الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الدعاء والتوسل بآيات القرآن الكريم أو بالأنبياء والصالحين أمرٌ مشروع، فعن عثمان بن حنيف عن أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف عن عمّه: "أَنَّ أَعْمَى، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي، قَالَ: (أَوْ أَدَعُكَ؟) قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي، قَالَ: (فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ أَنْ تَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي، شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي)، فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ" [السنن الكبرى للنسائي 9 /245].
وللمؤمن أن يدعو بما شاء من أمور الدنيا والآخرة، لقول الله تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وقد ذهب العلماء إلى جواز الدعاء بالأدعية المأثورة بلا خلاف، وأجاز فقهاء السادة الشافعية الدعاء بغير المأثور، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله: "قال الشافعي والأصحاب: وله أن يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا، ولكن أمور الآخرة أفضل، وله الدعاء بالدعوات المأثورة في هذا الموطن [يعني في الصلاة]، والمأثورة في غيره، وله أن يدعو بغير المأثور، ومما يريده من أمور الآخرة والدنيا" [المجموع شرح المهذب 3 /469].
وأما الدعاء بالأحرف المقطعة الواردة في فواتح السور، فمعلوم بأن الحروف المقطعة في فواتح بعض سور القرآن الكريم هي من آيات القرآن الكريم، ودعاء الله تعالى بالقرآن الكريم أو بآية من آياته جائز شرعاً.
وقد ورد في الأحاديث الشريفة الدعاء بـ (حم) عند لقاء العدو، فقد أخرج ابن أبي شيبة والنَّسائي والحاكم وابن مردويه عن البراء بن عازِب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّكُم تلقونَ عدوّكم غداً فَلْيَكُن شِعَاركُمْ {حم} لَا يُنْصرُونَ).
وأخرج أبو نعيم في [الدَّلائل] عن أنس رضي الله عنه قال: "انهزم الْمُسلمُونَ بِخَيْبَر فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حفْنَة من تُرَاب حفنها فِي وُجُوههم وَقَالَ: ({حم} لَا ينْصرُونَ)، فَانْهَزَمَ الْقَوْم وَمَا رميناهم بِسَهْم وَلَا طعن بِرُمْح".
وأخرج البغوِي والطَّبراني عن شيبة بن عثمان رضي الله عنه قال: "لما كَانَ يَوْم خَيْبَر تنَاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحَصَى ينْفخ فِي وُجُوههم وَقَالَ: (شَاهَت الْوُجُوه {حم} لَا ينْصرُونَ)".
وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز الدعاء بهذه الأحرف، فعن المهلب بن أبي صفرة، عمّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنْ بَيَّتَكُمُ العَدُوُّ، فَقُولُوا: حم لَا يُنْصَرُونَ) رواه الترمذي.
قال شراح الحديث: "إن بيتكم فليكن شعاركم (حم لا ينصرون) بصيغة المجهول، قال القاضي: معناه بفضل السور المفتتحة بحم ومنزلتها من الله لا ينصرون، وقال الخطابي: معناه الخبر، ولو كان بمعنى الدعاء لكان مجزوما أي: لا ينصروا، وإنما هو إخبار، كأنه قال: والله إنهم لا ينصرون، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: حم اسم من أسماء الله، فكأنه حلف بالله أنهم لا ينصرون، وقال الجزري في النهاية: قيل: معناه اللهم لا ينصرون ويريد به الخبر لا الدعاء؛ لأنه لو كان دعاء لقال: لا ينصروا مجزوما، فكأنه قال: والله لا ينصرون، وقيل: إن السور التي في أولها حم سور لها شأن فنبه أن ذكرها لشرف منزلتها مما يستظهر به على استنزال النصر من الله، وقوله لا ينصرون: كلام مستأنف، كأنه حين قال: قولوا: حم، قيل: ماذا يكون إذا قلنا، فقال: لا ينصرون" [تحفة الأحوذي 5 /269].
وعدها بعض الصحابة رضي الله عنهم من أسماء الله تعالى، كما أخرج ذلك الحاكم في [المستدرك على الصحيحين 2/ 403]، عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قوله عز وجل: {كهيعص} [مريم: 1]، قال: كَافٌّ مِنْ كَرِيمٍ، وَهَا مِنْ هَادٍ، وَيَا مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مِنْ صَادِقٍ. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، قال الذهبي: "صحيح".
ونقل الإمام البيهقي في [الأسماء والصفات 1/ 230] أن الأحرف المقطعة من أسماء الله تعالى، فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {كهيعص}، وَطه، وَطس، وَطسم، وَيس، وَص، وَحم، وعسق، وَق، وَنَحْوِ ذَلِكَ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ.
وهذه الحروف هي مباني أسماء الله الحسنى وصفاته، قال الإمام السجستاني الشافعي رحمه الله: "ألم، وسائر حروف الهجاء في أوائل السور، كان بعض المفسرين يجعلها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به، وبعضهم يجعلها أقساماً، أقسم الله جل وعز بها لشرفها وفضلها، لأنها [مبادي] كتبه المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبعضهم يجعلها حروفاً مأخوذة من صفات الله جل جلاله، كقول ابن عباس رضي الله عنه في {كهيعص}: إن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق" [غريب القرآن ص/45].
وهي حروف لها معان كما نقل الإمام الزركشي الشافعي رحمه الله في [البرهان في علوم القرآن 1/ 167]، فقال: "وهي في القرآن في تسعة وعشرين سورة، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفا، يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر".
وعليه؛ فالدعاء بهذه الحروف، أو الدعاء بآية أو أكثر من القرآن الكريم، واستناداً لما ورد في السنة النبوية، لا حرج فيه، ولا يعد بدعة؛ لأن هذه الحروف من القرآن الكريم، وهو كلام الله القديم وصفة من صفاته، والدعاء بابه واسع. والله تعالى أعلم.