح لنوح عليه السلام مثلا:(قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)[116: الشعراء].
3- غالباً ما تسيطر على الحوار أجواء من التوتر الفكري والنفسي والكلامي من أجل الوصول إلى الغلبة، إذ مغالبة الخصم رغبة نفسية مجبولة عليها النفس.
4- الحوار يهيئ الجو النفسي لشعور الآخرين بالمعاني والأفكار القوية المستخدمة ويحولها إلى أدلة.
5- من شأن الحوار أن يقوم بتجسيد المعاني في صور محسوسة، وهذا بدوره يثير اهتمام السامع بصورة أشد، كما أن له دوراً في ترسيخ المعاني وتثبيتها في النفوس، إذ من طبيعة النفوس ألا تقف طويلاً مع المعاني المجردة.
6- أسلوب الحوار والقصص بشكل عام أسلوب يثير في المرء جوانب عدة كجانب التفكير وجانب المشاعر والانفعالات المتنوعة.
7- من خلال الحوار يستطيع المحاور أن يستفيد من المؤثرات النفسية الممكنة عند الطرف الآخر، كما أن الحوار يعتبر طريقاً للتمهيد النفسي، ولذلك كان الأنبياء يستثمرون ذلك لهداية أقوامهم فيكون في حديثهم ما يشبه التمهيد النفسي، إضافة إلى كون الحوار يخاطب الجانب العقلي في الإنسان فهو يخاطب جانب الغرائز في الإنسان حيث يخاطب غريزة من أسمى غرائز الإنسان، هي غريزة حب الاستطلاع([34])، كما أن هناك جانباً ثالثاً في الإنسان يخاطبه الحوار، وهو جانب المشاعر والانفعالات، فتارة يثير في الإنسان انفعالات الطرافة والمرح، وتارة انفعالات الإعجاب والاستطراف وأخرى انفعالات التعجب وانفعالات الرحمة والإشفاق وغير ذلك من الانفعالات التي تنطوي عليها نفس الإنسان.
8- يستخدم الحوار كوسيلة لمعرفة ما عند الآخرين، وذلك ضمن ما يعرف بمبدأ جسّ النبض أو اختبار الخصم، حيث يتم في ضوء النتائج الأولية معرفة ردود فعل الآخرين وبالتالي توظيفها في مواصلة الحوار وطرح الأفكار، فهو بهذا يكون وسيلة لاختبار نفسية الآخرين والتعامل معهم في ضوء معطياتهم الأولية، ولعل المثال الآتي مما قصّه علينا القرآن الكريم يوضح ذلك:
9- فرعون الطاغية المتجبر كان يتعامل مع قومه في ضوء مبدأ جس النبض حيث كان ينتظر ردود الفعل ثم يطرح ما يتبع من أفكار، فقد استطاع أن يتدرج بهم من خلال الحوار حتى يتقبلوا فكرة أن يكون هو إلههم الذي لا بد أن يُعبد دون سواه.
10- فهو يعتمد أولا على مبدأ الاستخفاف بالقوم، فقد نادى في قومه: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[51: الزخرف].
11- ونظراً لأن قومه لم يبدوا أي اعتراض على ذلك فقد كان هذا منهم بمثابة القبول، ويسجل لنا القرآن هذا الاستخفاف الذي تسلق فرعون من خلاله على إرغامهم لأن يعبدوه، ففي السياق نفسه نجد قوله: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)[54: الزخرف]، ثم الخطاب الأكثر تطوراً في هذا الاتجاه:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ)[38: القصص]. بهذا الأسلوب الذي تبدو فيه النبرة أعلى من سابقتها فهو يطرح هذه الفكرة لتجد رواجاً وقبولاً، ثم كانت قولته الأخيرة: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلى) نلاحظ الآية في سياقها: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى)[22-24: النازعات]. فلا يخفى أن الاعتماد على الحوار له دور كبير في كشف نفسيات الآخرين ومدى تقبّلهم لما يطرح من أفكار.
المطلب الثاني: الأفكار المطروحة في الحوار وآثارها النفسية
إن الأفكار الناشئة عن الحوار تترك لها أثراً في النفوس مهما كانت، حتى لو كانت كلمة تمضي فإن عامل الزمن هو الذي يجعل لها مكانا في النفس، وهذا ما نلمسه من خلال دعوات الرسل وأتباعهم مع خصومهم، إذ تشير كثير من الآيات إلى أن هذا الحوار الذي ببدو لأول وهلة أنه قد انتهى إلى غير ثمرة، نجد أن بقية الحوار أو تمام القصة يبرز لنا بعض الثمار التي كانت نتائج طبيعية لحوار الدعاة إلى الله تعالى مع أقوامهم، وأمثلة هذا النوع في كتاب الله كثيرة جداً.
فنحن نلاحظ مثلاً أن موسى عليه السلام حين كان يدعو فرعون وملأه إلى الله، ويكون من صدود فرعون ما يكون، كنا نظن أن لا ثمار لهذا القول، حتى كان مشهد السحرة والحوار الذي دار بين موسى وسحرة فرعون ثم انتهى إلى ما انتهى إليه الحوار الأول من حيث الظاهر، لكن لما حدثنا القرآن عن إيمان السحرة لمسنا في كلامهم بعض هذه الثمار، قال تعالى:(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)[120-122: الأعراف]، (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُون* وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[125-126: الأعراف]، فهذه الألفاظ نحس أنها صادرة عن أناس أصحاب رسالة آمنوا بها ودعوا إليها آمادا طويلة ولا نتخيل أنها صدرت من قوم آمنوا لتوهم، والمقاطع الأخرى للمشهد نفسه ربما تبرز أكثر، كما في قوله تعالى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[72-73: طه]، بل إنّا لنجد أكثر من هذا إذ نجد أن فرعون نفسه كان قد تأثر بهذه الدعوة ولهذا كان نطقه عند الغرق ينمّ عن ذلك، حين قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ)[90: يونس].
وهكذا الشأن يمكن أن يقال في المواضع التي حصل فيها حوار الدعاة إلى الله مع أقوامهم، ففي قصة يوسف عليه السلام شيء من هذا فمثلا نجد تداول الألفاظ: (حَاشَ لِلَّهِ)، (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)، (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)[51: يوسف] هذه العبارات التي فيها حسّ إيماني ما كانت لتصدر إلا ثمرة من ثمرات الدعوة التي كان يدعو بها يوسف عليه السلام، وبهذا نلحظ أن الحوار يسهم في تكوين القناعات بشكل تدريجي، ويسهم في تهيئة الأجواء النفسية لتقبل الأفكار وهو ما يعتمد عليه المربون في هذا الزمان.
كما تؤثر الانعكاسات النفسية على أسلوب الحوار قوة وضعفاً، فكثيراً ما يدلنا السياق على حالة المحاور النفسية والاجتماعية في الوقت نفسه، إذ المعروف – مثلا- أن الذي يتكلم مع الآخرين وخلفه قوة ما "سواء أكانت بشرية أم غير ذلك" يكون أسلوبه في الخطاب مختلفا عن شخص آخر يخاطب أناساً ولا يعتمد على أي مصدر قوة، فالأول تظهر في ألفاظه نبرة الصوت العالي وتحريك الأيدي وتفاعل بقية الأعضاء التي تشعر المخاطب بنوع من التحدي، بينما الثاني لا تكاد ألفاظه تفصح عن مراده وصاحبها لا يعدو في خطابه أسلوب الاستلطاف واختيار الألفاظ الحسنة، وربما يكون من أوضح الأمثلة على ذلك من كتاب الله:
موقف شعيب عليه السلام مع قومه من جهة، وموقف لوط عليه السلام مع قومه من جهة أخرى.
أما شعيب عليه السلام فقد بدا واضحاً من حواره مع قومه أنه في منعة من قومه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)[84-91: هود].
وأما لوط عليه السلام فقد كان في حديثه يلمح إلى عدم وجود القوة التي تمنحه صلابة في الحديث أو في الموقف: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)[80: هود].
ويدل على كون هذا الحوار مغروسا في النفوس، تطلبه وتميل إليه، أن الناس عمدوا في كل زمان وبيئة إلى اختلاق صنوف شتى من الصراع والمبارزات، من هذه المبارزات الحوار- كما هو واضح في (المباريات الكلامية)- وذلك أن هذه المبارزات تقوم بدور تغذية وإمتاع المشاعر والتفاعل معها، فالتصارع والتباري يثيران مشاعر الناس وانفعالاتهم، ولا يخفى أن هذا النوع من المحاورات له أكبر الأثر في كسب انفعال السامعين([35]).
المطلب الثالث: نماذج حوارية في القرآن الكريم
عرض القرآن الكريم من خلال الحوار نماذج للنفوس بحسب تعددها، وبحسب استعدادها للحوار، إذ نجد ألوانا من الحوار تشمل أصناف البشرية على اختلاف مذاهبها، سواء أكان ذلك بالنظر إلى أصناف المحاورين والمتحاورين (كالمعاند، والمستكبر، والمؤمن..)، أم كان بالنظر إلى صفة الحوار والجو الذي يسوده وطبيعته (كالعنيف، وغير العنيف)، أم من حيث الغرض (الإقناع، التبرير، قمع الخصم،..)، فيما يأتي بعض هذه النماذج:
أولاً: نموذج من يحاور ولا إحاطة لديه بما يحاور، ذكر لنا القرآن نماذج لأناس وقفوا ضد الرسالة دون أن يكون لهم أدنى إحاطة أو معرفة فيما يحاورون به، كما هو الشأن مع أقوام الأنبياء، وقد سجل القرآن لنا ذلك، قال تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[66: آل عمران]، وقال سبحانه وتعالى في شأن هذا الفريق من الناس: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)[39: يونس]، فهذا يشير إلى وجود عقدة نفسية تتحكم بهم فتدفعهم إلى التكذيب دون مبررات وهذا ما نلمسه في حوار الأنبياء مع أقوامهم حين يواجه الأنبياء أقوامهم بالحجة فلا يجدون حجة لكفرهم وعصيانهم فيلجأون حينها إلى التهديد والوعيد أو إلى طلب العذاب، وأمثلة ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ)[116: الشعراء]، ومنها قول قوم عاد لنبيهم: (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ) [136: الشعراء]، وقول ثمود لنبيهم: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ)[153: الشعراء]([36]) أو قول قوم لوط له: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ) [167: الشعراء].
ومن الآيات التي يظهر فيها طلبهم العذاب قول قوم شعيب له: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ)[187: الشعراء]. ومثلها قول صناديد قريش لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[32: الأنفال]. يقول سيد: وهو دعاء غريب; يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق حتى ولو كان حقاً إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق وأن يهديها إليه دون أن تجد في هذا غضاضة ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة تأخذها العزة بالإثم حتى لتؤثر الهلاك والعذاب على أن تخضع للحق([37]).
ثانيا: نموذج تفريغ الموقف من الأفكار التي تعمل على توتر أجواء الحوار، من الأساليب النفسية التي يمكن ملاحظتها من خلال المواقف الحوارية التي عرضها القرآن الكريم، الأسلوب العملي الذي يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبقة التي تحوّل الموقف إلى عقدة تفرض نفسها على كل مواطن الحوار، مسألة التشكيك في الفكرة بين الطرفين، كما في قوله تعالى: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[25: سبأ]. وقوله: (..وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[24: سبأ] يقول سيد: "وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى والآخر لا بد أن يكون على ضلال ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم والرغبة في الجدال والمحال فإنما هو هاد ومعلم يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم لمجرد الإذلال والإفحام الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام المستكبرين على الإذعان والاستسلام وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة"([38]).
ومن هذا اللون مواجهة الخصم بالقناعات المستندة إلى الأدلة والبراهين، فهو أسلوب يعين على تجريد الموقف من حالات التعصب وتحجر الفكرة[39]، ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)[49: القصص] هذا اللون وسابقه كفيلين بخلق الأجواء النفسية للحوار.
ثالثاً: نموذج امتصاص ردود الفعل في الحوار، يعلّمنا القرآن أنه في بعض الأحيان عندما يكون الحوار سائراً نحو جوانب شديدة الحساسية والتي تثير انفعالات معينة، يعلمنا كيف يمكن احتواؤها أو امتصاصها، من ذلك قوله تعالى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)[51-52: سورة طه].
الآية تتحدث عن بعض الجوانب الحساسة التي أراد فرعون إثارتها أمام موسى عليه السلام وذلك بقصد تعبئة الجو ضده بإثارة الانفعالات العاطفية المضادة، إذ من الواضح في المقطع المتقدم أن فرعون كان يريد أن يقود موسى إلى الجواب الذي تفرضه معطيات الواقع، إلا أن موسى عليه السلام فوّت الفرصة عليه بإغلاق باب الحوار([40]).
رابعاً: نموذج انفعال المشاعر، ذكر القرآن لنا نماذج كثيرة من الحوار التي تكشف لنا عن طبيعة المتحاورين ونفسيتهم، فتارة يكون جو الحوار مشحوناً بالانفعالات النفسية التي تغلب على أسلوب العقل -كما هو الشأن مع الذين يواجهون الدعوات الجديدة حيث يحشدون الأجواء الانفعالية حول دعاة التوحيد - وبالتالي تؤدي إلى ممارسة الاضطهاد والتعذيب ضدهم، فكثيراً ما تطلعنا الآيات على الحالة النفسية التي يواجه بها المشركون فكرة التوحيد، ومثال ذلك قوله تعالى: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلَاق)[ 5-7: ص].
فالموقف في- نظرهم - يبعث على العجب، ويصيبهم بما يشبه الذعر المفاجئ الذي يقتضي فيه الصمود والصبر، "وبهذا نلحظ أن الشرك يتحرك من موقع العادة المرتبطة بالجانب العاطفي من تراث الآباء والأجداد"([41]).
وتارة يطلعنا الحوار على حقيقة ما عليه نفوس المتحدث عنهم حيث تخالف ما يتلفظون به، ومثال ذلك ما حكاه الله عن اليهود وقد كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم أولياؤه، فينـزل قول الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[6-7: الجمعة]. فهذا الحوار يكشف لنا عن حقيقة عقيدتهم وأن أقوالهم لا تعدو مجرد أمنيات تعيش في صدورهم، ولأنهم حقيقة لا يستطيعون هذا الطلب لعلمهم أنهم لو طلبوه سيفتقدون الحياة، وهم في حال أشد ما يكونون حرصاً على الدنيا: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[96: البقرة].
خامساً: نموذج التحكم بالمشاعر عند الحوار، فالجو النفسي الذي يسيطر على كيان المسلم الداخلي في الحوار جو صبغه الإيمان وتحكّم فيه، بعيدا عن التشنج والتوتر العصبي.
إذ لا تحدث عند المحاور المسلم ردود فعل نفسية ينجرّ وراءها فتكون بذلك تلبية لرغبات الخصم وتحقيقاً لأمنياته، ولعل أبرز ما في هذا النوع نلمسه من خلال حديث الأنبياء -عليهم السلام- مع أقوامهم، فالقرآن يريد أن يكون منطلق المشاعر لدى المسلم من قاعدة الرسالة، وفي ذلك من الجوانب التربوية ما فيه، إذ يصبح المتحكم في هذه المشاعر أولاً وآخراً هو المنطلق النبوي وهو المحرك الرئيسي لها تجاه مبدأ الرسالة.
فالحوار يجسد الفرق بين أسلوب الرسل في الدعوة وبين أسلوب الكفار في الردّ، ومن الأمثلة الدالة على ذلك: قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)[35: هود]. في الوقت الذي يكون ردّ الكفار على درجة من السخافة، كما في ردّ قوم نوح عليه السلام: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ)[32: هود]. ومن أقوال الأنبياء في حوارهم مع أنبيائهم، قوله تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)[50: سبأ]، و(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[41: يونس].
فهذه المواضع وأمثالها في القرآن تطلعنا على حقيقة الخصم وغرضه من خلال هذا الحوار، فهو يريد أن يجلب المحاور ويضطره إلى السباب والشتائم، يريد أن يقود المسلم للموقف الخاطئ، إلا أن القرآن يعلمنا كيف أن المسلم لا ينجرّ وراء ذلك، بل إن مثل هذه الأمور تزيده ثباتاً وتمسكاً بمبادئه، وقد لوحظ كيف جاء ردّ النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان صادراً من العقل الهادئ الواعي.
أما قيمة هذا اللون في الأسلوب من الوجهة النفسية فتظهر في كون المسلم في هذا الأسلوب يقود المحاورين معه إلى موقع المسؤولية حتى يتحركوا في إطار هذه المسؤولية التي رسمها لهم، وهذا جانب نفسي مهم يشعر الخصم بقوة موقف المسلم، كما يشعر بضعف موقفهم أمام موقف المسلم.
وقد لوحظ حضور هذا الأسلوب بكثرة في حوار الأنبياء مع أقوامهم فكأنها جميعاً تهدف إلى أن يكون همّ المسلم ومنطلقه في الحوار هو الرسالة، ومحور المشاعر التي تظهر تتحرك في إطار الرسالة ومبادئها.
فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من كثرة الحملات الإعلامية التي أشهرها المشركون ضده، إلا أننا لا نكاد نلمس صدور آية ردود فعل تجاه هذه الحملات، فما يرد إلا بقدر حاجة الرسالة، فقد وصف بكونه "شاعرا" و" كاهنا" و"ساحرا" و"مجنونا"، فلم نلمس من خلال حواره مع قومه أي حركات تشنجية أو مواقف انفعالية لأن القضية قضية رسالة، والخط الإسلامي العريض في هذا هو ضبط النفس، وحسن التعامل: بل لقد وجدنا تصريح القرآن بعدم الانجرار وراء الشتائم والسباب والرد على الخصم بالمثل، قال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[46: العنكبوت]، (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)[108: الأنعام].
وقد كان الأنبياء أشدّ حرصاً على احتواء كل حالة نفسية تصدر من أقوامهم، ولهذا كان يغلب على أسلوبهم في الخطاب الجانب الوعظي إضافة إلى الجانب العقلي، والذي يجمع بين اللين والشدة، موعظة وتذكيراً، فهذا الأسلوب كفيل باحتواء كل حالة نفسية شاذة أو معقدة.
وفي هذا الإطار النفسي في جانب الحوار مع الخصوم يمكن تلمس وإدراك الدافع النفسي الذي يهدف إليه خصوم الدعاة إلى الله، أنهم حريصون على تحطيم جدار الثقة الذي يستند إليه الدعاة في الدعوة إلى مبادئهم، ثقتهم بمبادئهم من جهة وثقتهم بأنفسهم وبالآخرين من جهة أخرى، ولهذا وجدنا أن الحوار الذي يعرضه لنا القرآن على ألسنة الأنبياء مع أقوامهم يلفت الأنظار إلى ضرورة الإبقاء على العامل النفسي للداعية وحرصه على أن يكون المنطلق هو الرسالة، كما يلفت الأنظار إلى ضرورة إدراك أي انحراف في مسار الحوار ليجعل الثقة خاضعة لمقاييس الباطل واعتباراته بدلاً من كونه خاضعاً لموازين الحق وقيمه، فالثقة بالرسالة هي الأساس الذي ينبغي أن تملأ النفس، والكافر يستهدف هذه الثقة ليزعزعها في نفوس أهل الحق، ومثال ذلك ما جاء على لسان المستكبرين من قوم ثمود: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[75-76: الأعراف]. إذ الواضح من هذا كيف كان الخصوم يهدفون إلى زعزعة ثقة أهل الإيمان بإيمانهم، ومن ذلك – أيضاً - قول قوم شعيب عليه السلام له: (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ)[186: الشعراء]. وقول فرعون عن موسى عليه السلام: (وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ)[38: القصص].
من المواقف التي تؤكد كون صاحب الرسالة يصطبغ بمشاعر الرسالة ولا يخضع لضغوط فكرية فرضها عليه الحوار، ما نلمسه في موقف سيدنا لوط عليه السلام حين قالوا له: (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)[79: هود]، فهو عليه السلام لم يفقد صوابه أو يخضع لردة فعل معاكسة، فليس هدفه أن يفجّر غيظه ضدهم، وإنما كان رده: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)[80: هود].
حتى سيدنا نوح عليه السلام حينما دعا على قومه: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّاراً)[26-27: نوح]، فهذا الموقف منه عليه السلام لم يكن من خلال الموقف الانفعالي أو رد فعل، وإنما كان الدعاء عليهم منسجماً مع موقع الرسالة فقد جاء هذا الدعاء بعد أن استنفد أمامهم جميع وسائل الحوار: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)[5-9: نوح]. فبعد أن أوحى الله إليه أنّه لن يؤمن إلا من قد آمن، بعد هذا الاستنفاد يأتي الدعاء عليهم، وذلك من باب كونهم يشكلون قوة ضاغطة لمبدأ الكفر([42])، وهكذا لاحظنا أن ردود الفعل كانت منسجمة مع مبدأ الرسالة، فهو لم يلجأ إلى هذا الأسلوب إلا بعد أن لمس اليأس من إيمانهم وقد بدا هذا التدرج النفسي واضحاً، إذ كان خطابه لقومه مصحوباً بـ لفظ (يا قوم)، لكن لما جاء على لسانهم طلب العذاب وفهم منهم أنهم لن يغيروا موقفهم، كما نلمس ذلك في المقطع الذي ورد في سورة هود، قال تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) [32:هود]، بعد هذا الإعلان منهم نجد أن سيدنا نوح عليه السلام بدأ يظهر من كلامه أنه يريد أن ينسلخ منهم من الناحية النفسية، فقد كان كلامه بعد هذا الإعلان خالياً من لفظة (يا قوم) التي لمسناها قبل هذا الإعلان، هكذا جاءت (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[33-34: هود]، فالظاهر أنه بعد أن لمس عليه السلام من حديثهم اليأس بدأ ينسلخ منهم تدريجياً، وبذلك يمكن أن يعلل سبب خلو هذا الأسلوب من استمالتهم، ويطمئننا إلى هذا الرأي قوله بعدها (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[36: هود]، فما كان لمسه نوح عليه السلام من حديثهم أخبره الله به صريحاً، وهكذا نلحظ أن الحوار يطلعنا على المراحل النفسية التي يمرّ بها المحاور مع خصومه، والله أعلم بالصواب.
وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام ينطلق من مبدأ الرسالة في حواره مع أبيه، فهو حريص على أن يكون منطلق العاطفة ومرتكزها منسجماً مع الرسالة ومبادئها، فالأب وإن كان كافراً إلا أنه لا بد من الإبقاء على شيء من الاحترام والتقدير في حواره، وهذا ما كان يفعله إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وقيمة هذا من الناحية النفسية تبرز من كون هذا الإبقاء يحافظ على جو الحوار مشحوناً بالعاطفة، ولعل هذا يبرز في المقطع الآتي: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[41-42: مريم]، فهذا المقطع - كما هو ملاحظ- مشحون بجو العاطفة، فقد ذكرت لفظة (يَا أَبَتِ) في هذا المقطع على لسان إبراهيم عليه السلام عدة مرات لتبقي على الجو جانب العاطفة والحرص على أبيه ولو كان كافراً، فهذه اللفظة تشعر أنه يخاطب إنساناً عزيزاً عليه، كما نلمس في المقطع حرص سيدنا إبراهيم عليه السلام على جانب التأثير النفسي ليكون ضاغطاً على أبيه، وذلك أنه يستخدم أسلوب تلمس الدعاء له فيكون ضاغطاً نفسياً على أبيه لينشغل بهذا الدعاء وما يحمله من معان، وهكذا نجد أن الأنبياء جميعاً التزموا بمبدأ الرسالة محوراً ومرتكزاً، يحركهم في حوارهم مع أقوامهم، وفي هذا المبدأ ملحظ نفسي آخر غير الذي تقدم يمكن أن نشير إليه، ذلكم هو: ضرورة الإبقاء والحرص على أن تكون الشخصية واحدة ثابتة لا تنفصم، والبعد بها عن الازدواجية "فازدواجية الشخصية أمر خطير ومن شأنه إن وجد في صاحب المبدأ والرسالة أن يكون صارفاً للآخرين عن التمسك بالرسالة ومبادئها.
وهذا ما لمسناه في شخصية الأنبياء -عليهم السلام- إذ لم يعيشوا ازدواجية الشخصية، فشخصيتهم واحدة منسجمة تلتقي مع الشخصيات التي تحاورها في سبيل الدعوة، وهي حريصة على كسب الفئات جميعها إلى صف الدعوة، والتعامل مع غير المؤمنين بها منطلقه من مبدأ واحد هو مبدأ الرسالة سواء أكان أباً -كما هو الحال مع إبراهيم عليه السلام وأبيه- أم كان ابناً -كما هو الحال مع نوح عليه السلام وابنه- أم كان زوجاً -كما هو الحال مع نوح ولوط عليهما السلام- وتعامل صاحب الرسالة مع الأوامر منسجم كذلك مع انسجام الشخصية، فموقف إبراهيم عليه السلام من ذبح ابنه إسماعيل - كما يعرضه لنا النص القرآني- موقف منسجم مع هذه الشخصية: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[102-105: الصافات]، فهذا الحوار القصير يبرز لنا الحالة النفسية التي استقبل بها كل من الأب والابن أمر الله سبحانه وتعالى وهو التسليم والطاعة وهو منسجم تماماً مع الهدوء في أمر الرسالة.
ومما يؤكد التزام الأنبياء بهذا المسار ما نجده من موسى عليه السلام في حواره مع قومه، فعلى الرغم من حدة المزاج التي يتصف بها موسى عليه السلام - كما يمكن أن نلمس ذلك من بعض النصوص- ([43]) إلا أنه لم يكن يخرج في حواره عن خط الرسالة ومبادئها على الرغم من أن كثيراً من المواقف كانت تهدف إلى جلْبه إلى أغراضهم في الحوار واستفزازه ليفقد صوابه، من ذلك قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام بعد رؤيتهم ما رأوا من الآيات: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[138- 139: الأعراف]. فواضح أن هذا الموقف منهم من شأنه أن يثير في نفس نبيهم جوانب الانفعال الشديد الذي ربما يؤدي إلى فقد الصواب والهدوء في رد الفعل، لكن سيدنا موسى عليه السلامعلى الرغم من كل ذلك يأتي جوابه منسجماً مع رسالته (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فمزاج الرسالة هو مزاجه.
هذا الموقف الذي أطلق عليه بعض المفكرين المعاصرين: "الطفولة الفكرية"([44])، أي التفكير بعقلية الأطفال حينما يطلبون من آبائهم شراء لعبة من أقرانهم، ومثله يمكن أن يقال في قوله تعالى عن بني إسرائيل: (وإذ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ)[ 55: البقرة].
يمكن إجمال فن الحوار كما نتلمسه في منهج الأنبياء في الأتي:
1- لا يقيّمون خصومهم ولا يثيرون حفيظتهم، ولعل ما يجسد هذا قوله تعالى: (قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[25: سبأ]، كما لا يجرحون مشاعر خصومهم.
2- يصارحون أقوامهم في الحديث ولا يجاملونهم على حساب النتائج، قال تعالى على لسان هود عليه السلام: (فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)[71: الأعراف]، وعلى لسان شعيب عليه السلام: (سَـوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَـذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)[93: هود].
3- يميزون بين المسائل الجوهرية والمسائل الثانوية، فحين يسألهم أقوامهم عن بعض المسائل الهامشية نجدهم ينقلون ساحة الحوار إلى القضايا الأهم.
سادساً: نموذج إرهاق الخصم، ذكر القرآن لنا نماذج من الحوار التي تهدف إلى قمع الخصم وإرهاقه من ناحية الفكر وذلك من خلال أسلوب السخرية الذي يستخدم للتلاعب بالألفاظ وجعلها وسيلة لحرب الخصم من الناحية النفسية، وليس غرضها الإمداد بالمعلومات، وهذا اللون من ألوان الحوار هو عبارة عن حرب أعصاب تبرز فيه المشاعر والانفعالات بشكل واضح، إلا أن القرآن يعرض لنا من خلال هذه النماذج كيف واجه الدعاة إلى الله في كل زمان مثل هذا النوع من الحوار.
