مقالات

الأدب مع الحبيب

الكاتب : المفتي هاني خليل عابد

أضيف بتاريخ : 22-02-2011

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


Article

 

من أعظم الآداب التي يجب أن يتصف بها المسلم الأدبُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلم الذي أكرمه الله تعالى بحلاوة الإيمان يعزّز ثقافة الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم في قلبه وعقله، تلك الثقافة التي دعا القرآن الكريم المسلمين إلى التخلق بها..

ولنرجع لسورة الحجرات متدبّرين؛ ليتبين لنا أهمية التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ الله أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ)الحجرات/ 2-5.

وقد ورد في الصحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)الحجرات/ 2 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ:أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: (يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ اشْتَكَى؟) قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)صحيح مسلم، وفي بعض الروايات قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(لست منهم، بل تعيش بخير وتموت بخير).

وهذه الآيات استدل منها العلماء على منع رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله عليه وسلم, وعند قراءة حديثه صلى الله عليه وسلم؛ تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.

وثمة أدب آخر نحتاج إلى التذكير به -ونحن في مناسبة مولده صلى الله عليه وسلم- أتوجّه به إلى من هم في حقل الدعوة الإسلامية من الكُتّاب والباحثين، فلا يليق بمن يكتب عن سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يصلي على النبي بشكل رمزي مثل حرف (ص)، أو (صلعم), وقد جاء في أدبيات علماء الإسلام الذين تفانوا في خدمة الشريعة التحذير من كتابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مختصرة، فقد نقل ابن كثير في "الباعث الحثيث" عن ابن الصلاح قوله: "وليكتب الصلاة والتسليم مجلّسة يعني تامة من غير نقص لا رمزاً، قال: ولا يقتصر على قوله: (عليه السلام)، يعني: وليكتب صلى الله عليه وسلم واضحةً كاملة" (الباعث الحثيث، ابن كثير/165).

وهذا الأدب أمر دعت إليه الشريعة وأقّره المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث عن علي رضي الله عنه قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ كَاتِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَتَبَ:(هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو). فَقَالَ سُهَيْلٌ:لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ رَسُولُ الله مَا قَاتَلْنَاهُ، امْحُهَا. فَقُلْتُ: هُوَ وَاللهِ رَسُولُ الله، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُكَ، لَا، وَاللهِ لَا أَمْحُهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَرِنِي مَكَانَهَا)، فَأَرَيْتُهُ فَمَحَاهَا"(السنن الكبرى للنسائي)، وفعل سيدنا علي رضي الله عنه سلك فيه مسلك الأدب، فلم تطاوعه نفسه أن يمحو عبارة رسول الله بعد أن كتبها. 

قال القاضي عياض في "الشفا": "واعلم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازمٌ كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته, قال أبو إبراهيم التجيبي: واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر، ويسكن من حركته، ويأخذ من هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به" (الشفا، للقاضي عياض ج2/28).

وقد أورد القاضي عياض في "الشفا" صوراً رائعة من السلف الصالح تدل على وجود هذه الذوقيات والأدب الراقي في التعامل مع ميراث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن سعيد بن المسيّب رحمه الله أنّه جاءه رجل يسأله عن حديثٍ وهو مضطجع، فجلس وحدّثه، فقال له الرجل: وددت أنّك لم تتعنّ -أي: تُتعب نفسك حيث جلست وأنت مريض- فقال: إني كرهت أن أحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع. وكان مالك بن أنس إذا خرج لتدريس الحديث الشريف اغتسل، وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، فيجلس وعليه الخشوع، ولا يزال يبخّر بالعود -تنبعث رائحة البخور الطيب في مجلسه- حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللّهم اجعلنا متأدبين مع حبيبك الدّال عليك صلى الله عليه وسلم، وألهمنا رشدنا يا عزيز يا حكيم.

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

المقالات

   نماذج من محبة الصحابة للنبي

   وجوب محبة النبي

الفتاوى

   حكم قول "صدق الله العظيم" بعد الانتهاء من التلاوة

   الاستئذان من الآداب التي دعا الإسلام إليها


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha