مقالات

التعدّي على المال العام

الكاتب : المفتي الدكتور رضوان الصرايرة

أضيف بتاريخ : 08-12-2011

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لم يُخلق عبثاً ولا سدىً، وإنما خُلق ليعبد الله تعالى وحده لا شريك له.

ومن جملة ما يعبد به الإنسانُ ربَّه أنه يسعى في رزقه ورزق عياله ومن وجبت عليه نفقته؛ لينفق على نفسه وعليهم بما يكفيهم ويسد حاجتهم بالمعروف، ويكفي نفسه الكسب الحرام.

والإنسان في سعيه وطلبه للرزق قد يقع في أشياء لا تُرضي الله تعالى، بل تُغضبه جلَّ وعلا؛ فتكون عاقبتها الخسارة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أخذ حقِّ الغير، والانتفاع بمقدَّرات الدولة بغير وجه حق، واستعمال الأموال العامة في النفقات الشخصية... وكل هذه الأشياء تُفضي بصاحبها إلى النار، وتُعدُّ من الغلول المحرم.

وهذا المقال يتناول جانباً من تلك الجوانب التي يجب على الإنسان أنْ يحترز عن الوقوع فيها، وهي الغلول من المال العام؛ أي الأخذ منه والتعدي عليه بغير وجه حق.

معنى الغلول:

الغلول - في اللغة -: يقال: "غَلَّ من المْغَنَم يَغُلُّ - بالضم - غُلولاً: خان"([1]).

وفي الاصطلاح:هو "أَخْذُ مَا لَمْ يُبَحْ الانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ حَوْزِهَا"([2]).

ويُقاس على الغلول الاختلاس من المال العام، وهو الأخذ منه بغير وجه حقٍّ؛ بجامع عدم إباحة الانتفاع بكلٍّ قبل الحَوْزِ.

حرمة الغلول وأدلَّتها:

قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) آل عمران/161. قال الطبري: "بمعنى: أنْ يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم"([3]).

وقال القرطبي:"أما قوله تعالى:(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؛ أي يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثقله، ومرعوباً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد، وهذه فضيحة يوقعها الله تعالى بالغالِّ"([4]).

وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:قامَ فينا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ:(لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ:لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ([5])، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ) متفق عليه واللفظ لمسلم.

الغلول كبيرة من الكبائر:

ففي الصحيح عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِلاَّ الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلاً لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَلاَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا). فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:(شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) رواه البخاري.

بعض صور التعدّي على المال العام:

1.الأخذ من المال العام بغير وجه حقٍّ (الاختلاس):

وهو محرم حتى لو أخذ ذلك بتأوُّل (أي بشبهة يظنُّ بها حِلَّ ما أخذه وحكمه في الحقيقة الحرمة) مثل الذين يبرمون العقود لصالح الدّولة، فيأخذون ما يسمّى (عمولة وساطة) أو (سمسرة)، ولو من الطرف المقابل، لأنه على حساب العمل، وإنما له رزقه (أي راتبه ومخصصاته) فقط.

فعن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عن النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا؛ فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ) رواه الحاكم.

وعن معاذ بن جَبَل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سِرْتُ أرسل في أثَري، فَرُددتُ، فقال:(أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إلَيْكَ؟ لا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْني فَإنَّهُ غُلُولٌ، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لهذا دَعَوْتُكَ، فَامْضِ لِعَمَلِكَ) رواه الترمذي.

2.الرِّشوة:

وهي:أخْذُ المالِ لِيُحِقَّ بِهِ الْبَاطِلَ أَوْ يُبْطِلَ الْحَقَّ([6]).

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(لَعُنَةُ الله عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي) رواه أحمد.

3.الهدايا وقبول الدعوة:

عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ:هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لي أُهْدِيَ لي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لي، أَفَلاَ قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ). ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:(اللهمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) متفق عليه واللفظ لمسلم.

وعَنْه رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ) رواه أحمد.

4.الاستخدام المفرِط للمال العام (التعسُّف باستعمال الصّلاحيات):

وهو زيادة الإنفاق في شؤون العمل دون حاجة، كالمبالغة في التأثيث، وفي فخامة السيارات، وفي المصاريف، وفي استئجار المكاتب، أو الإجحاف باستخدام ما هو حقٌّ مكتسب لأجل الوظيفة.

5.الاستخدام الشخصي للممتلكات العامة:

وذلك كالاستخدام الشخصي للسيارات، والآلات، والعدد المملوكة للدولة، والقرطاسية، والتلفونات، وأجهزة الحاسوب، وآلات التصوير، والطباعة، وأي استخدام شخصيٍّ آخر لا يكون لصالح العمل الرسمي.

وفي صحيح البخاري عن خَوْلَةَ الأنْصاريّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

6.تخفيض الرُّسوم والمستحقّات على بعض الجهات من باب المحاباة والمحسوبية:

وفي هذا ضياع أموال مستحقّة للخزينة، وفوات العدل بالمعاملة بين الناس.

وبالجملة؛ يحرُم الأخذ من مال المسلمين(أو ما يُسمّى بالمال العام) بغير حقٍّ، على أيِّ وجه كان، ويحرم أيُّ كسب يأتي على حساب الوظيفة العامة استغلالاً، وتحرم المحاباة بإعطاء الامتيازات أو الحقوق لغير مستحقيها بناء على المحسوبية في العطاءات أو الوظائف أو المنح الدراسية أو في إعطاء كلِّ من لا يستحق في أيِّ مجال كان، فهي تدخل كلها في الغلول.

ولْيُعلم أنَّ الله يدعو عباده للتوبة، حيث قال جلَّ من قائل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم/8، فهذه بشرى من الكريم المنّان إلى العائدين إليه.

ومن كرم الله تعالى ورحمته أنْ جعل باب التوبة مفتوحاً ما لم يغرغرْ العبدُ، وما لم تَطْلُع الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها، فمن أصاب شيئاً من أموال المسلمين، فليُقبل على الله بالتوبة، مع إرجاع ما أخذ قبل أن لا يكون دينار ولا درهم.

والحمد لله رب العالمين

 

 


[1] محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، ص229.

 [2]محمد بن قاسم الأنصاري، شرح حدود ابن عرفة، (1/ 310).

[3] محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (7/ 348).

[4] محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (4/ 256).

[5] صامت: أي ذهب وفضة، وهو ما لا صوت له خلاف الحيوان.

[6] بدر الدِّين الزركشي، المنثور في القواعد، (2/ 167).

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

المقالات

   بيان في مسؤولية الناخب والمرشح

قرارات مجلس الافتاء

   قرار رقم: (145) (10/2010) حكم أخْذ الموظف الهدايا الشخصية

الفتاوى

   الواجب الابتعاد عن الغشّ والتعاملات المحرمة في العملية الانتخابية

   حكم الرشوة وكيفية التحلُّل منها

   حكم صنع الولائم الخاصة للمسؤولين

   حكم استفادة موظفي المختبرات الطبية من العينات وحكم قبولهم الهدايا

   يحرم على الموظف قبول الهدايا المريبة


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha