الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
إنّ الكلام في ذات الله تعالى وصفاته أمرٌ على درجة كبيرة من الأهمية، فلا ينبغي للمسلم أن يخوض فيه بدون علم، بل الواجب على المكلف على سبيل الإجمال أن يعتقد أنّ الله تعالى واجب الوجود، مستحقّ لجميع صفات الكمال والجلال، منزّه عن مشابهة المخلوقات، وذلك لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى/11.
وأمّا تفصيلاً؛ فإنّ وصف الله تعالى بأنه "بائن من خلقه" ورد في كتب علماء أهل السنة والجماعة، وهو يحتمل معنيين؛ أحدهما مقبول والآخر باطل، أما المعنى المقبول: فهو أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يماثلها ولا يوصف بأنه فوق العالم أو أن بينه وبين العالم مسافة، وهذا هو المعنى المراد في كتب أهل السنة، وأمّا المعنى الباطل الذي يريده المجسمة: فهو أن يكون الله خارج العالم بجهة، أو متباعداً عنه بمسافة.
وقد جاءت الإشارة إلى هذين المعنيين، وإبطال معنى البينونة بالمسافة والجهة في كتاب [الأسماء والصفات للحافظ البيهقي رحمه الله تعالى 2/ 309]: "... وهو أن الله مستوٍ على عرشه، وأنه فوق الأشياء بائن منها، بمعنى أنها لا تحلّه ولا يحلّها، ولا يمسّها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة، تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسّة علواً كبيراً"، وقال الإمام الطحاوي في العقيدة المجمع عليها: "وتعالى الله عن الحدودِ والغاياتِ، والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ، لا تحويهِ الجهاتُ السِّتُّ كسائرِ المبتدعاتِ".
وقد يتوهّم بعض الناس أنّ قول أهل السنة والجماعة من السلف والخلف: إن الله تعالى "بائن من خلقه" وليس داخل العالم ولا خارجه أو فوقه بمسافة، قولٌ مخالف للعقل والمنطق، وهذا التوهّم غير صحيح؛ لأنّ هذا الكلام مبنيّ على تصور أن الله جسم، كما يقول المجسّمة، فيصحّ عندئذٍ القول بأنه إمّا أن يكون داخل العالم أو خارجه، لكن أهل السنة والجماعة ينفون الجسمية عن الله تعالى، بل يعتقدون أن الله موجود منزّه عن مشابهة المخلوقات ومماثلة الأجسام ومنزه عن لوازم الجهة والتحيز، فإذا لم يكن الله تعالى جسماً أصلاً فلا يصحّ وصفه بأنه داخل العالم أو خارجه، لأن هذه خاصة من خواص الأجسام فلا توصف بها إلا الأجسام، وذلك كما أنه لا يلزم أن يوصف الحائط بالعمى أو البصر؛ لأنه ليس من الأحياء حتى يوصف بإحدى الصفتين، بل تنتفيان عنه ضرورة، فكذلك الله تعالى لا يوصف بشيء من صفات الأجسام لأنه ليس بجسم، قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: "اعلم أنا ندعي وجود موجود لا يمكن أن يشار إليه بالحسّ أنه ههنا أو هنالك، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير مختصّ بشيء من الأحياز والجهات، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست التي للعالم، هذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد" [أساس التقديس ص15].
والعقيدة الإسلامية الصحيحة توجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى منزّه عن المكان والجهة والتحيز، وأنه يستحيل أن يكون الله تعالى جزءاً داخلاً في العالم حالًّا فيه، أو جسماً خارجاً عن العالم منفصلاً عن المخلوقات بمسافة أو جهة أو استقرار حسّي، وذلك كله لأنّ مذهب التجسيم باطل، ويستلزم بطلان ألوهية الله تعالى، جاء في كتاب [الأسماء والصفات للحافظ البيهقي1/ 236]: "لأن اسم الإله إذا ثبت فكلّ وصف يعود عليه بالإبطال وجب أن يكون منفياً بثبوته، والتشبيه من هذه الجملة؛ لأنه إذا كان له من خلقه شبيه وجب أن يجوز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على شبيهه، وإذا جاز ذلك عليه لم يستحق اسم الإله، كما لا يستحقه خلقه الذي شبهه به، فتبيّن بهذا أن اسم الإله والتشبيه لا يجتمعان، كما أن اسم الإله ونفي الإبداع عنه لا يأتلفان. وبالله التوفيق".
وعليه؛ فإنّ ورود لفظ "بائن من خلقه" في كتب أهل السنة ينبغي أن يحمل على معنى أنّ الله تعالى موجودٌ منزه عن كلّ ما لا يليق به من الجسمية ولوازم الجهة والتحيز ومشابهة الخلق أو مماثلتهم، ولا يجوز فهمه أن الله تعالى خارج العالم بجهة أو مسافة؛ لأن ذلك خلاف قول أهل السنة والجماعة وإجماعهم. والله تعالى أعلم.