فتاوى بحثية

الموضوع : ضوابط التلفيق والخروج عن المذهب الفقهي
رقم الفتوى: 3875
التاريخ : 14-05-2024
التصنيف: أصول الفقه
نوع الفتوى: بحثية
المفتي : لجنة الإفتاء



السؤال:

ما ضوابط الخروج عن المذهب الفقهي، وما ضوابط التلفيق بين المذاهب، وهل الخروج عن المذهب في بعض المسائل يعتبر تحرراً عن المذهب؟


الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

درج العمل لدى جماهير الأمة الإسلامية بعد تدوين المذاهب الفقهية الأربعة على اتباع أحد هذه المذاهب، والالتزام به، وهذه المذاهب هي: مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام أحمد رضي الله عنهم، فليس ثمة ما يمنع المقلد شرعاً أن يلتزم بأحد هذه المذاهب الفقهية الأربعة ولا يحيد عنها أبدا، وليس ثمة ما يمنع المقلد من الانتقال من مذهب لآخر، قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في [الفتاوى الفقهية الكبرى 4/ 289]: "الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وحشرنا في زمرتهم، وإذا كانوا كلهم على هدى من الله سبحانه وتعالى فلا حرج على من أرشد غيره إلى التمسك بأي مذهب من المذاهب الأربعة وإن خالف مذهبه واعتقاده؛ لأنه أرشده إلى حق وهدى".

فالأولى على من التزم مذهباً معيناً أن لا يخرج عنه لا عملاً ولا إفتاءً، وله الخروج عند الحاجة كأن يشق عليه أو على المستفتي، قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في [الفتاوى الفقهية الكبرى 4/ 316]: "يسوغ له -أي المفتي- الإفتاء بمذهبه وخلاف مذهبه إذا عرف ما يفتي به على وجهه، وأضافه إلى الإمام القائل به".

وحاصل الضوابط في الخروج عن المذهب:

الأول: أن يكون مذهب المقلَّد مدوناً؛ ليتحصل له العلم اليقيني بكون المسألة المقلِّد فيها من المذهب.

الثاني: حفظ المقلِّد شروط المقلَّد في تلك المسألة.

الثالث: ألا يتبع رخص العلماء، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله في [المجموع 1/ 55]: "لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز؛ وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف".

الرابع: أن لا يؤدي الخروج عن المذهب إلى الوقوع في التلفيق الممنوع.

الخامس: أن يكون هناك حاجة للخروج، ولابد من التفرقة بين حاجة المقلِّد للخروج عن المذهب وحاجة المفتي، فالمقلِّد يلتزم بفتوى المفتي الذي قد يخرج عن المذهب لحاجة عامة. 

ولا يعتبر خروج المقلد عن مذهبه في مسألة معينة، تحرراً عن مذهبه؛ لأنه قد يقع في حرج وضيق فيرفع عنه باتباع أحد المذاهب المعتبرة، ومن خلال التتبع نجد كثيراً من المسائل داخل البيت المذهبي ترشد المقلد أن يقلد غير مذهبه تيسيراً عليه، منها ما ذكره بعض أئمتنا الشافعية: عدم نجاسة الماء القليل إلا بالتغير تقليداً للإمام مالك رحمه الله، قال الباجوري رحمه الله في [حاشيته على شرح ابن قاسم 1/ 34]: "وفيه فسحة"، ومنها كما قال ابن عجيل اليمني الشافعي: ثلاث مسائل في الزكاة يفتى فيها على خلاف المذهب أي تقليداً: في نقل الزكاة، ودفعها إلى صنف واحد، ودفع زكاة واحد إلى شخص واحد. [حاشية الجمل على شرح المنهج 4/ 97]، ومن أراد التوسع بذلك فلينظر في كتب الفقه والفتاوى فسيجد فسحة في الخروج عن المذهب إما إرشاداً للمستفتي، أو إفتاءً، أو قضاءً.

أما مسألة التلفيق بين المذاهب الفقهية وهو أن يركّب المقلد قولين يتولد منهما قول ثالث لا يقول به كلٌّ من الإمامين؛ كمن مسح بعض رأسه في الوضوء تقليداً للشافعي، ولمس زوجته بعدم النقض تقليداً لأبي حنيفة، فجمهور العلماء على بطلان عبادته؛ لأنه أتى بعبادة لم يقل بصحتها أحد ممن قلدهم وأخذ بأقوالهم، قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "ويشترط عدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام لما تقرر أن تلفيق التقليد؛ كتقليد مالك رحمه الله تعالى في عدم نجاسة الكلب، والشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه في مسح بعض الرأس فممتنع اتفاقاً" [الفتاوى الفقهية الكبرى 4/ 326].

وفرّق الإمام البلقيني وتبعه العلامة ابن زياد اليمني بين التلفيق في القضية الواحدة وبين قضيتين مختلفتين، فالصورة الأولى ممنوعة بخلاف الثانية فجائزة، قال المحقق ابن زياد رحمه الله في [فتاويه] في باب القضاء: "الذي يفهم من كلامهم في التقليد أن التركيب القادح فيه إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، كمن توضأ ومس تقليداً لأبي حنيفة وافتصد تقليداً للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة؛ لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا قلّد شافعي أبا حنيفة في استقبال جهة القبلة ولم يمسح ربع الرأس لا تبطل صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحالة"، قال زين الدين المليباري رحمه الله: "وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح" [فتح المعين/ ص615].

فالحاصل؛ يجوز التلفيق بضوابط معينة:

الأول: ألا يكون القول الملفق مخالفاً لإجماع، أو نص صريح قطعي الدلالة، أو القياس الجلي؛ كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.

الثاني: ألا يأتي بصورة لا يقول بها كل من الإمامين في القضية الواحدة؛ كمن مسح بعض رأسه تقليداً للشافعية، ولم ينو في الوضوء تقليداً للحنفية.

الثالث: أن تكون هنالك حاجة داعية إلى التلفيق، أما إن كان لمجرد الهوى في النفس أو التهرب من التكليفات الشرعية فلا يجوز.

الرابع: ألا يكون مخالفاً لمقاصد الشريعة؛ وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال.

وعليه؛ فيجوز للمقلد لأحد المذاهب الفقهية الأربعة أن يبقى متبعاً لمذهبه ولا يخرج عنه، وهو الأفضل والأحسن والأضبط، كما يجوز له أن ينتقل إلى غيره من المذاهب ولو لغير حاجة بشرط أن يأخذ بشروط وضوابط ذلك المذهب في تلك المسألة، والتلفيق بين المذاهب الفقهية وآراء المجتهدين جائز إذا توفرت فيه الضوابط المذكورة، فقد يقع المقلد في ضيق أو حرج في قضية معينة ولا مخرج له إلا بالتلفيق، وبالأخص في مسائل المعاملات المالية؛ فيجوز للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محققاً وملبياً لحاجات المكلفين، ويجوز للمستفتي العمل بالحكم الملفق. والله تعالى أعلم.



للاطلاع على منهج الفتوى في دار الإفتاء يرجى زيارة (هذه الصفحة)

حسب التصنيف السابق | التالي
رقم الفتوى السابق | التالي

فتاوى أخرى



التعليقات


Captcha


تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا