مقالات

ظاهرة الطلاق

الكاتب : الباحث الدكتور علي الفقير

أضيف بتاريخ : 21-03-2009

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


Article

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ثمة ثقافة تسود مجتمعاتنا، يلمسها المفتي وهو يفتي الناس في قضايا الطلاق، تتجلى في سؤال الناس المُلح بعد تلفظهم بالطلاق: هل هذه طلقة؟!

سؤال يطرحه المطلِّق وهو لا يفكر إلا بحماية نفسه من التبعات المالية والاجتماعية لهذه الكلمة، ولا يستشعر البعد الإيماني في عمله هذا، فلا يسأل نفسه: هل أنا آثم عند الله؟! كيف سأجيب رب العزة إذا وقفت بين يديه؟!

إذن هناك ثقافة مفادها: " أنا طلقت... أحتاج إلى ورقة من المفتي... ولعله يمشيها"! دون  الالتفات إلى أي أمر آخر! إلى درجة أن بعض الناس يعتقد أن ورقة المفتي هي التي تسمح له باستمرار زواجه، أو تنهي هذا الزواج!

فقد نجد إنسانا طلق طلاقاً صريحاً وهو واعٍ ومدرك تماماً لما صدر منه، وبعد أن يُخبره المفتي بأن هذه طلقة واقعة يقول - وبكل برود أعصاب -: "أيْ مشِّيها يا شيخ"!!!

هذه الثقافة لها مدلول خطير، وهي مؤشر مرعب واضح على أن الأسرة في مجتمعنا مهددة؛ لأن نجاح الأسرة وحمايتها مرتبط أساساً بإحساس الناس الناضج بقدسية عقد الزواج وأهميته.

ولعل هذا الإقدام الكبير على التلفُّظ بالطلاق لأبسط الأسباب مرتبط أيضاً بخلو وجدان الإنسان المسلم من الخوف من الله، ونحن نعلم أن عقد الزواج من أخطر العقود في ديننا الحنيف، وقد حرص الشرع الإسلامي على صيانته وبنائه بناء متيناً.

فهو العقد الذي ترتبط فيه الأرواح قبل الاعتبارات المادية، وتُوحَّدُ به الأسر، وتتوسع به دائرة العلاقات والتراحم، وعليه تقوم معاني السكن والمودة والرحمة، وبه تتحقق خلافة الإنسان لله في الأرض من خلال استمرار الإنسان وتكاثره ليقوم بواجب عمارة الأرض التي كلفه الله بها.

إن هذا العقد "عقد الزواج" ليس تجارة ولا بيعاً؛ بل عقدٌ ثمارُه الأرواح، وربحُه لِمن وفَّى بمستلزماته جنة عرضها السماوات والأرض.

لكل هذه المعاني سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الزواج: "كلمة الله" و"أمانة الله". فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) رواه أبو داود.

إن استشعار هذا المعنى، والبعد الإيماني لفلسفة عقد الزواج، إذا ما امتزج بالخوف من الله، فإنه - وبإذن الله - سيشكِّلُ رادعاً قوياً للإنسان من الإقدام على التلفظ بألفاظ الطلاق، وصيغ التحريم، وأَيْمان الطلاق التي أصبحت مشتهرة.

إن الرجل المكثر من استخدام ألفاظ: "علي الطلاق... علي الحرام " وغيرها، لا يُقدِّر معنى "كلمة الله"، ولا يحفظ "أمانة الله"، أو - بتعبير آخر - وكأنه يسخر من هذه الكلمة وهذه الأمانة، فماذا سيجيب ربه عندما يقف بين يديه؟!

هذا ما ينبغي على المسلم أن يفكر فيه عندما يتلفظ بألفاظ الطلاق أكثر من أن يفكر باحتسابها طلقة أم لا.

نحن إذن أمام مشكلة خطيرة، تستدعي منا الوقوف عندها، والبحث جادين عن حل لها؛ وهي ظاهرة تفشي الطلاق كلفظ لا كمشروع.

وأقصد بالطلاق كمشروع؛ أن يكون هناك خطوات ومحاولات لإصلاح الحياة الزوجية، تبدأ بالحوار الواعي الصريح المخلص لنقاط الخلاف، ثم النصيحة للطرف المخطئ، وهذا كله مبنيٌّ على أساليب الإصلاح التي نص عليها القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) النساء/34.

ثم تأتي مرحلة تدخُّلِ أطرافٍ محايدةٍ مخلصةٍ في نية الإصلاح بين الزوجين، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) النساء/35.

يرافق كل هذه الإجراءات وعيٌ من كِلا الزوجين بحاجات الآخر وظروفه النفسية والمادية التي قد يمر بها، ووعي بأنَّ تحقُّقَ الانسجام بينهما يحتاج إلى زمن، فإنه لا يعقل أن يتحقق الانسجام بين إنسانين عاش كل منهما في بيئة مختلفة عن الآخر: مستوى معيشي مختلف... سلوك [2]مختلف... طباع مختلفة... أولويات مختلفة... حتى في تفاصيل الحياة  البسيطة، فقد يكونان مختلفين في نكهات الأطعمة وكمية الملح.. و.. و..

الزمن وحده إذا رافقه وعي بهذه الحقائق كفيل باستقامة الحياة الزوجية وتحقيق الانسجام، حتى إنهما بعد سنوات سيصلان إلى مرحلة متقدمة في الانسجام تصل حد الشبه التام حتى في التصرفات والمشاعر.  

ولو استقرأنا حالات الطلاق فإن القلة القليلة منها تمر بهذه الخطوات، أو بهذا المشروع؛ فالطلاق في أيامنا أصبح كلمة انفعالية سريعة الجريان على ألسنة الرجال.

هذا توصيف لمشكلة تحتاج إلى حل ينبغي أن يبدأ من العمل الجاد على إصلاح وجدان الناس وضمائرهم؛ فإن المحرِّكَ لسلوك الإنسان والموجِّهَ لجوارحه وما يصدر عنها من أقوال ومواقف هو المحتوى الداخلي له، أو - بتعبير آخر - ما يعمر وجدانه من إيمان، فمن كان وجدانه عامراً بالإيمان بكل جوانبه انضبط سلوكه، وكلما خلا الوجدان من معاني الإيمان اختل السلوك، وعليه فإن كل مسألة في هذه الحياة لها اتصال بشكل أو بآخر بالإيمان، ولا سيما مسألة البحث هنا؛ وهي الطلاق وألفاظه التي يتلفظ بها الناس، فما نجده في الواقع من هذا الكم الهائل من حالات الطلاق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بضعف الوازع الديني، وخلو وجدان الناس من مخافة الله.

فكيف يمكن أن نصلح وجدان الناس وننمي إحساسهم بالخوف من الله؟!

هذا ليس مجرد سؤال أدعي أنني أملك الإجابة عليه، بل هو هّمٌّ عامٌّ يحتاج إلى مشروع متكامل تتكاتف فيه طاقات مؤسسات عدة.

رقم المقال [ السابق | التالي ]



اقرأ أيضا

المقالات

   آداب التطليق

   حكم التسول في الإسلام

دراسات وبحوث

   روايات سبب إسقاط سكنى ونفقة فاطمة بنت قيس بعد طلاقها ثلاثاً

الفتاوى

   طلاق الهازل واقع

   جامعها بعد طلاقها منه طلاقا بائنا

   الخلاف في مسألة هدم زواج الرجل الثاني ما سبق من طلقات الزوج الأول

   هل يلزم المفتي أن يسأل الزوجة عن واقعة الطلاق

   حكم طلب الزوجة أو وليّها التفريق لعدم كفاءة الزوج


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha