إن الماء مورد عظيم، بل إنه من أكبر النعم التي تحتاج إليها كل أمة في ميادين حياتها ومعاشها، ولقد ورد في ديننا ما يدل على وجوب المحافظة عليها، والاقتصاد في استعمالها، وتجنب الإسراف في استخدامها واستهلاكها في وجوه الاستخدامات كافة، شرباً وطهياً، واغتسالاً وغسلاً، وغير ذلك قال اللهُ تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/ 31.
وتأملوا في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (فقد كان يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي رواية الصحيحين: (كَانَ يَغْتَسِلُ، بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ). بل جاء عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ).
ولقد شدد أهل العلم رحمهم الله في المنع من الإسراف بالماء ولو كان على شاطئ النهر أو البحر.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "اقتصد في الوضوء ولو كنت على شاطئ نهر".
وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: (يـا بن عباس كَمْ يَكْفِينِي مِنَ الوُضُوءِ؟ قَالَ: مُدٌّ. قَالَ: كَمْ يَكْفِينِي لِلغُسْلِ؟ قَالَ: صَاعٌ، قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا يَكْفِينِي. قَالَ: لَا أُمَّ لَكَ " قَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه أحمد.
كذلك نهى صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإسراف في الوضوء، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ) رواه النسائي. وإذا كان هذا في شأن عبادة، فما ظنك بما دون العبادة.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: (مَا هَذَا السَّرَفُ، فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ، قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) رواه ابن ماجه.
ومن هنا كانت وصايا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته في ذلك واضحة، في حفظ الماء، والمحافظة عليه، واستعماله طهوراً نقياً، نظيفاً خالياً من التلوث وأسبابه ومن ذلك:
1. النهي عن إدخال اليد في الإناء عند الاستيقاظ من النوم:
لقد نهى عليه الصلاة والسلام من استيقظ من منامه أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وقال: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ). رواه البخاري.
2. النهي عن التنفس في الإناء:
ومن ذلك النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه، ففي الحديث: (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ، فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ، ثُمَّ لِيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ) رواه ابن ماجة من حديث أبي هرير رضي الله عنه.
3. الأمر بتغطية الأواني وربط الأسقية:
ومن الآداب: الأمر بتغطية الأواني وربط الأسقية حتى لا يصل إليها غبار أو هوام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ -وَأَحْسِبُهُ قَالَ- وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ) أخرجه البخاري.
4. النهي عن الاغتسال في الماء الراكد:
ونهى عليه الصلاة والسلام عن الاغتسال في الماء الراكد الساكن الذي لا يجري، فعَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّ أَبَا السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ. فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا) صحيح مسلم.
ونهى عن التبول في الماء الدائم، بل لقد نهى عليه الصلاة والسلام عن التبول قرب الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ). رواه أبو داود.
إذاً فالمــاء نعمة عظيمة تحتاج إلى الشكر وإنَّ شُكْرَ اللهِ تباركَ وتعالَى على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلاَلِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحاً في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/ 31.
وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيّاً عنهُ وممنوعاً مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعاً وأشدُّ خَطَراً.
كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا رأى السحاب قال: في هذه والله رزقكم، ولكنكم تحُرمونه بخطاياكم وذنوبكم. وقال الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) الذاريات/22.
وقد وعدنا الله بالمزيد إن شكرنا، وبالعذاب إن قصرنا حيث قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم/ 7.
المحور الثالث
فتاوى دائرة الإفتاء العام في تحسين كفاءة استخدام المياه
لقد أخذت دائرة الإفتاء العام على عاتقها أن تؤدي خدمات جليلة و تنشر رسائل توعوية لأبناء المجتمع لغرس القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة التي تعود على الفرد والمجتمع بالخير والفائدة، ولذا كان من أجل واجباتها أن تتصدى لإصدار الفتاوى الشرعية الخاصة منها والعامة لنشر الوعي وتصويب السلوك بين أفراد المجتمع بما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
ومن هنا فقد أصدرت دائرة الإفتاء العام عدة فتاوى بما يخص نعمة الماء التي أمرنا الله عز وجل بحفظها، ونهانا عن الإسراف والتبذير في استخدامها، الأمر الذي من شأنه تحسين كفاءة استخدام المياه وذلك من خلال تغير الأنماط السلوكية الخاطئة لدى بعض المواطنين وتعزيز ثقافة ترشيد كفاءة استخدام المياه، ومن هذه الفتاوى:
أولاً: الاعتداء على المياه بأي صورة من صور الاعتداء (فتوى رقم: 3016 و3221).
