الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الإحصار من موانع إتمام الحج بعد الشروع فيه، وهو نوعان: عام، وخاص، أما الحصر العام: فهو منع العدوّ المحرمين عن المضيّ في إتمام الحج أو العمرة من جميع الطرق، قال الإمام الشربيني رحمه الله: "وسواء كان المنع بقطع الطريق أم بغيره، وسواء كان المانع كافراً أم مسلماً" [مغني المحتاج 2/ 313].
ويجوز للمحصر التحلل، ويكون تحلله بثلاثة أشياء: النية؛ بأن ينوي خروجه عن الإحرام، وذبح شاة حيث أحصر في حلّ أو حرم، والحلق؛ لقول الله سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]: أي وأردتم التحلل {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ولا يسقط عنه الدم إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر؛ لأن التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فكان شرطه لاغياً.
وأما الحصر الخاص: فهو كمن حبس ظلماً، كأن حبس بدين وهو معسر به؛ فإنه يجوز له أن يتحلل كما في الحصر العام.
والذي فات من حج أو عمرة بسبب الإحصار -العام أو الخاص- يمكن أن يكون فرضاً أو نفلاً، وفوات النفل لا يوجب القضاء، قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "(ولا قضاء على المحصر المتطوع) بحصر خاص، أو عام وإن اقترن به فوات الحج؛ إذ لم يرد الأمر به" [تحفة المحتاج 4/ 211].
أما الفرض الفائت بسبب الإحصار، فإما أن يكون فرضاً مستقراً -بأن اجتمع فيه شروط الاستطاعة قبل العام الذي أحصر فيه- أو لا، فإن كان فرضاً مستقراً عليه -كالقضاء وحجة الإسلام بعد أولى سنيّ الإمكان، وكنذرٍ قدر عليه قبل عام الحصر- بقي في ذمته، وعليه القضاء.
أما إن كان فرضاً غير مستقر عليه؛ كأن كان في السنة الأولى من سنيّ الإمكان، فلا شيء عليه حتى يستطيع، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله:" إذا تحلل المحصر، قال الشافعي والمصنف -الإمام الشيرازي صاحب المهذب- والأصحاب: إن كان نسكه تطوعاً فلا قضاء، وإن لم يكن تطوعاً نظر: إن كان واجباً مستقراً؛ كالقضاء، والنذر، وحجة الإسلام التي استقر وجوبها قبل هذه السنة بقي الوجوب في ذمته كما كان، وإنما أفاده الإحصار جواز الخروج منها، وإن كان واجباً غير مستقر وهي حجة الإسلام في السنة الأولى من سنيّ الإمكان سقطت الاستطاعة، فلا حج عليه إلا أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك" [المجموع شرح المهذب 8 /306].
وأما إن مرض المحرم فليس له أن يتحلل بعذر المرض، بل يصبر حتى يبرأ؛ لأنه لا يستفيد بالتحلل زوال المرض، بخلاف المحصر، فإن كان المريض محرماً بعمرة أتمّها، وإن كان محرماً بحج وفاته -بفوات الوقوف- تحلل بعمل عمرة أي بالطواف والسعي والحلق، هذا إذا لم يشترط التحلل بالمرض، فإن شرطه عند إحرامه صحَّ شرطه، وجاز تحلله؛ لما روت أمّنا عائشة رضي الله عنها، قالت: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي) متفق عليه، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشتراط في حال الإحرام، والله أعلم" [شرح صحيح مسلم 8/ 132]، فإن كان شرط التحلل بالهدي وجب عليه، وإلا فلا، وإن أطلق لم يلزمه؛ لعدم الشرط، ولظاهر حديث ضُباعة السابق، فيكون تحلل من لم يشترط الهدي أو من أطلق؛ بالنية والحلق فقط، فإن شرط المحرم بالحج أن ينقلب حجُّه عمرة عند العذر، فوُجد العذر انقلب حجُّه عمرة، وأجزأته عن عمرة الإسلام، وهذا لا يكون بالتحلل حال الإحصار؛ حيث لا تجزئه عن عمرة الإسلام؛ لأنها في الحقيقة ليست عمرة، وإنما هي أعمال عمرة.
أما بالنسبة للقضاء، فإن كان حج المريض الذي فاته الحج فرضاً، فهو باق في ذمته كما كان، وإن كان تطوعاً، لزمه قضاؤه على الفور كما لو أفسده، ويلزم مع القضاء للفوات دم.
وضبط المرض بأنه ما يبيح ترك الجمعة، وذلك بأن يلحقه بالحضور مشقة كمشقة المشي في المطر أو الوحل.
وعليه؛ فالفائت من الحج أو العمرة بسبب الإحصار، إذا كان نفلاً أو فرضاً غير مستقر في الذمة، فلا قضاء في الحالتين.
وإذا كان الفرض الفائت مستقراً في ذمة الحاج كحجة الإسلام بعد أولى سنيّ الإمكان بقي في ذمته، وأما إذا كان الفوات لغير الحصر فإن كان الفائت فرضا، فهو باق في ذمته كما كان، وإذا كان تطوعاً، لزمه قضاؤه على الفور كما لو أفسده، ويلزم مع القضاء للفوات دم. والله تعالى أعلم.