الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
التوحيد عقيدة إسلامية واضحة وبيّنة، ولذلك سميت شهادة الإسلام بكلمة التوحيد، ومعنى التوحيد هو إثبات صفة الوحدانية لله تعالى، وبإثباتها يُثبت العبد المؤمن تفرُّد الله بالألوهية والربوبية وصفات الكمال وأسماء الجلال، وقد جعل القرآن الكريم التوحيد علامة فارقة في حياة الإنسان، فإنّ المؤمن بألوهية الله تعالى ووحدانيته في الإيجاد والإمداد والإسعاد ينطلق قلبه في ميدان الإيمان بلا قيد، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} الأنعام/19.
وأما مفهوم الإيمان بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات، فالألوهية لفظ مشتق من الإله، والإيمان بها إثبات استحقاق الله تعالى لعبودية الخلق له، والربوبية لفظ مشتق من الرب، والإيمان بها إثبات أنّ الله رب مدبر يتصرف في كل شيء بقدرته وإرادته، وتوحيد الأسماء والصفات إثبات انفراد الله تعالى باستحقاق الكمالات التي تدلّ عليها أسماؤه الحسنى وصفاته العليا.
وقد دلّت نصوص القرآن الكريم على تلازم الإيمان بالربوبية والألوهية، حيث قال الله تعالى في بيان اتّصالهما: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} مريم/ 65، فمن آمن بربوبية الله توجه إليه بإثبات الألوهية، ومن أثبت الألوهية كان مثبتاً للربوبية لا محالة، قال الله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} الدخان/8، قال ابن عاشور في تفسير الآية: "ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلاً واضحاً في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأموات بالوفاة يوماً فيوماً من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بلْهَ جحودهم إيّاها، ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تميت، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلاً عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة" [التحرير والتنوير 25/ 284].
وتعداد أنواع التوحيد وتقسيمها بحسب مفهوم كلٍّ منها لا محذور فيه شرعاً أو علماً، بل يمكن تقسيم التوحيد بأكثر من هذه الأقسام، فيمكن أن تقول: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، لكن الخطأ في توهّم أن الإيمان بالربوبية حاصل للكفار، وهو قول باطل غير معتبر، لما دلّت عليه الأدلة الشرعية كما سبق، ولم ينقل الفصل بين الإيمان بالربوبية والألوهية عن أحد من علماء الإسلام المعتبرين، والقول به يؤدي إلى أباطيل كثيرة، منها القول بإيمان الكفار بالربوبية مع أنّ الله وصفهم بأنهم مشركون وكفار، والذي أوقع أصحاب هذا القول في اللبس والخطأ هو الإقرار الظاهري لبعض المشركين بأنّ الله هو الخالق في مثل قول الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} الزخرف/87، ونظائرها من الآيات.
والسرّ الكامن وراء جواب الكفار في مثل هذه الآيات يبينه علماء الكلام والتفسير بأن هذا الإقرار من الكفار كإقرار الملجئ الذي لا يملك فراراً من السؤال لشدة ظهور الحقيقة، وليس تصديقاً حقيقياً منهم، فلا أحد يمكنه أن ينكر أن الله هو الخالق والرازق والربّ المدبّر مع ظهور دلائل ذلك وشواهده في الأنفس وفي الآفاق، ولذلك أنكر الله تعالى عليهم عدولهم عن هذه الحقيقة الواضحة باعتقاد شريك له، بل وصفهم الله تعالى بعد إقرارهم الظاهري هذا بالكذب وشدة الكفر، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الزمر/3، قال [البيضاوي في تفسيره 4/ 216]: "{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، بحيث اضطروا إلى إذعانه".
وقد ورد في القرآن الكريم ما يبطل دعوى أن الكفار كانوا مؤمنين بالربوبية، بل يثبت خلاف ذلك، فهم كانوا مشركين بالربوبية لأنهم اعتقدوا مع الله أرباباً كثيرين، حيث حكى الله على لسان يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يوسف/39، وقال سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران/80، وقال عزّ من قائل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة/31.
وعليه؛ فإنّ تقسيم التوحيد في مقام التعليم والتفهيم وإيضاح المعاني لا محذور فيه، أما تقسيمه بطريقة تجعل المشركين مؤمنين بالربوبية، فهو أمر مخالف لما ثبت قطعاً في القرآن الكريم، وتزداد خطورته إذا كان أصلاً في تكفير بعض المسلمين بحجّة إنكارهم للربوبية من خلال مسائل فقهية فرعية، كالتوسّل والاستغاثة والتبرّك بالصالحين، وغيرها من المسائل التي لا يخرج الخلاف فيها عن دائرة الفقه الإسلامي المنضبط الذي يجمع ولا يفرق. والله تعالى أعلم.