السؤال:
ما حكم الاستفادة من المياه بأسلوب يخالف المشروط والمتعارف عليه، إما بتعطيل عداد المياه، أو الأخذ المباشر من مواسير المياه التابعة لشركة المياه؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
المياه نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل التي لا يستغني عنها أحد، وهي أساس الحياة، قال الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/30، والمحافظة عليها واجب شرعي ومسؤولية جماعية لكل فرد ومسؤول، لا سيما في ظل شحّ الموارد المائية في بلادنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتوضأ: (لا تُسْرِفْ، لا تُسْرِفْ) رواه ابن ماجه.
وقد حرم الإسلام الاعتداء على المياه بجميع صنوفه وأشكاله، سواء ما كان منها على سبيل السرقة، أو تعطيل العدادات، أو نحو ذلك؛ فشركات المياه اليوم مملوكة إما ملكاً عاماً أو خاصاً.
وتقديم المياه للمنتفعين يترتب عليه نفقات باهظة تتكبدها هذه الشركات، من حفر للآبار، وتمديد للشبكات، وغير ذلك.
والاستفادة من هذه المياه ينبغي أن يكون بالطرق المشروعة، فالحصول عليها بغير هذه الطرق يعتبر تعدٍ ونهب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) رواه مسلم، ولا شك أن الذي يعتدي على المياه بطرق غير مشروعة يكره أن يطلع عليه أحد من الناس، ويشعر بالإثم في ضميره؛ لأنّ العمل الذي يقوم به إثم وعدوان.
وأما حديث: (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: فِي الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ) رواه أبو داود، فلا يشمل هذه الحالات؛ لأن الماء المباح المقصود في الحديث ما كان في البحار والأنهار، لا ما كان مملوكاً، فالماء المملوك يحرم أخذه من غير دفع بدله أو إذن صاحبه، ومعلوم أن شركات المياه لا تأذن لأحد بأخذ الماء دون مقابل؛ فإن أخذ الماء والحالة هذه سرقة توجب الإثم والعقوبة، وعلى من قام بها التوبة ورد قيمة ما أخذ وإن تقادم عليه الزمن؛ لأنه نوع من أنواع الغلول، قال الله عز وجل: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) آل عمران/161.
ولا بد من التذكر والتذكير بأن الاعتداء على الأموال العامة – ومنها المياه- من أشدِّ المحرمات؛ لأنه اعتداء على ملك الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ رِجَالا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ) رواه البخاري، والواجب على كل مسلم أن يكون أميناً وناصحاً لأمته؛ يحفظ الأموال العامة بصدق وإخلاص وعناية؛ حتى تبرأ ذمته، ويطيب كسبه، ويُرضي ربه. والله تعالى أعلم
السؤال :
ما حكم الماء المسروق من خلف عدادات المياه؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
المحافظة على المياه واجب شرعي ومسؤولية جماعية لكل فرد ومسؤول، لا سيما في ظل شح الموارد المائية في بلادنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتوضأ: (لا تُسْرِفْ، لا تُسْرِفْ) رواه ابن ماجه.
وقد حرم الإسلام الاعتداء على المياه بجميع صنوفه وأشكاله، سواء ما كان منها على سبيل السرقة، أو تعطيل العدادات، أو نحو ذلك؛ فشركات المياه اليوم مملوكة إما ملكاً عاماً أو خاصاً.
وتقديم المياه للمنتفعين يترتب عليه نفقات باهظة تتكبدها هذه الشركات، والاستفادة من هذه المياه ينبغي أن يكون بالطرق المشروعة، فالحصول عليها بغير هذه الطرق يعتبر تعدياً وسرقة، والسرقة من كبائر الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) رواه البخاري، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) رواه مسلم.
ولا شك أن الذي يعتدي على المياه بطرق غير مشروعة يكره أن يطلع عليه أحد من الناس؛ لأنّ العمل الذي يقوم به إثم وعدوان. كما أن سرقة المياه اعتداء على أموال الناس وأكلها بالباطل؛ والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) البقرة/188.
وأما حديث: (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: فِي الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ) رواه أبو داود، فلا يشمل هذه الحالات؛ لأن الماء المباح المقصود في الحديث ما كان في البحار والأنهار في صورته الطبيعية، أما توصيله للناس، وتنظيم توزيعه، ومراقبته الصحية، واستخراجه والمحافظة عليه، فهي أعمال تتطلب العديد من النفقات؛ ولهذا يحرم أخذه من غير دفع بدله؛ فإن فعل يكون غاصباً فيستحق الإثم والعقوبة، وعلى من قام بها التوبة وَرَد قيمة ما أخذ وإن تقادم عليه الزمن؛ لأنه نوع من أنواع الغلول. والله تعالى أعلم.
ثانياً: الإسراف في الماء (فتوى رقم: 2775و2460).
السؤال:
ما الحكم الشرعي في الإسراف في الماء؟
الجواب :
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
جعل الله تعالى الماء قوام الحياة لكل الكائنات في الأرض، فلا يعيش بدونه إنسان ولا حيوان ولا نبات، فبه يسقى الزرع، ومنه يشرب الإنسان والحيوان، وهو أكثر النعم انتشارًا على سطح الأرض، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/30.
ومن هنا فقد حث الإسلام على الحفاظ على الماء وتخزينه وحسن استغلاله، وحرَّم هدره وإفساده والتفريط فيه، لأنه نعمة كبرى تتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.
وهذه النعمة العظيمة إن حافظنا عليها حسب التوجيهات الدينية الكريمة دامت وسعدنا بها، كما أنها تزول وتفقد بهدرها والإسراف في استعمالها، لقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم/7.
فالواجب علينا جميعًا أن نعمل على حفظ الماء وصيانته من كل ما يُفسده أو يُضيعه، والمحافظة عليه بتجميعه في سدود واسعة وأماكن معدة لذلك، وحفظه في خزانات محكمة وآبار طاهرة، ولا نفرط في أي نقطة من هذا الماء المبارك الذي أنزله الله تعالى نعمة لنا، قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ق/9- 10.
ولأهمية هذه المادة المهمة في الحياة، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استعمالها، ولو كان للعبادة كالوضوء أو الغسل، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم على سعدٍ وهو يتوضأ، ورآه عليه الصلاة والسلام قد أسرف في الوضوء، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما هذا السَّرَف)؟! فقال: يا رسول الله، أفي الوضوء إسراف؟! فقال: (نعم، ولو كنت على نهر جارٍ) رواه ابن ماجه.
ولهذا حدد الفقهاء مقدار الحاجة لغسل العضو -والحاجة الشرعية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال- فإن زاد عن الحاجة فهو إسراف، والإسراف في الماء إذا كان مملوكًا للشخص نفسه فهو مكروه، وأما إذا كان مملوكًا للغير ولم يعلم رضاه بالإسراف أو كان موقوفًا كما هو الحال في أماكن الوضوء الموجودة في المساجد، فإن الإسراف في الماء عندئذ محرم عند جميع الفقهاء، لأنه مال موقوف لا يجوز أن يُستخدم إلا بقدر الحاجة.
ولأهمية الماء في الإسلام، حدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الكمية التي ينبغي للمسلم أن يتوضأ ويغتسل بها، ففي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد"، والصاع يساوي (2.75 لتر ماء)، والمد يساوي (687 ملليلتر ماء).
وهذا بيان لأقل ما يمكن به أداء العبادة عادة، وليس تقديرًا لازمًا.
ونحن في الأردن من الدول الفقيرة بالماء، بل من أشدها فقرًا، لذا يتأكد علينا المحافظة على الماء، وذلك بعدم الإسراف به، والقيام على صيانة السدود وشبكات المياه والمحافظة على مياه الأمطار من الهدر والضياع بغير فائدة، وشكر نعمة الله تعالى بحفظها والاستفادة منها على الوجه الأكمل. والحمد لله رب العالمين.
ثالثاً: تلويث مصادر المياه (فتوى رقم: 3286).
السؤال :
ما الحكم الشرعي لتلويث مصادر المياه؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
يعتبر الماء من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، وجعله الله تعالى المصدر الأساسي للحياة قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/ 30، وقال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ . وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ق/ 9- 10.
وقد خلق الله تعالى هذا الكون وسخره للإنسان وجعله مستخلفاً فيه، قال تعالى: )وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا( الجاثية/ 13، فعلى الإنسان أن يحسن التصرف بالموارد التي سخرها الله تعالى له, وأن يحافظ عليها باعتبارها ميراثاً لجميع البشرية، وليست ملك جيل واحد من الأجيال، فلا يحق لأحد أن يعبث بهذه الموارد وأن يدمرها، أو يستنفذ حق باقي الأجيال.
وقد بلغ من عناية الشريعة الإسلامية بالماء أن وضع أحكاماً خاصة تتعلق بحفظه وصيانته وحث على عدم الإسراف فيه أو تلويثه.
كما حرم الإسلام إهدار هذه النعمة العظيمة بالإسراف أو التلويث، خاصة إذا كان التلويث عاماً يتناول كافة المصادر المائية، وهو حكم يتوافق مع مقاصد الشريعة، وعمومات الأحكام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ) رواه ابن ماجة.
والاعتداء على الماء بالتلويث هو من الفساد في الأرض الذي نهى عنه الله تعالى، وتوعد صاحبه بأشد العقوبات، قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) البقرة/ 60. وقال تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) البقرة/ 211.
كما أن الاعتداء على الماء بالتلويث هو اعتداء على كل الناس؛ لأن الناس شركاء في الماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلأِ وَالنَّارِ) رواه أبو داود.
ومما يدل على حرمة تلويث المياه ما روى جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد) رواه مسلم، والبول في الماء الراكد يفسده، وإفساده يؤدي إلى الإضرار بالناس. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ) رواه مسلم. وذلك لما فيه من تلويث للمياه وعدم إمكانية انتفاع الناس منه.
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على المياه وصيانتها عن التلوث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (غَطُّوا الإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ) رواه مسلم.
وعليه؛ فإن تلويث المياه بكافة الطرق والوسائل أمر محرم شرعاً، ومخالف لتعاليم الشريعة الإسلامية خاصة ونحن في بيئة يشح فيها وجود الماء، ويزداد الأمر حرمة ويشتد أثمه إذا كان فيه زيادة إتلاف للبيئة، كرمي المخلفات الصناعية والمبيدات الحشرية في الينابيع والأنهار، أو رمي النفايات الصلبة الخطرة في البرك والينابيع، أو تسريب مياه الصرف الصحي للمياه الجوفية، أو تسميم المياه المتعمد لقتل الحيوانات الضارة، مما يؤدي إلى تلوث الماء تلوثاً شديداً يؤدي إلى الإضرار بالتربة والمحاصيل وجميع أشكال الحياة، وحصول مخاطر صحية مؤكدة على حياة الإنسان، وخسارة المصدر المائي بشكل كلي. والله أعلم
رابعاً: تحويل مياه الأمطار لشبكة الصرف الصحي (فتوى رقم: 3227).
السؤال :
ما حكم التخلص من مياه الأمطار بشبك مصارفها مع مياه الصرف الصحي مباشرة، مع العلم أننا في بلدنا بحاجة ماسة لهذه الأمطار؟
الجواب :
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
لا شك أن الماء نعمة من أعظم النعم الربانية، ومنحة إلهية نستمتع بها في عالمنا الأرضي، فتكون سبباً في حياة كل شيء، ولذلك كان حفظ مياه الأمطار على مستوى الأفراد والبلاد أهم سبب من أسباب توفير مياه الشرب والزراعة.
أما تحويل مياه الأمطار لشبكة "الصرف الصحي"؛ فنخشى أن يكون من إتلاف النعمة التي منّ الله تعالى بها على العباد والتي تشتد الحاجة إليها، وبخاصة في أوقات القحط والجدب. فالواجب أن يتم تحويل المياه لشبكات خاصة لجمع مياه الأمطار -وهي متوفرة ولله الحمد-، أو تترك لتسيل في الأودية والسيول وتجتمع في السدود، أو يستفيد منها الآخرون في ري المزروعات وسقي الحيوانات. والله تعالى أعلم.
خامساً: تبليغ الجهات المختصة عن تسريب المياه (فتوى رقم: 3290).
السؤال :
ما الحكم الشرعي لتبليغ الجهات المعنية عن تسريب المياه في الأماكن العامة؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
المجتمع المسلم تتكامل فيه المسؤولية المتعلقة بالمصالح العامة، ويستشعر كل فرد فيه ثقل الأمانة التي يتحملها تجاه أسباب الصلاح وموارد الحياة، ومن شواهد هذا العموم قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران/ 104؛ فكل ما كان من الخير والمعروف مطلوب من المسلم الأمر به، والدعوة إليه، والتمسك به، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فعلى كل فرد في المجتمع ﺃﻥ يراعي ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ لمجتمعه، ويحرص على المحافظة عليها.
ولا ريب أن الماء فيه قوام الحياة، ووجوده والمحافظة عليه من الهدر ركيزة من ركائز أمن المجتمع، وأسباب العيش الأساسية التي أكرم الله عز وجل بها الإنسان، وأمره بصيانتها وشكرها.
وعليه؛ فإن التبليغ والتواصل مع الجهات المختصة في حال حصول خلل أو تسريب في شبكات تزويد المياه واجب مجتمعي وفرض كفائي؛ لما فيه من تحقيق معنى تحمل المسؤولية ووجوب دفع المفسدة، وجلب المصلحة، وهو من التعاون على الخير والنصح للعامة. قال عليه الصلاة والسلام: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) والله تعالى أعلم.
سادساً: ري المزروعات بالمياه المعالجة من محطات الصرف الصحي (قرار مجلس الإفتاء رقم: 217، وفتوى: 1904، وفتوى: 2508).
قرار رقم: (217) حكم ري المزروعات بالمياه المعالجة من محطات الصرف الصحي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية في جلسته التاسعة المنعقدة يوم الخميس (24/ذوالحجة/1436هـ)، الموافق (8/10/2015م) قد اطلع على السؤال الوارد من عطوفة أمين عام سلطة المياه المهندس توفيق الحباشنة، حيث جاء فيه:
أرجو سماحتكم العلم أن محطات التنقية (الصرف الصحي) تنتج مياه عادمة معالجة وفق أحدث التقنيات العالمية، بما يتطابق مع المواصفات الدولية والعالمية والمحلية.
ونظرا لأهمية استخدام المياه المعالجة الخارجة من محطات الصرف الصحي وفق مواصفة المياه العادمة المعالجة الأردنية، بحيث تصبح ذات فائدة للاستخدامات المختلفة، خاصة في عمليات الري المقيد بما يضمن توفير كميات كبيرة من المياه النقية المخصصة للري.
أرجو سماحتكم عرض الموضوع على أصحاب الفضيلة من ذوي الاختصاص لبيان الرأي الشرعي في استخدام المياه المعالجة الخارجة من محطات الصرف الصحي بعمليات ري المزروعات والأشجار؟
وبعد الدراسة والبحث ومداولة الرأي قرر المجلس ما يأتي:
لا حرج في سقاية المزروعات من المياه العادمة المعالجة، ولا حرج في الأكل من نتاج هذه المزروعات، فحكم الثمر لا يتأثر بالمياه سواء كانت طاهرة أو غير طاهرة، كما سئل الإمام النووي رحمه الله: إذا سقي الزرع والبقل والثمر بماء نجس أو زبلت أرضه، هل يحل أكله؟ فأجاب بقوله: يحل أكله. [فتاوى النووي].
