الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
صلاة الجماعة من خصائص هذه الأمة، وأقلها اثنان، وتحصل فضيلة الجماعة للشخص بصلاته في بيته بزوجة أو ولد، أو في مكان عمله مع زميل له، وهكذا، وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102]، فقد أمر الله تعالى بها حالة الخوف، فيكون مأموراً بها حالة الأمن من باب أولى، وقال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) رواه الشيخان.
وصلاة الجماعة فرض كفاية للرجال المقيمين في أداء المكتوبات؛ لقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الْجَمَاعَةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ [أَيْ غَلَبَ] فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةِ) رواه أبو داود والنسائي.
والجماعة في المسجد -لغير المرأة- أفضل منها في غيره كالبيت مثلا؛ لقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَة) رواه الشيخان، وقوله "إلا المكتوبة" أي فهي في المسجد أفضل، وجماعة المرأة في البيت أفضل منها في المسجد؛ لقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ) رواه أبوداود، ويؤمر الصبي بحضور المساجد وجماعات الصلاة ليعتادها.
ويرخص في ترك الجماعة لأعذار عامة مثل: المطر الذي تحصل به مشقة بالخروج، والريح الشديدة بالليل، والوحل الشديد الذي لا يؤمن معه التلويث، والريح الحارة، وحر وبرد شديدين، ولأعذار خاصة مثل: المرض الذي يشق المشي معه كمشقة المشي في المطر، وشدّة نعاس، وجوع وعطش ظاهرين، ومدافعة حدث (بول أو غائط أو ريح)، وخوف الإنسان على نفسه أو عضوه أو منفعة عضو أو مال أو عرض، وغير ذلك من الأعذار.
فإذا كان طلب الوالدين من ولدهما ألا يصلي في المسجد على سبيل المصلحة الظاهرة والحفظ للولد من أي مكروه يغلب على ظنهما وقوعه كمرض حالة الوباء، أو خطف أو قتل أو اعتداء عند وجود الفتن؛ فيجب طاعتهما، أما إن كان طلبهما على سبيل التعنت أو التوهم من حصول الأذى والمكروه؛ فلا تجب الطاعة في ذلك إذا كان الولد عاقلاً رشيداً، وقد أكدّ هذا المعنى شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله عندما سئل عن رجل له ولد عاقل بالغ رشيد، فأراد الولد التردد إلى الفقهاء لقراءة العلم واستعارة الكتب ونحو ذلك مما لا يستغني عنه طالب العلم، وكذا الخروج لقضاء حوائجه أو زيارة الصالحين أو نحو ذلك من القرب، فمنعه الوالد من ذلك وأمره بالقعود في البيت، وعلّل ذلك بأنه يخشى عليه من صحبة الأشرار، والولد لا يرتاب في حاله أنه يكره ذلك ويحترز منه، فهل للولد ذلك أم لا؟
فأجاب: إذا ثبت رشد الولد -الذي هو صلاح الدين والمال معاً- لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه ديناً أو دنيا، ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب مع العلم بصلاح دين ولده وكمال عقله. نعم إن كان في البلد فجرة يأخذون مَنْ خَرَج مِن المرد إلى السوق مثلاً قهراً عليهم تأكد على الولد إذا كان كذلك أن لا يخرج حينئذ وحده؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الوقوع في مواطن التهم، فأمر الوالد له في هذه الحالة بعدم الخروج مع الخوف يعذر فيه، فلا يجوز للولد مخالفته إذا تأذى الوالد بذلك تأذياً ليس بالهين، ولم يضطر الولد للخروج... وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره، ومحله أيضاً حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل" [الفتاوى الفقهية الكبرى 2/ 229].
وعليه؛ إن كان طلب الوالدين من ولدهما ألا يصلي في المسجد على سبيل المصلحة الظاهرة والحفظ من أي مكروه يغلب على ظنهما وقوعه كمرض حالة الوباء، أو خطف أو قتل أو اعتداء عند وجود الفتن، أو كان طلبهما لمصلحة لهما كأن كانا كبيرين أو مريضين أو يأنسان به؛ فيجب طاعتهما، أما إن كان طلبهما على سبيل التعنت أو التوهم من حصول الأذى والمكروه؛ فلا تجب الطاعة؛ لأن الطاعة الواجبة للوالدين هي ما كان فيه مصلحة ظاهرة لهما، وليس في منعه من الجماعة في هذه الحالة مصلحة لهما إذا كان الولد عاقلاً رشيداً، وعليه أن يتلطف بهما في كلّ حال، وينظر للمزيد الفتوى رقم (859). والله تعالى أعلم.