المذهبية الفقهية... "وسطية" بين "تطرفين"
الحكم الشرعي في الإسلام له أصول ودلائل، تنبني عليها كل التعليلات والمسائل، لأنه هو مراد الله تعالى، إذ إنه سبحانه هو الآمر والناهي، وهو الذي يصف الأشياء بالحلّ والحرمة، وليس ذلك راجعاً إلى آراء الناس، وليس متروكاً نهباً لأهوائهم ورغباتهم، وكل ما يقوم به العلماء والفقهاء والمفتون إنما هو البيان لحكم الله تعالى، وقد أمرنا بالوقوف على حكم الله وعدم تجاوزه، يقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون} [النحل: 116].
وهذا التأصيل لمفهوم الحكم الشرعي، وأثره الواضح في تحديد واجب المفتين والقضاة والعلماء إنما يظهر بصورته الصحيحة الصافية وفق أصول أهل السنة والجماعة، دون من سواهم من أهل التطرف الذي يجحفون ولا ينصفون، ويعتدون ويتجاوزون حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك:
إنّ أهل السنة توسطوا بين طرفين من أهل الغلوّ:
الطرف الأول: فريق يمنع النظر في الأدلة مطلقاً، ويحرمون الاجتهاد، وهؤلاء في الفرق القديمة: الحشوية والباطنية والتعليمية والغلاة من الحشاشين وغيرهم، وهؤلاء يرون اتباع الشيخ بدون أدنى نظر، سواء في العقائد أو الفقه وأصوله؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة الحق إلا من خلال تعليمات ذلك الشيخ كما يزعمون، ويسمونه المعلم، ولذلك سموا بأهل التعليم والتعليمية.
الطرف الثاني: فريق يوجب النظر في الأدلة مطلقاً، ويمنعون سؤال العلماء، وهؤلاء في الفرق القديمة: بعض القدرية، ومنهم من أنكر الإجماع وزعم أنه لا بد من اتباع الدليل، كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الشيعة، ومن الاتجاهات الفكرية المعاصرة الحداثيون ومن يسمون أنفسهم بالتنويرين والعقلانيين والخارجون عن المذهبية الفقهية، وهؤلاء يوجبون على المكلف أن يأخذ من الأدلة الشرعية كل الأحكام، سواء كان ذلك في العقائد أو الفقه، حتى إنهم منعوا من الرجوع في أدقّ المسائل إلى الأئمة المعتبرين والمذاهب الفقهية الكبرى في تاريخ الإسلام، ويزعم هؤلاء جميعاً أن الواجب هو أن يأخذ الإنسان الأحكام التي يحتاجها من الأدلة مباشرة بدون الرجوع إلى الفقهاء والمجتهدين، وكل واحدة من هذه الطوائف يعبر بألفاظه الخاصة عن معتقداته وآرائه.
وأما أهل السنة فكان موقفهم وسطياً معتدلاً آخذاً بمحكم الأدلة الشرعية وإجماعات الأمة، فهم يرون الاجتهاد والنظر واتباع الأدلة العقلية والنقلية واجباً في مباحث العقائد والأصول، فيجب عندهم على المكلف شرعاً أن يعرف كلّ ذلك بالدليل، وأن يعرف مبدأ وجوب اتباع المذاهب الفقهية المعتبرة وعدم جواز الخروج عنها، ولذلك انعقد الإجماع على وجوب اتباعها بعد استقرارها وذيوعها، كما حكاه كثير من الأئمة في كتب الفقه والأصول.
واستند هذا الموقف الوسطي لأهل السنة في وجوب اتباع الناس للمجتهدين وأهل الاختصاص من الفقهاء إلى مجموعة من الأدلة الشرعية، مثل قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً} [النساء: 83]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} [التوبة: 122]، وغير ذلك من الأدلة الشرعية.
وأما مواقف الفرق المخالفة من أهل الغلوّ؛ فقد نشأ عنها خلل كبير في بنية المجتمع الإسلامي، مما أدى إلى حصول فتن التكفير والتضليل والتبديع، وانتشار الاتجاهات التي طبقت المبادئ الخاطئة على شكل دعوات فكرية أو عسكرية، وليس هذا الخلل مقصوراً على جانب من جوانب الحياة، بل عامّ طامّ يسري في جميع مفاصل الحياة الفردية والأسرية، ويتجاوز ذلك إلى اختصاصات المؤسسات والجوانب التي تشرف عليها الدولة.
ومن هنا؛ كان مذهب أهل السنة وما أجمعوا عليه من اتباع المذاهب الفقهية كأساس علمي راسخ في إظهار العبودية لرب العالمين وممارسة جوانب الحياة الدنيوية بكل رحابة واتساع، وكان مذهبهم أعدل المذاهب وأوفقها بتحصيل المصالح البشرية ودفع المفاسد عن الناس، وتحقيق السعادات الدنيوية والأخروية، وكان لزاماً علينا متابعة ما بناه علماؤنا واستنبطوه من المناهج العلمية.