الأصل في موقف الدعاة إلى الله أن يترفعوا عن الوسائل الهابطة في الحوار ويحافظوا على إبقاء الحوار في ساحة الجدية وعدم الانتقال به إلى الهزلية، وهذا - بلا شك- يتطلب منهم مجهوداً نفسياً عظيماً، قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)[63: الفرقان]، لكن إذا انتقل الحوار ليصبح الغرض منه الحطّ من قيمة ما يحمله من مبادئ والاستهزاء بها فحينها يندب المسلم لأن ينتصر من عدوّه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [39: الشورى]، وقد عرض لنا القرآن نماذج هذا الأسلوب الذي كان يستخدمه الدعاة إلى الله كردة فعل لسخرية الخصوم في الحوار بعد استنفادهم للوسائل جميعها قبل ذلك، فأعداء الله يهدفون من هذا الأسلوب إلى تدمير المؤمنين من الناحية المعنوية (تحطيم نفسيتهم)، حينها لا بد من مواجهتها بخطة مثلها أو أفضل منها، ولعلنا لا نجد مثالاً على ذلك إلا ما جاء صريحاً على لسان سيدنا نوح عليه السلام حين قال: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون)[38: هود]. فالسخرية -بلا شك- وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس ينتهي بها الأمر إلى تحطيم الخصم من الناحية المعنوية وإرهاقه من ناحية الفكر، لكن حاول الباحث أن يستعرض آيات الحوار التي دارت بين الأنبياء وأقوامهم يتلمس فيها ما يصلح مثلاً على هذا النمط إلا أنه لم يجد، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على حرج الدعاة إلى الله أن ينـزلوا بساحة الحوار إلى هذا الميدان أو يجلبوا حركة الحوار إلى هذا الأسلوب، وقد يكمن ذلك في قوة الأثر النفسي الذي يحدثه هذا الأسلوب، ولأن هذا الأسلوب يتنافى ولو ظاهراً مع أغراض الرسالة([45])، فالداعية إلى الله قد لا يحسن استخدامه فلو تكفل الداعية بالقيام بهذا الدور، فلربما بان الفرق بينه وبين خصمه وكان ذلك أشق على النفس، وحتى لا يدخل في نفس الداعية أي حظّ من حظوظ النفس في استخدام هذا الأسلوب، فقد يكون الانتصار للنفس هو الدافع، فقد لمسنا من خلال النصوص أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كان يتولى الردّ عن المؤمنين إذا قام خصومهم باستخدام سلاح السخرية، فقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)[95-97: الحجر].
فلا يخفى إذن قوة تأثير سلاح السخرية والاستهزاء من الناحية المعنوية وهذا ما يظهره قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)، كما أن في تكفل الله سبحانه وتعالى بتولي الذب عن الرسولصلى الله عليه وسلم: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)، ما يشير إلى أن هذا الأسلوب يحتاج إلى قوة ضخمة وأكبر وهي قوة الله تعالى([46]).
وقد لوحظ من خلال استعراض بعض المواطن التي ظهر فيها سخرية خصوم الدعوة من أصحابها أن القرآن في الغالب يؤكد على أن الرد سيتكفل الله به (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ..)[15: البقرة]، (قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)[64: التوبة]، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)[11: المدثر]، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [16: القلم]. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [26-27: فصلت].
المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى أنهم إذا رأوا أن الحوار والخطاب مع أعدائهم انتقل إلى ساحة الاستهزاء بآيات الله، فإنه على المؤمن أن يهجر هذه المجالس ويخرج منها: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ..)[140: النساء]. وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..)[68: الأنعام]، وإذا كان في هذا من سرّ فإنه يكمن في قوة الأثر النفسي لهذا الأسلوب على الدعاة إلى الله تعالى وأتباعهم، وقد كان النهي عن حضور هذه المجالس حتى لا يكون لهذه المجالس من أثر نفسي على الدعاة إلى الله تعالى فشأن المؤمنين: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[72: الفرقان].
هذا الأسلوب إذن أسلوب عدائي مصوغ بروح الفكاهة([47])، ولا يستخدمه في العادة إلا من كان بيده زمام الموقف ويشعر بأنه الأقوى في طرف الحوار، وفي قص القرآن علينا من أخبار هؤلاء ما يشير إلى مدى السخافة التي اتصف بها أعداء الرسالة، حيث لم يجدوا جواباً غيره، ثم إن فيه إشارة إلى مدى الدهاء والمكر الذي يتصف به الكفار في مواجهة الدعاة إلى الله.
وقد صوّر لنا القرآن الكريم في غير موضع أثر هذا الأسلوب من الناحية المعنوية على النفوس، وحدثنا عن أنه كأبرز أسلحة الكافرين في الحوار، فهو السلاح المشترك في مقاومة الرسل جميعاً: (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[10: الأنعام]، وقال عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ)[36: الأنبياء]، وقال أيضاً: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)[41: الفرقان]، وقال سبحانه وتعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ)[12: الصافات]، ولهذا نلحظ أن القرآن كثيراً ما يعرض لنا من مشاهد وأحوال الكافرين يوم القيامة التي تدعوا إلى السخرية منهم والاستهزاء بهم كمشاهد مخاطبة معبوداتهم وإلقائها في النار (ءَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)[17: الفرقان]، (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ)[99: الأنبياء]، (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)[94- 95: الشعراء]، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)[29-34: المطففين]، فهذه المشاهد وغيرها كثير تحدثنا عن حالهم يوم القيامة.
وقد يستخدم الداعية إلى الله بدلاً من أسلوب السخرية المجرد أسلوب المعاريض لبيان بطلان ما هم عليه وهو في نهاية الأمر يدعو إلى السخرية من حالهم – كما يظهر ذلك من قول إبراهيم عليه السلام لقومه حين سألوه عمن حطم أصنامهم- (قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)[62-63: الأنبياء]، نلحظ كيف أن سيدنا إبراهيم عليه السلام استطاع أن يجعل منهم أضحوكة ليكشف عن زيف عقيدتهم.
بقى أن نشير إلى أن أعداء الدين قد يلجأون إلى هذا الأسلوب "التلاعب بالألفاظ" والتمويه، فحينها يجب على المحاور المسلم أن ينتقل بهؤلاء إلى الجدية في الحوار، ومن ذلك ما دار بين سيدنا إبراهيم عليه السلام والذي حاجه في ربه حين قال له: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)[258: البقرة]، فواضح أنه يهدف إلى السذاجة والسخرية والتمويه، هذا أمام الرأي العام، أما حقيقة هذا الموقف فناشئة عن جبروته وطغيانه وتماديه في إزهاق الأرواح، فمثل هذا الموقف يدلّ على نفسيتهم الساذجة التي لا تملك الدليل قوي الحجة لتواجه به الحق، ولذلك لوحظ كيف أن سيدنا إبراهيم تنبه لهذا الملحظ النفسي واستطاع أن ينتقل به إلى الأمور الواضحة التي لا تخفى على أحد فكان أن عطّل خطته التمويهية.
سابعاً: نماذج تظهر أغراض الحوار، عرض القرآن الكريم نماذج متنوعة قامت على الحوار وكان كل مقطع منها يهدف إلى إبراز غرض نفسي إضافة إلى الفكرة الرئيسية التي سيقت لأجلها الحادثة، ونظراً لكثرة هذه النماذج وصعوبة الإحاطة بها يكتفى بالإشارة إلى بعض الأمثلة التي تبرز بعض أغراض الحوار من الوجهة النفسية([48]).
الحوار – إذن- باعتباره عنصراً من عناصر بناء القصة القرآنية له دور كبير في التأثير على النفس والمرح، وتارة مشاعر الخوف والفزع، وتارة مشاعر الغبطة والسرور والفرح، وتارة مشاعر الحنق والغضب، وتارة مشاعر الرحمة والشفقة، ومشاعر القلق والاضطراب، وكل لون من هذه المشاعر يحتاج إلى بسط أكثر لنقف على مزيد من أسرار الحوار من الوجهة النفسية، لكن متطلبات البحث تقتضي الاكتفاء بما تقدّم أملا في أن يتبعه دراسة مفصلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
نتائج البحث
توصلت الدراسة إلى مجموعة من الحقائق والنتائج، منها ما قد تم بيانه في ثنايا البحث، ومنها ما يمكن إجماله في النتائج الآتية:
1- أكدت الدراسة على تنوع الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم في عرض مادة الحوار والكشف عنه ما بين الطول والقصر والشدة واللين، وضابط كل هذا مقتضى الحال.
2- بينت الدراسة أن حضور الحوار إلى ساحة النص القرآني كان متمشيا مع المراحل الدعوية التي مر بها أصحاب الدعوة، وقد لوحظ وجود اختلاف في الحوار القرآني ما بين المكي والمدني.
3- كشفت الدراسة عن الفرق بين أسلوب الرسل في الحوار وأسلوب الكفار في الردّ
4- أكدت الدراسة شمولية الحوار القرآني لجميع نواحي الحياة وجميع فئات المجتمع.
5- بينت الدراسة أن كثرة ورود أسلوب الاستفهام في القرآن دليل على كون هذا الدين ليس تلقينا، كما أن كثرة ورود لفظ القول دليل على اهتمام القرآن بموضوع الحوار.
6- أوضحت الدراسة أن ثبات شخصيات المتحاورين الذين قص علينا القرآن بعض حديثهم يؤكد واقعية الشخوص القرآنية.
7- بينت الدراسة أن بؤرة الحوار في القرآن تتركز حول قضايا الرسالة وموضوعاتها الكبرى.
8- أوضحت الدراسة أن الحوار في القرآن لأحداث منتقاة وليس نقلا لكل ما يجري، وهو عين البلاغة.
9- بينت الدراسة دور الحوار في التأثير على النفس الإنسانية وإثارة المشاعر والأحاسيس، وكون الحوار القرآني مادة غنية لكشف ذلك.
(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، العدد (2)، 1427ه / 2006م.
الهوامش
([1]) ابن منظور، أبو الفضل جلال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، ج4، دار صادر، بيروت، لبنان، (د.ت) ص219. وانظر: الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد، أساس البلاغة، كتاب الشعب، القاهرة، 1960، ص205.
([2]) الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2001، ص 142.
([3]) الراغب، المفردات، ص 97.
([4]) أخذت التقسيمات فقط من المقالة التالية: لغة الحوار، لهتاف الروح، على العنوان التالي:
http://www.marsfind.com.
([5]) أبو السعود، محمد بن محمد العمادي، (د.ت)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 8/50.
([6]) للمزيد: انظر العنوان التالي:
http://www.marsfind.com
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب (34)، حديث رقم (7275). انظر: البخاري، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح المسند المتصل من أحاديث الرسول، دار ابن كثير، ط 3، بيروت، 1987م.
([8]) الجرجاني، علي بن محمد بن علي، التعريفات، دار الكتـاب العربي، بيروت، لبنـان، 1405ﻫ، ج1، ص200.
([9]) ابن الأثير، أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد، المثل السائر بين الكاتب والشاعر، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، 1995م، ج2، ص52.
([10]) سورة الشعراء، الآية 42، ومثلها ما ورد في سورة الأعراف لكن دون ورود لفظ إذا، سورة الأعراف، الآيتان 113- 114.
([11]) بدوي، أحمد أحمد، من بلاغة القرآن، دار نهضة
مصر للطباعة والنشر، د. ط، الفجالة، 1978م، ص143.
([12]) ابن عاشور، محمد الطاهر، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، الدار التونسية للنشر، تونس، د. ط، 1984م، ج7، ص1610.
([13]) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف، البحر المحيط، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1978م، ص9.
([14]) انظر للمزيد الخضري: من أسرار حروف العطف، ص168.
([15]) كما في الآيات التالية: (ثم إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)، سورة نوح، الآية 8- 9. (قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِي)، سورة الأعراف، الآية 195. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ)، سورة يونس، الآية 71.
([16]) جعرابة: المدخل إلى التفسير، ص487.
([17]) السامرائي، فاضل، التعبير القرآني، ط1، دار عمّار، عمان 1988م، ص151.
([18]) انظر: عبد الباقي، محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، 2001م، ص662-677.
([19]) للمزيد انظر الخطيب، عبد الكريم، القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، دار المعرفة، بيروت، (د.ت)، ص130.
([20]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج7، ص1577.
