البعد الاجتماعي لصوم رمضان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. أما بعد:
كثير من الناس يدخلون شهر رمضان ويخرجون منه ولم يزدادوا فيه إلا سمنة وعصبية ومشاكل وتبرما، وذلك لأنهم لم يصوموه صوماً حقيقياً، بل عدوه حملاً ثقيلاً يثقل كواهلهم، يكثرون فيه من الولائم والزيارات والسهرات والمجاملات التي في الغالب لا ترضي الله تعالى.
إننا في هذا الشهر الفضيل مدعوون للعودة إلى المعنى الحقيقي للصيام، وذلك بالامتثال لمقاصده وأهدافه التي جمعها ربنا سبحانه بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
فمقصد الصوم الأعظم هو تحقيق التقوى التي جماعها الخوف من الله تعالى واستشعار عظمته ومراقبته، وهذه التقوى المنشودة من وراء الصوم تتجلى في شهر رمضان المبارك بأبعاد مختلفة على رأسها البعد الاجتماعي الذي نحن بحاجة ماسة إليه للخروج من النفق المظلم الذي نحن فيه.
ولعل من أبرز الجوانب والأبعاد الاجتماعية المستفادة من مدرسة شهر الصيام ما يأتي:
1- تحقيق وحدة الصف الإسلامي:
إن غالب بلدان المسلمين يصومون في يوم واحد ويفطرون في يوم واحد، وأهل البلد الواحد يمسكون في ساعة واحدة ويفطرون في ساعة أخرى مشتركة، ويحرصون على صلاة التراويح والعيد، وهذا يوحد مشاعرهم وصفوفهم في مواجهة التحديات التي تعصف بهم.
بالإضافة إلى أن الصوم يوحد تطلعاتهم وحبهم للخير وحرصهم عليه، وكل هذا يولد عند المسلمين روح التعاون والاتحاد في مواجهة الصعاب والعواصف التي تحدق بالأمة الاسلامية.
2- الشعور مع الفقراء:
إن الأصل بالمسلم أن يكون متفحصاً لحال مجتمعه، شاعراً بأوجاعهم وآلامهم الكثيرة، لكن قد يحدث أن ينسى أو يتناسى المسلم ما يحل بإخوانه وجيرانه نتيجة لضغط الأعمال والمادة والسعي في مناكب الأرض، ورمضان فرصة تجعل الغني يشعر بالفقير المحروم، وذلك عندما يذوق هذا الغني المترف ألم الحرمان والجوع في نهار رمضان، فتقوى بينه وبين إخوانه الفقراء أواصر المحبة ويزداد الود والتلاحم الاجتماعي بينهم، ومن ثم يصبح مجتمعهم ووطنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا كما ورد في الحديث الشريف عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى) [رواه مسلم].
3- الارتقاء بالأخلاق الحسنة وتعزيزها:
إن الصوم هو العباد الخفية التي تكون بين العبد وربه، فعن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: الصَّوْمُ لي وأنا أجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وأَكْلَهُ وشُرْبَهُ مِن أجْلِي) [رواه مسلم]، فإذا تقوى عند المسلم هذا الشعور بمراقبة الله تعالى حسنت أخلاقه، وترَّفع عن كثير من الدنايا والذنوب وعلى رأسها الكذب والخيانة وما أكثرها وأمثالها في مجتمعاتنا، فترى المسلم الحق الذي صام صياماً حقيقياً قد قويت عنده نوازع الإيمان والتقوى، وصار إنساناً صالحاً صاحب أخلاق راقية راسخة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وبذلك فإنه يتحرر من ربقة الكثير من المعاصي والآثام، فلا تراه إلا حيث الخير والمصلحة للأمة والمجتمع.
4- تعويد المسلمين على الصبر:
الصبر مفتاح الفرج، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
والصبر مفتاح الأجر. قال تعالى: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر: 10]، وخير ما يعلمنا الصبر هو شهر الصوم، فالذي تعود على الصوم وتربى في مدرسة الصيام نجده شجاعاً قوياً لا يهاب الموت متعوداً على تلقي الصدمات، لذا كان الجندي المسلم مقداماً شجاعاً صابراً محتسباً لا يهاب الموت، فتراه يقاتل بنفس عميق معتمد على الله عز وجل، ولعل هذا الأمر -أعني الصبر- من الأمور الاجتماعية التي تمس الحاجة إليها هذه الأيام؛ لأن الأمة في ضعف واستكانة وتحكم بمقدراتها من قبل أعدائها.
5- تعويد المسلم على النظام ودقة العمل:
إن المسلمين في مجتمعاتهم هذه الأيام يعانون من الانفلات والتسيب واللامسؤولية، في حين أنهم لو عادوا لواقع دينهم ومنه الصوم الحقيقي لوجدوا فيه الكثير من الأمور التي تعودهم على الدقة والنظام، وليس أدل على ذلك من موعد الإمساك ونهايته، وبداية الشهر الفضيل ونهايته، فلحظة قد تجعلك غير صائم، ولحظة تجعلك في عداد الصائمين.
6- تربية المسلم على السخاء والبذل والعطاء:
إن شهر رمضان هو فرصة المسلم الكبرى لكي يتعود على العطاء والصدقة اقتداء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعن ابن عباس، قال: "كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ" [رواه البخاري]، ويتعود ويتربى على البذل عندما يحرص على تفطير الصائمين، قال عليه الصلاة والسلام: (..مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ)، قَالُوا: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ: (يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَو شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ) [صحيح ابن خزيمة]، ويتعود المسلم على البذل والعطاء عندما يؤدي زكاة الفطر، ويدفع الفدية والكفارة.
هذه أهم الأبعاد الاجتماعية التي نتزود منها في مدرسة الصيام الرمضانية، وأسال الله تعالى أن يجعلنا من عتقاء الشهر الفضيل من النار، وأن يعيننا فيه وفي غيره على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان. والحمد لله رب العالمين.