الذبائح في مقاييس الشريعة الإسلامية
دراسة فقهية مقارنة(*)
أ. د. عبد الملك السعدي/ جامعة العلوم الإسلامية العالمية- الأردن
ملخص
بسم الله الرحمن الرحيم
بين هذا البحث عناصر الذبح وهي التسمية، والآلة، ومحل الذبح، وصفات الذابح. وأوجب التسمية عند البداية أو عند تشغيل الآلة، وأنها إن تركت عمداً لا تحلّ الذبيحة، وأنها لا تجب على الكتابيّ، ثم بين مواضع الذبح، وهي: الرقبة المكونة من أربعة أعضاء الحلقوم والمريء والودجين، وأوجب فريها كلها، وأن الذبح من أمام ويكره من خلف، ويحل أكلها إن قطعت مرة واحدة دون حزّ مع الكراهية، وعند تعذر الذبح من الرقبة فيما إذا نكس رأسه في بئر أو شرد يجوز جرحه من أي عضو يجوز جُرحاً مزهقاً للروح، وأنّ الذبح يصحّ بكلّ جارح ولو من غير الحديد، ما عدا العظم والظفر أو بالضغط أو الثقل، ولا فَرْق في الذَّبح من الرَّجُل أو المرأة أو المجنون وغيره، وذبح الآلة يصحُّ إذا وضعت الجارحةُ بمكان عندما يمرّ بها الحيوان تقطع ما هو واجب القطع وبعكسه لا يحلّ، ولا يجوز أكل ما يدخل حيواناً ويخرج لحماً، والصعقة الكهربائية إن مات بها لا يؤكل وإن خدرته فقط يؤكل، وتعرف حياتها بحركة عضو عند الذبح أو خروج الدم نافراً، وأن الجنين إذا ذبحت أمه وأخرج ميتاً يؤكل.
وتناول البحث حكم اللحوم المستوردة، فجوزها من الدول الكتابية، إلا إذا ذبحت خلاف الشريعة الإسلامية، وعدم جواز أكلها من دول الشرك أو الإلحاد إلا إذا ثبت أنّ الذابح مسلم أو كتابي، وبين ما يسنّ عند الذَّبح وما يكره.
المقدمة
تتضمن تعريف الذبائح لغة وشرعاً، وبيان الهدف من البحث، ومن كتب فيه سابقاً، وبينت منهجي في البحث مع بيان خطة البحث.
أولاً: تعريف الذبائح:
لغة: جمع ذبيحة أي مذبوحة، ويطلق عليها أيضاً: الذِبْحِ -بكسر الذال وسكون الباء- والذبحُ مصدر ذَبَحَ وهو قطع الحلقوم، وهو موضع الذبح من الحلق، والذبح يساوي التذكية؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ (المائدة: 35)، أي ذبحتم([1]).
شرعاً: عرفها الحنفية: بقولهم "الذبح قطع الأوداج"، والأوداج هي: الحلقوم، والمريء، والودجان([2]).
وعرّفها المالكية: "قطع مميِّزٍ يناكَح تمام الحلقوم والودجين من المقدمة بلا رفع قبل التمام، والنحر طعن بلبته"([3]).
وعرّفها الشافعية: "ذكاة الحيوان المأكول بذبحه في حلق أو لبة إن قدر عليه، وإلا فبعقر مزهق حيث كان"([4]).
وعرّفها الحنابلة: "ذبح أو نحر مقدور عليه مباح أكله من حيوان يعيش في البرّ: لا جراد ونحوه، بقطع حلقوم ومريء أو عقر إذا تعذر"([5]).
وأرى أن تعرف بقول: إزهاق روح الحيوان بطريقة مخصوصة، من شخص مخصوص في محل مخصوص بآلة مخصوصة؛ لأنه تعريف جامع مانع.
ثانياً: الهدف من البحث:
يهدف البحث إلى ما يأتي:
1. وضع مسائل الذبح أمام طلاب علوم الشريعة ليكونوا على بصيرة من مقاييس الشريعة الإسلامية ليفتوا الناس من خلالها.
2. تكوين منهج لمن يمتهنون مهنة الذبح أو الجزارة ليقدم لحماً حلالاً، ويتجنب اللحم الحرام المخالف لهذه المقاييس.
3. التعرف على ما يذبح الآن بواسطة الذبح الآلي.
4. بيان حكم اللحوم المستوردة من دول غير إسلامية.
ثالثاً: الدراسات السابقة:
جميع مصادر الفقه القديمة للمذاهب الأربعة، أمّا المعاصرة فكثيرة، منها كتاب كان أعدّه الدكتور عبدالحميد حمد العبيدي بعنوان (الصيد والذبائح) حصل به على درجة الماجستير من قسم أصول الدين في كلية الشريعة في جامعة بغداد، إلا أن بحثي هذا خاصّ بالذبائح، نظمته على شكل آراء وأدلة مع مناقشة الأدلة المرجوحة والترجيح.
رابعاً: منهج البحث:
1. المنهج الاستقرائي، وذلك بمتابعة الموضوع من مصادر الفقه للمذاهب الأربعة.
2. المنهج الاستنباطي والاستنتاجي من خلال بيان أحكام الذبائح على شكل آراء مجتمعة وأدلة ومناقشة واختيار الراجح منها.
خامساً: خطة البحث:
نظراً لكون عناصر الذبائح هي الذِّكر، ومحل الذبح، وآلته، ومن يقوم به، فقد جعلته من مقدمة هي ما نحن بصدد الحديث عنها، وأربعة مطالب:
المطلب الأول: في الذكر قبل الذبح (التسمية).
المطلب الثاني: في محل الذبح.
المطلب الثالث: في آلة الذبح.
المطلب الرابع: في شروط الذابح.
والخاتمة: ذكرت فيها ما توصلت إليه من نتائج مع التوصيات.
المطلب الأول
في الذِّكر
المراد به صيغة التسمية قبل الذبح، حيث لها صيغة خاصة، ونبين فيه حكمها التكليفي:
1. أمّا الصيغة: فهي (بسم الله - الله أكبر).
وليست التسمية المعروفة التي تقال عند الشرب، والأكل، والقراءة، وأي عمل، وهي (بسم الله الرحمن الرحيم) التي وصف الله بها بالرحمن الرحيم، فإنّ هاتين الصفتين لا تتناسبان مع عملية الذبح؛ لأنّ المقام ليس مقام رحمة؛ لأنّ الذبح هو خلافها لولا إباحة الله له؛ لذلك يضاف إليها لفظ (الله أكبر)، أي: الله أكبر من الرحمة بهذا الحيوان فأباح لنا ذبحه.
2. أما حكمها التكليفي:
فقد اختلف الفقهاء فيه على رأيين:
الرأي الأول: الوجوب، وبه قال الحنفية([6])، والمالكية([7])، والمشهور عند أحمد([8]).
ويترتب على الوجوب أنه إن تركها الذابح عمداً لا تحلّ ذبيحته فهي ميتة إن كان الذابح مسلماً.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ ]الأنعام: 121[، جاءت الآية تنهى عن أكل أي ذبح لا يذكر اسم الله عليه؛ لأنّ النهي إذا أطلق يدلّ على التحريم([9]).
2. قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ ]الحج: 36 [.
هنا جاء الأمر بذكر اسم الله على الإبل عند إرادة ذبحها في نسك الحج، والأمر عند الإطلاق يدلّ على الوجوب([10]).
أما إذا كان الذابح كتابياً فلا تجب عليه التسمية؛ لأنّ الرخصة في أكل ذبيحة الكتابيّ حصلت بقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ ]المائدة: 5 [جاءت مطلقة عن قيد التسمية، والمراد بالطعام في الآية هو اللَّحم؛ لأنّ بقية الأطعمة من الحبوب والفواكة لا فرق فيها بين المسلم والكافر.
3. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه..." يفهم منه أنه إذا لم يذكر اسم الله عليه لا يؤكل([11]).
هذا إذا ترك التسمية عمداً.
أما إذا تركها نسياناً: فإنها تحلّ له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"([12]) ([13]).
الرأي الثاني: أنها سنة، وهو قول الشافعي([14])، وأشهب وابن رشد من المالكية([15])، والرواية الثانية لأحمد([16]).
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1. قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمّ"([17]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسم الله على كل مسلم"، وقال ابن قانع: "اسم الله على فم كل مسلم"([18])، فالحديث والأثر يدلان على أنّ ذبح المسلم يقوم مقام التسمية، إذن التسمية ليست واجبة بل سنة([19]).
والراجح: هو الوجوب؛ لأدلته من الكتاب والسنة، ولولا الوجوب لما استثنى الناسي؛ لأنها وفق الأصل سنة لا فرق في تركها بين المتعمد والناسي، وأيضاً أثر أبي هريرة ضعيف([20])، والحديث كان جواباً عن الناسي. والله أعلم.
ووقت التسمية: عند الشروع بالذبح([21]).
وبالنسبة للذبح الآلي فتكون التسمية عند تشغيل الآلة ولمرة واحدة.
تسمية الأعاجم: من يحسن العربية لا بدّ من النطق بها بالعربية، ولا سيّما وأنّ معظمهم يحسنونها بالعربية، فإنْ عجز سمى بلغته([22])، وعند المالكية تسقط([23]).
المطلب الثاني
في محل الذبح
التذكية نوعان: اختياري – واضطراري
الأول: الاختياري
محلّها الرقبة من عند الرأس إلى الترقوة، وأيّ موضع حصل الحزّ منها فهو ذبح، على أن يترك حلقة من حلقات الحلقوم مع الرأس، فإن لم تترك فإنها لا تحلّ؛ لأنّ الذبح حصل على الرأس لا على الرقبة، فالذبيحة تعدّ ميتة، ولا يشترط أن يكون الحزّ على اللبة، وهي مثل الحنجرة من الإنسان([24])، وذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: "ألا إنّ الذكاة في الحلق واللبة"([25])، وقطع الرقبة يكون بالذبح أو بالنحر.
فالذبح للبقر والغنم والطيور؛ لأنّ الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ ]البقرة: 67[، وقال: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ ]الصافات: 107[، والنحر خاصّ بالإبل، قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ]الكوثر: 2[.
أما الذبح فهو الحزّ في الرقبة ذهاباً وإياباً، والنحر هو توجيه السكين وإدخالها في رقبة البعير من الأمام، فالسنة الذبح في البقر والأغنام والطيور، والنحر للإبل، ويجوز عكس ذلك مع الكراهة؛ لأنّ فيه نوع تعذيب للحيوان.
والقول في المواضع التي يجري عليها الإفراء من أجزاء الرقبة الأربعة حصل خلاف فيه بين الفقهاء إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يجب قطع الحلقوم والمريء والودجين، وهو قول الحنفية([26])، ورواية عن أحمد([27])، ورواية عن أبي تمام من المالكية([28]).
إلا أن الحنفية([29]) فيما إذا قطع الأكثر؛ لقاعدة عندهم هي (للأكثر حكم الكلّ)، فيرى أبو حنيفة: أن الأكثر ثلاثة من هذه الأربعة، ويرى أبو يوسف أن الأكثر هو قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين، ويرى محمد أن يقطع من كل عضو أكثره.
الرأي الثاني: يقطع الحلقوم والمريء، وهو مذهب الشافعية([30])، والحنابلة([31]).
الرأي الثالث: قطع الحلقوم والودجين، دون المريء، وهو قول المالكية([32]).
والراجح هو الأول؛ لأن الحكمة من القطع هي نزوف الدم من جميع الجسم، ولا ينزف كاملاً إلا بقطع الجميع.
ويمكن العمل بأحد الرأيين الآخرين إذا حصل ذلك خطأ، حذراً من التبذير، أو كان الذبح آلياً ولم يقطع الكلّ.
جهة القطع:
القطع يكون من أمام الرقبة وهي المواجهة للأرض، أما إذا جرى عليها من خلف وهي المواجهة للسماء، فإن لم يصل القطع إلى مواضع الفري المتقدم ذكرها وماتت فهي ميتة لا تؤكل اتفاقاً، أما إذا وصلت السكين إلى مواضع الإفراء وقطعتها قبل الموت فقد حصل خلاف في حلها إلى رأيين:
الرأي الأول: هي ذبيحة تؤكل مع الكراهة؛ لأنه تعذيب للحيوان، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح"([33])، وهو قول الحنفية([34])، والشافعية([35])، والأصح عند الحنابلة ([36]).
الرأي الثاني: هي ميتة يحرم أكلها، وهو قول المالكية([37])، ورواية عن أحمد([38])؛ لأنه حزّ ليس من موضعه.
والراجح: الأول ما دام الحز قطع ما يجب قطعه منها وهي لا تزال حية، إلا أن الكراهية لما يحصل من تعذيب للحيوان.
قطع الرأس دفعةً دون حز:
إذا أهوى بالسيف على رقبة الحيوان فقطع الرأس جملةً دون حزّ، سواء كان من أمام أم من خلف.
حصل خلاف بين الفقهاء إلى رأيين:
الرأي الأول: يصحّ مع الكراهة، وهو قول الحنفية([39])، والشافعية([40])، والمعتمد عند المالكية([41])، وأحمد([42])، والكراهة لأنّ في ذلك تعذيباً للحيوان، وكان ابن عمر (ينهى عن النخع)([43])، وهو قطع النخاع الذي في رقبتها.
الرأي الثاني: يحرم أكلها، وهو قول مالك([44])، وذلك؛ لأنه لم يحصل الذبح الشرعي وهو الحزّ.
والراجح هو الأول ما دام هذا الفعل يؤدي إلى نزيف الدم من جسمها مع الكراهة؛ لأنه تعذيب للحيوان.
والثاني: الذبح حالة الاضطرار
وذلك كأن يسقط بعير في بئر رأسه أسفل وعجزتْه فوق وعسر إخراجه لا يُخْرَج إلا بعد موته.
أو شرد في أرض واسعة وعسر القبض عليه إما أن يهلك أو يفترس.
فهذه الحالة حصل فيها خلاف إلى رأيين:
الأول: هو رأي الجمهور من الحنفية ([45])، وقول في مقابل المشهور من المالكية([46]) لابن حبيب، والشافعية([47])، والحنابلة([48])، إنه يجرح جُرحاً مهلكاً من أيّ عضو قدر عليه بحيث يؤدي إلى هلاكه ونزف دمه.
واستدلّوا بقول ابن عبّاس: "ما أعجزك من البهائم ممّا في يديك فهو كالصيد"([49])، وهذا في حكمه.
الثاني: لا بدّ من ذبحه من الرقبة، وهو قول للمالكية([50])؛ وذلك لأنه حيوان أليف، ولا يقاس على صيد الحيوان النافر.
والراجح: القول الأول، لأنه إذا كان لا يقدر على أخذه صار بمنزلة الصيد، فيقام الجرح فيه مقام النحر، وما دام هذا الجرح يؤدي إلى نزيف الدم من جسمها حصل المقصود، وهو إزالة المحرم (الدّم المحتبس) فيها وتطييب اللحم.
المطلب الثالث
في نوع آلة الذبح
اختلف الفقهاء في الآلة التي يتمّ فيها الذبح إلى رأيين:
الرأي الأول: يجوز بكل جارح إذا جرح بمجرد إمراره على الرقبة دون ثقل أو تحامل أو ضغط، سواء من حديد أم من خشب أو من حجارة، وهو رأي الجمهور من الحنفية([51]) والمالكية([52]) والشافعية([53]) والحنابلة([54]).
واستدلّوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السنّ والظفر، وسأخبركم عنه: أما السنّ فعظم، وأمّا الظفر فمدى الحبشة"([55])، ويقاس على السنّ جميع العظام، وأيضاً استدلوا على ذلك، أنّ جارية لكعب بن مالك ترعى غنماً له بالجبيل الذي بالسوق، وهو بسلع، فأصيبت شاة، فكسرت حجراً فذبحتها به، "فذكروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها"([56])، فأقرت على ذلك.
الرأي الثاني: لا يجوز إلا ما اتخذ من الحديد، إلا إذا فقد الحديد وأشرفت على الموت، فيجوز بأيّ جارح كما فعلت الجارية، وهو المذهب عند المالكية([57]).
الذبح الآلي
حدث في هذا العصر آلات وأجهزة حديثة للذبح، وهي على النحو الآتي:
إن أدخلت في الجهاز من جانب ويخرج لحمها من جانب آخر فهو لحم ميتة؛ لأنه لم تجرِ عليه الذكاة الشرعية.
فإنْ وضع آلة الذبح الجارحة في موضع ويمر عليها الحيوان أو الطير بواسطة سير متحرك، فإذا كانت الآلة الجارحة التي يمر بها الحيوان أو الطير تقطع ما يجب قطعه من رقبتها فهذه تذكية شرعية.
وإن لم تقطع ما يجب قطعه من رقبتها، فإنّ ما يمر عليها هو ميتة، ولا سيما مرور الطيور، فإن بعضها تمرّ سليمة وتموت في الماء الساخن التي تذهب إليه لنتف ريشها، ولا يحصل أيضاً إذا ماتت بالضغط لا بالحدّ.
أما ما يفعله بعض الجهلة من قطع رأس العصفور باليد فهو ميتة لا يحلّ أكله.
الصعقة الكهربائية
تستعمل الصعقة عوضاً عن ربط الحيوان بالحبال؛ لأنه عنيف كالإبل والبقر، فهذه الصعقة إن مات بها قبل الذبح فإنها ميتة لا يحل أكلها، أما إذا بقيت به حياة عند الذبح فإنه يؤكل.
وكيف تعرف حياته؟ تعرف بأحد أمرين:
1. أن يحرك عضواً بعد الذبح.
2. أو ينفر الدم نفراً لا سيلاناً.
فإن لم يحصل أحدهما فإنها ذبحت بعد الموت، ومثل هذه ما أشرفت على الموت أو سقطت من مرتفع وذبحت تقاس حياتها بهذين الأمرين: هل ذبحت وهي حية أو بعد موتها.
المطلب الرابع
في صفة الذابح
1. أنْ يكون مسلماً، أو كتابياً([58])، أي يؤمن بنبيّ أو كتاب.
أمّا المسلم؛ فلقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ ]المائدة: 3[.
وأمّا أهل الكتاب؛ فلقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ ]المائدة: 5[، والمراد بالطّعام اللّحم؛ لأنّ غيره من حبوب وفاكهة لا فرق في تناولها بين المسلم والكافر.
ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم تناول الزند من اليهودية التي وضعت له فيها السم فأكل منها وأخبره جبريل بأنه مسموم فتركه.
أما الملحد أو المشرك والمجوسي فإنه لا تحلّ ذبيحته، وكذا المرتد؛ لأنه يجبر على العودة إلى الإسلام.
وقد ورد حديث في تحريم ذبيحة المجوسي، وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس أهل هجر يعرض عليهم الإسلام، "فمن أسلم قبل منه، ومن لم يسلم ضرب عليه الجزية غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم"([59]).
أهم شرط في الذابح أن يكون قاصداً للذبح، لذا يجب مراعاة الشروط الآتية:
2. أن يكون عاقلاً؛ لأنّ المجنون أو المغمى عليه أو المعتوه لا يحصل منه القصد بالذبح، وكذا السكران عند الجمهور من الحنفية([60])، والحنابلة([61])، وعند المالكية([62]) إذا كان فاقداً، أمّا إذا كان مدركاً فإنها تحلّ؛ لأنه قاصد، خلافاً للشافعية فإنها مباحة مع الكراهة، وذلك لأنّ القصد في الذّبح عندهم غير معتبر([63])، والراجح أنها لا تحلّ مطلقاً عقوبة له.
3. أنْ يكون بالغاً أو صبياً مميزاً، أما الصبي غير المميز فلا تحلّ ذبيحته؛ لأنه فاقد للقصد([64])، خلافاً للشافعية الذين لم يشترطوا القصد فإن ذبيحته تكره([65])، وعلى شرط القصد لو رمى شخص سيفاً في الهواء أو رمى إطلاقةً لم يقصد الذبح فوقعا على حيوان وقطع موضع الذبح لا تحلّ الذبيحة؛ لأنّ الذابح لم يقصد ذبحها([66]).
4. أمّا كونه ذَكَرَاً فالجمهور لم يفرقوا بين ذبح الذكر أو أنثى وبدون كراهية([67])؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ ]المائدة: 3[ خطاب للرجال والنساء، وقد سبق أنّ جارية ذبحت بالحج شاة أدركت على الموت، إلا رواية عن مالك([68]) أنه تصح ذبيحة المرأة مع الكراهة.
5. الجنب والحائض والنفساء وغير المختون فإنه تصحّ ذبيحتهم؛ إذ النصوص لم تفرق بينهم وبين الطاهرين والمختونين([69]).
ذبح المُحْرِمِ بالحج أو العمرة أو الذبح بالحرم
الممنوع عليهم ذبح الصيد وقت الإحرام، وفي الحرم للمحرم والمُحِل وهو الحيوان أو الطير النافر، أما الأليف من الحيوانات أو الطيور فإنه يجوز لهم الذبح، لا فرق بين الحرم وغيره وبين المحرم وغيره([70]).
ذبح حيوان أو طير لا يؤكل
كالحمار أو البغل أو الكلب أو الخنزير فأكل لحمه حرام، سواء ذبح أو مات دون ذبح اتفاقاً، إلا أنه حصل خلاف في لحمه بعد الذبح: هل يطهر بحيث إذا مسّه أو حمله شخص لا يجب غسل يديه أو مسّ ثوباً لا يجب غسله إلى رأيين:
الأول: وهو رأي الجمهور من المالكية ([71]) والشافعية ([72]) والحنابلة ([73]) أنه نجس يجب تطهير ما يمسه.
الثاني: أنه طاهر لا يؤكل؛ لأنّ النجاسة في اللحم من الدم، ولما خرج منه صار اللحم طاهراً إلا الخنزير؛ لأنّ الله تعالى قال فيه: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: 145]، وهو قول الحنفية ([74]).
وإذا انفصل عضو من حيّ فإنه لا يؤكل اتفاقاً([75])؛ لأنه بقي فيه الدّم؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما قطع من حي فهو ميت"([76]).
الجنين في بطن أمه
إذا ذبحت الأم وفي بطنها جنين فأخرج، فإذا كان حياً فلا بدّ من تذكيته؛ لأنه يعدّ نفساً مستقلة عن أمه، وإن خرج ميتاً فقد حصل خلاف في حلّه إلى رأيين:
الرأي الأول: أنه ميت لا يحلّ أكله، وهو قول أبي حنيفة ([77]) تمّ خلقه أم لا، وعلل ذلك بأنه نفس مستقلة عن حياة أمه فلا تكون ذكاته ذكاة له.
الرأي الثاني: يحل أكله، وهو رأي الجمهور: من الحنفية قول الصاحبان إن تم خلقه([78])، والمالكية إن تم خلقه ونبت شعره([79])، والشافعية([80])، والحنابلة([81])، واستدلوا بما رواه أبو سعيد رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين أيلقيه أم يأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه"([82])، فذكاته مبتدأ وذكاة أمه خبر، أي ذكاة أمه هي ذكاة له.
ولأنه متصل بها، فكأنه أحد أعضائها الداخلية كالقلب والرئتين والكليتين.
وقال صاحب الرأي الأول أنه: روي بنصب ذكاة الثانية؛ فإنها منصوبة بنزع الخافض –وهو الكاف– أي كذكاة أمه أي يذكى مثل ذكاة أمه، ويمكن حمل رواية الرفع على التشبيه مثل: خالد أبوه – أي مثل أبيه.
والراجح: الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلوه إن شئتم"([83])؛ ولأنه كعضو من أعضائها الداخلية وكان يتغذى من دمها.
حكم اللحوم المستوردة من الخارج
إذا كانت مستوردة من دول كتابية أهلها نصارى أو يهود، فالأصل أن تكون مباحة، إلا إذا ثبت أن الذبح لم يكن بالطريقة السليمة في ديننا، كما سبق توضيحه.
وإن كانت من دولة مشركة أو ملحدة كالصين أو الهندوس أو روسيا، فالأصل عدم إباحته إلا إذا ثبت أن الذباحين مسلمون أو كتابيون، وحسب ما أخبرت أن ما يصدر إلى الدول الإسلامية يذبحها مسلمون.
وهل يكفي ما هو مكتوب على العلبة أو الغلاف؟
نعم يكفي إلا إذا ثبت أن المصدِّر أو المستورِد يكتب ذلك تزويراً لترويج سلعته فإنه لا يكفي، ولا يخفى الورع في ذلك كله.
ما يسن فعله عند الذبح([84])
1. النحر للإبل والذبح في غيرها.
2. أن تحدّ الشفرة.
3. أن توجه إلى القبلة.
4. التسمية عند من لا يراها واجبة.
ما يكره فعله
1. قطع الرقبة كلها قبل موتها.
2. قطع عضو منها قبل موتها.
3. إبلاغ السكين إلى النخاع.
4. حدّ السكين أمامها.
5. سلخها قبل موتها.
6. ذبح واحدة أمامها.
الخاتمة
أهمّ ما توصل البحث إليه:
1. بينتُ أهمية هذا البحث لإفادة الطلاب الشرعيين وللجزارين وللعاملين بأجهزة الذبح الآلي.
2. بينتُ أن عناصر الذبح أربعة – التسمية، ومحل الذبح، وآلته، وصفات الذابح.
3. رجحتُ وجوب التسمية في بداية الذبح أو عند تشغيل الآلي، وإذا تركت لا تؤكل إلا إذا تركها نسياناً أو كان كتابياً.
4. بينت موضع الذبح وهو الرقبة، ورجحت وجوب قطع أعضائه الأربعة الحلقوم، والمريء، والودجين في الذبح المقدور عليه، وهو الذبح الاختياري.
5. فإن تعذر ذبحه من الرقبة لأنها منكوسة في ماء أو كانت شاردة فذبَحها من أي موضع من جسمها بجُرح مزهق للروح فيجوز.
6. آلة الذبح: يجوز بكل جارح بغير ثقل أو ضغط، ولا يجوز بالعظم وبالظفر، ولا بالثقل، وسواء من الحديد أم من غيره.
7. يجوز ذبح المرأة وغير المختون والجنب والحائض.
8. الذبح الآلي إن مرت رقبة الحيوان على الآلة الجارحة فقطع ما يجب قطعه حلّ أكله، وإن من غير مواضع الذبح، أو أدخل الحيوان من جهة وخرج لحماً من جهة فهو ميتة.
9. الصعقة الكهربائية إن قضت عليه حرم أكلها، وإن خدرته فقط يؤكل، ويعرف حياتها بعدها يحرك عضو عند الذبح أو نفور الدم.
10. رجحت جواز أكل الجنين إذا أخرج ميتاً بعد ذبح أمه.
11. اللحوم المستوردة من دولة كتابية تؤكل، إلا إذا ثبت أنّ الذبح غير شرعي، ومن دولة مشركة أو ملحدة لا يؤكل إلا إذا كان الذابح مسلماً أو كتابياً.
12. بينت ما يسن عند الذبح وما يكره.
التوصيات
أوصي من مهنته الجزارة أن يطبق ما في هذا البحث، ولا سيما من يعمل في الذبح الآلي، وأوصي طلبة العلم الشرعي بالإفادة منه.
وفي الختام أدعو الله أن يحسن خاتمتي والمسلمين، وأن ينفعني بما أكتب، وأن ينفع به، ويرزقني الإخلاص في القول والعمل والكتابة، إنه سميع مجيب.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الرابع، 1442هـ/ 2021م.
الهوامش
(1) محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت 711هـ)، لسان العرب، دار صادر – بيروت، الطبعة الثالثة -1414هـ، ج2، ص 436.