([21]) الآلوسي، شهاب الدين أبو الفضل محمود بن شكري، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج19، ص72.
([22]) منها خاصة مثل:(الذي، اللذان اللذن، الذين، التي، اللتان اللتين، اللاتي، اللواتي، اللائي، الألى) ومنها مشتركة: (مَن، ما، ذا، أي، ذو، ذي، ال).
([23]) للمزيد انظر المقرئ الإدريسي، أبو زيـد: مجلـة
الرشاد، ع 11، منهج الحوار في القرآن.
([24]) هي (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ..) [144: آل عمران]، و(مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ..) [40: الأحزاب]، و (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ..) [2: محمد]، و(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..) [29: سورة الفتح].
([25]) (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا..) [37: الأحزاب].
([26]) انظر السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، د. ط، المكتبة الثقافية، بيروت، (1973م)، ج1، ص89.
([27]) الإدريسي، مجلة الرشاد، ص 6.
([28]) للمزيد انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص68.
([29]) مما نزل أولا (سورة الفاتحة وسورة المدثر وسورة العلق وسورة المزمل)، ولا مكان للحوار فيها كما هو واضح.
([30]) للمزيد انظر الطراونة، سليمان، دراسة نصية (أدبية) في القصة القرآنية، ط 1،1992م، ص169 وما بعدها.
([31]) فضل الله، محمد حسين، الحوار في القرآن الكريم، ط 5، دار التعارف، بيروت، 1987م، المقدمة.
([32]) تجدر الإشارة إلى بعض المصادر التي تم الرجوع إليها في هذا المبحث، حيث إن بعضها لم يتم الاقتباس المباشر منها، لكن أفاد الباحث منها، فاقتضت الإشارة، من هذه المراجع غير المشار إليه: حفني، أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، ط 2، الهيئة العامة المصرية للكتب، القاهرة، 1985م، وزكريا، الحوار ورسم الشخصية. والرفاعي، قاسم، حوار موسى والعبد الصالح، مجلة الفكر الإسلامي، لبنان، 1987م، ع 8، س16، ص85 ومابعدها، والقطان، مناع، مباحث في علوم القرآن، والسيوطي: الإتقان، ج2، ص135 وما بعدها.
([33]) فضل الله، الحوار في القرآن، المقدمة. وحفني، أسلوب المحاورة، ص50 وما بعدها.
([34]) حفني، أسلوب المحاورة، ص51.
([35]) حفني: أسلوب المحاورة، ص55.
([36]) سورة الشعراء، الآية 153، ومثلها قول قوم شعيب له في السورة نفسها، الآية 185.
([37]) قطب، سيد، في ظلال القرآن، ط 11، دار الشروق، القاهرة، 1985م، ج3، ص1505.
([38]) قطب، الظلال.
([39]) انظر فضل الله، الحوار، ص 56، وحفني: أسلوب المحاورة، ص 55 وما بعدها.
([40]) للمزيد انظر: فضل الله: الحوار، ص185 بتصرف.
([41]) فضل الله، الحوار، ص 70.
([42]) للمزيد انظر: فضل الله، الحوار، ص 228.
([43]) كما يفهم من النصوص الآتية: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْه) سورة القصص، الآية 15، (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ..) سورة الأعراف، الآية 150.
([44]) فضل الله، الحوار في القرآن، ص 278.
([45]) لعل في مقولة بني إسرائيل لموسى عليه السلام: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، ما يشير إلى استبعاد خروج هذا الأسلوب منه، كما أن في رده عليهم ووصف ذلك من صفات الجاهلين ما يؤكد هذا: (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ)، سورة البقرة، الآية 67.
([46]) حفني، التصوير الساخر في القرآن الكريم، ص33.
([47]) حفني: أسلوب المحاورة، ص 15، والعدوي، محمد خير محمود، معالم القصة في القرآن، ط 1، دار العدوي، مصر، 1988م، ص 73.
([48]) الحوار الوارد في ثنايا قصة قارون في سورة القصص: تبرز إضافة إلى الفكرة الرئيسية فكرة الضعف النفسي أمام المغريات المادية ومدى سطوة المادة على النفس، إضافة إلى ظهور أنماط من الغرائز الشريرة التي جبلت عليها النفس الإنسانيـة مثل: الفرح والزهو والغرور والتعالي..
- حوار موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف: يكشف عن مدى قدرة الإنسان على ضبط النفس واستيعاب ما لم تقتنع به النفس.
- حوار مؤمن آل فرعون في سورة غافر: يبرز مسألة كتمان الإيمان الذي لا يكون على أساس الخوف وإنما من باب الحرص على استمرارية الحوار وإبقاء روح الدعوة.
- قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف: عنوان استسلام النفس أمام المغريات والتعامي عن التفكير في المستقبل.
- قصة أصحاب الجنة في سورة القلم: تبرز مدى الأنانية والشح اللذين جبلت عليهما النفس الإنسانية والحرص على جمع المال، ثم مدى سطوة النفس على الغير عندما يصبح لها مركز نفوذ.
- مواقف الضعفاء والمستكبرين وعتابهم في أكثر من موضع[48]: تصوّر مشاعر الهروب من المسؤولية، وتبرز مشاعر الحسرة والندم واليأس كما تبرز مشاعر الإنسان عند مواجهة المسؤولية.
-موقف موسى عليه السلام مع ابنتي الرجل الصالح في مدين [48]: حيث تبرز مشاعر الحياء الطبيعي الذي جبلت عليه المرأة ومشاعر الإعجاب الفطري.
-موقف ابني آدم: يبرز مشاعر الحسد والحقد من الذي طوعت له نفسه قتل أخيه، أو مبدأ العنف في مواجهة فورة الانفعال وخيبة الأمل[48] وقيمة هذه القصة تتمثل في ما تخلفه من تأثير نفسي ضد الجريمة والمجرم، والتعاطف الروحي مع الضحية، موقف نفسي عدواني.