مقالات

من المسجد الحرام إلى الأقصى

الكاتب : سماحة المفتي العام الدكتور محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 12-04-2018


من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كانت رحلة الروح والجسد، وإحدى معجزات الرسالة الخالدة، التي تحمل في ثناياها عبر الزمن أطيافا من الآيات الدالة على ربط معجز بين قدسية العقيدة والشريعة وربطهما بالزمان والمكان، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء/1.

فالزمان في السنة العاشرة من البعثة، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً، وبعد العودة من سفر الدعوة إلى الطائف، ذلك السفر الذي تجلت فيه مشاق الدعوة، وظهر فيه نموذج صبر الدعاة إلى الله يجسده النبي صلى الله عليه وسلم، "يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، يا زيد إن الله ناصر دينه ومظهر نبيه"، ثقة عالية بالله تعالى تنم عن إيمان راسخ يولد صبراً دونه قمم الجبال، فكان اليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة، إمضاء لسنة الله تعالى في الأرض، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الشرح/6، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج إيذاناً بهذا اليسر، وتفريجاً لكرب النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية وتثبيتاً لقلبه، لندرك اليوم آية من آيات الإسراء بأن الفرج قريب، وأن الخروج من الأزمات ليس ببعيد، إن نحن عززنا ثقتنا بالله، وأحسنا اللجوء إليه، مع العمل الجاد وبذل الوسع، والتشمير عن السواعد.

وأما المكان فمن المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين، الأرض المباركة، أرض الأنبياء والمرسلين، وما بين المسجدين من مسافة مرورا بأرض الأردن هي أرض مباركة {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الإسراء/1 فللمكان قدسية، ربطت بين المسجدين لحكمة ربانية تستشرف قادم الأيام تنبيهاً وتحذيراً وإيقاظاً لأمة الإسراء من غفلة ذات زمن، ليبقى المسجد الأقصى في وجدان المسلمين وجزءًا لا يتجزأ من عقيدتهم كلما توجهوا في صلاتهم إلى المسجد الحرام، لاح بين أعينهم برق قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم، فما سكنت لهم قلوب، ولا قرت لهم أعين، حتى يعود المسجد إلى ديارهم تعانق مآذنه مآذن المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد تجلت هذه الروح عند صلاح الدين رحمه الله؛ فعاد المسجد إلى حياض المسلمين، وستبقى في هذه الأمة حتى يعود المسجد إلى ديارها بإذن ربها، وواهم كل الوهم من يظن أنه قادر على قتل هذه الروح أو إضعافها، فعقيدة المسلمين لا تغيرها القرارات، فهي ثابتة تجاه المسجد الأقصى كلما قرأوا  في ذكرى الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الإسراء/1.

وفي ليلة الإسراء تجلت العقيدة بأبهى صورها ناصعة نقية، فقد اختار النبي صلى الله علية وسلم فطرة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة) رواه مسلم. وقد كان اللبن دليلاً على فطرة الإسلام لأنه يدل على الاستقامة فهو شراب سهل سائغ لذة للشاربين وكذلك الإسلام.

وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى المبارك لترسيخ عقيدة التوحيد في الأرض فهو سيد الأنبياء وإمامهم، وهو صلى الله عليه وسلم ولد سيد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) رواه مسلم. وهو إشارة إلى تولي أمته أمر قيادة البشرية وقد كانت كذلك في زمان مضى وستعود بإذن الله تعالى لترسيخ الرحمة والعدل في الأرض.

ثم عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى المبارك إلى السماوات العلى لتفتح له أبواب السماء ويرى من آيات ربه الكبرى وفي مقام قرب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه فرضت الصلاة؛ ليكون قرب المسلم واتصاله بالله عز وجل مستمراً على مدار اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: (فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ؟ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ) متفق عليه.

هكذا فرضت الصلاة ليلة الإسراء ومن رب العزة مباشرة؛ لتكون عمود الدين، وفاتحة العبادات، وحبلاً ممدوداً بين العبد وربه.

وفي صبيحة ليلة الإسراء ككل حدث بارز يميز معادن الناس وصدق إيمانهم من نفاقهم، انقسم الناس إلى فريقين، منهم مصدق قولاً يقول: إن كان قالها فقد صدق، وفريق يضرب كفاً بكف ويلطم رأسه ثم نكص على عقبيه ليرتد عن دينه، وهكذا الأحداث الجسام تمحّص الناس وتظهر معادنهم وتميّز الخبيث من الطيب.

سائلاً الله تعالى أن يجعل هذه الذكرى دافعاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المسجد الأقصى المبارك، وأن يحفظ بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

والحمد لله رب العالمين

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

المقالات

   مكانة المسجد الأقصى في قلوب المسلمين

   وقفات مع آية الإسراء

   حول أحداث المسجد الأقصى

   حول إعلان القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي

   أرض الأنبياء يرثها الأتقياء

قرارات مجلس الافتاء

   قرار رقم: (191) (11/ 2013) في استنكار محاولات تقسيم الأقصى المبارك

   قرار (195): استنكارمحاولات إلغاء الوصاية الأردنية على الأقصى

الفتاوى

   هل الصخرة التي في بيت المقدس معلقة في الهواء

   الدفاع عن المسجد الأقصى واجب شرعي


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha