مقالات

مقدمة قانون الأحوال الشخصية الأردني

الكاتب : سماحة الدكتور أحمد هليل

أضيف بتاريخ : 20-01-2011


Article

 

الحمد لله رب العالمين، الذي بنعمته تتم الصالحات، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فأكرمنا بالإسلام، ومنّ علينا بالإيمان، وجعلنا من أتباع خير الأنام النبي العربي الهاشمي الأمين، سيدنا محمد عليه وعلى آل بيته الطيبين أفضل الصلاة وأتم السلام، وصلاة الله وسلامه على رسله وأنبيائه أجمعين، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، وبعد:

فقد يسر الله تعالى بمنه وفضله صدور قانون الأحوال الشخصية رقم (36) لعام (2010م)، موشحاً بالإرادة الملكية السامية من لدن جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي يولي القضاء كل العناية والاهتمام، حرصاً على ترسيخ مبدأ العدالة وسيادة القانون إحقاقاً للحق ودفعاً للظلم، ليحل هذا القانون محل قانون الأحوال الشخصية السابق رقم (61) لعام (1976م)، والذي أعدته دائرة قاضي القضاة ليكون واسطة العقد في التشريعات الأردنية الناظمة لشؤون الأسرة، بما احتواه من أحكام ومعالجات مستمدة من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاجتهادات المعتبرة من علماء الأمة وفقهائها، ليحقق الغاية المرجوة والهدف المنشود في المحافظة على الأسرة واستقرارها، فهي عماد المجتمع وقوامه، بصلاحها يكون صلاح المجتمع وأمنه.

ولما كانت المحاكم الشرعية تطبق في قضائها أحكام الشريعة الإسلامية السمحة منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، التزاماً بعقيدة الأمة وشريعتها وما ضمنه لها الدستور الأردني وحرصاً من قيادتنا الهاشمية المباركة على هذا المنهج القويم، وقد ظهر هذا الأمر جلياً من خلال قوانينها وأنظمتها، ومنها قانون الأحوال الشخصية السابق رقم (61) لسنة (1976م)، الذي مضى على العمل به أربعة وثلاثون عاماً، تطورت فيها ظروف الحياة، واستجدت خلالها أقضية وحوادث ووقائع، فقد استوجبت ذلك إعادة النظر في جملة من الاختيارات الفقهية المبنية على المصلحة أو العرف مع المحافظة على ثوابت الشريعة وقواعدها العامة وأحكامها القطعية، استناداً إلى ما قرره الفقهاء من أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

وانطلاقاً من حرص دائرة قاضي القضاة على الالتزام بثوابت الشريعة الإسلامية وأحكامها وقواعد الدستور ومراعاة معطيات العصر ومستجدات الواقع، فقد أوكلت مهمة إعداد هذا القانون إلى نخبة من أصحاب الفضيلة قضاة الشرع الشريف، من رؤساء وقضاة المحاكم الاستئنافية والابتدائية الشرعية، ومفتشي المحاكم الشرعية، الذين أعدوا النص الأولي للقانون، حيث تم عرضه على جميع أصحاب الفضيلة قضاة الشرع الشريف لدراسته وإبداء الملاحظات حوله، ثم كلفت لجنة تضم ثلة من العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء المتخصصين الخبراء في علوم الفقه والشريعة والقضاء، الذين قاموا بدراسته وتنقيحه وإثرائه بنافع علمهم، ملتزمين بأصالة الفكر، وروح العصر، وذلك كله على مدى ثلاثة أعوام من الجهد المتواصل والعمل الدؤوب، وقد كان لي شرف المتابعة والإشراف على هذه اللجان في مراحل إعداد هذا القانون، والتي عملت بكل جد وإخلاص وتفانٍ، كما كرمني إخواني أصحاب السماحة والفضيلة العلماء الأجلاء والقضاة الفضلاء أعضاء لجنة الخبراء برئاسة هذه اللجنة والمشاركة في جلساتها ومناقشاتها، وكانوا على أعلى مستوى من الحكمة والمسؤولية والدقة والموضوعية وبعد النظر وعمق الفكر.

وبعد أن استوفى القانون جميع مراحله قمت برفعه بصيغته النهائية إلى دولة رئيس الوزراء السيد سمير الرفاعي، الذي أتاح لي فرصة تقديم عرض موجز حوله لمجلس الوزراء الموقر، الذي ناقشه وأقره في جلسته المنعقدة برئاسة دولته بتاريخ (26/ 9/ 2010م).

وقد جاءت أحكام هذا القانون مستمدة من الشريعة الإسلامية بمذاهبها المعتبرة، دون الانحياز لمذهب معين، على أساس الاختيار القائم على رجحان الدليل أو تحقيق المصلحة الظاهرة المتفقة مع أحكام الإسلام نصاً وروحاً، مقاصد ووسائل، بعيداً عن الغلو أو التعصب لرأي أو اتجاه اجتماعي بعينه، وذلك من خلال الموازنة والملائمة بين المصالح، ومراعاة خصوصية العلاقة بين الزوجين، وضرورة حماية الأسرة والمجتمع بوجه عام، والنظر إلى حقوق المرأة والطفل بوجه خاص، تحقيقاً للأمن الاجتماعي، وإقامة للعدل، ورفعاً للظلم، وإيجاداً لحلول ومعالجات متوازنة منصفة تسهم في استقرار المجتمع ونهوضه، وتؤكد أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأنه منهج حياة.

وقد حاز القانون مباركة مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية بالإجماع في جلسته المنعقدة بتاريخ (30/ 5/ 2010م)، كما كان موضع اهتمام أصحاب الفكر والثقافة والإعلام والصحافة والمواطنين كافة، لما له من أهمية بالغة، وأثر كبير على الحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية، حيث قامت دائرة قاضي القضاة بالإعلان عنه في وسائل الإعلام المختلفة، وبخاصة الموقع الإلكتروني لدائرة قاضي القضاة، بهدف الحصول على التغذية الراجعة حوله، لإتاحة الفرصة لكل المهتمين للإدلاء بآرائهم والمشاركة بمقترحاتهم التي كانت موضع عناية واهتمام، وتمت دراستها بكل شفافية وموضوعية، والاستفادة من الممكن منها بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، وقد شكل ذلك ظاهرة عزَّ نظيرها، فكان هذا القانون ومنهجية إعداده محل الإشادة والتقدير من القطاعات الرسمية والشعبية، الأمر الذي أدى إلى أن يحظى القانون بتوافق مجتمعي كبير من العلماء المختصين بالفقه والتشريع، والقانون، والهيئات والمؤسسات الدينية والحقوقية والحزبية والنقابية، ومن مؤسسات المجتمع المدني المعنية بشؤون المرأة، الذين رأوا فيه إقناعاً لعقولهم، وموافقة لفطرتهم، وحلاًّ لمشكلات مجتمعهم ومعضلاته، فهو مستمد من كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50.

لقد أُعد هذا القانون ليكون متكاملاً، بحيث يشمل موضوعات الأحوال الشخصية كافة نصاً دون إحالة على مذهب معين، لتضييق دائرة الاختلاف قدر الإمكان، الأمر الذي استلزم إضافة أبواب وفصول لم تكن موجودة في القانون السابق، ومنها: الأهلية وعوارضها، والولاية على النفس والمال، والوصاية، والوصية، والإرث، والتخارج، والأحكام التفصيلية المتعلقة بذلك كله، كما احتوى هذا القانون على جملة من المسائل الموضوعية التي تعتبر تطوراً نوعياً مقارنة بما كان معمولاً به في القانون السابق، وبخاصة المسائل المتعلقة بحقوق الطفل، كالحضانة، والرؤية، والاستزارة، والسفر بالمحضون، وغيرها من المسائل التي كانت تشكل معاناة كبيرة للأسر بوجه عام، وللأطفال والأمهات بوجه خاص.

وقد راعى القانون الاستفادة من التقنيات العلمية المتقدمة، بحيث تم اعتماد بعض الوسائل الحديثة للإثبات، وبخاصة في مسائل النسب وثبوته، والتفريق للعيوب، وغيرها، كما تضمن القانون جملة من الأحكام التي من شأنها تسهيل الإجراءات وتبسيطها لحسم النزاعات وعدم إطالة أمد التقاضي.

وإنني أقدم هذا القانون للعاملين في مرافق العدالة من قضاة ومحامين وقانونيين، وهم يؤدون رسالتهم في رفع ألوية العدل وإرساء موازين القسط: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء/58.

كما أقدم هذا القانون لكل مواطن غيور على دينه ووطنه ومجتمعه وأسرته، حريص على معرفة حقوقه وواجباته.

وختاماً فإنني أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان، لأصحاب السماحة، والمعالي، والفضيلة، والعطوفة، والسعادة، وكل من أسهم وشارك في إنجاز هذا الجهد الوطني الكبير، بإسداء رأي أو مشورة، أو تقديم نصح أو عون، على ما بذلوا وقدموا لإخراج هذا القانون بالصورة المرضية، وأخص بالذكر أصحاب الهمم العالية، والعزائم الراسخة، أصحاف الفضيلة رئيس وأعضاء المجلس القضائي الشرعي، وهيئات القضاء الشرعي، الذي كان لجهدهم الأثر الأكبر في إعداد هذا القانون، وإنني لأسأل الله العلي القدير أن يجزيهم خير الجزاء، ويجزل لهم المثوبة والعطاء، كما أسأله -جلت قدرته وتقدست أسماؤه- أن يجعل هذا القانون منهجاً قويماً وسبيلاً مستقيماً، لإحقاق الحق وإقامة العدل، وإنصاف كل مظلوم، وأن تكون أسرنا عامرة بالمودة والرحمة والسكينة والسعادة والهناء والطمأنينة، ذلك أن هذا القانون هو قانون الأسرة كلها: الآباء والأمهات، والأزواج والزوجات، والبنين والبنات، والإخوة والأخوات، وسائر الأصهار والقرابات.

كما أساله تعالى أن يحفظ بلدنا واحة أمن وعدل ورخاء، في ظل عميد آل البيت الهاشمي، الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله، وسدد على طريق الحق والعدل خطاه.

 للاطلاع على مواد القانون (اضغط هنا)

رقم المقال [ السابق | التالي ]



اقرأ أيضا

المقالات

   الإسلام والقانون الدولي الإنساني

دراسات وبحوث

   امتداد عقد الإجارة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بقانون المالكين والمستأجرين الأردني

قرارات مجلس الافتاء

   قرار رقم: (113) في شأن الدعوى المرفوعة على صحفي مسلم أعاد نشر الرسوم المسيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

   قرار رقم: (316) التعديلات المقترحة على قانون حقوق الطفل

   قرار رقم: (9) حكم تعديلات على قانون سندات المقارضة

الفتاوى

   اقتراحات سابقة على قانون المالكين والمستأجرين

   هل الفقه المعاصر يعيش أزمة؟

   يجب على المسلم الالتزام بأنظمة الدولة التي يعيش فيها

   الالتزام بقانون السير واجب شرعاً

   الخلاف في مسألة هدم زواج الرجل الثاني ما سبق من طلقات الزوج الأول


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha