أتذكرك طفلا يتيما كي تقول: " ربِّي، ربِّي " بدل أن تقول: أبي، أبي، وتتحقق فيك معجزة التربية مع غياب الأب، فأتذكر عناية الله تعالى بك.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك..
أتذكرك وأنت رضيع في ديار حليمة السعدية حيث حلت البركات في ديارها وأعجبوا بِعَدلِك حيث كنت ترضع ثديا وتدع الآخر لأخيك الرضيع.. فأصلي وأسلم عليك..
أتذكرك طفلا تلعب مع الأطفال فتنزل الملائكة لتضجعك وتخرج حظ الشيطان، فأعرف أن الله يهيئك لكي تكون ناطقا بالحق في كل أحوالك ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/3-4. فأصلي وأسلم عليك..
أتذكرك وأنت في الليل الموحش في الصحراء، ما بين مكة والمدينة، حيث أدرك الموت أمك ونزعها منك وأنت أحوج الناس إليها، وأنت أحب ما في الدنيا إلى قلبها.. فتصبح يتيم الأبوين.. لكي لا يتعلق قلبك بعدُ إلا بالله ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )، فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت أحب إلى أبي طالب من ولده، ولكنك رفضت أن تكون عالة عليه، فخرجت ترعى الغنم على قراريط لقريش لتعلم الناس عزة النفس، فكان تدريبا لك على قيادة الأمم، فأعلم أن الله هيأك كما هيأ موسى عليه السلام.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت التاجر الصدوق الأمين الذي يأتي بأفضل الأرباح مع التزامك التام بالصدق والأمانة، فعلَّمتنا أن البركة هي مع الصدق والأمانة، فأصلي وأسلم عليك...
أتذكرك وأنت تختار الزواج على أساس العقل والفضل والخير، لا على أساس الجمال فقط، ودون التفات إلى فارق السن، وإذا بها الزوجة الصالحة التي تقف معك عند الشدائد، فتكون معك على الزمن، ولا تكون مع الزمن عليك، وأتذكر زواج الشاب في هذه الأيام وما فيه... فأعلم كيف وفقك الله تعالى إلى الزواج السعيد، فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تشارك في بناء الكعبة بنفسك لتعلي بيوت الله تعالى التي أذن أن ترفع وتكون أمتك من بعدك بانية بيوت الله والمدافعة عنها إلى يوم القيامة. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وقد رضي بك الجميع لتكون حكما عدلا؛ لأنك المدعو على كل لسان الصادق الأمين، فتنقذهم من حرب مدمرة كادت أن تحل بهم، وأتذكر قوله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) الأنبياء/107. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت في خضم الصراعات وهموم الدنيا ومشاكلها، لا تنسى أن هموم الناس خاصة وعامة، فتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك في غار حراء في أول لقاء مع جبريل، وأنت تصر على أنك لست بقارئ، وجبريل يقول لك: اقرأ وبعدها تعرف أن مِن واجبك أن تحول الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب إلى أمة أصبحت أمة العلم بشتى أنواعه ومعارفه.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تعلم الناس في دار الأرقم ابن أبي الأرقم، تعلمهم الإسلام وحقيقة الوجود وهدف الحياة، وطريق النجاة، تعلِّمهم برفق، وتؤدة، وسرية، وحرص، وجد، ونشاط، طالبا مرضاة الله تعالى... فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تنادي على كل قبيلة من قريش، فإذا اجتمعوا حولك ذكَّرتهم بالله تعالى، ذكَّرتهم بالبداية والنهاية، وعرَّفتهم أن لا سعادة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بإتباع أوامر الله تعالى.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تدعو الناس إلى الله تعالى، والسفهاء ما بين مستكبر ومستهزئ ومتفرج، يصرون على سفاهاتهم وأنت مصر على هدايتهم.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تُعرض عليك بهارج الدنيا وزخارفها، مِن مال ونساء وملك ووجاهة... ولا يصدك ذلك عن حب الله وحب عبادة الله وحب إسعاد البشرية بالإسلام.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك وأنت تَعرِض الدعوة.. هنا وهناك.. فتذهب إلى الطائف لنشر الإسلام كي لا يكون دين الله حكرا على أحد، وتتردد على الناس في مواسم الحج، تَعرِضُ دعوة الله على البشرية فلا تجد لصوتك صدى، ولكن تستمر بالدعوة.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر وأنت ترفع أكف الضراعة بالدعاء إلى مَن يملك مقاليد الأمور، تشكو إليه ما لا يخفى عليه.. فإذا بالأمور تتغير ولو بعد حين.. فأتعلم منك - يا سيدي - قيمة الدعاء الذي يعرض عنه اليوم أغلب الناس.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر مكر كفار قريش وإعداد الخطط ضدك.. وأتذكر نصر الله لك، وإكرام الله تعالى لك ولصاحبك ثاني اثنين.. كل ذلك لإقامة دولة الإسلام الموحدة لله.. المستسلمة لأوامره، المنتهية عن نواهيه، السائرة بهديه.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر أخلاقك المحبوبة وصفاتك النبيلة.. وكيف حبَّبك الله تعالى إلى خلقه، صغارا وكبارا، تلقاك الشيوخ بزمام الناقة آخذين، والشباب بالسيوف للكفر مقاتلين، والأطفال بالأناشيد مرحبين طلع البدر علينا.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر إقامة أساس المسجد ببنائه، وأساس المجتمع بإخوته، وأساس العدل بوثيقته، وعلى هذه الأسس الثلاثة قامت دولة الإسلام الفتية بالمدينة على قاعدة صلبة، لا تزحزحها الرياح، ولا تهزها الأعاصير.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك...
أتذكر حينما لم يشغلك الجوع بالخندق عن المعركة.. حينما وضعت على بطنك حجرين، وحينما لم تشغلك المعركة في بدر عن إقامة العدل على نفسك حينما قلت: اقتَدْ يا سواد..، ولم تهمل الشورى ولا الدعاء رغم وعد الله لك بالنصر في بدر.. ولم تترك مطاردة العدو في حمراء الأسد بعد معركة أحد رغم الجراحات الداميات.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر حينما عدت إلى مكة فاتحا بعد ثماني سنوات فقط من الهجرة.. خرجت من مكة برجل وعدت إليها بعشرة آلاف رجل.. ومع كل هذا وذاك فنتيجة التواضع والرحمة حين قلت لمن أخرجوك اذهبوا فأنتم الطلقاء.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكرك في حجة الوداع ناصحا مودعا.. بعد أن نصحت الأمة.. وكشفت الغمة.. بلغت الرسالة.. وأديت الأمانة.. وجاهدت في الله حق جهاده.. فجزاك الله خير ما جزى نبيا عن قومه وأمته.. فصلى الله وسلم عليك.
أتذكرك وأنت تختار الآخرة على الدنيا.. بعد أن وضعت الأمانة في أعناقنا.. وتركتنا على المحجة البيضاء النقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتركتنا بعد أن تركت فينا ما إن تمسكنا به فلن نضل أبدا، وإن تركناه فلن نسعد أبدا.. ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله.. أتذكر.. فأصلي وأسلم عليك.
أتذكر صحابتك الكرام عندما ودَّعوك صابرين محتسبين، وبقضاء الله تعالى راضين.. وإن جرت منهم الدموع.. وإن حزنت منهم القلوب، وإن هامت منهم العقول.. فإن عاد بعد حين بلال إلى الأذان خرج أهل المدينة يبكون للذكرى، فما حزن أهل المدينة ولا بكوا بعد فقدك بكاء كما بكوا لذكراك.. فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك وأصحابك وأزواجك وذريتك وأحبابك ومحبيك، وعلى من سار على دربك إلى يوم الدين.
وهكذا كلما تذكرت موقفا من مواقف الخلود في حياتك يا رسول الله.. أصلي وأسلم عليك...وأحاول كلما صليت عليك أن أتذكَّر موقفا من مواقف العظمة في سيرتك، حتى يكون للصلاة عليك معنى حاضر في ذهني فوق ما ينطق لساني.
ونشكر الله لنعمه علينا بإرسالك إلينا وذلك بعد كل أذان أو دخول مسجد أو حضور درس علم وقرآن، أو كل دعاء نحب أن يستجاب، أو ذنب نحب أن يغفر، أو عدو نريد أن يقهر، أو خير نرغب أن يظهر، أو معصية نود أن تهجر..
فالصلاة والسلام عليك من الحنان المنان، إنه حميد مجيد.