من المقاصد الشرعية في أحكام الصيام
مقدمة
تحمل الأحكام الشرعية في طياتها مقاصد وغايات تتحقق من خلال تطبيق الحكم الشرعي واقعاً في حياة الناس، فالدّين وإن كان تعبّديا نلتزم به لأننا آمنا بربنا سبحانه وبنبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن الأحكام التي جاء بها هذا الدين يمكن -على الأغلب- تعقّلها وفهمها والنظر في غايتها ومقاصدها.
وهذا التعقّل مما يعين المكلف على الأخذ بالأوامر والنواهي؛ ويساهم في منعه -إلى حد كبير- من مخالفتها أو تجاوزها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعين هذا التعقّل الباحث والمجتهد على القياس، بعد أن يدرك علل النصوص ومقاصدها، ولأن غالب النصوص الشرعية معللة، وهذه العلل تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية، كان القياس على هذه النصوص من باب تحقيق هذه المقاصد والحفاظ عليها، وبهذا يتحقق العمل بها إلى أوسع مدى، ويجعل ساحة الاجتهاد واسعة الأطراف، تحقق احتياجات كل عصر ومصر.
كما لا يخفى أن هذه العلل والمقاصد تشكل معياراً بيّنا لتمييز الفتوى الصحيحة من الشاذة التي تخرج عن النص أو مقاصده، لتحلّق بعيدا في سرب الشذوذ الفكري والانحراف الفقهي.
معنى المقاصد:
أولاً: المقاصد لغةً: هي جمع مقصد، وهو مصدر ميميّ أصله الفعل الثلاثي قَصَدَ، والقصد استقامة الطريق، يُقال: طريق قاصد: أي سهل مستقيم، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}[النحل:9]، ويقال: سفر قاصد أي سهل قريب، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ}[التوبة: 42].[1]
ثانياً: المقاصد اصطلاحا:
"الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[2].
وسأسلط الضوء على بعض أحكام الصيام، مبيّناً المقاصد الشرعية والغايات التي تحققها.
أولاً: وجوب الصيام:
الصيام ركن من الأركان التي يقوم عليها الإسلام، لذلك كان من أهمّ الواجبات المفروضة على المسلم، قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[3].
ولهذا الوجوب غايات من أهمها: أن يمتثل العبد أمر الربّ سبحانه؛ ليتحقق بالعبودية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].
ومن غاياته أن يُرفع العبد لدرجة التقوى، فالصيام أشبه ما يكون بدورة مدتها شهر واحد، يحصل العبد بعدها على شهادة مفادها أنه من أهل التقوى، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]. ويكون ذلك من خلال ضبط العبد لشهواته خلال نهار رمضان، وإكثاره من فعل الطاعات، وتجنبه للمعاصي والسيئات.
وهذه الرتبة أو الدرجة يحبها الله تعالى ويساند أهلها، قال الحق سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:194]، وقال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[آل عمران:76].
ومن غاياته أن يربط هذه الأمة بمن سبقها من أمم، فالإسلام الذي جاء به سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم هو نهاية لطريق طويل عَبرت عليه أمم كثيرة عبر أزمنة طويلة وأمكنة كثيرة، وكانت هذه الفريضة من علامات الاتصال بتلك الأمم، وشاهدة على وحدة المصدر التي خرجت منه تلك الرسالات، ويفهم هذا من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].
ومن غاياته أن يشعر العبد بعظيم نعمة الله ومنّه وكرمه حيث يتمكن من الأكل والشرب في أي وقت، ودوام النعم يوقع الإنسان في الغفلة عن المنعم وشكره عليها، بسبب اعتيادها، لذلك يأتي الصيام ليقطع هذه العادة، ويذكّر العبد بالمنعم ونعمه، فيشكر العبد ربه، فينال منه المزيد، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7].
ومن غاياته تحصيل المغفرة من الذنوب، والخروج من أصفادها وأوزارها، قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[4]، ولا بدّ من مراعاة أن يكون هذا الصوم إيماناً بوجوبه من الله تعالى، واحتساباً للأجر عنده.
ومن غاياته التنبيه على وحدة الأمة حيث يصوم المسلمون في كلّ أنحاء العالم وقاراته في شهر واحد، يمسكون مع طلوع الفجر، ويفطرون مع غروب الشمس، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92]، وفيه توجيه إلى أهمية وحدة الكلمة والصف، والبعد عن النزاع والشقاق، لتظلّ هذه الأمة واحدة موحّدة في كل شؤونها، فتكتسب القوّة والمنعة، قال الله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
ثانياً: كراهة المبالغة في المضمضة والاستنشاق:
المضمضة: إدارة الماء في الفم، والاستنشاق: إدخال الماء في الأنف[5].
والمبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثات، وفي الاستنشاق أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم[6].
وتستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق في حقّ غير الصائم، أمّا الصائم فيكره له المبالغة فيهما[7]؛ لنهي سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)[8].
ومن أهم غايات هذه الكراهة: ألا يعرض الصائم صومه للفساد؛ لأن الصائم إذا بالغ في الاستنشاق والمضمضة، فإنه لا يأمن سبق الماء إلى جوفه، فيعرّض صيامه للفساد والبطلان، قال شيخ الإسلام الإمام النووي: "نهاه عن المبالغة فلو لم يكن وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهى عن المبالغة معنى؛ ولأن المبالغة منهي عنها في الصوم، وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة"[9].
فإن قيل: أفتى الشافعية[10] بحرمة القُبلة إذا خشي الصائم الإنزال، وبكراهة مبالغته في المضمضة والاستنشاق مع أن العلة في كلّ منهما خوف الفساد، فما الجواب؟
فالجواب: صحيح أنّ العلة واحدة، لكنّ فروقاً بين الصورتين أوجبت فرقاً بين الحكمين، وذلك بأن القبلة غير مطلوبة بل داعية لما يضاد الصوم من الإنزال، بخلاف المبالغة فيما ذكر، وبأنه في المضمضة يمكنه إطباق الحلق ومجّ الماء، وفي القبلة لا يمكنه رد المني إذا خرج؛ لأنه ماء دافق، وبأنه ربّما كان في القبلة إفساد لعبادة اثنين[11].
ويمكننا القياس على ما سبق، حيث يكره استعمال معجون الأسنان في نهار رمضان، وكذلك السِّباحة في نهاره؛ لأن فيهما تعريضَ الصوم للبطلان.
ثالثاً: جواز الفطر لصاحب العذر:
تَظهَر في أحكام الصيام واقعيةُ التشريع الإسلامي، ومن مظاهر هذه الواقعية مراعاة حال الناس، إذ قد يعجز بعضهم عن أداء فريضة الصوم، وقد يتحملها البعض الآخر بمشقة بالغة، فرخّص الله تعالى لهم الفطر، وشرع لمن عادت قوته له القضاء، ولمن استمرّ عذره الفدية المالية، فقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة:184].
والغاية من هذا الجواز: التخفيف على العباد ورفع الحرج عنهم، ولا ريب أن رفع الحرج من أهم سمات التشريع الإسلامي، يقول الإمام الشاطبي: "إنّ الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع"[12].
والحكمة من رفع الحرج أنّ يظلّ المكلف متعلقاً بالعبادة فلا يشعر بأنها صارت عبئاً عليه فيبغضها، أو ثقيلة عليه فيستثقلها، أو عاجزا عنها فيعرض عنها وينساها، لذلك نجد رفع الحرج يقول للمكلف: نظرنا في حالك ورفعنا عنك الحرج والمشقة، فإن كنت مريضاً أو مسافراً فلك أن تفطر، فإن تمكنت من القضاء بعد رمضان فتوجه له، وإلا فعليك الفدية، وكذلك كبير السن، ومن كان عنده مرض مزمن، يتوجه للفدية ابتداء، وهكذا يظلّ مرتبطاً بهذا الركن العظيم، ولا يشعر بانفصاله عنه أو عن جموع الصائمين.
ولو أخبر المريضَ أو المُسنَّ طبيبٌ مسلم عدلٌ أنّ الفطر في رمضان متعيّنٌ ولا بدّ منه لحفظ نفسه أو عضو من أعضائه صار الفطر واجباً لا جائزاً[13]؛ لأنّ الإنسان ليس مسلطاً على نفسه أو على عضو من أعضائه بالإتلاف، قال الله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29].
والغاية من هذا الوجوب: المحافظة على النفس البشرية من الهلاك أو التلف، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا الحكم داخل في الأصل السابق وهو رفع الحرج.
ويدخل فيمن سبق الحامل والمرضع إن خافتا على نفسيهما أو على ولديهما[14]، فإن خافتا على نفسهما أو على نفسيهما وولديهما أفطرتا وقضتا، أما إن خافتا على ولديهما فقط، أفطرتا وقضتا ودفعتا الفدية.
فإن قيل: لمَ أوجبتم على الحامل والمرضع دفع الفدية مع القضاء إن خافت على ولدها؟
فالجواب: فهمنا ذلك من قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، والحامل والمرضع ممن يطيق الصيام في هذه الحالة، فوجب بظاهرها أن تلزمهما الفدية مع القضاء[15].
وختاماً، يتبيّن لنا مما سبق تناسق التشريع الإسلامي وانسجامه، وكيف يكمّل بعضه بعضاً من خلال النظر في بعض أحكام الصيام، فالبداية أنه واجب وعلى المكلف أن يلتزم به إقراراً بعبوديته، وعليه أن يحترز بتجنب ما يعرض صومه للفساد والإبطال، وأنه يجوز له الفطر إن كان له عذر أو وقع في مشقة.
الهوامش
[1] لسان العرب (3 /353).
[2] نظرية المقاصد عند الشاطبي، ص7.
[3] متفق عليه.
[4] متفق عليه.
[5] حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزيّ، (1/103).
[6] فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، (1/77).
[7] فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، (1/77).
[8] رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
[9] المجموع شرح المهذب، (6 / 326).
[10] أسنى المطالب، (1/39).
[11] أسنى المطالب، (1/39).
[12] الموافقات، (1 / 273).
[13] حاشية الشرواني على التحفة، (3/430).
[14] أسنى المطالب، (1/428).
[15] الحاوي الكبير، (3/437).