تعريف الأحبة بحقيقة المحبة (محبة الله ورسوله)
محبة الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم هي أوثق عرى الإيمان، وأقصر الطرق إلى الجنان، ودليل البراءة من الشيطان، وكيف لا تكون كذلك ومحلها القلب الذي هو محل نظر الرحمن، فإذا سكنته شع النور منه وعمّ سائر الأركان، فهي فيه إيمانا واعتقادا، وعلى الجوارح طاعة وانقيادا، أحبهم فأحبوه وأمرهم فأطاعوه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
وتقديمها على سائر المحبوبات شرط الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يتحصل ذلك إلا لمن جاهد في سبيل ذلك سائر الأهواء وجميع الشهوات، فمن أحب ولم يجاهد هواه وشهوته فهو مغرور، ومن جاهد دون محبة فعمله غير مقبول، قال تعالى في سورة التوبة -والتي سميت براءة والكاشفة والفاضحة-: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
فمن تحصل على المحبة الشرعية تحصل على خير كثير وبلغ درجة عظيمة من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) متفق عليه، لذا لابد للمسلم من معرفة حقيقتها ليتبين سبيل تحصيلها وينعم بثمارها.
فحقيقة المحبة ميل القلب، وهي نوعان[1]:
النوع الأول: محبة طَبعيّة تابعة لهوى النفس، كمحبة الإنسان لنفسه ولوالديه، فالإنسان مطبوع على أن يحب نفسه أشد من محبته لغيره، وهذا النوع خارج عن قدرة الإنسان فلا يقع تحت التكليف؛ لأن الله عز وجل لا يكلف الإنسان إلا ما يقدر على فعله ويطيقه.
النوع الثاني: محبة عقلية اختيارية، وهي الميل إلى ما يختاره العقل ولو كان مخالفاً للطبع، كالمريض يميل للدواء وإن كان مرا؛ لأن العقل يرجح بأن فيه شفاؤه ولو كان مخالفا للطبع والهوى.
والمحبة التي طلب الشرع تحقيقها من هذا النوع وهي المحبة العقلية الاختيارية، وليست الطَبعيّة الاضطرارية؛ لأن الشرع لا يكلف الإنسان إلا بما يقع تحت قدرته واختياره.
والمحبة الشرعية تكون على مرحلتين، أصل المحبة وكمالها[2]:
المرحلة الأولى: أصل المحبة الشرعية، وهو ميل القلب وترجيحه لأوامر الله ورسوله؛ لأنه يعلم أن الله ورسوله لا يأمراه ولا ينهياه إلّا بما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته وعقباه، وحينئذ يميل ويرجح جانب أمرهما بمقتضى عقله على أمر غيرهما، وإن كان هواه وطبعه على خلاف ذلك.
وقد تعددت تعريفات العلماء للمحبة الشرعية في هذه المرحلة، فقالوا: بأنها التزام طاعة الله ورسوله والانتهاء عن معاصيه، وقيل: هي التزام شريعته واتباع طاعته، وقد سئل بعض الصالحين عن المحبة ما هي؟ فقال: مواطأة القلب لمراد الرب، أن توافق الله عزَّ وجلَّ، فتحب ما أحب وتكره ما كره[3].
ويمكن تعريف المحبة في هذه المرحلة بأنها: ميل قلب الإنسان لما يحقق له النفع ويدفع عنه الضرر في الدنيا والآخرة تبعا لترجيح عقله، وإن خالف هواه.
ولا يحصل ذلك إلا بالتفكر والتدبر في نعم الله وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، والذي أمر الله به كثيرا في كتابه، ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكم به من نِعَمِه، وأحِبُّوني لحُبِّ اللهِ، وأحِبُّوا أهْلَ بَيْتي لحُبِّي) أخرجه الحاكم، وعلامة تحصيلها الاتباع، قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران: 31].
وهذه المرحلة من المحبة عدّها بعض العلماء كالقاضي عياض شرطاً للإيمان، بدليل أن ترجيح ما أمر الله به ورسوله هو علامة التعظيم والإجلال اللتان هما مقتضى الإيمان وأصله، فليس بمؤمن من لم يعظم الله ورسوله، وخالفه في ذلك القرطبي -صاحب المفهم-، واستدل على ذلك بأنه لا تلازم بين التعظيم والميل القلبي، فقد يعتقد الإنسان تعظيم الشيء مع خلوه من محبته، كما نقل ذلك ابن حجر في فتح الباري[4].
المرحلة الثانية: كمال المحبة، وهي أن يصير طبعه وهواه تابعاً لعقله، فبدل أن يجد ألم مخالفة الهوى والطبع وتنازعهما مع العقل في الأمر والنهي، يصبح يجد لذة متابعة عقله وهواه وطبعه للمحبوب، فلا يحب إلا ما يحب ولا يكره إلا ما كره.
لذلك عرّفوا المحبة في هذه المرحلة بأنها حالة لا يعبر عنها مقالة، وقيل استيلاء المحبوب على السر واستهتار القلب بدائم الذكر، وقيل استواء الحضور والغيبة، وارتفاع البعد والقرب[5].
فيمكن تعريفها –وهيهات- بأن يصير طبع الإنسان وهواه ولذته في استغراق عقله وقلبه في معرفة مولاه، لذا كانت عبارة أهل التصوف والمحبة -جعلني الله وإياكم منهم- من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف اعترف، ومن اعترف أدمن ما عرف.
وقد اعترض البعض وشنع على كلام أهل المحبة عن هذا المقام (كمال المحبة) باعتراضين:
الاعتراض الأول: إن فيه إلغاء للعقل وإقامة الذوق مكانه[6].
والرد على ذلك جلي وواضح، إذ كيف يكون فيه إلغاء للعقل، وما توصل إلى هذا المقام معرفة الله الناتجة عن التفكر والتدبر في خلق الله إلا بالعقل.
الاعتراض الثاني: إن هذا الكلام والتلبس بهذا المقام يؤدي إلى خروج الإنسان عن تعاليم الشرع الحنيف، ومخالفة هدي النبي الكريم، حيث تشريع العبادات يكون بالذوق لا بالوحي[7].
وهذا الاعتراض مردود كسابقه؛ لأن من أعظم ثمار المحبة تمام الاتباع لله فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، فكلما زادت المحبة وكملت، زاد اتباع الشرع والتمسك به، فلا يصل إلى كمال المحبة من لم يتحصل على أصلها.
فمقام المحبة مقام عظيم من ظفر به فقد فاز فوزاً عظيماً، جعلني الله وإياكم من أصحابه، وكما قال الشاعر:
وَاللَّهِ ما طَلَبوا الوُقوفَ بِبابِهِ حَتّى دعوا فَأَتاهُم المفتاحُ
لا يَطربونَ بِغَيرِ ذِكر حَبيبِهم أَبَداً فَكُلُّ زَمانِهم أَفراحُ
فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ
[1] شرح الشفا، الهروي القاري، 2/ 36.
[2] شرح الشفا، 2/36
[3] شرح صحيح البخارى، لابن بطال 1 / 67
[4] فتح الباري، 1/59
[5] معجم مقاليد العلوم، للسيوطي.
[6] تنبيه الغبي، للبقاعي بتحقيق عبد الرحمن الوكيل، 2/212
[7] مجلة المنار، 19/50