الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
اصطفى الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم خيرة من الخلق، وخصّهم بصحبته والتلقي عنه والجلوس بين يديه، وأثنى الله تعالى على الصحابة حيث قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة/100، وإنما جاء الإسلام هداية ورحمة يزيل ما بين الناس من بغضاء ويرفع أسبابها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} الحشر/10.
وأما تفضيل بعض الصحابة على بعض خاصةً فمما لم يرد فيه نصّ قاطع مباشر، ولم تبيّن النصوص جهات التفضيل بالتفصيل، ولكن ذهب جمهور أهل السنة بعد استقراء الفضائل وعرض المناقب إلى أن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم باب مدينة العلم علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعاً، على حسب ترتيبهم في تولّي الخلافة العظمى، ولكن ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الترتيب غير قطعي في الدين، بل ثابت بغلبة الظنّ.
قال النووي رحمه الله في [شرح صحيح مسلم 15/ 148]: "قال الإمام أبو عبد الله المازري: اختلف الناس في تفضيل بعض الصحابة على بعض، فقالت طائفة: لا نفاضل بل نمسك عن ذلك، وقال الجمهور بالتفضيل... واتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر، قال جمهورهم ثم عثمان ثم علي، وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم علي على عثمان، والصحيح المشهور تقديم عثمان... واختلف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعي أم لا؟ وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعري، قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال بأنه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني"، وقال ابن حجر رحمه الله في [فتح الباري 7/ 16]: "وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قال به سفيان الثوري، ويقال إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر، قاله مالك في المدونة وتبعه جماعة منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم".
والواجب على المسلم شرعاً أن لا يبغض أحداً من الصحابة؛ لما ورد في ذلك من النصوص، وللخصوصية الثابتة لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاينة أنواره الشريفة، ومخالطة أخلاقه المنيفة، والاقتباس من علومه ومعارفه، والأخذ بحكمه وأحكامه مباشرة بدون وسائط، قال ابن الجوزي رحمه الله في [كشف المشكل 1/ 308]: "محبة الصحابة شرعية، فينبغي أن تكون على وجه يأذن الشرع فيه، ومن ضروراتها إتباع المحبوب".
ويجب على المكلف أن يتوسط في حب الصحابة فلا يقول بعصمة أحد منهم، ولا يتهجّم بالطعن والتجريح والسبّ في حقّ أحدهم ويستحب له إشباع قلبه بفضائلهم وفواضلهم جميعاً، ويحرم على العاميّ غير المؤهل أن يخوض في مضائق الخلافات بينهم وما جرى من فتن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يجرّ غالباً إلى محظور شرعي، كأن يبغض أحد الصحابة عن جهل وقلة علم، قال الغزالي رحمه الله في [الاقتصاد ص/131]: "واعلم أنّ كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار، وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة، كقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وكقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص في حقه يطول نقله، فينبغي أن تستصحب هذا الاعتقاد في حقهم، ولا تسيء الظن بهم كما يحكى عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما ينقل مخترع بالتعصب في حقهم ولا أصل له، وما ثبت نقله فالتأويل متطرق إليه، ولم يجز ما لا يتسع العقل لتجويز الخطأ والسهو فيه، وحمل أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه".
وعليه؛ فإنَّ ما نراه هو ما عليه جمهور أهل السنة والجماعة من تقديم أبي بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم جميعاً. والله تعالى أعلم.