ولكن لا بد من مراعاة التعليمات الصحية التي تقررها الجهات المختصة في هذا الشأن، كي تكون عملية السقاية سالمة، لا تلوث البيئة، ولا تفسد الزرع والثمر، ولا تضر الإنسان. وعليها أن تلتزم بالمعايير العلمية والطبية في هذا المجال. والله تعالى أعلم
السؤال :
هل أكل السمك الذي يعيش في الماء الملوث حرام (السمك الذي نصيده من سيل الزرقاء)؟
الجواب :
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
السمك الذي يعيش في المياه الملوثة له حالتان:
أولا: إذا تغير ماء السيل بالنجاسة، ثم أثر في السمك حتى غير طعم لحمه أو ريحه أو لونه؛ فالأصح في مذهبنا كراهة أكل هذا السمك حتى يُنقل إلى الماء الطاهر فيذهب عنه أثر النجاسة؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (أكل الجلالة) رواه أبوداود. والجلالة: كل حيوان يأكل الجلة - أي النجاسة - حتى يتغير وصفه.
جاء في "مغني المحتاج شرح المنهاج": "إذا ظهر تغير لحم جلالة من نعم أو غيره كدجاج, ولو يسيرا حرم أكله, وبه قال الإمام أحمد; لأنها صارت من الخبائث, وقد صح النهي عن أكلها وشرب لبنها وركوبها كما قاله أبو داود وغيره... - وقال النووي -: الأصح يكره؛ لأن النهي إنما هو لتغير اللحم, وهو لا يوجب التحريم، كما لو نتن اللحم المذكى وَتَرَوَّحَ؛ فإنه يكره أكله على الصحيح" "مغني المحتاج" (6/156).
ثانيا: أما إذا لم يؤثر الماء النجس في الأسماك التي تعيش فيه، فلا حرج في أكله؛ إذ الأصل فيه الإباحة، ولكن بشرط أن يؤمن ضرره على صحة الإنسان، فالدراسات العلمية تنذر بالخطر الذي تحمله الأسماك الملوثة بسبب ما تحمله من الطفيليات والبكتيريا الخطيرة على صحة الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة. والله أعلم.
السؤال :
ما حكم الأكل من ثمرة شجرة قرب جورة امتصاصيِّة؟
الجواب :
الحفرة الامتصاصية: هي التي تُحفر بجانب المنزل لتجتمع فيه المياه المستعملة في المنزل للطهارة والنظافة وهي مياه متنجِّسة، وامتصاص عروق الشجر للمياه المتنجِّسة لا يُحرِّم أكل ثمر الشجرة ولا ورقها إن كان يُؤكل، هذا مذهب الشافعية وغيرهم.
لكن إذا ثبت طبيّاً أن ثمرها مضِرٌّ بالصحَّة حرم أكل ثمرها، لأن أكل كلّ مضرٍّ حرام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) رواه أحمد وابن ماجه.
المحور الرابع
التوصيات
- نشر الوعي بين المواطنين بما يخص تحسين كفاءة استخدام المياه.
- بيان الأحكام الشرعية بما يخص الأنماط السلوكية لدى المواطنين لما له من أثر في تغيير السلوك وذلك من خلال التعاون مع المؤسسات الدينية.
- وضع خطط وطنية لاستثمار الموارد المائية بصورة مثلى.
- استغلال وتخزين مياه الأمطار على مستوى الفردي والجماعي.
- تحسين كفاءة شبكات الري لتقليل نسبة الفاقد.
- تشديد رقابة إدارة المياه من حيث كمية المياه وطرق توزيعها.
والله أسأل أن يحفظ وطننا من كل سوء وأن يبارك لنا فيه، وأن يغدق عليه من بركات السماء وأن يخرج لنا من بركات الأرض إنه هو السميع العليم. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) بحث مقدم لمؤتمر البيئة والمياه من منظور الشريعة الإسلامية، كلية الشريعة/ الجامعة الأردنية ومركز الدراسات الإسلامية في جامعة مونستر الألمانية بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي، بتاريخ 23-24 نيسان 2017م.
|