الترخص بمسائل الخلاف(*)
د. محمود صالح جابر / كلية الشريعة، الجامعة الأردنية.
ملخص
"الترخّصُ بمسائل الخلاف"، من المسائل التي بحثها الأصوليّون والفقهاء على حدٍّ سواء، وهي مسألةٌ نعتقدُ أننّا أحوج ما نكون إلى ضبطها الآن، فالواقعون فيها بين مُشدِّدٍ منكرٍ لجواز الترخّص بمسائل الخلاف مُطلقاً، وبين مُتساهلٍ مجيزٍ للترخّص بها مُطلقاً، إلا أنّ أثر وخطرَ الفريق الثّاني أعظمُ، لولع العامّة بكلّ سهل، ولو كان مُنكراً مُستغرباً.
وفي هذا البحث الذي نُقدّمه، محاولةٌ لتتبّع مذاهب العلماء وأقوالهم في هذه المسألة، وما استدلّ به كلّ فريق لمذهبه، مُنطلقين من ذلك إلى بيان الرّاجح الذي ينبغي التّعويلُ عليه فيها، مع الكشف عن أهمّ القيُود والضّوابط التي ينبغي مُراعاتها عند الترخّص بمسائل الخلاف، أوإفتاء العوامّ بها.
المقدمة
إنّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينهُ ونستغفرهُ ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرُور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسُوله، وصفيّه من خلقـه، وأمينُه على وحيـه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطّيبـين، وصحبه الطّاهرين، وعلى مَن سلك طريقهم، واتّبع هدُاهم إلى يوم الدّين. وبعد:
فإنّه من أعظم آيات الله عز وجل أن خلق النّاس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم، ومتفاوتين في عقولهم وأفهامهم، كما قال عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) الروم/22 فكان من مُقتضى هذه الحكمة أن يقع الخلافُ بين النّاس، بحكم بشريّتهم، وجريان السّنن الكونية عليهم(وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) فاطر/43.
ولا شكّ في أنّ اختلاف الأمّة فيما يسوغ فيه الخلاف من فروع الشّريعة إنما هو ضربٌ من ضروب الرّحمة، ومظهرٌ من مظاهر السّلامة والصحّة، فقد شاع على لسان كثير من أئمّة السّلف أنّ الاختلاف رحمةٌ([1])، وصحّ عن بعضهم أنّه كان يقول: "ما يسرّني باختلاف أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم حُمْرُ النَّعَم"([2]).
ومَع صحّة هذا المعنى العامّ، فقد كان منطلقاً لوقوع البعض في سوء الفهم، فاتّخذ منه تُكأةً لتجويز الترخّص بكلّ خلاف، دون نظر إلى أيّ اعتبار آخر، وعمدةُ سِناده في ذلك: ما توهّمه من أنّ أقوال الأئمّة تعمّ كلّ خلاف، ناسياً أو مُتناسياً أنّ للمسألة قيوداً، يعدّ التّغافلُ عنها ضرباً من المجازفة المهلكة.
وفي هذه الدّراسة التي نُقدّمها، محاولةٌ لمعرفة وجه الحقّ في هذه المسألة، وذلك بعد التعرّف على مذاهب العلماء وأقوالهم فيها، وما استدلّ به كلّ فريق لمذهبه، مُنطلقين من ذلك إلى بيان الرّاجح الذي ينبغي التّعويلُ عليه فيها، مع الكشف عن أهمّ القيُود والضّوابط التي ينبغي مُراعاتها عند الترخّص بمسائل الخلاف، أوإفتاء العوامّ بها.
أهميّةُ البحث
ويمكننا أن نُبرِز أهميّة هذه الدّراسة من خلال النّقاط الآتية:
أوّلا: عمومُ الحاجة إلى العمل بالرّخص المشروعة، مما يحتّم على المكلّف معرفة الضّوابط التي ينبغي أن يلتزم بها في ترخّصاته، حتى لا يقع في الإفراط أو التّفريط.
ثانياً: الحاجةُ إلى تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في هذا الموضُوع، ومن ذلك اعتبارُ الخلاف في المسائل مَعدوداً من حُجج الإباحة، وجَعلُ الخلاف حُجّةً في جوازها لمجرّد كونها مختلفاً فيها.
ثالثاً: الحاجةُ أيضاً إلى معرفة الآداب التي يجب على المفتين مراعاتها، خاصّةً في هذا الزّمن الذي أصبح فيه العالَمُ قرية صغيرة، مما يعني أنّ الفتوى غير المضبوطة بضوابط الشّرع قد تُحدث من الشّرور والفتن ما لا يعلمه إلا الله.
أهدافُ البَحث
1) جمع أقـوال العلماء في مسـألة الترخّص بمسائل الخلاف، مع التّوسّط في ذلك بين أقوال المنكرين على جواز الترخّص مُطلقاً، وبين أقوال المفرِّطين المتساهلين الذين يأخذون المسألة على إطلاقها.
2) الكشفُ عن أهمّ الضّوابط والآداب المتعلّقة بهذه المسألة، وذلك لأنّ التّرخّص بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه، وإنما له قيودٌ وضوابط لا ينبغي أن يُختلف فيها.
3) بيانُ بعض المباحث التي لها صلةٌ بهذه المسألة، كشروط الخلاف المعتبر، وما يُقبل منه وما يُردّ.
هذا، واللهَ نسأل أن يوفّقنا لصالح القول والعمل، وأن يُجنّبنا الزّلل والخطل، وكلّ ما من شأنه أنّ نضلّ به أو نُضلّ.
المبحث الأوّل
مفهوم "التّرخص بمسائل الخلاف"
أوّلاً: تعريفُ الترخصُ بمسائل الخلاف :
الترخّص: لغة تفعّلٌ من "الرُّخص"، وهو ضدّ الغلاء، وقد رَخُصَ السّعر بالضمّ رُخْصاً، وارْتَخَصَ الشّيء، أي اشتراه رخيصاً، و ارْتَخَصَهُ أيضاً عدّه رخيصاً، والرُّخْصَةُ في الأمر خلافُ التّشديد فيه، يقال: رخّص الشّرعُ لنا في كذا ترخيصاً، وأرخصَ إرخاصاً، إذا يسّره وسهّله، وفلانٌ يترخّصُ في الأمر، أي لم يستقصِ، والرَّخْصُ من كلّ شيءٍ النّاعمُ منه([3]).
والخلاف: لغة المضادّة، يقال: خالفه إلى الشّيء، أي عصاه إليه, أو قصده بعد أن نهاه عنه، وتخالف القوم، إذا ذهب كلٌّ منهم إلى غير مذهب الآخر.
والاختلاف مثله، نقيضُ الاتّفاق، يقال: تخالف الأمران واختلفا، أي لم يتّفقا، وكلّ ما لم يتساوَ، فقد تخالف واختلف([4]).
والخلافُ اصطلاحاً: مُنازعةٌ تجري بين المُتعارضين، لتحقيق حقّ، أو لإبطال باطل([5]).
والظّاهرُ من كلام أكثر الأصوليّين والفقهاء استعمالُ اللّفظين بمعنى واحدٍ، فكلّ أمرين خالف أحدُهما الآخر، فقد اختلفا([6]).
ثانياً: معنى الترّخصّ بمسائل الخلاف:
المرادُ بالترخّص بمسائل الخلاف الأخذُ بالأهون والأسهل من أقوال الفقهاء، دون نظر إلى مُدرك القول أو قيمته العلميّة، وذلك يلجأ إليه غالباً من يجعلُ كلّ اختلاف جرى بين الفقهاء سبباً لترك الأشدّ من الأقوال، والجنُوح إلى الأيسر مُطلقاً.
وقد عبّر عن ذلك ابنُ أمير الحاجّ في معرِض كلامه عن مسألة اتّباع الرّخص وأقوال العلماء فيها، حيثُ قال: "أي أخذُه من كلٍّ منها - أي من المذاهب- ما هو الأهونُ فيما يقعُ من المسائل"([7]).
ثالثاً: الفرقُ بين "الترخّص بمسائل الخلاف" والتّلفيق:
التّلفيق: لغةً هو مصدرٌ من لفق، أي ضمّ, تقول: لفقتُ الثّوب لفقاً، أي ضممتُ إحدى الشّقّتين إلى الأخرى.
ومادّة لفق لها في اللّغة أكثرُ من معنى، فهي تُستعمل بمعنى الضمّ, والملاءمة, والكذب المزخرف([8]).
والتّلفيقُ في الاصلاح على نوعين، لأنّه إمّا أن يكون بين المذاهب، وإمّا أن يكون بين الرّخص:
فأمّا الأوّل: فهو أخذُ صحّة الفعل من مذهبين معاً بعد الحكم ببُطلانه على كلّ واحد منهما بمفرده([9]).
ومثال ذلك: أن يلمس المُتوضّىء امرأة أجنبيّة بلا حائل، ويخرج منه دمٌ، فيأخذ بقول أبي حنيفة في الأوّل، وبقول الشّافعيّ في الّثاني، فإن صلى بذلك الوضُوء كانت صحّةُ صلاته ملفّقة من المذهبين معاً([10]).
وقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصّه: "الحكمُ والفتيا بالقول المرجُوح جهلٌ، وخرقٌ للإجماع، والحكم الملفّق باطلٌ بالإجماع"([11]).
وأمّا الثّاني: فهو الأخذ بأقوال الأئمّة في مسائلَ مُتعدّدة، اتّباعاً للأخفّ منها والأسهل، فإن كان عن دليل واعتقاد أفضليّة في المتّبع، فلا حرج فيه اتّفاقاً، وأمّا إن كان عن هوى، وميلان إلى ما تشتهيه النّفسُ دون قيد، فهو المختلفُ فيه.
وقد خصّ البعضُ التّلفيقَ بين المذاهب بالمعنى الأخير، ولذلك عرّفه البَركتيّ بأنّه: "تتبّعُ الرّخص عن هوى"([12]).
وفي الغالب إذا أطلق الفقهاءُ لفظ التّلفيق كان مرادُهم به الأخذَ بأقوال عددٍ من الأئمّة في مسألةٍ واحدةٍ، وأمّا الأخذُ بأقوال الأئمّة في مسائل مُتعدّدة فيُطلقون عليه التنقّلَ بين المذاهب، أو التخيّرَ منها.
ومن خلال ذلك يمكننا أن نلحظ بأنّ تتبّع رُخص المذاهب أخصّ من التّلفيق بمعناه العامّ، وذلك لأنّ تتبّع الرّخص لا يكون تلفيقاً إلا إذا كان في قضيّة واحدة، وأمّا إذا كان في قضايا مُتنوّعةً، فإنّه لا يُسمى تلفيقاً.
ومما يمكنُ توضيحُ ذلك به: أن يقلّد الشّخصُ أكثر من إمامٍ في لوازم النّكاح، فيتزوّج بلا وليّ ولا شاهد ولا صداق، اتّباعاً لرُخص المذاهب، فإنّه يكون قد وقع في قضيّة ملفّقة لم يقل بها أحدٌ من العلماء.
ومثل ذلك ما أورده البيهقيّ في السّنن الكبرى عن الأوزاعيّ أنّه قال: "مَن أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.. يترك من قول أهل مكة المتعة والصّرف, ومن قول أهل المدينة السّماع وإتيان النّساء في أدبارهنّ, ومن قول أهل الشّام الحرب والطّاعة, ومن قول أهل الكوفة النّبيذ"([13]).
ومن ذلك أيضاً ما أورده عن إسماعيل بن إسحاق القاضيّ أنّه قال: "دخلتُ على المُعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وكان قد جمع له الرُّخصَ من زلل العلماء، وما احتجّ به كلٌّ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! مُصنّف هذا الكتاب زنديقٌ، فقال: لم تصحّ هذه الأحاديثُ؟ قلت: الأحاديثُ على ما رُويت، ولكن مَن أباح المُسكر لم يُبح المتعة، ومَن أباح المتعة لم يُبح الغناءَ والمُسكر، وما مِن عالم إلا وله زلّةٌ، ومَن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينُه، فأمر المُعتضد بالكتاب فأحرق"([14]).
ومن الأمور التي يلزمُ ملاحظتُها أيضاً أنّ تتبّع رُخص المذاهب لا يدخل فيه تتبّع الرّخص الشّرعيّة الثّابتة بالكتاب والسنّة، فقد اتّفق الفقهاء على جواز تتبّعها، ومشروعيّة الجمع بينها، مع اختلافهم في الأفضل، هل هو الترخّص بها أو التعزّم بالأصل.
فالرّخص الشّرعيّة التي جاءت بها الشّريعةُ ليست موضُوعَ هذه الدّراسة، وإنما موضُوعها تصيّدُ الأسهل من الأقوال، وتتبّع الأخفّ منها في مواطن الخلاف، بقصد التفلّت من أعباء التّكاليف، دون تمييز بين ما هو راجحٌ أو مرجُوح([15]).
المظانّ الــتي بحث فيها العلماءُ المسألة:
لقد بحث الفقهاءُ والأصُوليّون هذه المسألة على حدّ سواء، أمّا الأصوليّون فتكلّموا عليها تبعاً لمسألة من التزم مذهباً معيّناً، واعتقد رجحانه، فهل يَجوز له أن يُخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟([16]).
ومسألةُ الترخّص بمسائل الخلاف، وإن كان لها شبه بمسألة مَن التزم مذهباً فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل؟ إلا أنّ ذلك التّشابه ليس على إطلاقه، فمسألة مخالفة العامّيّ المقلَّد، أو المفتي المقلِّد لمذهب إمام في بعض المسائل، أمرُها سهلٌ، والخلاف فيها هيِّنٌ، وأمّا مسألةُ تتبّع الرّخص، فهي أعمّ من سابقتها، فصاحبها يكتفي من فتياه بموافقة قول إمام - ولو كان نادراً - من غير نظرٍ في ترجيحٍ أو دليل، ويجعل كلّ خلاف قائمٍ دليلاً على الحلِّ أو التّحريم.
وأمّا الفقهاءُ، فتكلّموا على مسألة "الترخّص بمسائل الخلاف" عند كلامهم على حكم مَن أتى فرعاً مختلفاً فيه يعتقدُ تحريمه، في شروط من تقبل شهادته([17]).
المبحثُ الثّاني
في تأصيلُ المسألة
اختلف العلماء في مسألة "الترخّص بمسائل الخلاف" على ثلاثة أقوال، قولٌ بالجواز مُطلقاً، وقولٌ بالمنع مُطلقاً، وقولٌ متوسّطٌ بينهما، أجاز القائلون به الأخذ برُخص المذاهب، ولكن في إطار قيُود وضوابط محدّدة.
الفرعُ الأوّل: أسبابُ الاختلاف في المسألة:
يرجعُ اختلافُ العلماء في هذه المسألة إلى أسباب عدّة، ولعلّ من أبرزها ما سيأتي ذكره من معانٍ:
أوّلا: اختلافهم في قاعدة أصُوليّة مشهُورة، وهي قاعدة "التّصويب والتّخطئة"، فمن رأى أنّ كلّ مجتهد مصيبٌ في نفس الأمر، توسّع في تجويز تتبّع الرّخص، ولم ير بأساً في أن يتتبّع المكلّف مسائل الخلاف، ولو كان ذلك من غير ضابط أو قيد([18]).
وقد بلغ الغلوّ ببعض المصوّبة أنْ ذهب في ذلك المسلك بعيداً، واعتبَر مُطلق الخلاف دليل الجواز، وموطن الترخّص، كما نقل الشّاطبيّ عن بعضهم أنّه قال: "كلّ مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز شذّ عن الجماعة أو لا، فالمسألة جائزةٌ"([19]).
ثانياً: اختلافُهم في فهم النّصوص الواردة في هذا الشّأن، فإنّ بعضها قد يُفهم منه انتفاءُ الحرج في تتبّع أقوال العلماء كيفما اتّفق، وبعضها الآخر يفهم منه لزومُ التحرّي والتّفتيش عن الأصحّ والأقرب إلى الحقّ، وأن لا ترجيح إلا بمرجّح مُعتبَر.
ثالثاً: اختلافهم في حقيقة الخلاف المعتبر، هل هو مجرّد الخلاف، أم الخلافُ الذي قوي مُدركه، وتقاربت أدلّته مع أدلّة مخالفه، فبينما نجد البعض يتساهل في اعتبار كلّ خلاف دليلا على الإباحة وحريّة الأختيار، نجد في مُقابله من يتشدّد، ولا يعتبر من الخلاف إلا ما كان مشهوداً له بحظّ من القوّة والنّظر.
يقول الشّاطبيّ في توصيف أسباب اللّجوء إلى الأخذ بالرّخص وتصيّدها: "وقد زاد هذا الأمرُ على قدر الكفاية، حتى صار الخلافُ في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة.. فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيُقال: لِمَ تمنع؟ والمسألة مختلفٌ فيها، فيجعل الخلاف حُجّةً في الجواز لمجرّد كونها مختلفاً فيها"([20]).
الفرعُ الثّاني: أقوالُ العلماء في المسألة:
القولُ الأوّلُ:
أنّ الترخّص بمسائـل الخلاف جائزٌ مُطلقاً، وهو منقولٌ عن بعض الأصُوليّين والفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة([21]).
ومُستندُ هذا القول ما يلي:
1) قوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/185. ففي هذه الآية وأمثالها دلالةٌ ظاهرةٌ على ميل المشرّع إلى التّخفيف عن المكلّف، وأنّ ذلك مقصدٌ له من وضع الشّريعة أصلا، وما دام الأمرُ كذلك، فلا مانع من أن يميل المكلّفُ إلى التّسهيل، ويجنح له ما أمكنه ذلك، ووجد إليه سبيلا([22]).
2) ما رواه الطّبرانيّ عن عائشة أمّ المؤمنين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بُعثتُ بالحنيفيّة السّمحة، ولم أبعث بالرّهبانيّة البدعة"([23]).
فقد دلّ الحديث على أنّ من سمات التّشريع العامّة النّزوعُ إلى التيسير والتّخفيف عن المكلّفين، وفي الأخذ بأسهل الأقوال المتخالفة، وتتبّع الأيسر منها موافقةٌ لذلك المعنى الذي جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم هدفاً مبعوثاً من أجله([24]).
3) ما ثبت في الصّحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين أنها قالت: "ما خُيِّر رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً"([25]).
قالوا: فقد دلّ الحديث على أنّ الجنوح إلى الأسهل كان منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدنى ما يفيد ذلك جواز الأخذ بالأخفّ، وتتبّع ما فيه تخفيفاً وتيسيراً على المكلّف، اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان ميّالا إلى الأخفّ([26]).
ويمكننا الجوابُ عن هذا الاستدلال وسابقه من وجهين، هما:
الأوّل: أنّه في غير محلّ النّزاع، لأنّ ميل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأسهل لا يمكنُ القولُ بأنّه كان في المسائل المختلف فيها، وإنما كان في بعض القضايا التي كانت تعرِضُ له، ولها أكثرُ من وجه يمكنُ أن تحمل عليه.
الثّاني: وعلى التّسليم بذلك، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يختارُ الأسهل على وجه التشهّي والتّرجيح بلا مرجّح، بل كان يسلك ذلك بناءً على أصُول التّشريع وقواعده الثّابتة، وهو المجتهدُ الأوّلُ في هذه الأمّة.
وفي الردّ على هذا الاستدلال يقول الإمامُ الشّاطبيّ مبيّناً ضعفَ ما فيه: "وأنت تعلمُ.. ما فى هذا الكلام، لأنّ الحنيفيّة السّمحة إنما أتى فيها السّماحُ مُقيّداً بما هو جارٍ على أصُولها، وليس تتبّعُ الرّخص، ولا اختيارُ الأقوال بالتّشهّي بثابتٍ من أصُولها"([27]).
4) وما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "أصحابي كالنّجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم"([28]). ووجه الدّلالة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الاقتداء بأيّ صحابيّ من أصحابه طريقاً للاهتداء، ولم يقيّد ذلك بشيءٍ، فدلّ ذلك على أنّ للعاميّ أن يأخذ بما يشاء من الأقوال، ومنعُه من بعضها تحكّمٌ لا دليل عليه، وحَجرٌ لا يشهد له المنقول ولا المعقُول([29]).
والجوابُ عن الاستدلال من وجهين:
الأوّل: أنّ هذا الحديث غيرُ صحيح، فقد اتّفق نقّادُ الأخبار على تضعيف جميع أسانيده وطرُقه.
الثّاني: وهو على فرض صحّته، فهو ليس ممّا نحنُ فيه، وإنما محلّه: "فيما إذا ذهب المقلّدُ عفواً فاستفتى صحابيّاً أو غيرَه، فقلّده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأمّا إذا تعارض عنده قولا مُفتيينِ فالحقُّ أن يُقال: ليس بداخلٍ تحت ظاهر الحديث، لأنّ كلّ واحد منهما مُتّبعٌ لدليل عنده يقتضي ضدّ ما يقتضيه دليلُ صاحبه، فهما صاحبا دليلين مُتضادّين، فاتّباع أحدهما بالهوى اتّباعٌ للهوى.. وهذا يُظهر أنّ مثل هذه القضيّة لا تدخلُ تحت
قوله صلى الله عليه وسلم: أصحابيّ كالنّجوم بأيّهم اقتديتُم اهتديتُم"([30]).
5) واستدلّوا بالمعقول أيضاً، وذلك من وجهين:-
الأوّل: وهو ما عبّر عنه الإمام الشّاطبيّ بقوله: "ويقول - أي المجيز -: إنّ الاختلاف رحمةٌ، وربما صرَّح صاحبُ هذا القول بالتّشنيع على من لازم القول المشهُور، أو الموافق للدّليل أو الرّاجح عند أهل النّظر، والذي عليه أكثرُ المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، ومِلت بالنّاس إلى الحرج، وما في الدّين من حرج، وما أشبه ذلك"([31]).
والجوابُ عن هذا الاستدلال بأنّ الاختلاف إنما يكون رحمة إذا كان منضبطاً بقواعد الشّرع وثوابته، ولا يلزم من تسويغ الخلاف تسويغُ الأخذ بأيّ قولٍ دون ضابط ولا قيد، على وجه التشهّي والتحكّم بالهوى.
والظّاهرُ أنّ وهم مَن أطلق جواز الترخّص بمسائل الخلاف منشؤه من هنا، حيثُ اعتقد أنّ ذلك شاملٌ لكلّ خلاف، مع أنّ منه ما هو مذمومٌ اتّفاقاً.
ومن لطيف تَوجيهات شيخ الإسلام ابن تيميّة في كون الخلاف رحمةً قولُه: "إنّ النّزاع قد يكون رحمةً لبعض النّاس، لما فيه من خفاء الحكم، فقد يكونُ في ظهُوره تشديداً عليه، ويكون من باب قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) المائدة/101. لهذا صنّف رجلٌ كتاباً سماه: "كتاب الاختلاف"، فقال أحمد: سمِّه "كتاب السّعة"، وضرب له مثلاً بما يُوجد في الأسواق من الطّعام والشّراب والثّياب، فقد يكونُ في نفس الأمر مغصُوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك، كان كلّه له حلاً لا إثم عليه بحال، بخلاف ما إذا علم"([32]).
وقال ابنُ رجب مُبيّناً مآلَ الخلاف في كثير من الأحيان، وسببَ تحوّله من ممدوح إلى مذموم: «وههنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التفطّنُ له، وهو أنّ كثيراً من أئمّة الدّين قد يقول قولاً مرجُوحاً، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكونُ المنتصرُ لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدّرجة، لأنّه قد لا ينتصر لهذا القولِ إلا لكون متبُوعِه قد قاله، بحيث لو أنّه قد قاله غيرُه من أئمّة الدّين لما قبله، ولا انتصر له، ولا وَالى مَن يُوافقه، ولا عادى مَن يُخالفه، وهو مع هذا يظنّ أنّه إنما انتصر للحقّ بمنزلة متبُوعِه، وليس كذلك، فإنّ متبوعَه إنما كان قصدُه الانتصارَ للحقّ، وإن أخطأ في اجتهاده، وأمّا هذا التّابعُ فقد شاب انتصارَه لما يظنّه أنّه الحقّ، إرادةُ عُلوِّ متبُوعِه، وظهورِ كلمته، وأنّه لا يُنسب إلى الخطأ، وهذه دسيسةٌ تقدحُ في قصده الانتصارَ للحقّ، فافهم هذا فإنّه مُهمٌّ عظيمٌ"([33]).
الثّاني: وهو أنّه لا مانع يمنع من تتبّع الرّخص، خصُوصاً على القول بأنّ كلّ مجتهد مصيبٌ الحقّ في نفس الواقع، لأنّ ذلك يعني أنّ كلّ مذهب يمثّل دينَ الله الذي يلزم اتّباعُه، والعلماء أجمعُون دعاةٌ إلى منهج الله([34]).
قال ابنُ المنيِّر: "وقال بعضُهم: أيُّ مانع يمنع من تتبُّع الرُّخص، ونحن نقول: كلّ مجتهد مصيبٌ، إنّ المصيب واحدٌ غير معيّن، والكلّ دينُ الله، والعلماء أجمعون دعاةٌ إلى الله، حتى كان هذا الشّيخ - رحمه الله- من غلبة شفقته على العامّيّ إذا جاء يَستفتيه-مثلاً- في حنث، ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشّافعيّ، ولا يحنث على مذهب مالك، قال لي: أفته أنت، يقصد بذلك التّسهيل على المُستفتي ورعاً"([35]).
وهذا الاستدلال - كما هو واضحٌ - مبنيّ على مُقدّمة غير مسلّمة، وهي أنّ كلّ مجتهد مصيبٌ في نفس الواقع، والذي عليه الأئمّة الأربعةُ وجمهورُ أتباعهم أنّ مُصيب الحقّ واحدٌ من المجتهدين، وغيره مخطئٌ معذورٌ بخطئه([36])، لما ثبت في الصّحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكمُ فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ واحد"([37]).
وأدلّة المنقُول والمعقُول على أنّ المصيب واحدٌ كثيرةٌ، ومن أبرزها:
أوّلا: أنّ نصُوص السنّة الصّحيحة دالّةٌ بوضُوح على أنّ المُصيب عند الله واحد في مسائل الحلال والحرام المختلف فيها، ومن أظهرها ما رواه الشّيخان وغيرها عن النّعمان بن بشير رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الحلال بيّنٌ، والحرام بيّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتبهاتٌ، لا يعلمهنّ كثيرٌ من النّاس"([38]).
فقد دلَّ هذا الحديثُ على أنّ لله تعالى في المتشابهات حُكماً مُعيّناً، يعلمه بعضُ النّاسُ، ويجهلُه أكثرهم.
قال ابن رجب: "وهذا من أظهر الأدلّة على أنّ المُصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المُشتبهة المُختلَف فيها واحدٌ عند الله، وغيرُه ليس بعالم بها، بمعنى أنّه غيرُ مُصيبٍ لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقدُ فيها اعتقاداً يستندُ فيه إلى شبهة يظنّها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده، مغفُوراً له خطؤُه"([39]).
ثانياً: ما ثبت في الصّحيح عن بُريدة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش، أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ".. إذا حاصرت أهلَ حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أَنزلهم على حُكمك، فإنّك لا تدري أتُصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟"([40]).
قال الجصّاصُ مُبيّناً وجه استدلال الجمهُور بالحديث على كون مُصيب الحقّ من المختلفين واحداً: "فقد أخبر أنهم لا يدرُون ما حكم الله تعالى فيهم, وهذا خلافُ قولكم: إنّ حكم الله تعالى هو ما يستقرّ عليه رأيُ المجتهد"([41]).
ثالثاً: أنّ الصّحابة رضوان الله عنه خطَّأ بعضُهم بعضاً، ونظر بعضُهم في أقاويل بعض، ولو كان قولهم كلُّه صواباً لما فعلوا ذلك([42])، وقد رُوي عن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه أنّه قال في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يك صواباً، فمن الله تعالى, وإن يك خطأً، فمنّي ومن الشّيطان، والله ورسُوله منه بريئان"([43]).
وقد جرى ذلك منهم مجرَى الإجماع على أنّ المُصيب في مسائل الفرُوع المُختلف فيها واحدٌ([44]).
رابعاً: أنّ الأئمة كانوا يُنكرون ويُعذرُون في مسائل الخلاف على حسب ما يظهرُ لكلٍّ منهم من الأدلّة، ولو كان كلّ مجتهد مُصيباً لم يكن لفعلهم ذلك معنى([45]).
خامساً: أنّ قياس التّخيير في الفتوى على تخيير العاميّ في تقليد مَن شاء من أهل العلم قياسٌ غيرُ سليم، ولا يمكنُ بحالٍ التّسويةُ بينهما.
قال ابنُ تيميّة مُوضّحاً وجهَ افتراقهما: "التّخييرُ في الفتوى والتّرجيحُ بالشّهوة، ليس بمنزلة تخيِّر العامي في تقليد أحد المُفتين، ولا من قَبيل اختلاف المُفتين على المستفتي، بل كلّ ذلك راجعٌ إلى شخص واحد، وهو صاحبُ المذهب، فهو كاختلاف الرّوايتين عن النّبي صلى الله عليه وسلم.. فكذلك اختلاف الأئمة راجعٌ إلى شريعة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنّ مَن يقول: إن تعارض الأدلّة يُوجب التّخيير، لا يقول: إنّه يختار لكلّ مُستفتٍ ما أحبّ، بل غايتُه أنّه يختار قولاً يعمل به، ويُفتي به دائماً"([46]).
وإذْ وضَح ضعفُ المستند الذي انبنى عليه القولُ بجواز تتبّع الرّخص في مسائل الخلاف، يكون من الواضح البيّن منعُ تجويز التتبّع المُطلق من كلّ القيُود والضّوابط، لأنّه يصير في نهاية أمره اتّباعاً للهوى مجرّداً عن كلّ ما يسنده من جهة المنقُول والمعقُول.
وأمّا ما ينسبُه بعضُ العلماء كالمازريّ والماورديّ وغيرهما إلى الجمهُور من القول بأنّ كلّ مجتهد مصيبٌ، وأنّ الحق في طرفين، فهو ليس على ظاهره، وإنما مرادُهم بالإصابة وجوبُ العمل بما أدّى إليه الاجتهادُ، لا الإصابة التي هي موافقة حكم الله في نفس الأمر.
وبيانُ ذلك أنّ لله تعالى في نازلةٍ تعنّ حكمين: أحدها: مطلوبٌ بالاجتهاد، وقد نصب عليه الدّلائل والأمارات. والثّاني: وجُوب العمل بما أدّى إليه الاجتهاد،، فهم قد نظروا إلى الحكم الثّاني، ولم ينظرُوا إلى الأوّل، وهو حقٌّ، وبذلك يظهرُ أنّ الخلافَ بين النّقلين عن الأئمّة لفظيٌّ، ولا يمتُّ لواقع التّشريع بصلة([47]).
القولُ الثّاني:
وهو أنّ الترخّص بمسائل الخلاف ممنوعٌ مُطلقاً، وهذا المذهب جزم به الجيليّ الشّافعيّ، وحكى عليه ابنُ عبد البرّ الإجماع، وانتصرَ له الإمامُ الشّاطبيّ في المُوافقات، ونسب القول به إلى أكثر المتأخّرين([48]).
ومُستندُ هذا القول ما يلي:
واستدلّ من منع الترخّص بمسائل الخلاف، والأخذ بالأخفّ من الأقوال بجملة من الأدلّة النقليّة والعقليّـة،
وفيما يلي أبرزها:
1) قوله تعالى:(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) النساء/59، فقد أمر الله عز وجل عند وقوع الاختلاف بالرّجوع إلى كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولم يترك للمكلّف حريّة اختيار ما يشاءُ من الأقوال، مع أنّ مُقتضى ذلك الرّجوع قد يكون الأخذ بأشدّ الأقوال وأشقّها، وليس بأخفّها.
قال الشّاطبيّ مُبيّنا وجه دلالة الآية على المنع من تتبّع الرّخص: "وموضعُ الخلاف موضعُ تنازع، فلا يصحّ أن يُردّ إلى أهواء النّفوس، وإنما يُردّ إلى الشّريعة، وهى تبيّن الرّاجح منَ القولين، فيجبُ اتّباعُه لا الموافق للغرض"([49]).
2) واستدلّوا أيضاً بما نقل من إجماعٍ على تحريم تتبّع رخص المذاهب، ومن ذلك ما حكاهُ ابنُ عبد البرّ من الإجماع على تحريم تتبّع الرّخص للعوامّ([50]).
ونُقل تفسيقُ فاعل ذلك عن غير واحد من الأئمّة الأعلام، منهمُ الإمام أحمد ويحيى بنُ القطّان وغيرهم، ومن الأقوال المشهورة في ذلك عن لإمام أحمد: "لو أنّ رجلاً عمل بكلّ رخصة: بقول أهل المدينة في السّماع، وبقول أهل الكوفة في النّبيذ، وبقول أهل مكّة في المتعة، لكان فاسقاً "([51]).
وقد أجيب عن دعوى الإجماع هذه بأوجه، منها:
أوّلا: أنّ نقل الإجماع غير مسلّم، فإنّ الخلاف فيها مشهور منذ عهد الأئمة، فمن بعدهم، ولم يدّع أحدٌ منهم الاتّفاق على رأي معيّن فيها، وعلى التّسليم بذلك، فهو مخصوصٌ بالمجتهد إذا لم يُؤدّه اجتهادُه إلى الرّخصة واتّبعها, وبالعامّي المُقدِم عليها من غير تقليد لأحد ممن يُوثق بعلمه، لإخلاله بما فُرض عليه من التّقليد، وأمّا العامّيّ إذا قلّد في ذلك فلا حرج عليه، لأنّه قلّد مَن يسوغُ له تقليدُه([52]).
قال القاضي أبو يعلى مُعقّباً على كلام الإمام أحمد: "هذا محمولٌ على أحد وجهين: إمّا أن يكون من أهل الاجتهاد، ولم يُؤدّه اجتهادُه إلى الرّخصة، فهذا غير محمُود، لأنّه ترك ما هو الحقّ عنده، واتّبع الباطل، أو يكون عاميّاً، فأقدم على الرّخصة رحمةً، فهذا أيضاً غير محمُود، لأنّه أخلّ بفرضه، وهو التّقليد"([53]).
ثالثاً: أنّ ذلك التّشديد المنقول عن هؤلاء العلماء الأجلاء محمولٌ على تتبّع الرّخص في المسائل التي لا يسُوغ فيها الخلافُ، وأمّا المسائل التي يسُوغ فيها ذلك، فأمرها أوسعُ من ذلك بكثير، ما دام منزعُ المخالف فيها مُعتبَراً.
ومما يؤيّد ذلك أنّه قد نُقل عن هؤلاء الأئمة أنفسِهم ما لا يُحصى من المسائل، في جواز الأخذ برُخص العلماء فيما يسُوغ فيه الاجتهاد والخلاف، ومن ذلك مثلا ما أورده المرداويّ عن الإمام أحمد أنّه سُئل عن مسألة في الطّلاق، فقال:"إن فعلَ حنث"، فقال السّائل: إن أفتاني إنسانٌ: لا أحنث؟ فقال:"تعرفُ حلقة المدنيّين؟". قلت: فإن أفتوني حلّ؟، قال "نعم"، ورُوي عنه روايات أخرى أنّه سئل عن الرّجل يسأل عن المسألة، فأدلّه على إنسان، هل عليّ شيءٌ؟ فقال: "إن كان مُتّبعاً أو مُعيّناً، فلا بأس، ولا يُعجبني رأيُ أحد"([54]).
وقد عقد الخطيبّ البغداديّ في كتابه "الفقيهُ والمتفقّه" باباً سماه "باب التمحّل في الفتوى"، فقال: «متى وجد المُفتي للسّائل مخرجاً في مسألته، وطريقاً يتخلّص به أرشده إليه ونبّهه عليه، كرجُل حلف أن لا يُنفق على زوجته ولا يُطعمها شهراً، أو شبه هذا، فإنّه يُفتيه بإعطائها مِن صداقها، أو دينٍ لها عليه، أو يُقرضها ثمن بيُوتها، أو يبيعها سلعة وينويها من الثّمن، وقد قال الله تعالى لأيّوب صلى الله عليه وسلم لما حلف أن يضرب زوجته مئة: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ" 44: ص([55]).
3) واستدلّ القائلون بالمنع مُطلقاً لمذهبهم بالمعقُول، وهو أنّ قول كلِّ إمام مُستقلٌّ بآحاد الوقائع، فإذا لم يجز مخالفةُ الإمام في بعض المسائل، فمن باب أولى ألاّ يجوز ذلك على وجه الإطلاق([56]).
وهذا القولُ لا يقلّ عند المتأمّل ضعفاً عن سابقه، ويمكننا أن نتلمّس أوجه ضعفه ووهنه من النّواحي التّالية:
أوّلا: مخالفتُه للإجماع، فقد أجمع العلماء على أنّ مَن أسلم لم يجب عليه اتّباع إمامٍ معيّن، وكان مُخيَّراً في تقليد من شاء منهم، ولا يرفعُ تقليدُه لواحد بعينه جواز تقليده لغيره، بل الأصلُ أن يبقى ذلك التّخيير قائماً حتى يرد ما ينقل عنه([57]).
قال الزّركشيّ ناقلاً عن الإمام الرّافعيّ: "إنّ الصّحابة رضوان الله عنه لم يُوجبوا على العوامّ تعيين المجتهدين، لأنّ السّبب -وهو أهليةّ المقلّد للتّقليد- عامٌّ بالنّسبة إلى أقواله, وعدم أهليّة المقلّد مُقتضٍ لعمُوم هذا الجواب"([58]).
ثانياً: أنّ بعض العبادات قد وردت على أوجه مُتعدّدة، وبصُور مختلفة، كالأذان والإقامة وأحاديث التّشهّد، وصلاة الخوف وغيرها، وبعضُ العلماء اكتفى ببعض تلك الوجوه، لرُجحانها عنده على غيرها، أو لعدم اطّلاعه على غيرها، وإلزامُ العامّة بمذهب معيّن دون غيره قد يؤُول إلى هجر تلك الأوجه والصّور الثّابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أنّ ما ذكروه وعلّلوا به لمنع الترخّص بمسائل الخلاف إنما يتمّ لهم ويستقيمُ، حيثما يكن التّخييرُ مبنيّاً على مجرّد التشهّي واتّباع هوى النّفوس، وأمّا إذا كان مبنيّاً على الاتّباع والتّقليد لأهل العلم، ومُراعاة المصالح المعتبرة، فلا شكّ في جوازه، لأنّ أقوال العلماء مأخوذةٌ من النصّ، والرّجوعُ إليها رجوعٌ إليه في نهاية الأمر.
القولُ الثّالثُ:
وهو أنّ تتبّع الرّخص جائزٌ، ولكن بشرُوط وقيُود لا ينبغي إهمالها، والظّاهر أنّ هذا هو قولُ أكثر العلماء، ومِن أبرزهم العزّ بنُ عبد السّلام، والقرافيّ، والعطّار، وغيرهم من المحقّقين([59]).
والمُستندُ الذي عوّل عليه القائلون بالتوسّط هو الجمع بين أدلّة المانعين والمجوّزين، فإنّ مُقتضى الجمع بينها هو تجويزُ الترخّص بمسائل الخلاف إذا توافرت القيُود التي تحول دون ما ترتّب المفاسد المتوقّعة على الإطلاق، وفي نفس الوقت تدفعُ عن المكلّفين الوقوع في مضائق الحرج والتشديد.
وقد سلف بيانُ ذلك بنوعٍ من التّبسيط أثناء مُناقشة أدلّة كلّ من الفريقين، وتبيّن حينها أنها دُون الدّلالة القاطعة على ما ذهب إليه كلٌّ منهما، بل هي شاهدةٌ على لزوم التوسّط والاعتدال بين المنع والتّجويز.
التّرجيحُ ومُدركُه:
وبعد هذا العَرض الموجز لأدلّة كلّ من المجوّزين والمانعين على وجه العموم والإطلاق من غير قيد ولا شرط، يكون من الوضُوح بمكان القولُ بأنّ ما ذهب إليه المحقّقون من جواز الأخذ برُخص المذاهب وتتبّع الأخفّ من الأقوال وَفق قيُود وضوابط -يأتي بيانها-: هو القول الفصلُ الذي لا ينبغي العدولُ عنه، وذلك لجملة من المعاني والمرجّحات، أبرزُها:
أوّلا: أنّه قولٌ وسطٌ عدلٌ، وهو الجاري على أصُول الشّريعة وقواعدها، ولا يُناسب أحوال المكلّفين في أيّ زمنٍ غيرُه، وقد أصاب المرداويّ حين وصفه قائلا: "وهذا هو الصّواب، ولا يسع النّاس في هذه الأزمنة غيرُ هذا"([60]).
ثانياً: أنّ الأصل في المكلّف التديّن بما يراه أقرب إلى الشّرع، والظّاهرُ من حاله المشيُ على حدوده، ولذلك لم يكن النّاسُ في القرون الأُول يُلزمون بشيء من أقوال المجتهدين، وإنما كانوا يُديّنون إلى ما يعتقدون.
قال العزّ بنُ عبد السّلام في فتاويه: "لا يتعيّنُ على العامّيّ إذا قلّد إماماً في مسألةٍ أن يُقلّده في سائر مسائل الخلاف; لأنّ النّاس من لُدنِ الصّحابة رضوان الله عنه إلى أن ظهرت المذاهبُ يسألونَ فيما يسنحُ لهم العلماءَ المختلفين من غير نكير، سواءً اتّبع الرّخص في ذلك، أو العزائم; لأنّ مَن جعل المُصيب واحداً وهو الصّحيح، لم يُعيّنه، ومَن جعل كلّ مجتهد مُصيباً، فلا إنكار على مَن قلّده بالصّواب"([61]).
ثالثاً: أنّ تتبّع رُخص المذاهب الاجتهاديّة والجري وراءها دون اعتبار للقيُود التي سيأتي بيانها يُعدّ هرُوباً من التّكاليف, وتخلّصا من المسئوليةّ, وهدماً لعزائم الأوامر والنّواهي, وجُحوداً لحقّ الله في العبادة, وهضماً لحقُوق عباده, وهو يتعارضُ مع مقصد الشّرع الحكيم من الحثّ على التّخفيف عموماً، وعلى الترخّص بصفة خاصّة، ولذلك اعتبَره أكثرُ العلماء فسقاً لا يحلّ([62]).
يقولُ الإمام الغزاليّ مُبيّناً بعضَ المفاسد التي تترتّب على الانجرار المُطلق وراء أقوال الفقهاء طلباً للتّخفيف والتّيسير دون ضابط ولا قيد "إنّ العوامّ والفقهاء وكلّ مَن لم يبلغ منصب المجتهدين لا غنى لهم عن تقليد إمام واتّباع قُدوة، إذ تحكيمُ العقول القاصرة الذّاهلة عن مأخذ الشّرع محالٌ، وتخيّرُ أطيبِ المذاهب وأسهل المطالب بالتقاط الأخفّ والأهون من مذهب كلّ ذي مَذهب محالٌ لأمرين:
أحدهما: أنّ ذلك قـريبٌ من التّمـني والتّشهّي, ويتّسعُ الخرقُ على فاعله، فينسلّ عن مُعظم مضايق الشّرع بآحاد التوسّعات التي اتّفق أئمّة الشّرع في آحاد القواعد على ردّها.
والآخر: أنّ اتّباع الأفضل مُتحتّمٌ، وتخيّر المذاهب يجرّ لا محالة إلى اتّباع الأفضل تارةً، والمفضُول أخرى"([63]).
رابعاً: أنّ أدلّة كلّ من المانعين والمجوّزين غيرُ صريحة في الدّلالة على ما ذهبوا إليه، بل غايةُ ما تُفيده أنّ الشّارع لم يقصد فتح هذا الباب ولا سدّه على وجه العموم والإطلاق، وذلك في حقيقة الواقع هو المعهود من سَنن الشّارع، فإنّه وسطٌ بين الإفراط والتّفريط، وعدلٌ بين التّيسير والتّشديد.
إذن، فالعمل بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه، وما يُردّده كثيرٌ من أهل العلم من أنّه لا إنكار في المجتهدات ليس بصحيح، بل المسألة لها ضوابط وآداب، يجب أن تُراعى عند العمل بها، ولذلك نجد المحقّقين من أهل العلم كابن تيمية وابن رجب وغيرهما يُفرّقون بين الاجتهاد والتّقليد، المقبول منه والمردود بكونه: "سائغاً"، وهي كلمةٌ مجملةٌ، يعنون بها الاجتهاد أو التّقليد الملجومَ بضوابط الشّرع وآدابه، وفي المباحث التّالية بيان أهمّ القيود التي ينبغي أن تُراعى عند الحاجة إلى الأخذ بأخفّ المذاهب.
المبحث الثالثُ
ضوابط العمل بمسائل الخلاف
إنّ قانون الشّرع المطرّد يأبى العمل والإفتاء بمسائل الخلاف، إلا وَفق قيُود ظاهرة، من شأنها أن تجعل ذلك مسلكاً سائغاً، يكفل المحافظة على مَقاصد المُشرّع، ويضمنُ البعد عن الفوضى التّشريعيّة في حياة الأمّة ومسيرتها، وهذه الضّوابطُ منها ما هو متعلّقٌ بالمسائل الخلافيّة نفسها، ومنها ما هو مُتعلّقٌ بالذينَ يتصدّرون للإفتاء بها، وفيما يلي بيانُ ذلك بنوع من التبسيط والإيضاح:
المطلبُ الأوّل: القيُودُ المتعلّقة بالمسائل الخلافيّة نفسها
القيدُ الأوّل: سلامةُ القصد.
يشترط لجواز الترخّص بمسائل الخلاف أن يكون قصدُ المكلفّ من الأخذ بالأسهل من الأقوال مقبولا من النّاحية الشّرعيّة، كأن يأخذ به من أجل تجنّب الوقوع في حرجٍ غير معتادٍ، أو أن تلجئه الضّرورةُ إلى العمل به، ففي مثل هذه الأحوال يجوزُ له الترخّص بمسائل الخلاف لصحّة الباعث على ذلك([64]).
وأمّا لو كان القصدُ مجرّد التلهّي والتفلّت من مُقتضيات التّكاليف، والتّلاعب بأحكام الشّريعة بما يوافق هوى النّفوس، فلا شكّ في حرمة ذلك، لفساد الباعث عليه، وقد حكى الأنصاريّ إجماع العلماء على تحريم مثل هذه الترخّصات، وحمل قول بعض أهل العلم بتفسيق متتبّع الرّخص على هذا الضّرب من التصرّفات([65]).
قال الزناتيّ من المالكيّة: "يجوزُ تقليد المذاهب في النّوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط: الأوّل: أن لا يجمع بين المذهبين على صفة تخالف الإجماع، كمن تزوّج بغير صداق ولا وليّ ولا شهُود، فإنّ هذه الصّورة لم يقل بها أحدٌ. الثّاني: أن يعتقد فيمن يُقلّده الفضل. الثّالثُ: أن لا يتّبع رُخص المذاهب"([66]).
القيدُ الثّاني: عدمُ الشّذوذ:
ويُشترط لسلامة الأخذ بالأسهل من أقوال المختلفين على وجه الترخّص والتّيسير أن لا يكون القول المأخوذ به معدوداً لدى العلماء من الأقوال الشاذّة، والزّلات الظّاهرة، فإنّه إذا كان ذلك امتنع العملُ به إجماعاً([67]).
قال الشّاطبيّ: "وحكمُ هذا القسم معلومٌ من كلام الأصوليّين إن كان فى أمرٍ جزئيٍّ، وأما إن كان فى أمرٍ كليٍّ، فهو أشدُّ"([68]).
وانتفاءُ هذا القيد يجعلُ العمل بالمسائل التي شذّ القائلون بها عن جماهير أهل العلم أمراً مُنكراً ينبغي بيانُه، وتأثيم من يتعمّد الوقوع فيه، وذلك ما أكّده العزّ ابن عبد السّلام بقوله عندما سئل عن التّقليد في مثل هذه الخلافيّات: "يُنظر إلى الفعل الذي فعله المكلّف، فإن كان ممّا اشتهر تحريمُه في الشّرع أثم, وإلا لم يأثم"([69]).
وقد حذّر الشّارعُ الحكيمُ من زلّة العالم في جملة من النّصوص، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأخاف على أمّتي من ثلاث". قالوا: وما هى يا رسُول الله؟. قال: "أخاف عليهم من زلّة العالم، ومِن حُكم جائر، ومن هوى مُتّبع"([70]).
ومن ذلك أيضاً ما ذُكر عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: "ثلاثٌ يهدمنَ الدّين: زلّةُ العالم، وجدالُ مُنافق بالقرآن، وأئمّةٌ مُضلّون"([71]).
ففي هذه النّصوص وغيرُها دلالةٌ واضحةٌ على المنع من تصيّد زلات العلماء، وتقليدهم فيها بقصد التّحايل على تكاليف المشرّع، فذلك بلا ريب منهجُ انحراف وضلال، وذلك ما صرّح به الإمام الأوزاعيّ حين قال:"مَن أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام"([72]).
قال الشّاطبيّ بعد أن ساق هذه الأدلّة وغيرها:
"وهذا كلّه، وما أشبههُ: دليلٌ على طلب الحذر من زلّة العالم"([73]).
القيدُ الرّابعُ: عدمُ الوقوع في التّلفيق الممنُوع:
ومن القيُود التي ينبغي ملاحظتها عند العمل بالمسائل المختلف فيها بين أهل العلم أن لا يؤول ذلك إلى التّلفيق الممنوع المتّفق على عدم جوازه، فلا يجوزُ الجمعُ بين الأقوال المختلفة على صفة تخالف الإجماع، كمن تزوّج بغير صداق ولا وليّ ولا شهُود، فإنّ هذه الصّورة لم يقل بها أحدٌ([74]).
قال إسماعيل القاضي: "دخلتُ على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرّخص من زلل العلماء، وما احتجّ به كلٌّ منهم، فقلت: مُصنّف هذا زنديقٌ فقال: لم تصحّ هذه الأحاديثُ؟ قلت: الأحاديثُ على ما رُويت، ولكن مَن أباح المُسكر لم يُبح المُتعة, ومَن أباح المُتعة لم يُبح المسكر, وما مِنْ عالم إلا وله زلّة, ومَن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينُه، فأمر المُعتضد بإحراق ذلك الكتاب"([75]).
وفي المعنى نفسه يذكر الإمامُ الشّاطبيّ عن سليمان التّميميّ أنّه قال: "إن أخذت برُخصة كلّ عالم اجتمع فيك الشّرّ كلُّه"([76]). ونقل عن ابن عبد البرّ أنّه قال: "هذا إجماعٌ لا أعلم فيه خلافاً"([77]).
القيدُ الخامسُ: الحاجةُ إلى الأخذ بالأسهل:
ومفادُ هذا القيد أنّ الأصل في الانتقال من الأشد على الأسهل أن يكون تبعاً لما تدعو إليه الحاجةُ المعتبرةُ، ومن أنواع الحوائج:- ضعفُ المكلّف عن تكلّف الأشقّ لكبر سنّه، أو لاعتلال بدنه، أو لحداثة إسلامه، ونحو ذلك من المعاني التي عُهد من الشّارع اعتبارُها في التّخفيف على المكلّفين([78]).
وهذا القيدُ متفرّعٌ في حقيقة الواقع عن القيد الأوّل، غير أنّ موقعَه في أصُول التّشريع، وكونه من مُهمّات قضاياه، استلزم إفراده بالذّكر، والتّنويه بشأنه، حتى لا يذهب أحدٌ شططاً في لزوم باب المنع من ذلك على وجه العموم والإطلاق.
القيدُ السّادسُ: كونُ المسألة من الظنيّات:
ويشترط كذلك في جواز الأخذ بالأسهل من الأقوال المتخالفة أن تكون المسألة محلّ النّزاع مِن قبيل ما يجوزُ فيه الاختلاف ويسُوغ من الظنيّات، وأمّا المسائل القطعيّة والمعلومةُ من الدّين بالضّرورة، فلا يُتصوّر فيها سلوك هذا المنهج في التّعامل معها([79]).
ومعنى ذلك: أنّ ما يجوزُ فيه الاجتهادُ وبذلُ النّظر والرّأي يجوزُ الانتقالُ فيه من قولٍ إلى قولٍ أخفّ منه لمعنى معتبر، وأمّا ما لا يجوزُ فيه ذلك، فيمتنع فيه الانتقالُ إلا لمرجّح ظاهرٍ يعتقدُ المنتقلُ صحّته.
المطلبُ الثّاني: القيُودُ المتعلّقة بمن يُفتي في المسائل الخلافيّة
المفتي مخبرٌ عن الله تعالى، وناقلٌ عنه حكمَه، ومَن تصدّى للإفتاء، فليعلم أنّ الله تعالى أمره أن يحكم بما أنزل من الحقّ، ونهاه عن مخالفته والانحراف عنه، حيث قال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ)49: المائدة.
ولخطورة هذا الموقف، وعظيم موقعه في الشّريعة الإسلاميّة، فإنّ العاقل من أهل الفتوى مَن يبذل غاية وُسعه في التعرّف على الحقّ وتلمّسه، والبعد عن الشّطط في القول والعمل، حتى يسلم له دنياه وآخرتُه، وذلك لا يتأتى إلا بالتزامه بالقواعد والضّوابط الشّرعيّة في القيام بهذا المنصب الخطير:
القيدُ الأوّل: وزنُ كلّ مسألة بميزان الشّريعة
من أبرز ما ينبغي أن يتحلّى به القائم بمنصب الإفتاء بين النّاس أن يزن كلّ مسألة شرعيّة خلافيّة تُعرض عليه بميزان الشّريعة، وأن يردّها إلى كتاب الله تعالى، وسنّة رسُوله صلى الله عليه وسلم، امتثالاً وطاعة لقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)59: النساء.
وأهميّة الالتزام بهذا القيد تظهرُ بصُورة جليّة عندما تكون لنفس المفتي في المسألة المختلف فيها حظٌّ من أمر الدّنيا وشهواتها، فنوازعُ النّفوس، وحبّ الغلبة والظّهور، والتعصّب للآراء والمذاهب والأحزاب، كلّها أدواء قاتلةٌ تحول دون بلوغ الحقّ والصّدع به في كثير من الأحيان، مما يؤدّي إلى ضياع الحقّ والتّلاعب بالحقوق.
قال الإمام الشّاطبيّ يصفُ الدّواعي التي تبعث بعض المفتين إلى الترخّص بالخلافيّات دون اعتبار لقيود الشّرع وضوابطه: "صار كثيرٌ من مقلّدة الفقهاء يُفتي قريبه أو صديقه بما لا يُفتى به غيره من الأقوال اتّباعاً لغرضه وشهوته... ولقد وجد هذا في الأزمنة السّالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبّع رُخص المذاهب اتّباعاً لشهوته"([80]).
وأكّد الإمام النّوويّ هذا المعنى بقوله: "ومِن التّساهل أن تَحمله الأغراضُ الفاسدة على تتبّع الحيل المحرّمة أو المكروهة، والتمسّك بالشّبه، طلباً للتّرخيص لمن يرُوم نفعه، أو التّغليظ على من يُريد ضرّه، وأمّا مَن صحّ قصدُه فاحتسب في طلب حيلة لا شُبهة فيها، لتخليصٍ مِن ورطة يمين ونحوها، فذلك حسنٌ جميل، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السّلف مِن نَحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرّخصة مِن ثقة، فأمّا التّشديد فيُحسنه كلُّ أحد"([81]).
القيدُ الثّاني: الحذرُ من المغالطات
والمرادُ أن يكون المفتي على حذر من الفتاوى التي توجّه إليه، فكم من فتوى ظاهرُها السّلامةُ، وباطنها المكر والخداع، وهذه الفتاوى هي الأغلوطات التي حذّر منها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونهى عن إثارتها، فقد أخرج أبو داود عن معاوية رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نهى عن أغلوطات المسائل"([82]).
قال الخّطابيّ: "وهي المسائلُ التي يُغالَط بها العلماء، ليزلّوا فيها، فيهيجُ بذلك شرٌّ وفتنةٌ"([83]).
وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنّ المتعيّن على مَن يُفتي النّاس أن يتسلّح بالاحتياط والاحتراز مما يُثيرونه ويسألون عنه، فقد يسأل بعضُهم عن مسائل خلافيّة لا لمعرفة وجه الحقّ فيها، بل لضرب الفتاوى بعضها ببعض، وإظهار العلماء على أنهم فريقان، فريقٌ مُتشدّد مُتنطّعٌ، وآخرُ سهلٌ ليّنٌ.
قال ابنُ القيم مُبيّناً ما ينبغي أن يكون عليه المفتي: "ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر النّاس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يُحسنَ الظنّ بهم، بل يكونُ حذراً فطناً فقيهاً بأحوال النّاس وأمورهم"([84]).
وهذا المسلكُ يمثّل في حقيقة الواقع خُلقاً رفيعاً حقيقٌ على كلّ عالم صادقٍ أن يلتزمه في التّعامل مع أسئلة العامّة وفتاواهم، وذلك ما أكّده الإمام الآجريّ في معرِض تعداده لما ينبغي أن يكون عليه العالم من أخلاق: "وإذا سُئل عن مسألة من مسائل الشّغب، ومما يُورثُ بين المسلمين الفتنة، استعفَى منها، وردّ السّائل إلى ما هو أولى به، على أرفق ما يكون"([85]).
القيدُ الثّالث: مُراعاة المذهب السّائد
وهذا الضّابط يعودُ إلى دين المفتي وإنصافه، وهو مراعاة مذاهب البلد، وما استقرّ فيه من عمل، فلا يصحّ أن يأتي مَن هو خارجٌ عن أهله، ليُشوّش عليهم دينهم، ويُربك عليهم أمرهم، بفتاوى تُثير البلابل، وتزرعُ القلاقل، وذلك لأنّ علماء كلّ بلد أعرفُ بأسقامه وأدوائه، وأعلم بما يفيد في علاجها، وينفع في تطهيرها.
قال القرافيّ: "إنّ المفتي إذا جاءه رجلٌ يستفتيه.. لا يُفتيه بحكم بلده، بل يسأله هل هو من أهل بلد المفتي، فيفتيه حينئذ بحكم ذلك البلد، أو هو من بلد آخر، فيسأله حينئذ عن المُشتهر في ذلك البلد فيُفتيه به, ويحرمُ عليه أن يُفتيه بحكم بلده .. فهذه قاعدةٌ لا بُدّ من مُلاحظتها، وبالإحاطة بها يظهرُ لك غلط كثير من الفقهاء المُفتين، فإنهم يُجرون المسطورات في كتُب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار, وذلك خلافُ الإجماع، وهم عصاةٌ آثمون عند الله تعالى غير معذُورين بالجهل لدخُولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها"([86]).
القيدُ الرّابعُ: التّسليمُ لحكم الحاكم المجتهد
فإذا كان المختلفون في بلد واحد و تحت ظلِّ إمام
واحد، فإنّ الخلاف يرتفع بحكم الحاكم، ولا مناص من أن يرجع المخالفُ عن مذهبه لمذهب الإمام، فإنّ حكم الحاكم يرفع الخلاف ويفضّه، وهذا هو رأيُ جماهير الفُقهاء من السّلف والخلف([87]).
ويشهدُ لهذا المعنى جملةٌ من الآثار عن فقهاء الصّحابة، ومن ذلك ما رواه أبو داود وغيرُه أنّ ابن مسعُود رضي الله عنه كان يرى أنّ الصّلاة بمنى تكون قصراً، ولكنّه لما اقتدى بعثمان رضي الله عنه صلاها أربعاً، فقيل له في ذلك، فقال: "الخلافُ شرٌّ"([88]).
قال ابنُ هبيرة: "يتعيّنُ على العالم إذا كان يُفتي بما كان الإمامُ على خلافه ممّا يسُوغ فيه الاجتهادُ.. أن يترك ما كان عليه، ويصيرَ إلى ما عليه الإمام"([89]).
ولزوم اعتبار هذا المعنى في كلّ فتوى هو الذي تشهدُ له قواعد التّشريع المطّردة، فإنّ الحكمة التي لأجلها نُصب الحكّام وهي المحافظة على الاستقرار، وصيانة الحقُوق، وفضّ الخصُومات، لا يمكنُ أن تتحقّق من دون التّسليم للحاكم المجتهد في مسائل النّزاع التي لا يمكنُ أن يتّفق فيها الفقهاءُ على قول([90]).
القيدُ الخامسُ: احترامُ التّخصُّص
ومن القيُود التي ينبغي أن يلتزم بها المفتي في مسائل الخلاف احترام التخصّص، وذلك بأن يُراعي الفتاوى التي تصدرُ عن أهل الاختصاص، ولا يُسارع إلى المُعارضة والتّشنيع، ولاسيّما الصّادرة منها عن هيئات علميّة تمثّل المرجعيّة العليا لأهل البلد.
وهذا القيدُ مبناهُ على قاعدة أصوليّة معروفة، وهي: "تجزّؤ الاجتهاد"، وقد اختلف فيها العلماء، إلا أنّ رأي الجمهور منهم أنّ الاجتهاد يقبل التّجزّؤ والانقسام، ولا مانع من أن يكونُ البعضُ مجتهداً في فنّ أو باب أو مسألة، دون فن أو باب أو مسألة([91]).
القيدُ السّادسُ: تركُ موارد الشّبُهات
ومن المعاني التي لا ينبغي إهمالها في هذا المجال البعدُ قدر الإمكان عن المسائل التي تعتبر من قبيل المتشابهات، لما في ذلك من محافظة على الدّين والعرض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن اتّقى الشّبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه".
ولا شكّ عند ذوي الأفهام أنّ ترك الإفتاء بالمتشابهات، وتجنّب نقلها عن الأئمّة يعدّ من اتّقاء الشّبهات المأمور به، وهو علامةُ كمال الدّين، وحصافة العقل، وحسن الإنصاف، وقد كان الأئمّة الأعلام كالإمام أحمد يكرهون حكاية ما قد يُستقبح عن فقهاء المذاهب، وكان يقول: "من أراد أن يشرب النّبيذ، فليشربه وحدَه"([92]).
وقد كان ذلك ديدنَ السّلف من الصّحابة فمن بعدهم، وهذا خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنس بنُ مالكٍ رضي الله عنه خرج يوماً إلى الجمعة، فرأى النّاس قد صلّوا، ورجعوا، فاستحيا وانصرف حتى لا يراه النّاسُ، وقال: "مَن لا يستحي من النّاس لا يستحي من الله"([93]).
القيدُ السّابعُ: مُراعاة قواعد الشّريعة ومَقاصدها
النّظرُ إلى مقاصد الشّريعة وقواعدها من أهمّ ما ينبغي على المفتي أن يُراعيه في كلّ ما يصدر عنه من فتاوى وأحكام، والفقيهُ الحقّ هو مَن يُراعي ذلك في كلّ تصرّف يتحرّكه، فيُيسّر إذا اقتضى المقام التّيسير، ويُشدِّد إذا اقتضى المقامُ التّشديد، ويسكتُ حيثُ يرى السّكوت أنفع علاج.
وقد تجلّى ذلك في فتوى العزّ بن عبد السّلام التي سئل فيها عن سرّ تجويز الائتمام بالمخالف في المذهب، مع أنّه قد يفعلُ ما يعتقدُ المأمومُ بطلان الصّلاة به، فقال فيما حكاه عنه القرافيّ: "الجماعةُ في الصّلاة مطلوبةٌ لصاحب الشّرع، فلو قلنا بالمنع من الائتمام لمن يُخالف في المذهب، وأن لا يُصلّي المالكيّ إلا خلف المالكيّ، ولا شافعيّ إلا الخلف شافعيّ، لقلَّت الجماعاتُ، وإذا منعنا ذلك في القبلة ونحوها، لم يُخلّ ذلك بالجماعات كبيرَ خلل، لنُدرة وقوع مثل هذه المسائل، وكثرة وقوع الخلاف في مسائل الفرُوع"([94]).
المبحث الرّابعُ
شرُوط الخلاف المُعتبر
سلف القولُ بأنّ الجمهُور يرون جواز الأخذ برُخص المخالف، وأنهم اشترطوا لذلك أن يكون الخلافُ معتدّاً به، وحتى يكون كذلك فلا بدّ من أن تتوافر فيه جملةٌ من المعاني الشّرطيّة المتّفق عليها بينهم على وجه العموم، ومن أبرزها ما يلي:
الشّرطُ الأوّل: أن يكون الخلافُ من قبيل ما يُعتدّ بمثله، وذلك "لأنّ من الخلاف ما لا يُعتدّ به في الخلاف"([95]).
قال ابنُ عبد السّلام: "وقد أطلق الفقهاءُ أنّ اختلاف العلماء شبهةٌ، وليس ذلك على إطلاقه، إذ ليس عينُ الخلاف شبهةً، بدليل أنّ خلاف عطاء في جواز وطء الجواري بالإباحة خلافٌ محقّقٌ, ومع ذلك لا يدرأ الحدّ, وإنما الشّبهة الدّارئةُ للحدّ، ففي مأخذ الخلاف وأدلّته المتقاربة، كالخلاف في النّكاح بلا وليّ ولا شهود, ونكاح المتعة, فإنّ الأدلّة فيه مُتقاربةٌ لا يبعد كلّ واحد من المجتهدين إصابةَ خصمه عند الله عز وجل"([96]).
والخلافُ الذي لا يُعتدّ به على قسمين:
الأوّل: ما كان من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشّريعة، كالقول بتجويز ربا الفضل، والقول بتجويز زواج المتعة، وغير ذلك مما نُقل فيه الخلافُ عن بعض الفقهاء، مع أنّه مخالفٌ لأصُول الشّرع المقطوع بها، وقد تقرّر: أنّه لا عبرة بالظنيّ المخالف للقطعيّ.
الثّاني: ما كان ظاهرُه يُوهم الخلافُ، وليس خلافاً في الحقيقة، ولذلك مواضع بيّنها الشّاطبيّ بقوله: "وأكثرُ ما يقعُ ذلك في تفسير الكتاب والسنّة، فتجد المُفسّرين ينقلون عن السّلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفةً في الظّاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعُها والقولُ بجميعها إخلالٌ بمقصد القائل، فلا يصحّ نقلُ الخلاف فيها عنه، وهكذا يتّفق في شرح السنّة، وكذلك في فتاوى الأئمّة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضعُ ممّا يجب تحقيقُه، فإنّ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأٌ، كما أنّ نقل الوِفاق في موضع الخلاف لا يصحّ"([97]).
الشّرطُ الثّاني: قوّة المُستند: وذلك بأن يكون دليلُ المخالف قويّاً، بحيث لا يبعد قولُه كلّ البعد، فحينئذ يُراعى خلافُه، ولا يُنكرُ على مَن عمل بقوله، وذلك لاحتمال كون الصّواب معه، لاسيّما إذا قلنا بأنّ مدّعي الإصابة لا يقطع بخطأ مخالفه.
قال العزّ بنُ عبد السّلام: "وليس من الورع الخروجُ من كلّ خلاف، وإنما الورعُ الخروجُ من خلاف يُقارب أدلّته ومأخذه"([98]).
وأمّا إذا كان مأخذُ المخالف واهناً، بعيداً عن الصّواب، فلا ينظر إليه، ولا ينبغي التّعويلُ عليه، ولا يجوزُ قصدُه ترخّصاً.
قال الرّافعيّ مبيّناً وجهَ الفرق بين إيجاب الحدِّ على شارب النّبيذ وعدمِ إيجابه على مَن وطيء امرأةً في النّكاح بلا وليّ، مع كون المسألتين مختلفاً فيهما: "أدلّة تحريم النّبيذ أظهرُ، وأيضاً فإنّ الطّبع يدعو إليه، فيحتاج إلى الزّجر، ولهذا نُوجبُه على مَن يعتقد إباحته أيضاً، وهنا بخلافه"([99]).
وهذا التّفصيل هو المنصوصُ عن الأئمّة كالإمام أحمد، فإنّه قال: "يُحدُّ من شرب النّبيذ مُتأولاً، ولو رُفع إلى الإمام مَن طلّق البتّة، ثم راجعها مُتأوّلاً أنّ طلاق البتّة واحدةٌ، والإمامُ يرى أنها ثلاث، لا تفرّق بينهما"([100]).
وعلّل ذلك بأنّ "هذا غيرُ ذاك، أمرُه بيِّنٌ في كتاب الله عز وجل وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيح، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"([101])، فهذا بيِّنٌ، وطلاق البتّة إنما هو شيءٌ اختلف النّاس فيه"([102]).
الشّرطُ الثّالث: أن لا يكون الخلاف لمجرّد خفاء الدّليل
قال الشّاطبيّ: "وإنما يُعد في الخلاف الأقوالُ الصّادرة عن أدلّة مُعتبرة في الشّريعة كانت مما يقوى أو يضعُف، وأمّا إذا صدرت عن مجرّد خفاء الدّليل، أو عدم مُصادفته، فلا، فلذلك قيل: إنّه لا يصحّ أن يُعتدّ بها في الخلاف، كما لم يعتدّ السّلفُ الصّالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل والمتعة ومحاشي النّساء، وأشباهها من المسائل التي خفِيت فيها الأدلّة على مَن خالف فيها"([103]).
قال ابنُ تيميّة: "الاختلافُ إنما يُورثُ شبهةً إذا لم تتبيّن سنّةُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فأمّا إذا تبّينا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرخص في شيءٍ، وقد كرِه أن نتنَزّه عمّا ترخّص فيه، وقال لنا: إنّ الله يحبّ أن يُؤخذ برُخصه، كما يكره أن تُؤتى معصيتُه... فإن تنَزّهنا عنه، عصينا رسُول الله.. وليس لنا أن نُغضب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، لشُبهة وقعت لبعض العلماء"([104]).
الشّرطُ الرّابع: عدمُ مخالفة المعلوم الثّابت:
ومن أبرز الشّروط التي لا يكونُ الخلاف بدونها سائغاً مقبولا عدم ثبوت المخالفة للمعلوم الثّابت بالنّص أو الإجماع أو القواعد المقرّرة، فما كان مخالفاً لشيءٍ من ذلك، فإنّه لا يُعتبر خلافاً مقبولا، ولا يجوزُ الإفتاءُ به، ولا نقلُه للنّاس([105]).
قال القرافيّ: "كلّ شيءٍ أفتى فيه المجتهدُ فخرجت فُتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النّصّ أو القياس الجليّ السّالم عن المُعارض الرّاجح، لا يجوز لمُقلّده أن ينقله للنّاس ولا يُفتي به في دين الله تعالى، فإنّ هذا الحكم لو حكم به حاكمٌ لنقضناه، وما لا نُقرَّه شرعاً بعد تقرّره بحكم الحاكم أولى أن لا نُقرَّه شرعاً إذا لم يتأكّد، وهذا لم يتأكدّ، فلا نُقرُّه شرعاً، والفُتيا بغير شرعٍ حرامٌ، فالفتيا بهذا الحكم حرامٌ، وإن كان الإمامُ المجتهدُ غيرَ عاص به، بل مُثاباً عليه، لأنّه بذل جُهده على حسب ما أمر به"([106]).
وهذا القيدُ هو أكثر القيود التي يقع فيها الخُلْفُ من بعض العلماء والدّعاة، فكم من مسألة استقرّ العملُ بها واستبان الحقّ فيها، وأجمعت الأمّة عليها، ومع ذلك تجدُ من يصرّ على المخالفة فيها بحجّة أو بأخرى.
والحاصـلُ من هذا كلّه: أنّ كلّ خـلاف قـوي مأخذُه ومستندُه، إمّا لدليله، وإمّا لاستفاضته وجريان العمل به، دون مُعارضته لمقتضى الشّرع، فإنّه يجوز الالتفاتُ إليه والترخّص بأخفّ ما فيه من أقوال، إذا لم يمنع من ذلك مانعٌ معتبرٌ.
وأمّا الخلاف المهجورُ، فلم يرد عن أحد من الأئمّة ولا ممّن يُعتدّ بقوله أنّه كان يُراعيه ويلتفت إليه، بل سيرُهم وأقوالهم ناطقةٌ بنبذه وهجره، وعدِّ إحيائه والأخذ به من الشّذوذ المنهيّ عنه([107]).
الخاتمة
وبعد هذا العرض الموجز لأهمّ الأحكام المتعلّقة بمسألة "الترخّص بمسائل الخلاف" نكونُ قد أتينا على ما قصدناه من هذه الدّراسة، سائلين المولى العليّ القدير أن تكون قد تأيّدت بالتّسديد والتّوفيق، وفيما يلي تعريجٌ على أهمّ النّتائج التي أدركتها:
أوّلا: أنّ مُراد العلماء من "الترخّص بمسائل الخلاف" هو تتبّع رُخص المذاهب، وتعمّدُ العمل بالأسهل منها دون الأثقل، وأنّ ذلك قد يكونُ لمجرّد التشهّي والتلهّي، وقد يكونُ لمعنى صحيح يرعى الشّارعُ الحكيمُ مثله.
ثانياً: أنّ أعدل الأقوال في مسألة "الترخّص بمسائل الخلاف" هو مذهبُ الجمهور الذين جوّزوا ذلك وَفق قيُود وضوابط، وذلك لما قد يترتّب على المنع المُطلق من الحرج والمشقّة المرفوعين في الشّريعة، ولما قد يترتّب على التّجويز المُطلق من التسيّب والانفلات من عقال التّكاليف، والوقوع فيما يعُود على واقع التّشريع بنوعٍ من الفوضى والاضطراب.
ثالثاً: أنّ الاختلاف في جواز الترخّص بمسائل الخلاف مرجعُه في حقيقة الواقع إلى النّظر في مآل ذلك في واقع التّكليف، فمَن أجازه نظر إليه من خلال آثاره الإيجابيّة، ومَن منعه نظر إلى آثاره السّلبيّة، ومَن سلك التوسّط بين القولين، وضع لتجويز ذلك بعض القيُود والضّوابط التي تكفل حصُول إيجابيّاته ، وتحول دون وقوع مفاسده.
رابعاً: أنّ من أهمّ القيود التي ينبغي للمكلّف أن يُراعيها إذا عنّ له عوزٌ إلى العمل بمسألة خلافيّة والأخذ بأخفّ ما قيل فيها: سلامة القصد، وذلك بأن يقصد بفعله التعبّد إلى الله بما لا يُوقعه في الحرج، ولا يقطع عنه التّكليف.
خامساً: أنّ من أهمّ القيود التي لا يجوز لمفتي العامّة أن يهملها إذا أراد أن يفتي أحداً بما يراه أخفّ عليه من أقوال العلماء: "أن لا تَحمله الأغراضُ الفاسدة على تتبّع الحيل المحرّمة أو المكروهة، والتمسّك بالشّبه، طلباً للتّرخيص لمن يرُوم نفعه، أو التّغليظ على من يُريد ضرّه"، بل المطلوب في حقّه أن يصحّح القصد، ويُخلص النيّة، ويفتي بما يراه جارياً على أصُول الشّريعة وقواعدها.
سادساً: أنّ الخلاف المسوّغ للترخّص بأخفّ ما قيل فيه، هو الخلاف الذي يُعتدّ به، ولا يكون كذلك إلا إذا تحقّق فيه من الشّروط ما يجعله ذا قيمة في نظر المشرّع، ومن أهمّ تلك الشّروط: عدمُ الشّذوذ بمخالفة المعلوم، وقوّةُ المُستند، وسلامةُ المسلك الاجتهاديّ الذي سلكه المخالف في الوصُول إلى ما وصل إليه.
سابعاً: أهميّة منصب الإفتاء، وأنّه يتعيّن على كلّ متصدّر للفتوى أن يبذل جهده في الوصُول إلى الحقّ، والتعرّف على حكم الشّرع فيما يعنّ من قضايا ونوازل، دون أن يحابي في ذلك أحداً على حساب قناعاته الاجتهاديّة، لأنّه مبلّغٌ عن الله حكمَه، فعليه أن يكون في مُستوى هذه الأمانة المنوطة به.
هذا، وصلى الله على سيّدنا محمّد النبيّ الأمين، وعلى آله وصحبه الطّاهرين، وعلى مَن سلك نهجهم إلى يوم الدّين، وسلّم تسليماً دائماً مُباركاً فيه إلى يوم الدّين.
(*) منشور في المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد الثاني، العدد (4)، 1427 ه/2006م
الهوامش
([1]) انظر في ذلك: ابن سعد، الطّبقاتُ الكبرى، ج5، ص89.
([2]) والقائـل هو الخليفـة الرّاشد الخامـسُ: عمر بـنُ عبدالعزيز رضي الله عنه؛ انظر: ابن سعد، الطّبقات الكبرى، ج5، ص381.
([3]) انظر: الرّازيّ، محمّد بن أبي بكر عبد القادر، مختار الصّحاح، ط1، تحقيق: محمود خاطر، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 1415ﻫ، ص101. الفيّوميّ، أحمد ابن محمّد بن عليّ المقري، المصباحُ المنير في غريب الشّرح الكبير، المكتبةُ العلميّة، ص223.
([4]) انظر: ابن منظور، محمّد بن مكرم الإفريقيّ المصريّ، لسانُ العرب، ط1، بيروت، دار صادر، ج9، ص91. والرّازيّ، مختارُ الصّحاح، ص78. والفيّوميّ، المصباحُ المنير، ص178.
([5]) انظر: الجرجانيّ، عليّ بن محمّد بن عليّ، التّعريفات، ط1، تحقيق: إبراهيم الأبياريّ، بيروت، دار الكتاب العربيّ، 1405ﻫ، ص135. المناويّ، محمّد عبد الرّءوف، التّعاريف، ط1، تحقيق: الدّكتور، محمّد رضوان الدّاية، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1410ﻫ ص42.
([6]) انظر: وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، الموسُوعة الفقهيّة، ج2، ص291.
([7]) ابن أمير حاجّ، محمّد بن محمّد، التّقرير والتّحبير، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، طبعةٌ مصوّرةٌ عن طبعة المطبعة الأميريّة الكبرى، بولاق، مصر، 1316ﻫ، ج3، ص351.
([8]) انظر: الرّازيّ، مختارُ الصّحاح، ص251. والفيّوميّ، المصباحُ المنير، ص556. الموسُوعة الفقهيّة، ج13، ص286.
([9]) انظر: الموسُوعة الفقهيّة، ج13، ص293.
([10]) انظر: ابن أمير الحاجّ، التّقرير والتّحبير، ج3، ص351. ابن تيميّة، تقيّ الدّين عبد الحليم، المسوّدة في أصول الفقه، مطبعة المدنيّ، المؤسّسة السّعودية بمصر، القاهرة، مصر، ص518. ابن مُفلح، محمد ابن محمد المقدسي، النّكت والفوائد السنيّة، ج2، ص262.
([11]) ابن عابدين، محمّد أمين بن عمر، العقُود الدّريّة تنقيحُ الفتاوى الحامديّة، حاشية ردّ المحتار، دار المعرفة، بيروت، ج1، ص74.
([12]) ابن رجب، زين الدّين عبد الرّحمن بن أحمد أبو الفرج، القواعدُ في الفقه الإسـلاميّ، بيـروت ، دار
الكتب العلميّة. البَركتيّ، قواعد الفقه، ص236.
([13]) البيهقيّ، أحمد بن الحسين بن عليّ، السّنـن الكبرى،
تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكّة المكرّمة، مكتبة دار الباز، 1414ﻫ، ج10، ص211. وانظر: الزّركشيّ، بدر الدّين بن محمّد بهادر، البحرُ المحيط، ط1، مصر، دار الكتبي، 1994م، ج8، ص383.
([14]) البيهقيّ، السّنن الكبرى، 10، ص211.
([15]) انظر: ابن أمير الحاجّ، التّقرير والتّحبير، ج3، ص351. وبادشاه، تيسير التّحرير، ج4، ص254. والزّركشي، البحرُ المحيط، ج6، ص325. ابن النجّار، أبو البقاء تقيّ الدّين الفتُوحيّ، شرحُ الكوكب المنير، مصر، مطبعة السنّة المحمّدية، ج4، ص577.
([16]) انظر: الزّركشيّ، البحر المحيط، ج6، ص325. وبادشاه، تيسير التّحرير، ج4، ص254.
([17]) انظر: ابنُ مفلح، محمّد بن محمّد المقدسيّ، الفرُوع، عالم الكتب، بيروت، لبنان، ج6، ص491. المرداويّ، عليّ بن سليمان بن أحمد، الإنصاف في معرفة الرّاجح من الخلاف، تحقيق: محمّد حامد الفقي، بيروت، دار إحياء التّراث العربيّ ، ج12، ص50.
([18]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج6، ص324.
([19]) الشّاطبيّ، الاعتصام، ج2، ص354.
([20]) الشّاطبيّ، إبراهيم بن موسى اللّخميّ الغرناطيّ، الموافقات في أصول الشّريعة، تحقيق: عبد الله درّاز، بيروت، دار المعرفة، ج4، ص141.
([21]) انظر: بادشاه، تيسير التّحرير، ج4، ص254. والشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص144. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ج4، ص578. وآل تيميّة، المسوّدة، ص529.
([22]) انظر: الطّوفي، نجم الدّين الطّوفي الحنبليّ، شرحُ مختصر الرّوضة، ط1، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التّركيّ، بيروت، مؤسّسة الرّسالة، 1407ﻫ، ج3، ص669.
([23]) انظر: الهيثميّ، مجمعُ الزّوائد، ج2، ص260.
([24]) انظر: الشّـاطبيّ، الموافـقات، ج4، ص145. وابن
الصّلاح، فتاوى ابن الصّلاح، ج1، ص89.
([25]) الحديثُ رواه البُخاريّ، (رقم 3367)، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ج3، ص1306. النّوويّ يحيى ابن شرف بن مرِّي، شرحُ صحيح مسلم، ط2، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 1392ﻫ، (رقم: 2327)، كتاب الفضائل، باب مباعدته للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته: ج7، ص80.
([26]) انظر: بادشاه، تيسير التّحرير، ج4، ص254.
([27]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص145.
([28]) قال ابنُ الملقّن: "رواه عبد بنُ حميد من رواية ابن عمر وغيره من رواية عمر وأبي هريرة، وأسانيدُها كلّها واهيةٌ. قال البزّار: لا يصحّ هذا الكلامُ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ابنُ حزم: خبَرٌ مكذوبٌ موضوعٌ"؛ انظر: ابن الملقّن، عمر بن عليّ الأنصاريّ، خلاصةُ البدر المنير في تخريج أحاديث الرّافعيّ الكبير، ط1، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل، الرّياض، مكتبة الرّشد، 1410ﻫ، ج2، ص431. وانظر في معناه: ابن حجر، أحمد بن عليّ العسقلانيّ أبو الفضل، تلخيصُ الحبير، تحقيق: عبدالله هاشم اليمانيّ، المدينة المنوّرة، 1384ﻫ، ج4، ص190. والمباركفوري، تحفة الأحوذي، ج10، ص155.
([29]) انظر: الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص133. ابن الهمام، كمال الدّين محمّد بن عبد الواحد السّيواسيّ، فتحُ القدير، ط2، بيروت، دار الفكر، ج7، ص258. وبادشاه، تيسيرُ التّحرير، ج4، ص254.
([30]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص133.
([31]) انظر: الشّاطبيّ، المُوافقات، ج4، ص142.
([32]) انظر: ابن تيميّة، تقيّ الدّين عبد الحليم، مجموع الفتاوى، ط2، جمع وتحقيق: عبد الرّحمن بن محمّد ابن قاسم النّجديّ، السّعوديّة، مكتبة ابن تيميّة، ج14، ص159.
([33]) ابن رجب، زين الدّين عبد الرّحمن بن أحمد أبو الفرج، جامع العلوم والحكم، تحقيق: خليل منصُور، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، ص370.
([34]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج6، ص324.
([35]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج6، ص324.
([36]) انظر: بادشـاه، تيسيـرُ التّحـرير، ج4، ص202.
والقرافيّ، شرحُ تنقيح الفصول، ص438. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج6، ص241. الشّنقيطيّ، محمّد أمين، نثرُ الورُود على مراقيّ السّعود، ط1، تحقيق وإكمال: محمّد ولد حبيب الشّنقيطيّ، جدّة، دار المنارة، 1415ﻫ، ص2.
([37]) الحديثُ أخرجه البخاريّ، (رقم:6919) ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ: ج6، ص2676.
([38]) الحديثُ صحيحٌ. البُخاريّ، أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل، صحيحُ البخاريّ، ط3، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، دار ابن كثير اليمامة، 1407ﻫ (رقم 52)، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ج1، ص28. مسلمٌ، أبو الحسين ابن الحجّاج القُشيريّ النّيسابوريّ، صحيحُ مسلم، بيروت، دار المعرفة، (رقم1599)؛ كتاب البيوع، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ج5، ص50-51.
([39]) ابن رجب، جامع العلوم والحكم، ص88.
([40]) هو جزءٌ من حديث طويل أخرَجه مسلمٌ في الصّحيح، رقم:1731، ج3، ص1357.
([41]) الجصّاص، أحمد بن عليّ الرّازيّ أبو بكر، الفصُول في الأُصول، ط1، تحقيق: الدّكتور، عجيل جاسم النّشمي، الكويت، وزارةُ الأوقاف الكويتيّة، 1405ﻫ. ج4، ص331؛ وانظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص301.
([42]) انظر: ابن عبد البرّ، جامع بيان العلم وفضله، دار الفكر، بيروت، لبنان، ج2، ص84.
([43]) انظر: ابن تيميّة، مجموعُ الفتاوى، ج20، ص24.
([44]) انظر: الجصّاص، الفصُول في الأصُول، ج4، ص336. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص303.
([45]) انظر: ابن تيميّة، مجموع الفتاوى، ج20، ص2. والزّركشيّ، البحر المحيط، ج6، ص25.
([46]) آل تيميّة، المسوّدة، ص479.
([47]) انظر: القرافيّ، شهاب الدّين أحمد بن إدريس، نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق: عادل عبدالموجود وعليّ معوض، مكتبة نزار الباز، مكّة المكرّمة، ج9، ص4060. والزّركشيّ، البحر المحيط، ج6، ص260. وابن تيميّة، مجمُوع الفتاوى، ج20، ص28.
([48]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص375. وابن عبد البرّ، جامعُ بيان العلم وفضله، ج2، ص 112. والشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص133.
([49]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص145.
([50]) انظر: ابن عبد البرّ، جامعُ بيان العلم وفضله، ج2، ص112.
([51]) انظر: ابن مفلح، النّكت والفوائد السنيّة، ج2، ص261. وآل تيميّة، المسوّدة، ص463. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص382.
([52]) انظر: بادشاه، تيسير التّحرير، ج4، ص254. وابن أمير الحاجّ، التّقريرُ والتّحبيرُ، ج3، ص351. الأنصاريّ، عبد العليّ محمّد بن نظام الدّين، فواتحُ الرّحموت شرحُ مسلّم الثّبوت، مطبوع بذيل المُستصفى، دار العلوم الحديثة، بيروت، لبنان، ج2، ص406. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص382.
([53]) انظر: ابن مفلح، النّكت والفوائد السنيّة، ج2، ص261.
([54]) انظر: المردوايّ، الإنصاف، ج8، ص428. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ج4، ص589.
([55]) انظر: البغداديّ، الخطيب، الفقيه والمُتفقّه، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ج2، ص194.
([56]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص375.
([57]) انظر: القرافيّ، نفائسُ الأصُول، ج9، ص4147. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص375.
([58]) الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص375.
([59]) انظر: ابن عبد السّلام، عزّ الدّين عبد العزيز، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، بيروت، دار الكتب العلميّة، ج2، ص135. الزّركشيّ، البحر المحيط، ج6، ص325. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ج4، ص577. وبادشاه، تيسيرُ التّحرير، ج4، ص254. وآل تيميّة، المسوّدة، ص463. والأنصاريّ، فواتحُ الرّحموت، ج2، ص406. العطّار، حسن بن محمّد بن محمود، حاشية العطّار على شرح محلّي لجمع الجوامع، بيروت، دار الكتب العلميّة، ج2، ص442. النّوويّ يحيى بن شرف بن مرِّي، روضةُ الطّالبين، ط2، بيروت، المكتب الإسلاميّ، 1405ﻫ، ج8، ص101.
([60]) انظر: المرداويّ، عليّ بن سليمان بن أحمد، التّحبير شرح التّحرير، تحقيق: عبدالرّحمن الجبرين وآخرون، مكتبة الرّشد، الرّياض، ج8، ص4110. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المُنير، ج4، ص590.
([61]) انظر: العطّار، حاشية العطّار على محلّي، ج2، ص442.
([62]) انظر: الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص145.
([63]) العطّار، حاشية العطّار على محلّي، ج2، ص442. الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد، المستصفى، ط1، تحقيق: محمّد عبد السّلام عبد الشّافي، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1413ﻫ.
([64]) انظر: الشّنقيطيّ، «نثرُ الورُود»: ج2.
([65]) انظر: الأنصاريّ، فواتحُ الرّحموت، ج2، ص406. والبانيّ، عمدةُ التّحقيق، ص117.
([66]) النّفراويّ، الفواكه الدّوانيّ، ج1، ص24.
([67]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص381. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ص627. الشّوكانيّ، محمّد بن عليّ بن محمّد، إرشادُ الفحول، ط2، تحقيق: محمّد سعيد البدريّ، بيروت، دار الفكر، 1412ﻫ، ص272.
([68]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص168.
([69]) انظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص382.
([70]) قال الهيتميّ: «رواه البزّار، وفيه كثير بنُ عبد الله بن عوف، وهو متروكٌ»؛ انظر: مجمع الزّوائد، ج1، ص87.
([71]) انظر: الدّارميّ، سُنن الدّارميّ، ج1، ص167.
([72]) أخرجه البيهقيّ في السّنن الكبرى، ج10، ص211. وانظر: الزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج8، ص383. والشّوكانيّ، إرشادُ الفحول، ص272.
([73]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص169.
([74]) انظر: النّفـراويّ، الفواكهُ الدّوانيّ، ج2، ص356. والعطّار، حاشية العطّار على محلّي، ج2، ص442.
([75]) انظر: الزّركـشيّ، البحـرُ المحيط، ج8، ص383. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ص627.
([76]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص169.
([77]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص169.
([78]) انظر: الشّنقيطيّ، نثرُ الورود، ج2. والبانيّ، عمدةُ التّحقيق، ص117.
([79]) انظر: الزّحيليّ، الأخذُ بأيسر المذاهب، ص53.
([80]) انظر: الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص35.
([81]) النّوويّ يحيى بن شرف بن مرِّي، المجموعُ شرحُ المهذّب للشّيرازيّ، القاهرة، إدارةُ الطّباعة المنيريّة، 1925ﻫ، ج1، ص46.
([82]) أخرجه أبو داود، رقم: 3651، عن مُعاوية رضي الله عنه؛ انظر: عونُ المعبود، ج10، ص64.
([83]) انظر: الآباديّ، محمّد شمس الحقّ العظيم، عونُ المعبود شرحُ سنن أبي داود، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ج10، ص64.
([84]) ابن القيّم، محمّد بن أبي بكر الزّرعيّ، إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، بيروت، دار الكتب العلميّة، ج4، ص229. وانظر في نفس المعنى: ابنُ مفلح، الفرُوع، ج6، ص380. ابنُ مفلح، محمّد بن محمّد المقدسيّ، الآداب الشّرعيّة والمنح المرعيّة، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ج2، ص56.
([85]) الآجريّ، أخلاقُ العلماء، ص39.
([86]) القرافيّ، شهاب الدّين أحمد بن إدريس، أنوار البروق في أنواء الفرُوق، بيروت، عالم الكتب، ج1، ص46. وانظر: آل تيميّة، المسوّدة، ص483.
([87]) انظر في ذلك: القرافيّ، الفرُوق، ج2، ص103. الزّركشيّ، بدر الدّين بن محمّد بهادر، المنثور في القواعد، ط2، تحقيق: الدّكتور تيسير فائق محمود، الكويت، وزارة الأوقاف الكويتيّة، 1405ﻫ، ج1، ص345.
([88]) أبو داود، كتاب: المناسك، باب: الصّلاة في منى، رقم (1960)؛ انظر: سنن أبي داود، ج2، ص199.
([89]) انظر: ابن مُفلح، الفرُوع، ج6، ص392.
([90]) انظر نحـواً من هذا الكلام في: القـرافيّ، الفرُوق، ج2، ص104.
([91]) انظر: القرافيّ، شرحُ تنـقيح الفصـول، ص438. وبادشاه، تيسيرُ التّحرير، ج4، ص182. وابنُ النجّار، شرحُ الكوكب المنير، ج4، ص473. وابن تيميّة، مجموع الفتاوى، ج20، ص212.
([92]) انظر: ابن مُفلح، الآداب الشّرعيّة، ج1، ص132.
([93]) انظر: ابن رجب، جامعُ العلوم والحكم، ص89.
([94]) انظر: القرافيّ، الفرُوق، ج2، ص100.
([95]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص291. وانظر: المرينيّ، القواعد الأصُوليّة، ص136.
([96]) ابن عبد السّلام، قواعد الأحكام، ج2، ص110.
([97]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص214.
([98]) ابن عبد السّلام، شجرةُ المعارف والأحوال، ص412. وانظر: القرافيّ، الفروق، ج4، ص212. وابن السّبكيّ، الأشباه والنّظائر، ج1، ص112.
([99]) الرّافعيّ، أبو القاسم عبد الكريم، العزيزُ شرح الوجيز، المعروف بالشّرح الكبير، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، ج7، ص533.
([100]) انظر: ابن رجب، جامعُ العلوم والحكم، ص473.
([101]) أخرجه البخاريّ، (رقم: 4087) ، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن قبل حجة الوداع: ج4، ص1579.
([102]) انظر: ابن رجب، جامعُ العلوم والحكم، ص473. وانظر: ابن مُفلح، الآدابُ الشّرعيّة، ج1، ص132.
([103]) الشّاطبيّ، الموافقات، ج4، ص172.
([104]) ابنُ تيميّة، مجموع الفتاوى، ج21، ص62.
([105]) انظر: القرافيّ، الفرُوق، ج2، ص109. وله، نفائسُ الأصُول، ج9، ص8418. والزّركشيّ، البحرُ المحيط، ج6، ص336. والشّنقيطيّ، نثرُ الورُود، ج2.
([106]) القرافيّ، الفرُوق، ج2، ص109.
([107]) انظر: السّنوسيّ، مُراعاة الخلاف، ص26.