الضوابط الشرعية للاكتشافات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم (*)
الدكتور راشد سعيد شهوان/ كلية أصول الدين، جامعة البلقاء التطبيقية
ملخص
تشكل الاكتشافات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم محورا أساسيا في قضية توكيد حقائق القرآن الكونية، والكشف عنها، وأن القرآن الكريم أثار كثيرا من القضايا التي سبق بها العلم من جهة، وكانت من جهة أخرى إبداعا لمحاور علمية بناءة، وصورا من الإعجاز الخالد، في إثبات مصدرية القرآن وربانيته وتوثيق الإيمان بحجته البالغة، ومصداقية تلقيه عن الوحي.
فيحاول هذا البحث دراسة هذه القضية واستبصارها، ويتناول في بحثها القواعد والضوابط الشرعية التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ومسائل التوفيق بينها وبين الكشوفات العلمية الحديثة، وفق المعالم العلمية المعتبرة والأصول الشرعية المقررة عند أهل الاختصاص. كما يحاول فحص مواقف العلماء واتجاهاتهم في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ومناقشتها بشكل عام مع الترجيح والتوجيه المناسب.
ويهدف البحث من خلال ذلك إلى إثبات توافق الحقائق القرآنية مع الحقائق العلمية وكشوفاتها الحديثة، وإلى تأكيد التطابق بين آيات كتاب الله المسطور، وآيات كتاب الله المنظور، كما يهدف إلى توسيع النظرة إلى فهم النص القرآني، والارتقاء إلى آفاق إعجازه العلمي، الذي أخذ يتألق في الدراسات المعاصرة، ويتلاقى مع كثير من النظريات العلمية الحديثة، ويشد الأنظار إليها.
كما نروم في هذه الدراسة إلى تنهيج البحث العلمي في الكتابة في قضايا هذا الموضوع، وضبط مسار البحث فيه من المزالق العلمية والذهنية، والحد من الاستطراد والارتجالية الفكرية في تأويل النصوص ومواءمتها لغير مقاصدها الشرعية والإيمانية. ونرجو من الله عز وجل أن يشكل ذلك كله منظومة ضابطة للتعامل مع هذه القضية وإدراك مراميها.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث هدى ورحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن العلم التجريبي الحديث في محاولاته المتنوعة قد توصل إلى كشوفات واختراعات وحقائق لا تخفى على أحد، وإذا أمعنا النظر في كثير من هذه الحقائق، نجدها مطابقة لكثير من الآيات التي أشار إليها القرآن الكريم قبل خمسة عشر قرنا.
وهذا يؤكد وعد الله في محكم كتابه أن الناس سيرون آياته الدالة على عظمته ووحدانيته وإبداعه في ملكوته، قال تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت/ 53، وقوله عز وجل: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) النمل/93، وقد صرح القرآن الكريم بأن قسما من حقائقه ستظهر بعد زمن التنزيل، قال تعالى:(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ص/87-88، (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يونس/ 39، وهذا يؤكد قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله معه)([1]) وقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بجوامع الكلم")[2]). وهذا يؤكد قول علي رضي الله عنه: (أن القرآن لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد)([3]).
ولقد ظهر في عصرنا الحديث مؤلفات كثيرة تهتم بهذه القضية، وخصصت مساحات واسعة لتوضيحها وتوكيدها، وكان لهذه الكتابات لون جديد في تفسير القرآن الكريم يربط بين هذه الحقائق والاكتشافات وبين دلالاتها في القرآن الكريم، لإظهار التوافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وبيان الترابط بين سنن الله الهادية وسنن الله البانية.
وإن تطور هذه القضية أدى إلى تنوع مواقف الدارسين لها، مما أدى إلى ظهور أكثر من موقف واتجاه في تأكيدها أو معارضتها، وهذه الدراسة ستحاول بيان هذه المسألة، والنظر في هذه المواقف، ومناقشتها مع الترجيح والتوجيه المناسب لاتجاهات الدارسين لها بصفة عامة، والتأكيد على القواعد والضوابط الشرعية التي يجب أن يتحلى بها الباحثون في مسائل الإعجاز، وسيتناول البحث في هذه الدراسة المطالب التالية:
المطلب الأول: أصول ومقدمات في مسائل التوفيق بين حقائق القرآن والكشوفات العلمية الحديثة.
المطلب الثاني: مواقف العلماء من تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم والتوفيق بينها وبين الكشوفات العلمية الحديثة.
المطلب الثالث: القواعد والضوابط الشرعية للتعامل مع الحقائق العلمية في القرآن والسنة وكشوفاتها الحديثة.
الخاتمة وأبرز النتائج والتوصيات
المطلب الأول
أصول ومقدمات في مسائل التوفيق بين حقائق القرآن والكشوفات العلمية الحديثة
تقع قضية التوفيق بين حقائق القرآن الكريم والكشوفات العلمية الحديثة في أغلبها تحت مبحث التفسير العلمي للقرآن الكريم، وتنتمي في مجالها الواسع إلى مناهج المفسرين بحقولها المعروفة، ولما كانت أبحاث الإعجاز العلمي في القرآن الكريم متعلقة بالتفسير العلمي للآيات الكونية، فإنه يحسن بنا في مطلع الحديث عن هذه القضية أن نشير إلى بعض الأصول والتصورات الأساسية والمقدمات الضرورية لفهم هذه القضية مثل:
أولا: أهمية الحديث عن الاكتشافات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم.
ثانيا: التعريف بالمعجزة والإعجاز في اللغة والاصطلاح، ومدى مطابقة ذلك للمعاني الواردة في القرآن الكريم.
ثالثا: بيان الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
رابعا: الإشارة إلى أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وذلك على النحو التالي:
أولا: مسوغات الاهتمام بقضية الاكتشافات العلمية ودلالاتها في القرآن الكريم.
يمكن الحديث عن أهمية هذه القضية وما يترتب عليها من نتائج وآثار في نقاط سريعة، تاركين التفصيل فيها في مقام آخر، إذ يكفينا من العقد ما يحيط بالرقبة، وهي كما يلي:
امتثال أمر الله جل جلاله بتدبر القرآن الكريم عن طريق الوقوف على أوجه إعجازه، فإنه أدعى إلى حصول الإيمان وتذوق حلاوة القرآن، فمن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر، لم يدرك كمال لذة القرآن، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ص/29 وهو كتاب كثير الخير والبركة (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) المائدة/ 15/16 وقال تعالى: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)الأنعام/ 104. وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت/ 51.
2- إن الحديث عن هذه القضية بكل أطرها ومجالاتها يعد تجديدا لبينة الرسالة الإسلامية، ولغة جديدة لزيادة الإيمان ومدخلا للدعوة إلى الله في هذا العصر، وإثباتا وبرهانا على صلاحية القرآن والسنة لكل زمان ومكان.
وإن مواصلة أبحاث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وكشوفاتها الحديثة، كفيلة بعون الله بإظهار معجزة القرآن والسنة واستمرار سطوعها وتجديد لبيانها وبيناتها، وتقديم أوضح البراهين وأقوى الدلائل على أن القرآن والسنة، سند للعقل والعلم، في زمن فتن الناس فيه بالعلم ومعطياته واكتشافاته فتنة كبيرة، فلسان حال هذا العصر، واللغة التي يفهمهما كثير من الناس، ويحاورون بها، هي لغة العلم، وطريقة الأنبياء في حمل الدعوة والتبليغ، كانت بلغة أقوامهم قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) إبراهيم/4، فلغة العصر اليوم هي لغة العلم.
3- إثارة الاهتمام بالعلوم التقنية والاكتشافات الحديثة، استنهاضا للعقول واستشارة للتفكير الإبداعي فيها، وتشجيعا للبحوث العلمية المثيرة للإيمان، التي تخلّفت الأمة في مجالاتها مؤخرا تخلفا كبيرا، وسوف يكون هذا العصر بعون الله هو العصر الذهبي للإسلام، إذا استطعنا أن نستثمر فيه تقنيات العلم ومعطياته، في الكشف عن أبعاد الآيات الكونية والدخول إلى مواقع القرآن العلمية لاستبصارها، وتوظيفها في خدمة الإسلام والدعوة إليه.
4- إيجاد رابطة قوية بالله من أجل بناء منظومة معلوماتية وتقنية إيمانية لعمارة الكون عمارة صالحة، وترشيد الحضارات للسعي لمرضاة الله بعيدا عن الظلم والبغي العالمي، الذي نشهده اليوم.
5- ضبط العلم بالضوابط الأخلاقية، التي تغذيه بالغذاء الصالح، وتسخيره لخدمة القيم الإيمانية ونصرة الحياة الروحية وحماية البشرية من نتائجه المدمرة، والانفراط العظيم للمجتمعات.
6- تحقيق أكبر نوع من عبادة التفكر لتعميق الإيمان في النفوس وتقوية الصلة بالله، وتكوين العقلية العلمية التي تبني الأمم وتنشئ الحضارات.
7- الدفاع عن القرآن الكريم والوقوف أمام الحملات الموجهة إليه، المدفوعة بروح متعصبة جاهلة، والتصدي للدعوات الساخرة التي تحاول محاكاة القرآن والإتيان بمثله، مستغلة بذلك بعض السّذَّج والمغفلين في كتاباتها العقيمة، الخالية من الموضوعية والعلم والحياد الفكري.
8- تصحيح مسار العلم التجريبي في الكتابات المعاصرة، ووضع صياغة إسلامية للبحوث والمعارف الحديثة التي انطلقت من منطلقات مادية لا تؤمن بالغيب، وتصحيح ما شاع من أفكار باطلة حول الكون والإنسان والحياة، وإزالة الجفوة المفتعلة بين العلم والإيمان، ليظل العلم وتقنياته في خدمة الإسلام.
ثانيا: التعريف بالمعجزة والإعجاز في اللغة والاصطلاح، ومدى مطابقة ذلك للمعاني الواردة في القرآن الكريم.
الإعجاز في اللغة والاصطلاح: أصل كلمة (الإعجاز) في اللغة العربية، مصدر مشتق من الفعل الثلاثي (عجز) بفتح العين الجيم، و(عَجُز) بفتح العين وضم الجيم، وللفعل (عجز) معان كثيرة في المعاجم العربية منها: عدم القدرة على فعل الشيء، يقال عجز عن الأمر: إذا قصر عنه وضعف عن الإتيان به، والإعجاز من العجز والتأخر عن الشيء وهو ضد القدرة([4]) قال تعالى:(أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)المائدة/ 31، ويأتي بمعنى الفوت والسبق، فيقال عاجزهُ معاجزة، والعَجُز مؤخرة الشيء، وأعجاز النخل أصولها، وتستعار كلمة (أعجزه) بمعنى التثبيط أي بمعنى ثبطه، ويقال (عُجُز) (عجوزا) أي صار عجوزا وجمعه (عجز) و (عجائز) أي المرأة المسنة، قال تعالى: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)هود/ 72، ويقال (أعجز) في الكلام أي أدى لمعانيه بأبلغ الأساليب([5]).
وبالتأمل فيما سبق نجد أن الأصل في دلالة الكلمة في العربية أن تستعمل في معناها الحسي الحقيقي التي وضعت له، ثم تتطور فتتسع لتدل على غير المحسوس لعلاقة وقرينة بين المعنيين، أي تتسع لتدل على الأمور المعنوية دلالة مجازية.
وتعتبر المعاني التي ذكرنا للفعل (عجز) هي الأصل في الاستعمال، إلا أنه يجوز أن يصطلح على نقلها إلى معان أخرى، على أن يكون المعنى الذي اصطلح عليه ذا صلة بالمعنى اللغوي الأصيل، كما اصطلح النحاة على كلمتي (فاعل ومفعول) مثلا، إذ نقلها من المعنى اللغوي إلى مصطلح نحوي محدد.
فالمعنى الاصطلاحي متطور كما هو واضح، فمصطلح الإعجاز على هذا يمكن أن يتسع ليطلق على كل شيء متميز رفيع المستوى لا يمكن ولا يسهل مجاراته، وما الإعجاز العلمي إلا وجه من وجوه الإعجاز وصوره الكثيرة التي تدل على الحق وتظهر صدقه والتي يعجز الناس أن يأتوا بمثلها أو يجاروها.
تطور التعريف الكلامي لمفهوم المعجزة والإعجاز:
هناك تعريفات كثيرة لمصطلح المعجزة بسـبب تطور التعريف الكلامي لمفهوم المعجزة، لا يتسع المقام لذكرها، نشير إلى بعض منها:
قال ابن حجر: "(المعجزة) اسم فاعل من الإعجاز وسميت بذلك لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها"([6]).
وذكر البعض أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة([7])، وذكر آخرون أن الإعجاز يقصد به إعجاز الناس، أن يأتوا بسورة مثله مع شدة عداوتهم وصدهم عنه([8]).
أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم الإتيان بمثله، أو هو إثبات عجز المدعوين وقدرتهم على تقليد ما جاء به أنبياؤهم عليهم السلام من خوارق العادات.
من خلال التعريفات السابقة لمصطلح معجزة، يظهر لنا أنها أخذت جانب التحدي البياني، والحقيقة إن غالب هذه التعريفات - وإن كان لها ما يؤيدها من اللغة- قد نشأت في بيئة المتكلمين الذين كانوا يدافعون عن القرآن الكريم، ويردون شبهات الزنادقة وأباطيل الملاحدة وأهل الأهواء. وأكثر من أفاض في استعمال هذا المصطلح أرباب الأصول والعقائد وأهل البلاغة، ويغلب على الظن أن مصطلح الإعجاز والمعجزة لم يظهر قبل القرن الثاني الهجري([9])، فالكتابات في القرن الثالث الهجري ما زالت تعتمد كلمة (الآية) في المواضع التي ينبغي أن تستخدم فيها كلمة المعجزة، كما يدل على هذا كتاب علي بن ربن الطبري (الأسلوب والبلاغة)، وأول من نسب إليه استخدام لفظ الإعجاز هو النَظَّام المعتزلي المتوفى سنة 231ﻫ([10]).
وفي القرن الرابع الهجري تتالت المؤلفات للدفاع عن أسلوب القرآن فشارك في ذلك الرُمّاني(ت386ﻫ) في رسالته (النكت في إعجاز القرآن)، ويعتبر الخَطّابي(ت 388ﻫ) من أبرز من تناول إعجاز القرآن في رسالته (إعجاز القرآن)، ثم أتم الإمام الباقلاني (ت 403ﻫ) المسيرة التي بدأها علماء القرن الرابع الهجري لبيان إعجاز القرآن بكتابة (إعجاز القرآن) حيث بيّن فيه أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بنيت على القرآن، وأنها معجزة عمّت الثقلين. ويعد عبد القاهر الجرجاني (ت 471ﻫ) أبرز من تناول قصة الإعجاز من علماء القرن الخامس الهجري في (الرسالة الشافية) المطبوعة ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز، وفي كتابه (دلائل الإعجاز). ثم تتابع العلماء الأجلاء بعد ذلك في تبيين أسرار القرآن وأوجه الإعجاز، وكان منهم الزمخشري المفسر (ت 538ﻫ) والرازي (ت 606ﻫ). ويظهر أن فكرة فن البلاغة نابعة من البحث في مسائل الإعجاز وأن فكرة إعجاز القرآن كانت من أقوى البواعث على نشأة البلاغة، إن لم تكن أقواها، ولا نستطيع أن نستنتج من هذا أن كلمة (معجزة) لم تستعمل حتى ذلك الوقت وإنما نستطيع أن نؤكد أنها لم تكن شائعة الاستعمال([11]).
وهكذا نلحظ أن مصطلح المعجزة والإعجاز من المصطلحات التي لم تكن معروفة في عهد النبوة والصحابة والتابعين، وإنما عرفت فيما بعد واستقرت في أدبياتنا وتراثنا الإسلامي، وتطور تعريفها بسبب تطور الحياة الفكرية والاحتكاك الثقافي بالأمم الجديدة التي دخلت الإسلام من أهل فارس والروم، وبعامل التأثير والتأثر، فكانت مُعَجِّلا في توليد كثير من المسائل والقضايا في هذا الموضوع، الذي عالجه العلماء الأجلاء في زمانهم. ونحن في هذا المقام لا نتحدث عن نشأة الإعجاز من حيث هو دلائل النظر في القرآن وتدبر معانيه، فهذا أمر متفق عليه، فالنظر في إعجاز القرآن داخل في تدبر معانيه، ومأمور به منذ بداية التنزيل، قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)82: النساء وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين وتحدى العرب وهم أرباب الفصاحة والبيان أن يأتوا بمثله فعجزوا. أفلا يسعنا ما وسعهم في زمانهم من معالجة مثل هذه الموضوعات، أن نوسع من مفهوم الإعجاز في عصرنا وما يمليه علينا من تحديات ومستجدات، فيسعنا ما وسعهم من كتاب الله عز وجل ولغته الحية، فنكون بذلك كما كانوا على مستوى زمانهم وعلى مستوى قرنهم، فنستجيب لمتطلبات عصرنا ومواجهة مشكلاته، فنعطي إعجاز القرآن الكريم تصورا ينسجم مع اتساع دائرة الإعجاز في عصرنا، لاسيما وأن آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (الآيات الكونية) لا يمكن فهمها فهما كاملا في إطار اللغة وحدها -على أهمية ذلك وضرورته- انطلاقا من شمول الدلالة القرآنية، ومن كلية المعرفة التي لا تتجزأ، ولا يمكن الوصول إلى سبقها بالحقيقة الكونية -أو ما نسميه بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم- دون توظيف الحقائق العلمية التي توافرت معرفتها لأهل زماننا الراسخين في العلم، كل في حقل تخصصه، فعلوم البلاغة ليست نهاية علوم القرآن الكريم بل هي علوم لفظه، وما قام به العلماء في الماضي ويقومون به اليوم، هي علوم معانيه، والذي يعزز هذا الفهم أن وجوه الإعجاز ودلالاتها في كتاب الله متعددة كثيرة، وليست محصورة في الإعجاز البياني فحسب، كما سنوضح ذلك بعون الله.
مدى مطابقة مفهوم المعجزة والإعجاز للمعاني الواردة في القرآن الكريم.
يقول الدكتور عبد الله المصلح رئيس هيئة الإعجاز العلمي في رابطة العالم الإسلامي، رغم شيوع مصطلح المعجزة وتحديد معناها بالأمر الخارق والمقرون بالتحدي السالم عن المعارضة([12])، ورغم قرب هذا المصطلح إلى الذهن، إلا أني لم أجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالا على هذا المعنى، وما وجدته من مادة (عجز) في القرآن والسنة، لم أر فيه ما يدل على هذا المصطلح([13]).
أما الألفاظ المستخدمة قرآنيا في الدلالة على هذا المعنى، والتي كانت تقوم مقام المعجزة فهي: (الآية، البينة، البرهان، بصائر، السلطان)، قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)الإسراء/ 59، وقال تعالى: (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ)هود/ 53، وقال تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ)القصص/ 32، وقال تعالى: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ) الأنعام/ 104، وقال تعالى: (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) إبراهيم/ 10.
فعلى هذا يجوز التعبير بالإعجاز العلمي، والأمر فيه متسع، والذين قيدوا الإعجاز بالتحدي، وحصروه في الإعجاز البياني فقد ضيقوا واسعا.
ولهذا يحسن بنا أن نوسع من دائرة فهمنا لمعنى الإعجاز في القرآن الكريم، فنبين أن معناه: عجز الخلق أجمعين، انسهم وجنهم، فرادى ومجتمعين، أن يأتوا بشيء مثله. وهذا الذي نقرره، قد أكده الدكتور حسن العتر، حيث يقول: "معنى الإعجاز في فهمنا: أن يتعذر على البشر فصحاء وعلماء وعامة، الإتيان بمثله في أسلوبه البياني أو أخباره الغيبية، أو أي من وجوه الإعجاز"([14]).
وأن إثبات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه هو من مواقف التحدي للناس كافة، مسلمين وغير مسلمين، بأن كتابا أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أميّ في أمة كانت غالبيتها من الأميين، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الكتاب يحتوي من حقائق الكون ما لم تتوصل إليه العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، بعد محاولات طويلة قام بها مئات من العلماء عبر تاريخ البشرية الطويل، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لهذا العلم الحق في ذلك الزمن البعيد غير الله سبحانه وتعالى، ونحن في هذه الحالة نكون قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم ولم ننتصر للقرآن بالعلم([15]).
ثالثا: التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
التفسير مشتق من الفسر، وهو الإبانة والكشف([16]).
أما في الاصطلاح فله تعريفات منها: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه([17]).
وهذا التعريف شامل لأنواع التفسير كلها، سواء ما كان غايته بيان الألفاظ والتراكيب، أو استخراج الأحكام والحكم، ومن هذا الأخير التفسير العلمي الذي يتناول العلوم الكونية والصنائع والمعارف كعلم الهندسة والحساب والهيئة والطب والصيدلة والاقتصاد والاجتماع والطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات وعلم طبقات الأرض، وعلم البيئة والمياه والنفس...الخ.
أما من حيث العلاقة بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، فقد جرت بعض الكتابات على التفريق بينهما، واتجه بعض الباحثين إلى أن هذا التفريق شكلي، انطلاقا من وحدتهما الموضوعية وتداخلهما معا، وشمول الدلالة القرآنية للإشارات الكونية.
التفسير العلمي:
والذين فرقوا بينهما عرفوا التفسير العلمي بأنه: اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القران الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان([18]).
وعرفه الشيخ الزنداني: الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية([19]).
وبمعنى آخر: هو استخدام العلوم الطبيعية، كالرياضيات وعلوم الفيزياء والفلك والطب وغيرها من العلوم الحديثة في تفسير آيات القرآن الكريم، وعدم الاكتفاء باللغة والبلاغة والعلوم الشرعية.
والذي يظهر أن التفسير العلمي بحسب الإطلاق، أكثر عموماً من الإعجاز العلمي، فكل إعجاز علمي هو من قبيل التفسير العلمي دون العكس، أي أن الإعجاز العلمي نوع من التفسير العلمي لكنه أكثر خصوصاً، هذا من حيث العلاقة بينهما، أما من حيث وضعهما كمصطلحين، فيمكن أن نفرق بينهما بما يأتي:
1. الإعجاز العلمي خاص بما يتعلق بالتوفيق بين الحقائق الشرعية والحقائق الكونية، و التفسير العلمي يتناول النظريات والإشارات الضمنية([20]).
2. الإعجاز العلمي والتفسير العلمي مختلف فيهما بين أهل التفسير، لكن الذين يقولون بالإعجاز العلمي أكثر من الذين يمنعونه، مثل الشيخ محمود شاكر والدكتور محمد لطفي الصباغ والدكتور عدنان زرزور.
3. التفسير العلمي -إذا لم تراع ضوابطه وشروطه- يكون سببا في وقوع الخطأ في فهم كتاب الله تعالى لسعة مجاله، ولذا فإن كثيرا من الباحثين المعاصرين انحرفوا عن الصواب فوقعوا في أخطاء شنيعة عندما حاولوا ربط فهمهم للوحي بنظريات وفروض خاطئة([21]).
أما الإعجاز العلمي في القرآن و السنة فهو أوضح من ذلك وأبعد، والخطأ فيه أقل؛ إذ إنه غالبا ما يكون في عدم الربط بين الحقيقة الشرعية والكونية([22]).
وينبغي أن ننبه في هذا المقام إلى موقف من يعترض على استخدام مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم كمسمىً ولفظ، ولا يلغي الحقائق العلمية في القرآن الكريم، بل يرى أنه يجب تقديمها للناس باعتبارها أدلة على أن القرآن كلام الله، كما سنوضح إن شاء الله.
الإعجاز العلمي:
هو إخبار القرآن الكريم أو إشارة السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن النبي أو زمن الصحابة([23]).
ووصف الإعجاز أنه علمي نسبة إلى العلم، والعلم يطلق ويراد به معنيان: الأول: التصديق الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل، كالعلوم التجريبية. الثاني: صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما، أو إدراك الأشياء على حقيقتها)[24]) وتصورها ومعرفتها باعتبارها علماً.
فعلم الإعجاز أو الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: يقوم على دراسة جملة من المسائل المنضبطة المحررة التي تدرس موضوعات معينة متميزة.
بمعنى آخر: علم يضم أيضا مجموعة من المباحث تحت اسم مشترك. وهذه الموضوعات منها ما يتعلق بالإعجاز النفسي ومنها ما يتعلق بالإعجاز الكوني والطبي، ومنها ما يتعلق بالإعجاز التشريعي والإعجاز التأثيري والإعجاز التاريخي والإعجاز التربوي...إلخ، والإعجاز البياني هو القالب الذي تصب فيه كل أنواع الإعجاز.
والإعجاز العلمي يضم مجموعة من المباحث والموضوعات التي تتعلق بالآيات والأحاديث التي تشير إلى الكون بطبيعته السماوية والأرضية بأحيائه وجماداته، وعناصره وظواهره والسنن الربانية التي تحكم ذلك كله.
ولقد أجاد وأفاد الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي بما اشتمل عليه من بيان لمقاصد القرآن وموضوعاته العلمية المعجزة، وبما اشتمل عليه من الحديث عن تجديد التحدي بتعاليم الوحي، وما كان لهذه الموضوعات من تأثير بالغ في بناء الفكر وتوجيه المعرفة، وتكوين العقلية العلمية، التي تبني الأمم وتنشئ الحضارات.
تأصيل وظيفة الإعجاز العلمي بوصفه علماً:
إن تأصيل مفهوم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في هذا العصر يعتبر من فقه الأولويات. ونقصد بالتأصيل بصفة عامة: عملية إعادة بناء العلوم والمعارف والموضوعات الحديثة في ضوء التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، بعد نقضها في ضوء الكتاب والسنة واستثمار ما ثبت صحته منها([25]).
وهو يشكل في نظرنا، إعادة توجيه وتشكيل للعلوم الطبيعية التي تعنى بالظاهرات الطبيعية والإنسانية في مجالها الكوني كله، التي تتجاهل الغيب وتتناسى الإيمان، وربطها بالله سبحانه وتعالى، فوظيفة علم الإعجاز ومهمته، أنه يتكفل باستخلاص المضامين العلمية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويبحث مستجدات العلم ومكتشفاته التي أخبر الله عنها وعن حقائقها وعن وقوعها، وتنظيمها ووضعها في أطر كلية متكاملة للربط بين العلم والإيمان، والعقل والنقل والربط بين النص والواقع الذي وصلت إليه الحقائق والكشوفات العلمية الجديدة.
ونحن بهذه التصورات للإعجاز العلمي، ندعو إلى تفعيل هذا العلم والانتقال به من النظرية إلى التطبيق، وإبرازه في الدراسات الجامعية، واستثماره في شتى المجالات العلمية والعملية. وهذا العلم الذي يتجدد في هذا الزمان، نتمنى أن يكون له أقسامه وتخصصاته ورجالاته المتميزون، لأن كل علم يعرف برجاله وموضوعاته التي تميزه عن غيره من العلوم الأخرى. وإن استمرار أبحاث هذا العلم وتطور موضوعاته، كفيل بعون الله تعالى بإظهار معجزة القرآن العلمية وتجديدها، واستمرار سطوعها، وازدياد آثارها في النفوس، ونفاذها إلى القلوب، لترسيخ اليقين بعظمة الله وقدرته، والتوكيد على أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله ليبقى حجة على الناس كافة إلى يوم الدين، وليبقى العلم والإيمان في صحبة مؤنسة والوشيجة بينهما واحدة.
رابعا: أوجه الإعجاز العلمي وصوره في القرآن الكريم.
تتعدد أوجه الإعجاز وصوره ومجالاته وميادينه في كتاب الله، التي يعجز البشر عن الإتيان بشيء مثلها، بتعدد الزوايا التي ينظر من خلالها الباحثون، إلى كتاب الله تعالى، على اختلاف تخصصاتهم.
ولقد شاع مصطلح الإعجاز العلمي في عصرنا للدلالة على أوجه الإعجاز كلها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي كشفت عنها العلوم الكونية والتربوية والنفسية والاجتماعية والعلوم التجريبية التي انبثقت في هذا العصر.
فموضوع إعجاز القرآن الكريم ليس له نهاية، وفي كل يوم فيه جديد، وأوجه إعجازه ومعجزاته العلمية تظهر لأهل العلم على تنوع مشاربهم وميادين تخصصاتهم وأبحاثهم، وهي ظاهرة في نظمه ولفظه وبيانه ودلالاته، وفي مضمونه ومحتواه وفي كل حرف من حروفه وكل كلمة من كلماته، وكل آية من آياته، وهي ظاهرة في إخباره عن الأولين وفي أنبائه بحوادث التاريخ واستشراف المستقبل وحكم التشريع، وسنن الله في الأنفس والآفاق وفيما نعلم وما لا نعلم. ولقد اجتمع في القرآن الكريم من الآيات ما لم يجتمع في غيره، فهو الدعوة والحجة والبينة، والدليل والمدلول، والشاهد والمشهود..
ولقد اقتصر التأليف في الإعجاز قديما على الإعجاز البياني لاعتبارات كثيرة، منها كونه اللواء والوعاء الذي يحمل كل أنواع الإعجاز. وقد أفاض المتحدثون عن أوجه الإعجاز في كتاب الله، فكان منهم من رأى ذلك في جمال بيانه وكمال بلاغته ودقة نظمه، وروعة معانيه وشمولها واتساقها ودقة صياغتها، وقدرتها على مخاطبة الناس على اختلاف مداركهم وأزمانهم، ومنهم من أدرك أن أوجه إعجازه في كمال تشريعه ومنهجه العلمي والتربوي وخطابه النفسي وإنبائه بالغيب وإشاراته العديدة للكون بعناصره وظواهره وسننه التي تحكم ذلك كله، وإلى الإنسان ومراحل خلقه. ومن العلماء من يرى أن إعجاز القرآن الكريم في تلك الوجوه كلها، وفي غيرها مما يقصر الحديث عنه([26]).
وهناك أقوال ومنازعات كثيرة للعلماء من أهل النظر في هذا الموضوع، لا يتسع المقام لبيانها، نذكر منها نموذجا من كلام الخطابي، فما لا يدرك كله لا يترك جله، حيث يشير إلى ما قيل في شأن وجه إعجاز القرآن من أقوال مناقشا لها، ومنها:
أولا: إن العلة في إعجازه الصرفة([27]). ثانيا: ما تضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان. ثالثا: صنيعته في القلوب وتأثيره في النفوس، ومثل له بقصة عتبة بن ربيعة وإسلام عمر رضي الله عنه. رابعا: رأي الأكثرية من أهل النظر أن إعجازه من جهة البلاغة.
ثم بين أن القرآن نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة... ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه([28]).
ثم وضح رأيه فقال: إنما يقوم الكلام على أشياء ثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم.
ثم قرر أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني.
ثم قال: وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ، أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا، وأشد تشاكلا من نظمه([29]).
فالقرآن الكريم معجز في فصاحته وبلاغته وأسلوبه وفي تفاصيله وجزئياته، ومعجز في كمال رسالته، وفي مجموع العقائد التي يدعو إلى الإيمان بها، وفي مجموع العبادات التي أمر بأدائها، ومجموع موضوعاته. ومعجز في دستوره الأخلاقي الذي ينفرد به، وفي كل تشريع من تشريعاته الناطقة بدقتها وعدلها وشموليتها، وما أشار إليه من سنن هادية وسنن بانية. فما أحرانا أن نكون على مستوى قرآننا وعلى مستوى عصرنا وديننا لإظهار ما في كتاب الله تعالى من جواهر الإعجاز وكنوز المعجزات، ونزيد من سطوعا ومن نوره نوراً على نور، ونزداد إيمانا مع إيماننا، فهذا زمان العلوم وهذا زمان ظهور الإسلام دين العلم والمستقبل، وهذا هو العصر الذهبي للإسلام إذا استطعنا أن نستثمر تقنيات العلم ومعطياته وتوظيفها في خدمة الإسلام والكشف عن أطياف الآيات الكونية وأمواجها، والدخول إلى مواقعها العلمية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذا يمكننا أن نجمل ميادين الإعجاز العلمي ومجالاته في نقاط تتمثل فيما يلي:
في التوافق الدقيق بين ما في نصوص الكتاب والسنة، وبين ما كشفه العلماء من حقائق كونية وأسرار علمية، لم يكن في إمكان بشر أن يعرفها وقت نزول القرآن مثل مطابقة علم الأجنة لما جاء في القرآن والسنة.
سنن التشريعات الحكيمة، التي قد تخفى حكمتها على الناس وقت نزول القرآن، وتكشفها أبحاث العلماء في شتى المجالات، مثل ما كشفه العلم حديثا من حكم تحريم أكل الخنزير وغير ذلك.
في عدم الصدام بين نصوص الوحي القاطعة التي تصف الكون وأسراره على كثرتها، وبين الحقائق العلمية المكتشفة على وفرتها.
أما ميادين أبحاث الإعجاز العلمي، فإن كل موضوع تحدث عنه القرآن والسنة، في أي مجال من مجالات العلم التي ظهرت حقيقتها، والتي لا يمكن نسبة خبرها الذي جاء به الوحي إلا إلى الله، هو ميدان من ميادين أبحاث الإعجاز العلمي، الذي كشفت عنه العلوم الحديثة. وميادينه حسب هذا الفهم، هي الميادين والمجالات الكونية التي جاء ذكرها أو الإشارة إليها في القرآن والسنة، وتمكن العلم البشري من معرفة أسرارها، إلى جانب الميادين التي يحتاجها الباحث لتفسير النصوص الشرعية تفسيرا صحيحا لا شطط فيه([30]).
وأبرز ما يمثل هذا الفريق من المتأخرين، الشيخ محمود شلتوت والأستاذ سيد قطب والدكتور محمد حسين الذهبي والدكتور عبد الله دراز في بعض آرائهم، ولعل الذي دفعهم للتضييق، هو ردهم لتيار العابثين وموجة المتعسفين التي كانت حادة في زمنهم، التي ركبها دعاة التجديد والعصرنة والتغريب، الذين أعجبوا بكل ما يأتي من الغرب من علوم واكتشافات حديثة، خيرا كانت أو شرا وما يحمد منها أو يعاب، لاسيما وأنه من الواضح أن هناك صلة بين ظهور التفسير العلمي الحديث وبين بداية تأثير الغرب على العالمين العربي والإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين أصبحت كثير من أراضي المسلمين تحت الحكم الأوروبي، وانبهر المغلوب بالغالب/ فأخذ هذا التيار يفسر النصوص القرآنية ويؤولوها على غير هدى من هواه، فكان التشدد الموجه إليهم نابعا-آنذاك- من شدة التصدي لتيارهم العابث والرد على منهجهم المنحرف، باعتبار أن لكل مقام مقال ولكل فعل رد فعل ولكل حادثة حديث، والذي يراجع كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين بأجزائه الأربعة للشيخ مصطفى صبري - رحمه الله –
يدرك حجم هذه القضية وأبعادها، وقد كان موقف هذا الفريق من العلماء من أصحاب هذا الاتجاه، أقرب إلى الحيطة والاحتراس، منعا لهم من التمادي والاندفاع في هذا السبيل أو الإفراط والمبالغة فيه، ولم يكن المنع والتشدد والتضييق في موقفهم هذا على إطلاقه، وخصوصا إذا جاء هذا التفسير من العقلاء والمتخصصين والكتابات الناضجة، وتمت فيه، مراعاة الأصول والضوابط الشرعية. فلابد إذا لفهم هذا الفريق من العلماء، واستيعاب أقوالهم على أصولها، من الاحتكام إلى العوامل المتعددة التي أفرزت آراءهم، ووضع الوقائع في بيئتها الصحيحة، بنظرة شمولية متوازنة متكاملة.
أما الصورة في هذه الأيام فقد اختلفت في مواقفها وأبعادها عند البعض، فخرجت في بعض صورها من دائرة الحيطة والاحتراس إلى التضييق والمنع من غير توازن ولا تفاهم، من باب من جهل شيئاً عاداه.
وبمراعاة هذه الميادين والمجالات، وإظهار ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله من وجوه الإعجاز العلمي تستمر إشراقات القرآن والسنة، ويستمر البناء العلمي والعطاء القرآني والنبوي، ويتم الانسجام والتناغم والتوافق بين الآيات القرآنية والحقائق الكونية، وبين كتاب الله المسطور وكتابه المنظور، وتنشأ البحوث والدراسات، وتوجد العقليات العلمية التي تبني الأمم وتقيم الحضارات.
المطلب الثاني
مواقف العلماء من الكشوفات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم
لقد تنوعت مواقف المفسرين في عصرنا الحاضر حول جواز التفسير العلمي للقرآن الكريم وما يتعلق به من مسائل مثل التوفيق بين الكشوفات الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم، أو تفسير الإشارات الكونية في القرآن الكريم في ضوء العلوم والمعارف العصرية. كما تنوع الخلاف حول استعمال مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وما به من محاذير، وطال الحوار والنقاش حول هذه القضايا، وتفاوتت مواقف العلماء فيها ما بين مانعين مضيقين، ومجيزين موسعين، ومجيزين متوسطين معتدلين، وهو ما سنحاول بيانه في المسائل والقضايا التالية:
القضية الأولى: التفسير العلمي ومسألة التوفيق بين الكشوفات الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم، وموقف العلماء منها:
أولا: فريق المانعين.
يرى أصحاب هذا الموقف([31]) أن هذا اللون من التفسير هو نوع من التفسير بالرأي الذي لا يجوز، وأنه خروج بالقرآن عن الهدف الذي من أجله أنزل، وإقحام له في مجال متروك للعقل البشري يجرب فيه ويصيب ويخطئ، واعتبر هذا الفريق أن المنهج العلمي في التفسير جنوحٌ إلى الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم على غير مقاصدها التشريعية والإيمانية، استنادا إلى القول بأن القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها، ولا أسماء الكائنات وصفاتها، وإنما هو في الأصل كتاب هداية.
أدلة المانعين وحججهم:
أن ربط حقائـق القرآن الثابتة المطلقة بالنظريات
العلمية المتغيرة، يؤدي ذلك إلى اضطراب ثقة الناس بالقرآن الكريم، ويعرض القرآن الكريم للدوران مع مسائل العلوم التي لا تعرف الثبات، ويرون أن ما يسمى بحقائق العلم، ليست سوى نظريات وفروض متغيرة غير ثابتة يبطل منها اليوم ما كان سائدا بالأمس، وربما يبطل في الغد ما هو سائد اليوم، وقد يدفع التفسير العلمي بعض أصحابه المتحمسين والمغرورين به إلى المبالغة والمغالاة وإدخال كل شيء تحت خيمة التفسير العلمي، ومن ثَمَّإلى التأويل المتكلف لدلالات النص القرآني، وتحميل الآيات من المعاني ما لا تحتمله، بحيث يخرج التفسير العلمي إلى الشطط الذي يتنافى مع مكانة القرآن وطبيعته ولا يستسيغه الذوق السليم.
من المبررات التي يستند إليها أصحاب هذا الموقف قوله عليه الصلاة والسلام: (من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ) وفي رواية (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)([32])، وإلى ما ورد على لسان بعض الصحابة مثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (...أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)([33]).
أن القرآن الكريم نزل كتاب هداية ربانية، كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، ولم ينزله الله ليكون كتابا يتحدث فيه الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون، والإشارات العلمية التي وردت فيه جاءت في مقام الإرشاد والموعظة، لا في مقام البيان العلمي التجريبي، وذلك بهدف توجيه الإنسان إلى التدبر والتفكر، وإمعان النظر في خلق الله، لا بهدف الإخبار العلمي المباشر.
مناقشة الأدلة:
وفيما يلي نوجز مناقشة هذه الأدلة وتقريب وجهات النظر فيها إلى الصواب، لتجاوز الخلاف إلى ما هو أفضل وأكمل، للوصول إلى ما عليه العمل والفهم الجماعي والجماهيري من أهل العلم والعقلاء والهيئات والمؤسسات المتخصصة في هذا المجال)[34]).
الحجة الأولى:
أما قولهم إن التفسير العلمي تفسير بالرأي، فإن المقصود بالرأي في الحديث هو(الهوى) لا الرأي المنطقي القائم على البرهان والحجة الواضحة، وأن ما ورد على لسان بعض الصحابة مما يوحي بالتحرج من القول في القرآن الكريم بالرأي والاجتهاد، إنما هو من قبيل الورع والتأدب في الحديث عن كلام الله، وبخاصة أنهم كانوا قد فطروا على فهم اللغة العربية وفهم أسرارها، وعايشوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأسباب النزول، فهل يمكن لمن توافر له كل ذلك أن يكون له مجال للاجتهاد بالرأي؟؟ّ إضافة إلى ذلك فإن التفسير بالمأثور لم يشمل القرآن كله، والمنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه، ولحكمة يعلمها الله /وقد ندرك طرفا منها اليوم - لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام - بالتنصيص على المراد من كل آية من آيات القرآن الكريم، ثم أنه من الثابت أن الصحابة الكرام كانوا يجتهدون في فهم ما لم ينص عليه، وكانوا يختلفون في ذلك ويتفقون، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصوب بعض آرائهم)[35]). وقد دعا لابن عباس بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل")[36])، ومن المعلوم أن فهم آيات القرآن، والمحاولات الجادة لتدبر معانيه ضرورة تكليفية يقررها الحق عز وجل بقوله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)ص/ 29، وهذا التدبر يتسع باستمرار باتساع دائرة المعرفة الإنسانية واستمرارها.
وقد شاء الله جل جلاله أن يَكِل الناس إلى أمور الكشف عن حقائق هذا الكون إلى جهودهم وتجاربهم جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر. ومن هنا جاءت الإشارات الكونية في القرآن الكريم بصيغة مجملة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني، وتظل المعاني تتسع في تكامل لا يعرف التضاد.
الحجة الثانية:
قولهم إن القرآن كتاب هداية، فهذا أمر مسلم به، والكل متفق على أن الهدف الأساسي للقرآن الكريم هو تبصير الناس بطريق الهداية، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)الإسراء/ 9، ولكن مع اعتقادنا بأن القرآن العظيم كتاب هداية وإرشاد وليس كتاب طبيعة أو هندسة أو طب أو فلك...، فإنه في الوقت ذاته لم يخل من الحديث عن سنن الكون وحقائق العلم التي اكتشفها العلم الحديث، وأن نظرة سريعة إلى القرآن الكريم لتؤيد لنا كثرة هذه الآيات التي تحدثت عن هذه الحقائق، والتي قدرها بعض الباحثين بسدس القرآن([37]). ومع اعتقادنا بأن القرآن كتاب هداية فإن الدعوة إليها جاءت بأساليب متنوعة، نظرا لاختلاف مشارب الناس في هدايتهم واختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، في قناعاتهم واقتناعهم، فالهداية والقناعة عند كثير من الناس تزداد وتتعمق بربط الآيات القرآنية بالحقائق العلمية، والأمثلة الحية تثير في النفس قدرا كبيرا من الاستحسان والإعجاب والقناعة. ولهذا جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثال وقواعد الخطاب ما يناسب جميع الشرائح الاجتماعية ويعم مختلف العصور والبيئات إلى يوم القيامة (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا)الإسراء/ 89.
وإذا أدركنا هدف القرآن ومنهجه في الخطاب الدعوي- الخطاب الإيماني والخطاب العالمي-أدركنا أن ورود الآيات الكونية المتعلقة بالأنفس والآفاق أمر بدهي، لأن بعض الناس ينصب جل اهتمامه على هذا الجانب، وقد يكون من العسير عليهم أن يتذوقوا الجمال البياني ويدركوا فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم يدركون عن طريق هذه الحقائق الكونية والمعارف الإنسانية التي سبق القرآن الحديث عنها، أن القرآن من عند الله، فيذعنون لصدقه وتخبت له قلوبهم([38]) لأنه لا يتصور أن هذه الحقائق يدركها بشر من ذاته، لأن كثيرا منها لم يكتشف إلا في عصور متأخرة بعد التقدم العلمي، وبعد اختراع الأجهزة التي لم يكن للسابقين عهداً بها، ومن ثم يتضح بكل جلاء أن ورود هذه الحقائق المهمة في الوقت ذاته على لسان رجل أمي، لم تكن معروفة في زمانه، لتؤكد لهم أنه تلقاها من لدن عليم خبير (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)الفرقان/ 6.
وكتب التفاسير التي تعد بآلاف المجلدات باختلافها واتفاقها تشهد بكثرة البراهين والحقائق العلمية التي تحيط بها ألفاظ القرآن الكريم ونصوصه الجامعة، التي تتابع في ظهورها جيلا بعد جيل، وقد ذكر-على سبيل المثال- الشيخ محمد رشيد رضا أمثلة متعددة على اشتمال القرآن الكريم على الهداية والإرشاد واحتوائه في الوقت ذاته على أصول الإعجاز بكل وجوهها)[39]) ثم ختم قائلا: "فكتاب الله تعالى مظهر لقوله سبحانه: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرحمن/ 29، وقوله عز وجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)النمل/ 89.
وقد أشار إلى مثل ذلك الطاهر بن عاشور في تفسيره([40]).
الحجة الثالثة:
قولهم أن الربط بين حقائق القرآن الثابتة المطلقة بالنظريات العلمية المتغيرة يؤدي إلى اضطراب الثقة بالقرآن واهتزازها، فهذه حجة فيها نظر، لأن الربط يجب أن يكون بين الحقائق العلمية والاكتشافات الصحيحة الثابتة وبين صريح القرآن الكريم، ومن المستحيل أن يكون هناك تعارض بين صريح المعقول وصحيح المنقول، وقد قرر ابن تيمية أنه لابد من توافق الصريح في كل علوم العقل مع الصحيح من كل أقوال النقل، وإذا حدث تعارض فهذا يعني أحد أمرين: إما أن العلم العقلي غير صريح فهو ليس علما بل هو ظنون غير متيقن منها، وإما أن القول المنقول ليس ثابتا فهو ليس من الإسلام([41]).
وقد تكون هناك محاولات خاطئة لفهم آيات من كتاب الله، فإن هذه الأخطاء تعود إلى المفسر نفسه ولا تنسحب على كلام الله أبدا، ولا تنال من قداسته، فالذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا وكذلك الذين فسروا بالتاريخ... ويبقى التفسير جهدا بشريا منسوبا لصاحبه بكل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال، وإذا كان عدد من الذين اجتهدوا في تفسير الآيات قد جاوزوا الصواب، فإن أعدادا أوفر وفقت إليه.
ويمكننا القول أيضا أن كل ما كشف الخطأ عنه وأنه من التعسف في تفسير النصوص، والتكلف في فهمها يبقى في دائرة الفرضيات والمحاولات الشخصية التي تتلاشى بما هو أقوى منها، لأن البقاء للأصلح، وحسبنا، وما صح من هذه التفسيرات وثبت أنه حق، يصبح في عداد الحقائق العلمية الثابتة والتفسيرات المستقرة، التي تزيد القرآن انكشافا والحقيقة استمرارا، وبهذا لا نضيف متسعا في هذه المسألة.
وأن ما نشأ هذا اليوم من التطابق العجيب والتوافق المدهش للعقول بين النص القرآني وبين الحقائق والمكتشفات العلمية الحديثة الصحيحة الناتجة عن بحوث المتخصصين المتلاحقة في مختلف حقول المعرفة، لا يمكن أن يكون صدفة، بل يؤكد معجزة القرآن الخالدة وإعجازه المتجدد في كل زمان، ويكشف واقعيا وعمليا وتطبيقيا عن توافق حقائق الغيب الصحيح مع حقائق العلم الصحيح، وهذا دليل قاطع على أن التفكير الديني الصحيح لا يتعارض مع التفكير العلمي الصحيح، وأن غيب الدين الصحيح يختلف عن غيب الأساطير التي تقوم على الخيال والأوهام والظنون، أو غيب الديانات المحرفة، مع كون الجميع غيباً([42]).
وعندما يري الله تعالى عباده آية من آياته في الأنفس والآفاق، مصدقة لآية في كتابه الكريم، يتضح بها المعنى، وتتحدد بها دلالات ألفاظ النصوص بما كشف من حقائق علمية ثابتة، فهذا هو الإعجاز الذي لا يمكن مجاراته، والذي يعجز الناس أن يأتوا بمثله، فكيف يقال أن الربط بين حقائق القرآن والنظريات العلمية يؤدي إلى اضطراب الثقة بالقرآن واهتزازها؟!
أما قولهم إن التفسير العلمي يحمل أصحابه المندفعين إلى التأويل المتكلف للنصوص، فنقول قد وضع العلماء لهذا الأمر ضوابط تحدد مسار هذا التفسير وبحوث الإعجاز فيه، وفق الأصول الشرعية التي تبعدها عن الاستطراد والارتجالية، كما سنبين ذلك بعون الله.
ثانيا: فريق الغلاة الموسعين الذين تجاوزوا الحد.
وهذا الفريق من الغلاة يضم مزيجا وخليطا من الألوان والاتجاهات المختلفة للتفسير العلمي للقرآن الكريم، وألواناً من صور الإعجاز المتنوعة، التي تتميز بنزعة التلفيق والإفراط وتجاوز القصد كما أنها تتعارض مع طبيعة القرآن، ولاشك أن الغلو في كل شيء يفسده، وفيما يلي بيان لبعض هذه الآراء والأفكار، والرد عليها.
أ. يتمثل في هذا الفريق لون من الذين بالغوا في النزعة العلمية، وقصروا الإعجاز على الإعجاز العلمي، ووضعوا كل جهودهم في التركيز عليه، وتوسعوا في صوره ووجوهه المعاصرة. بحماس غير محمود وأقوال غير صحيحة. ويرى هذا القسم من هذا الفريق أن الإشارات الكونية في القرآن الكريم، قد قصدت لذاتها، مع تسليمهم للوصول إلى الهداية عن طريقها، وانطلاقا من ذلك فقد قام أصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله، وتصنيفها حسب التقسيمات المعروفة للعلوم الطبيعية على اختلاف أنواعها، ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الاتجاه، إلى المناداة بأن القرآن الكريم يشتمل على جميع العلوم والمعارف، ولابد لفهم الإشارات الكونية في القرآن من تفسيرها في ضوء المصطلحات والمعارف العصرية، ثم زاد حماس البعض إلى القول أن جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية التي استكشفها الإنسان واستخلصها اليوم، هي موجودة في القرآن الكريم، استنادا إلى قوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)الأنعام/ 38، وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) النحل/ 89.
وعلى الرغم من حماس هذا القسم من هذا الفريق، وصدق مشاعره إلا أن جرأتهم الزائدة، أدت إلى دراسات غير محمودة وإلى نتائج عكسية، جعلت كثيراً من الناس يحملون عليهم، مثل طنطاوي جوهري في بعض نظراته في تفسيره: جواهر القرآن، وتفسير كشف الأسرار لمحمد الاسكندراني، والتفسير العصري للقرآن للدكتور مصطفى محمود، والتفسير العلمي للآيات الكونية لحنفي أحمد نصري، ولا يخفى علينا كثير من الذين اشتطوا في المبالغة في هذا اللون من التفسير في كثير من المجلات، وقنوات الشبكات الإلكترونية في عصرنا الحاضر.
ولعل أصحاب هذا المنهج في تجاوزاتهم الغريبة، كانوا من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تحفظ البعض واحتراسهم من الدخول في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله تعالى على أساس من معطيات العلوم البحتة وتطبيقاتها، والحيطة في التعرض لإظهار جوانب الإعجاز فيها، حرصا على إبعاد القرآن الكريم عن التعسف في تأويل النصوص أو إخضاعه للنظريات المتقلبة.
ب. وظهر في دوائر هذا الفريق اتجاه آخر من الغلاة، جنحوا إلى الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم على غير مقاصدها التشريعية والإيمانية، فحاولوا إخضاع التفاسير لخدمة مذاهبهم واتجاهاتهم ومللهم ونحلهم، إما عن عمد واضح أو جهل فاضح، فجاؤوا بنماذج غريبة عجيبة، قد أفرزت نتاجا من التفسير لم يكن مستساغا ولا مقبولا لدى العلماء. مثل: أساس التأويل للمغربي الإسماعيلي، ومزاج التسنيم في تفسير القرآن الكريم لإسماعيل بن هبة الله الإسماعيلي، وعرائس البيان في حقائق القرآن للشيرازي وغير ذلك من أمثال هذه الكتب المملوءة بالتفسيرات الإشارية والتصورات الباطنية والتحريف لمعاني القرآن([43]).
ج. ونرى في هذا الفريق صورا أخرى من الغلاة، وقسماً آخر، وهم الذين كتبوا في الإعجاز العددي، وإن كان لبعض مؤلفاتهم قوة في النظر والاستدلال وتسلسل في المنطق، إلا أن البعض الآخر أفرط وتجاوز الصواب فيه، فوظفوا الأعداد والأرقام التي لها علاقات ببعض الآيات القرآنية في تأويلات غريبة وآراء شاذة. مثل: محمد رشاد خليفة في كتابه عليه تسعة عشر، ودلالات جديدة في القرآن الكريم، وفريد قبطني في كتابه طلوع الشمس من مغربها، والدكتور عبد الله البلتجاجي في كتابه سر الوجود والرقم 19، وعبد الكريم الخطيب في كتابه أسرار معجزة القرآن، وعاطف صليبي في كتابه أسرع الحاسبين، والدكتور مأمون أبو خضر في سلسلة كتبه بدأ العد التنازلي، والدكتور خالد العبيدي في كتابه المنظار الهندسي للقرآن الكريم، وغير ذلك..، ومعظم الذين كتبوا في الإعجاز العددي غير متخصصين في الشريعة، وأكثر الذين وقعوا في الأخطاء منهم، وجد منهم من كان راغبا في الخير وخدمة كتاب الله تعالى، ومن كان مستور الحال غير معلوم التوجه والقصد، ومن كان سيء النية خبيث القصد مثل محمد رشاد خليفة. وينبغي أن يلاحظ أن معظم الذين ألفوا في هذا الجانب، قد وقعوا في عدد من الأخطاء التي تتفاوت في خطورتها، لذا ينبغي الحذر عند التعامل مع هذه المؤلفات، والتيقن من صدق النية وصحة التوجه، ووجود العلم الشرعي الكافي الذي يعصم من الوقوع في الزلل عند مؤلفيها، دون اغترار بما تحمله من العناوين والمضامين من عبارات براقة جذابة([44]).
ورغم التسليم بوجود تناسق وتكامل وتوافق رائع وتناغم وانسجام معجز بين الأعداد والأرقام وبعض الآيات ودلالاتها في القرآن الكريم، لكنهم بالغوا في التأويلات البعيدة، وفي تحميل الألفاظ والأرقام أكثر مما تحتمل في حساب الجمل، لاستخراج إشارات ومعان للآيات، والتوصل إلى أقوال غريبة ومعلومات غيبية مستقبلية، والزعم أن هذا إعجاز، وأن هذا اكتشاف لأسرار القرآن الكريم، دون التزام بمنهج علمي صحيح يراعي الضوابط والقواعد في هذا التفسير([45]).
ولهذا فإن المبالغة في تقديس الأرقام، والاعتداد بنتائجها، وأنها من أعظم وجوه الإعجاز على الإطلاق، أمر غير جائز، وأن بعض الذين شغلوا أنفسهم في هذا المجال بعمليات حسابية معقدة، ورهق فكري، قد أتعبوا أنفسهم سنين عديدة في بحوث كانت طويلة الذيل قليلة النيل، وصلوا من خلالها إلى آراء تفسيرية غير مقبولة، وكذلك فإن استخدام حساب الجمل لاستخراج معلومات ودلالات وإشارات ومعان غيبية، هو أمر غير صحيح، لأن فيه تحميلاً للنص أكثر مما ينبغي، ولئن جاز استعمال هذا الحساب في الآداب والشعر والتاريخ، فلا يجوز استخدامه في التفسير والإعجاز، وبخاصة إذا كان قائما على الهوى والرأي والاستقلال المذموم، والخطأ في منهج النظر في القرآن، والدخول إليه بمقررات فكرية سابقة وتصورات ضالة وأهداف ومقاصد غير سليمة يراد تحقيقها([46]).
أما الذين كانت لهم محاولات وكتابات جادة في الإعجاز العددي، وكانت لمؤلفاتهم قوة في النظر والاستدلال، فتعتبر جهودهم في هذا الميدان، وجها من وجوه الإعجاز العلمي بمعناه الواسع، فقد أبانت جهودهم بحق، عن هذا التوافق والانسجام، وكشفت النقاب عن كثير من المسائل في هذا الموضوع، وقدمت أدلة قوية أخرى على أن كلام الله تعالى محفوظ من التبديل والتغيير على مر العصور، ولذا فإن التحسس أو التحفظ من استعمال مصطلح الإعجاز العلمي أو الإعجاز العددي واستبداله بمصطلح الدلائل العلمية أو التوافق أو التناسب العددي في القرآن الكريم، واعتباره في نظر البعض ذا منهج أضبط وأسلم، حتى لا يتوسع الناس في الأخطاء فيه،- فإنه وإن كان لهذا الرأي اعتباره ووجهته من حيث تحرير الألفاظ... - إلا أن استعمال مصطلح الإعجاز العلمي أو العددي في تقديري منهج أرجح وأمثل، وذلك لما تقتضيه المستجدات وما يحقق من أهداف، وما له من أثر في الحياة العلمية والدراسات المتخصصة، والمستقبل العلمي كفيل بتحقيق النتائج الصحيحة وتصويب الصواب، وتجاوز الأخطاء وترجيح الأفكار الراجحة والبقاء للأصلح كما يقال.
من الذين نحوا منحى معتدلا في هذا المجال وكان في كتاباتهم لطائف معقولة مقبولة، وفيها توافقات لبعض الأرقام دون مبالغة، ما كتبه الدكتور صلاح الخالدي تحت عنوان "التناسق العددي في البيان القرآني" في كتابه إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني من 328/337، والدكتور أحمد نوفل في تفسير سورة القصص، والدكتور عبد الرزاق نوفل في كتابه الإعجاز العددي للقرآن الكريم، ومعجزة الأرقام والترقيم في القرآن الكريم، وبديع الزمان النورسي في المكتوبات، ورضوان سعيد فقيه، في كتابه الكشوف في الإعجاز القرآني، وصدقي البيك في كتابه معجزة القرآن العددية، وهو من أجود من كتب في ذلك، وبسام جرار رغم ما له من التجاوزات إلا أن له بعض الموافقات المقبولة وبعض الكلام الجيد، والكمال لله وحده.
ثالثا: فريق المجيزين أصحاب الموقف المعتدل الوسط.
ويرى هذا الفريق بمنهجيته المتوازنة، أن التوفيق بين الاكتشافات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم، وأن التفسير العلمي للقرآن الكريم وكل وجوه الإعجاز الشائعة اليوم، التشريعي، والنفسي والتاريخي والتربوي...، تعتبر فتحا جديدا للفكر الإسلامي، وإثراء للمعرفة، وإعجازا متجددا لرسالة القرآن الخالدة وسطوعا لبيناته، وبابا من أبواب الدعوة إلى الله، ومدخلا لهداية الناس وتقوية لإيمانهم، إذا اتبعت فيه الخطوات المتزنة الثابتة لأهل العلم من هذا الفن، وابتعد فيه عن التكلف والتزمت فيه الشروط والضوابط التي تسد الباب أمام الأدعياء والمتسرعين.
ويرى هذا الفريق أن المنع والتضييق لمجال البحث في وجوه الإعجاز الشائعة اليوم، يؤدي إلى التفريط في كثير من الآيات وعدم إعطائها حقها من التدبر والدراسة، كما يؤدي إلى منع الدعاة من حمل سلاح، هو من أمضى الأسلحة في العصر الراهن، هذا السلاح الذي يترتب عليه كثير من الثمار والآثار مثل ترقية الإيمان المعرفي والعملي عند الناس، لطبيعة الحياة العلمية التي يعيشونها اليوم، وإقامة الحجة على المعاندين الذين اغتروا بما لديهم من العلم، وإثبات ربانية القرآن الكريم وصدق نبوة سيد المرسلين.
ومن أمثلة هذا الفريق، الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار، والشيخ الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير، وسيد قطب في الظلال حيث يشير إلى كثير من الحقائق القاطعة المذهلة في تفسيره لبعض الآيات الكونية، وكذلك الدكتور زغلول النجار رافع لواء هذا الاتجاه في سلسلة كتبه "من آيات الإعجاز العلمي" التي تقع في سبعة أجزاء، الأرض في القرآن، الجبال في القرآن، النبات في القرآن، السماء في القرآن، وهكذا..، وكذلك الشيخ عبد المجيد الزنداني في رسائل تثبيت الإيمان، وفي سلسلة كتبه توحيد الخالق، وما صدر له عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مكة المكرمة، ويعتبر الشيخ الزنداني في هذا الباب أكثر دقة من غيره، وكلامه جيد مضمون منصف، لأنه ينطلق به من مجامع علمية يؤمن منها الخطأ والخلل، وكذلك الدكتور فضل عباس في كتابه إعجاز القرآن الكريم، والدكتور صلاح الخالدي في كتابه إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني، والدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر في كتابه هندسة النظام الكوني في القرآن الكريم، وكتابه "الظواهر الجغرافية بين العلم والإيمان"، ومعظم التفاسير المتخصصة المعاصرة قد أنصفت هذا الموضوع وانتصرت له.
من أدلة المعتدلين وحججهم.
1- حصر الإعجاز في الإعجاز البياني وتقيده بالتحدي فيه نوع من التضييق لأمر فيه متسع.
وهذه الحجة سنرجئ الحديث عنها الآن، لنبسط
القول فيها حين نتناول القضية الثانية بعد قليل.
2- الإعجاز فيه معنى التحدي بالمعنى الواسع لمفهوم التحدي والإعجاز. يرى هذا الفريق أن كون القرآن الكريم تحدى العرب بالإعجاز البياني فقط دون غيره، ليس معنى ذلك أنه لا يوجد إعجاز علمي ثانٍ أو أي إعجاز من نوع آخر، فالقرآن وإن لم يستعمل مصطلح الإعجاز العلمي فإنه لا يمنع من استعماله طالما أنه في دائرة المباحات، والمسألة تتسع له، والأمر يقتضيه باعتبار مراميه وفحوى آيات القرآن ودلالة معانيها.
والأمر لا يتعارض مع القرآن الكريم، بل يتناغم معه ويكشف عن معجزاته المخبوءة، لتظهر في كل عصر وحين، فأكثر الباحثين – مثلا- يركزون على استعمال (مقاصد الشريعة) مع أن القرآن لم يستخدم هذا المصطلح، ومع ذلك لم يقل أحد أنه لا يجوز استخدامه.
وكما لا يخفى على أحد، ما لمعرفة قواعد اللغة وأصولها، المتمثلة في الألفاظ وفهم دلالاتها ومعانيها، من أثر على تذوق بلاغة القرآن وفصاحته، ومالها من أثر في الكشف عن إعجاز آيات القرآن الكريم وفهم حكمها وأحكامها وبيانها وأسرارها وكذلك فإنه لا يخفى على أحد ما للتقدم العلمي والاكتشافات الحديثة من أثر بالغ في الكشف عن الإشارات الكونية في القرآن الكريم وما تنطوي عليه من إعجاز، وتفسيرها تفسيرا يزيد من فهمها واستقرار معانيها، ويظهر من وجوه إعجازها المتنوعة. إن الاكتشافات العلمية الحديثة، إذا كان رائدها علماء يتقون الله ويربطونها بالمقاصد والغايات الربانية، تعتبر بشرى ورحمة من الله، تبين عما في آيات القرآن من خير وتستخرج من جنانها ثمرات علمية شتى، وتستمطر بعون الله وتوفيقه ما تحمله هذه الآيات من مزن المعرفة، لتنبت من مائها للحياة البشرية والحضارة الإنسانية من كل زوج بهيج.
وأصحاب هذا الموقف لا يعتبرون وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إعجاز تحدٍ، بمعنى أن يأتي الناس بمثلها من حيث هي مكتشفات ومخترعات، فالمكتشفات والمخترعات ليست خارقة للعادة، ولكنها أمور كسبية لها قوانينها وسننها العامة المحايدة، ومن تعلمها وتفرغ لها حقق نتائجها. ولكن وجه التحدي والإعجاز العلمي في ما أشارت إليه الآيات القرآنية يكمن في أبعاد كثيرة من أهمها:
أ- سبق القرآن الكريم في الحديث عنها وعن حقائقها وقوانينها، والإشارة العلمية إليها قبل أن يعرفها أحد.
ب- توافق الحقائق القرآنية مع الحقائق الكونية، وموافقه صحيح منقولها لصحيح معقولها في مختلف التخصصات والتطبيقات، والاكتشافات الحديثة.
ج- من حيث كمالها وجمالها وإحكامها وحكمها، والسنن الربانية التي تحكمها، ومن حيث كشف الغيب عنها، فهي معجزة باعتبار الحال التي يتعذر به على البشر الإتيان بمثلها. وما تتميز به من تفرد معجز. وانظر إلى جانب الإعجاز العلمي، الذي فيه معنى التحدي والعجز، كم هو واضح هذا في قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) )الملك/ 1، 2، 3، أي مذعن، طائع، عاجز، منقاد، ذليل، خاضع، مستسلم... وغير ذلك من الألفاظ التي تحمل معنى التحدي والإعجاز والعجز، وتوصلنا إلى نتيجة واحدة، سواء عند من قال بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم أو نفى هذه التسمية، واعتبر موضوعها وما اشتمل عليه القرآن من حقائق علمية وكونية نوعا من الدلالات العملية.
وفي تقديري أننا لو اتفقنا على معنى التحدي بالمفهوم الواسع لمعنى التحدي والإعجاز، والذي يعني: تعذر البشر فصحاء وعلماء وعامة، الإتيان بمثل القرآن في أسلوبه البياني أو أخباره الغيبية أو أي من وجوه إعجازه الأخرى. فإن هذا المعنى يتسع للجميع، وعلى هذا فإنه ليس بلازم أن يرتبط تعريف أي وجه من وجوه الإعجاز بمفهوم التحدي، بقدر ما تؤكد على ارتباط التعريف بعجز البشر وضعفهم وتعذرهم عن الإتيان بأي وجه من جوه الإعجاز وصوره التي جاءت في القرآن الكريم.
وعلى هذا نستطيع أن نقول أن القرآن تحدى العرب خاصة، بالبيان لأنهم كانوا على مستوى التحدي وكان البيان لغتهم، والقرآن اليوم في عصر العلم يعجز الناس جميعا باللغة التي يفهمونها والزوايا والموضوعات التي تهمهم، وبخاصة الذين فرحوا واغتروا بما عندهم من العلم، وبهذا يكون مخزون الإعجاز البياني ومخزون الإعجاز العلمي، طريقين متوازيين في إثبات الحجة البالغة القاهرة للقرآن الكريم.
3- معجزة كل نبي كانت تنتهي بانتهاء عصرها، ومعجزة القرآن الكريم معجزة خالدة متجددة، والتحدي بها قائم بها على مدى الزمان([47]).
ولقد نال القرآن الكريم شرف هذا الخلود بما اشتمل عليه من براهين وصور الإعجاز ووجوهه التي لا تنتهي ولا تخلق على كثرة الرد، فمعجزة القرآن الكريم قضية أبدية خالدة، وليست تاريخية مؤقتة، والقرآن معجزة أبدية بكل ما يحتويه من صور الإعجاز، وما الإعجاز العلمي إلا من صور إعجازه الكثيرة وأن التحدي للإتيان بمثل القرآن وما اشتمل عليه من صور الإعجاز، ما يزال قائما منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، هذا إذا فهمنا التحدي والإعجاز بالمعنى الواسع الذي بيناه سابقا، والله أعلم.
وإن الإشارات العلمية والكونية في القرآن الكريم قد تم سردها في القرآن الكريم بصورة مجملة مراعاة لمقتضى الحال، وهذا بحق من أعظم صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وذلك لأن كل إشارة علمية وردت فيه قد صيغت صياغة فيها من إعجاز الإيجاز والإحكام في الدلالة والشمول والمعاني، مما يمكن للناس على اختلاف ثقافاتهم وتباين مستوياتهم وإدراكهم، وتتابع أجيالهم وأزمنتهم، أن يدركوا لها من المعاني ما يتناسب وهذه الخلفيات كلها، بحيث تبقى المعاني المستخلصة من الآيات، يكمل بعضها بعضا، في تناسق عجيب وتكامل لا يعرف التضاد، وهذا من أروع صور الإعجاز في كتاب الله عز وجل. فالإجمال في تلك الإشارات، مع وضوح الحقيقة العلمية للأجيال المتلاحقة، كل على قدر نصيبه وحظه من المعرفة بالكون وعلومه، هو بحق شيء فوق طاقة البشر وقدراتهم، وصورة من صور الإعجاز لم تتحقق ولا يمكن أن تتحقق لغير كلام الله جل جلاله، ومن هنا كان فهم الناس للإشارات العلمية الواردة في القرآن الكريم على ضوء ما يتجمع لديهم من معارف، فهما يزداد اتساعا وعمقا جيلا بعد جيل، وهذا في حد ذاته شهادة للقرآن الكريم بأنه "لا تنتهي عجائبه" ولا يبلى على كثرة الرد، كما وصفه عليه الصلاة والسلام.
وانظر ما أوضح هذا المعنى لمفهوم الإعجاز والعجز بمعناه الواسع، في كلمة "عجائب"! التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ما تأملنا في فقه الكلمة ودلالاتها اللغوية في القرآن الكريم)[48]). وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء، ويفتح للناس من هذا الفهم وهذا الإعجاز ومن طاقات نوره وخزائنه، ما يتناسب ومستوياتهم وأزمنتهم وحاجاتهم، وانظر إلى هذا المعنى ما أوضحه أيضا في قوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) البقرة/ 255.
القضية الثانية: الاختلاف في استعمال مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
لقد وقع الخلاف حول جواز استعمال مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فموقف الذين اعترضوا على استخدام هذا المصطلح يقوم على الحجج التالية:
أن مفهوم الإعجاز العلمي لا ينطبق عليه أركان المعجزة حسب التعريـف الذي اصطلـح عليه لمعنى
المعجزة التي ذكرناه.
تخصيصهم للإعجاز بالإعجاز البياني، واعتبارهم الوجوه الأخرى نوعاً من الدلالات على إعجاز القرآن الكريم، فالإعجاز في نظرهم أصله وموضوعه مقرون بالتحدي، والقرآن تحدى العرب فعجزوا عن ذلك، ولم يتحدَّهم بالعلم أو بأي وجه من وجوه الإعجاز الأخرى التي شاعت في هذا العصر، والتحدي العلمي لم يرد له ذكر في كتاب الله بالمعنى المعاصر والشائع اليوم، ولهذا رفضوا هذا المصطلح، ولم يعترفوا باستعماله.
ويرى أصحاب هذا الموقف أن الإعجاز في القرآن الكريم جاء وليد نسب القرآن الكريم إلى الله تعالى، وليس إلى تحليل الآيات وتعليلها، فإعجاز القرآن في نظرهم كلي وليس جزئياً، والقرآن معجزاً على الحقيقة لا على التعليل، والمعادلة عندهم أن القرآن معجز فهو كلام الله، وليس القرآن معجز لأنه كلام الله)[49])، والقرآن في نظرهم لا يحتاج إلى تأكيد، ولكنه مؤكد لغيره، فلا يجوز في نظرهم أن نؤكد على صحة عبارة أو لفظة قرآنية بقول شاعر أو بكلام عالم، فما دام القرآن من عند الله، فهو حجة على كل شيء وفوق كل شيء، هكذا فهموا القضية من زاوية واحدة اتفق عليها الجميع.
مناقشة الأدلة والحجج.
نظرا لأن كثيرا من هذه الآراء والأدلة قد تطرقنا إليها في ثنايا حديثنا فيما سبق من موضوعٍ ومسائل، فسوف نقتصر على مناقشة الحجتين الرئيستين والإجابة عنهما فيما يلي:
الحجة الأولى:
التي لا تميل إلى استخدام مصطلح الإعجاز العلمي لأنه لا ينطبق عليه تعريف المعجزة والإعجاز من حيث اللغة، والأركان التي يقوم عليها تعريف المعجزة.
فنقول وبالله التوفيق، أن ما اصطلح عليه من تعريف لمعنى المعجزة وليد التطور الكلامي لمفهوم المعجزة والإعجاز كما ذكرت: فهو مصطلح جديد على الفكر الإسلامي، وقد درج الاستعمال في خير القرون على استخدام مصطلح الآيات للدلالة على المعجزات، وهو المصطلح الذي أصَّله وأكده القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)الإسراء/ 101، كذلك استخدمت السنة المطهرة اللفظ نفسه، قال عليه الصلاة والسلام: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"([50]). فالتزام منهج القرآن والسنة في تأصيل المفاهيم والمصطلحات أولى في النظر، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية المصطلحات الجديدة وانسجامها مع مفاهيمنا، وعدم التضييق بها على تصوراتنا.
والمعجزة حسب التعريف الذي ذكرناه لها ثلاثة أركان:
الأول: حدث خارق للعادة. الثاني: تحدي الناس المعاصرين بهذا الأمر الخارق. الثالث: عجز الناس المعاصرين عن المعارضة.
ولو طبقنا مصطلح المعجزة على معجزات الأنبياء لوجدنا كثيرا من المعجزات لا تندرج تحت ذلك المصطلح بأركانه الثلاثة، ولو أخذنا سيدنا موسى عليه السلام كمثال على ذلك، فنجد أن هذا المصطلح بأركانه الثلاثة ينطبق فقط على معجزتين من المعجزات التسع وهما العصا واليد، فهما اللتان تحدى بهما موسى فرعون، وهما اللتان عجز الناس عن معارضتهما، قال تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) طه/ 17-24 .
أما المعجزات السبع المكملة للمعجزتين السابقتين، والتي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام والتي أشارت إليها آية الإسراء، فهي: الدم، والضفادع، والقمل، والجراد، والجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، فلم يقصد بها التحدي، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ)الأعراف/ 133 هذا مع العلم بأن الله تعالى أجرى على يدي موسى عليه السلام معجزات شق البحر لإهلاك فرعون وجنوده، ومعجزة إهلاك عدد من رجال بني إسرائيل ثم إحياؤهم، ومعجزة رفع الطور فوق بني إسرائيل، ومعجزة ضرب العصا في الأرض لتفجير اثنتي عشرة عينا من أجل أن تشرب أسباط بني إسرائيل، ودعوتهم إلى أخذ الميثاق بقوة، وقد وردت آيات متعددة عن تلك الوقائع في القرآن الكريم، ومن الواضح أن الله أجرى هذه المعجزات على يدي موسى لحكم متعددة منها: زيادة يقين بني إسرائيل بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وحضهم على تنفيذ تعليمات التوراة، وإجزال النعم عليهم من أجل تعميق إيمانهم بالله تعالى..الخ.
ولو طبقنا مصطلح المعجزة على ما أجراه الله تعالى على يدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لوجدناه ينطبق على معجزة واحدة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة القرآن الكريم حيث قال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)البقرة/ 23.
أما معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الأخرى الكثيرة من مثل الإسراء والمعراج وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين يديه، وتكثير الطعام القليل، وتكليمه الشجر والحجر..الخ، فلا ينطبق عليها مصطلح المعجزة، لأنها لم يقصد بها تحدي المدعوين، وإنما كانت لحكم متعددة أبرزها التسرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت المؤمنين وزيادة إيمانهم بدعوة الإسلام وزيادة يقينهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الحجة الثانية: تخصيصهم للإعجاز بالإعجاز البياني، وحصرهم إياه في وجه واحد، لأنه وحده الذي وقع به التحدي:
فيمكننا في مناقشة هذه الحجة أن نقف مع الآيتين التاليتين، قوله عز وجل: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)البقرة/ 23، فإن المثلية المطلوبة، والتحدي بها في كل شيء، ويطلب الدليل من المخصص، أي فهي عامة، في البلاغة وفي العلم والمعرفة وفي الإخبار والقصص وفي كشف النفسيات وبيان حقائق القلوب وفي دقة التشريع وحل المشكلات وفي تفسير التاريخ وحركة الكون..الخ. وهذه الآية (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)البقرة/ 23، رغم أنها تفيد التحدي بالكل، إلا أنها تفيد التحدي بالجزء، بناء على قولهم: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فهذا القرآن كله معجز، يعني كل سورة فيه معجزة، وكل سورة فيها نسبة من التحدي والإعجاز، لأن التحدي الكلي في الحقيقة جامع للتحدي الجزئي.
وقوله عز وجل: (قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)هود/ 13، فالتحدي وقع بالنظم ومحتوى النظم والمثلية هي مثلية النظم، والافتراء في محتوى النظم. أما في باقي الآيات فكان التحدي غير منفصل، فلما أن كان التنزل والمسايرة الواردة في الآية يَفصِْل محتوى النظم، كان التحدي في غيرها محتوياً على ذلك. ومما جاء به القرآن الكريم واحتواه، الكشوفات العلمية، فهي متضمنة لمعنى الإعجاز والتحدي.
ويقول الشيخ فضل عباس: إن المراحل الثلاث الأولى مختلفة من حيث الأسلوب عن المرحلة الرابعة وإليكم بيان ذلك:
المرحلة الأولى: "فليأتوا بحديث مثله".
المرحلة الثانية : "قل فأتوا بعشر سور مثله".
المرحلة الثالثة : "فأتوا بسورة مثله".
أما المرحلة الرابعة فجاء الأسلوب(فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) فكلمة (من) لم تذكر إلا في المرحلة الرابعة.
فإذا كان التحدي في المراحل الثلاث المخاطب به العرب - والعرب كان البيان بضاعتهم والبلاغة سجيتهم- خالية من كلمة (من)، فإن المرحلة الرابعة المخاطب بها الناس جميعاً عربهم وعجمهم، جاءت مشتملة على هذا الحرف الدال على التبعيض.
ثم يقول: وبعد هذه الدراسة نقرر أن وجوه الإعجاز متعددة([51]).
والناظر في دراسة الأستاذ نعيم الحمصي يصل إلى نتيجة تكاد تكون إجماعا بين العلماء على عدم حصر الإعجاز في الإعجاز البياني، وهذا من أوضح الدلالات على عموم الإعجاز([52]).
وخلاصة القول: إن تقيد الإعجاز بالتحدي شرط ليس على إطلاقه، وإن خطاب القرآن معجز ليس بالبيان وحده، ولكنه معجز بآياته وبيانه وبيناته وبراهينه وبصائره وسلطانه، ولسان حاله ولسان مقاله، وبكل وجوهه وصوره المتنوعة. وإن جاز لنا أن نقول: إن الإعجاز البياني في القرآن إعجاز مقال، فإن الإعجاز العلمي في القرآن إعجاز حال، والقرآن وإن لم يتعرض للإعجاز العلمي بلسان المقال، لكن هذا الإعجاز في بلاغته، ومتمددا ومنتشرا في آيات القرآن الكريم ومضامينه بلسان الحال([53])، لأن من حكمة الله تعالى وبلاغة كتابه، أن يأتي خطابه مناسباً لما برع به قوم كل نبي في كل زمان، (مراعاة المقال لمقتضى الحال) كما يقول أهل البلاغة في تعريفها، وهذا في حد ذاته (إعجاز إيجاز) وبناء على فهم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله")[54])، أرأيت كيف أن كثيرا من الناس لم يصدقوا بحادثة الإسراء والمعراج واعتبروها زعما من رسول الله، لأنها كانت فوق عقولهم ونطاق مداركهم وتصوراتهم. وانظر ما أوضح هذا المعنى في أسلوب القرآن الكريم -على سبيل المثال- في قوله عز وجل: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)النمل/ 88، فقد مس القرآن الكريم مسألة حركة الأرض ودورانها مسا خفيفا لطيفاً وأشار إليها إشارة خفية. فكيف لو أفصح القرآن عن تلك الحركة لأناس لا يستوعبون ولا يفقهون الحديث في مثل هذه الأمور؟! ولهذا اختلف علماء التفسير من الرعيل الأول في فهم هذه الآية، فظن كثير منهم أنها تتحدث عن مشهد من صور يوم القيامة، ولم يتفطن إلى فهم هذه الآية فهما علميا صحيحا إلا الإمام الزمخشري([55])، في زمانه، فيما أعلم.
وبعد هذا التوضيح، نرجو الله عز وجل أن نكون قد وفقنا في إزالة وتسوية كثير من الشكوك التي تحوم حول استخدام مصطلح الإعجاز العلمي، والإجابة على التحفظات التي تقيد الإعجاز بالتحدي وتحصره في البيان.
والواقع أن العالم كله أذعن واستسلم أمام بيان القرآن وهيبته ونظمه وإعجازه البلاغي على مدى خمسة عشر قرنا، حتى أصبح الإعجاز البياني أمرا مسلما، وأن العالم بأسره لا يستطيع أن يأتي بمثله، وأن المحاولات التي جرت في عصرنا لمحاكاة القرآن محاولات سقيمة أثبتت فشلها وتهافتها.)[56]) ولاشك أن جمال القرآن البياني لا ينتهي، وأن استكشافه يستمر بجماله، ويخلد بخلود القرآن الكريم.
وإذا كان العرب في عهد الرسالة قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم، مع أن فصاحتهم وبلاغتهم قد بلغت مداها، فمن باب أولى أن من بعدهم من سائر الأعصار أعجز منهم.
إذا فالتحدي في الكل على جهة واحدة، ولا حاجة إلى التفريق في الإعجاز والتحدي، بأن الإعجاز قائم في كل زمان، أما التحدي فمخصوص بأهل العصر الأول.
فالأولى والذي ينبغي أن نوجـه إليـه جهودنـا وأنظارنا مع تمكننا من الوقوف على وجوه البلاغة والبيان للقرآن الكريم أن نتحدث بلغة عصرنا ونعرف مشارب الناس وأساليب إقناعهم امتثالا لقوله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)إبراهيم/ 4، وأن نبرهن للعالم أن القرآن الكريم كلام الله وأن محمدا رسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، باللغة التي يفهمها، ومن خلال (الإعجاز المتجدد) سيكون بعون الله للإعجاز العلمي دور طلائعي في دعوتنا، وفي بناء أفكارنا وتنمية مجتمعاتنا وتقدم حضارتنا، فعلماؤنا وباحثونا المؤمنون مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن يكونوا على مستوى عصرهم التقني، والمعلوماتي، وعلى مستوى فهم دينهم وقرآنهم. لاستثمار هذا الإعجاز وتجديده، ومعرفة الكيفية التي يمكنهم بها توظيف نعم الله وسننه وآياته بالشكل العلمي المتكامل والفهم الصحيح، والنظرة الكلية الشمولية، ليظل العلم وتقنياته في خدمة القرآن العظيم.
المطلب الثالث
القواعد والضوابط الشرعية للتعامل مع الحقائق العلمية في القرآن والسنة وكشوفاتها الحديثة
يحسن بنا ونحن نتحدث عن هذه القواعد والضوابط التي تحدد مسار التعامل مع الحقائق العلمية في القرآن والسنة وكشوفاتها الحديثة، وتعين على معرفة العلاقة الصحيحة في بحثها ودراستها، أن نتناول في حديثنا هذا ثلاثة أمور، باعتبارها في أصلها ذات موضوع واحد، وذلك ليسهل علينا دراسة هذا المطلب والإلمام بمسائلة قدر المستطاع.
الأمر الأول : الأصول العامة للتفسير المتفق عليها عند العلماء المسلمين.
الأمر الثاني : قواعد التوفيق بين النص والاكتشافات العلمية الحديثة.
الأمر الثالث : ضوابط استخراج وجه الإعجاز العلمي من النص القرآني والنبوي.
كما يحسن بنا في بداية حديثنا في هذا المطلب أن نوضح المراد بالقواعد والضوابط، ثم نعرف بالحقيقة العلمية، ثم نفرق بين الفرض والنظرية، ثم نشير إلى أهمية القواعد والضوابط الشرعية في التوفيق بين النص والاكتشافات العلمية الحديثة، وذلك على النحو التالي:
المراد بالقواعد: نص كلي موجز جامع لفروع في موضوعات شتى([57]).
والفرق بين القاعدة والضابط، أن القاعدة تجمع فروعا من أبواب شتى، والضابط يجمعها في باب واحد، فالقاعدة أعم من الضابط. ولكن الذي نقصده بهذه القواعد في هذه الدراسة: أنها بمثابة صياغات عامة وعموميات ومسلمات شرعية متفق عليها تجمع أفكارا شتى في موضوعات الإعجاز والتفسير العلمي للقرآن الكريم والسنة المطهرة([58]).
المراد بالضوابط: أصول كلية تضبط فروعا تدور في باب واحد، أو أمور كلية جامعة لأشتات وفروع تختص في باب معين([59]).
ولكن الذي نقصده بهذه الضوابط في هذا المقام، هي تلك المفاهيم المقررة والشروط التي تحدد مسار بحوث الأعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن والسنة، وفق الأصول الشرعية، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة([60]).
الحقيقة العلمية: الحقيقة العلمية في الاصطلاح هي المفهوم الذي تجاوز المراحل الفرضية والدراسات النظرية حتى أصبح ثابتا مجمعا عليه من قبل كافة العلماء والمختصين([61])، مثال ذلك: تمدد المعادن بالحرارة وتقلصها بالبرودة، وتبخر الماء بالحرارة وتجمده بالبرودة. أو هي ما يثبت ثبوتا قاطعا في علم الإنسان بالأدلة المنطقية المقبولة. والحقيقة العلمية لا تبطل مع الزمن أبدا، ولكنها تتسع وتنمو بنماء جهود العلماء المتتابعة، لأن من خصائص المعرفة المكتسبة أنها تراكمية تتسع جيلا بعد جيل. فالحقائق العلمية والقوانين التي تحكمها، ما هي إلا تعبير عن السنن الربانية في الكون، تصف علاقات محددة، وتعلل ارتباط العناصر الكونية بالظواهر الكونية تعليلا سببيا. وهذه السنن والحقائق والقوانين الكونية ما هي إلا جزء من المعادلات الربانية، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، وما هي إلا جزء من الحكمة التي هي "ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها". كما أخبر بذلك الرسول عليه السلام([62]).
تعريف الفرض والنظرية:
الفرض: هو تخمين أو احتمال واستنتاج مبدئي، يصوغه ويتبناه الباحث مؤقتا، لشرح وتفسير وتعليل بعض ما يلاحظه من الحقائق والظواهر. ويعتبر الفرض من التعليلات والتفسيرات الأولية للظواهر الكونية([63]).
النظرية: هي معلومات توضح العلاقة بين العناصر والظواهر، وتفسر المتغيرات بين الأثر والسبب لمحاولة ضبطها وشرحها وتفسيرها، وقد تقترب أو تبتعد عن الحقيقة والصواب، فالنظريات مراتب بحسب قربها وبعدها عن الحقائق. وأقوى النظريات هي تلك التي تقدم شروحا أكثر احتمالية ومنطقية لتلك الظواهر العلمية في الكون، والتي تقدم أكثر الملحوظات والتفسيرات لعلاقة الأسباب بمسبباتها للوصول إلى القوانين التي تحكمها، ومن ثم يمكن استخدامها في مختلف التطبيقات العلمية والعملية في شتى المجالات والتخصصات([64]).
فالنظريات هي صياغات عامة لتفسير كيفية وقوع حدوث الظاهرات، كالنظريات المفسرة لأصل نشأة الكون وأصل الحياة..
وقد مرت النظرية بمراحل متعددة من الفروض العلمية حتى وصلت إلى عدد من النظريات المقبولة التي يفضلون بها نظرية على أخرى، دون الادعاء بالوصول إلى حقيقة راسخة أو قانون قطعي. ويبقى للمسلم نور من الله في آية قرآنية أو حديث صحيح، يمكن أن يعينه على الارتقاء بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة، لوجود إشارة لها في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن هناك مجالات إذا دخلها الإنسان بغير هداية ربانية، فإنه يضل فيها ضلالا بعيدا، خصوصا في الحديث عن نشأة الكون وما توصل إليه العلماء من فرضيات ونظريات في ذلك، (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)الكهف/ 51، فبعض النظريات لها من الإشارات اللطيفة في كتاب الله وسنة رسوله ما يمكن للعالم المسلم من تفضيل نظرية على نظرية، والارتقاء بها إلى مقام الحقيقة لمجرد ذكر لها في كتاب الله تعالى، ونكون بذلك قد انتصرنا بالقرآن والسنة للعلم وليس العكس. وعلى هذا لابد من ضرورة فهم الإشارات العلمية الواردة في القرآن والسنة النبوية على أساس من الحقائق العلمية الثابتة أولا، فإن لم تتوافر فبالنظرية السائدة المقبولة التي يتجمع لدى العلماء من الشواهد ما يمكن أن يعين على بلورتها وتصحيحها بالاستناد إلى القرآن والسنة الصحيحة والفهم السديد.
أهمية القواعد والضوابط الشرعية في التوفيق بين النص والاكتشافات العلمية الحديثة ودلالاتها في القرآن الكريم:
تكمن أهمية القواعد والضوابط الشرعية في استخراج وجه الإعجاز العلمي من النص، والتوفيق بينه وبين الاكتشافات العلمية الحديثة، في كونها دلالات ومستندات استرشادية للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن، وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع، وذلك لتميز هذا العصر بالعلم التجريبي ومكتشفاته الحديثة، حتى أصبح العلم التقني سمة من سماته.
المساهمة في علاج كثير من المزالق التي وقع فيها كثير من الباحثين في هذا المجال، حتى عند بعض المخلصين، لكي تنـال الكتابـات في هذا الموضـوع
الجديد الرضا والقبول.
التزام هذه القواعد والضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح.
معالجة التحفظات المتعلقة باستخدام مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وتجسير موضوعاته وفق الشروط العلمية والفنية والأصول الشرعية.
أما الآن فسوف نعود إلى تناول الأمور والمحاور الثلاث، التي ذكرناها لدراسة الموضوعات والقواعد التي تضبط العلاقة بين الحقائق العلمية في القرآن والسنة، وكشوفاتها الحديثة، والله ولي التوفيق.
الأمر الأول: الأصول العامة للتفسير المتفق عليه عند علماء المسلمين.
ينبغي أن يعلم أن العلماء متفقون على منهج عام لفهم كتاب الله تعالى وتفسيره، فلا يجوز تجاهله وتخطيه بل لابد من اتباعه والالتزام به وهو:
1- أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في موضوع فإنه قد فصل في موضع آخر([65]).
2- أن يفسر القرآن بالسنة الصحيحة لقوله تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)النحل/ 44، وقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)النساء/ 59، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)([66])، يعني السنة.
3- أن يفسر القرآن بأقوال الصحابة الصحيحة.
4- أن يفسر القرآن بأقوال التابعين الصحيحة([67]).
5- الأخذ بمطلق العربية؛ لأن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، لهذا قال مالك - رحمه الله- : "لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا"([68]).
6- التفسير بمقتضى الشرع دون الأخذ بمجرد الرأي([69]). يقول ابن تيمية في "مقدمة التفسير": "وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة وهو معلوم البطلان"([70]) وهو رحمه الله يقصد بهذا من يخالف ما هو ثابت، أو يتكلم بغير علم، بدليل قوله بعده: فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه"([71]).
وينبغي أن نوضح في هذا المقام أن محكمات القرآن من عقيدة أو عبادات أو أحكام وتشريعات فإنها مفهومة تماما بالتفصيل منذ عهد السلف الصالح، وأما المتشابهات في القرآن الكريم فلا تعني إبهاما لكليات بدون معنى، كما يظنه بعض الناس، هذا الظن خطأ، المتشابه ليس مهملا ولا كلاما بدون معنى، بل لاحتوائه على معان كثيرة لا يمكن لنا أن نتبين المعنى المراد الذي يبدو مبهما، إنما يبدو مبهما، لأن الحقائق المحيطة التي تفيدها المتشابهات، لا يستطيع أن يستوعبها فكر بعض البشر، وأن المتشابه في الحقيقة: هو البيان الذي يحتوي على مجموع وجوه البيان: من حقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وتمثيل وتحقيق، وظاهر وخفي، فهو المعلوم والمجهول، ومعلوم أن الإبهام في الكلام في بعض المواقع يعد من أثمن وجوه البلاغة، كما أن كل شخص لا يكون أهلا لكل خطاب، وكذلك لا تستطيع القدرة البشرية على أن تتحمل أفهام وتبليغ كلية العلم بالعلم الإلهي.
ونستطيع أن نشبه بعض المتشابهات القرآنية بأطياف القرص المرن أو بمصباح بلوري (كريستال) ضوؤه لا يتغير في الأصل، ولكن بسبب الزوايا الكثيرة التي توجد على زجاجات البلور، أو الانعكاسات على القرص، تتغير الألوان والأشعة وتزداد بحسب الزوايا واختلاف نظرة الناس، وهذه الإشعاعات في تجدد دائم لا ينتهي، (ما نفدت كلمات الله) بما يفتح الله تعالى للناس من أبواب رحمته وعلمه، وما يوفقهم إليه من نظرات، وما يهديهم إليه من معارف وكشوفات، وذلك بحسب اجتهادهم وقدراتهم وحظهم من العلم الذي يوفقون إليه.
ولا يأخذ منه العلماء إلا ما يأخذ الناظر إلى نور الشمس، حيث يستضيء به ويهتدي بأنواره وضيائه، ثم لا يمكن أن يدرك نهايته أو يفهم كل حقائقه (لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد).
وأستطيع أن أقول أن القرآن كله محكم وليس فيه متشابه إلا على العوام، والمتشابه فيه من باب التنوع في المدلول والمعنى، لا من باب الإبهام والجهالة.
فالإعجاز القرآني يتجلى من خلال صفته الربانية، ومنهجية القرآن المعرفية المطلقة، سواء كانت لغة أو بلاغة أو اجتماعية أو ثقافية أو علمية...
الأمر الثاني: قواعد التوفيق بين النص والاكتشافات العلمية الحديثة.
كثير من الباحثين من يتساهل في إطلاق الضوابط محل القواعد والعكس أيضا، وإذا لزم ذلك التفريق بالنسبة لعلماء الفقه والأصول لتعليق ذلك بالأحكام الشرعية الدقيقة، فإنه لا يلزم ذلك لغيرهم لمن يكتب في بحوث الفكر والثقافة والأدبيات المعاصرة، فالأمر فيه نوع من التساهل والتسامح. وأرجو من الله أن نوفق في العرض والبيان المناسب لهذه القواعد والضوابط، التي تحدد مسار الدراسات والبحوث في هذا الموضوع، وتمنع من الوقوع في تلك الأخطاء التي ينبغي أن ننزه القرآن والسنة عنها، وهذه القواعد هي كما يلي:
أولا: القرآن الكريم كتاب هداية([72]):
المتأمل في الدراسات التي اتجهت إلى القرآن الكريم وتشجيع بحوث الإعجاز وإثرائها، والدراسات التي اتجهت إلى منع هذه البحوث وتضييقها، يلحظ أن طرفيها وقع في محظور، فبعض الذين اتجهوا إلى الجواز وتوسعوا فيه من غير التقييد بهذه القواعد، التي تحد من الخيال والمبالغة والشطط، قد أفرطوا وأخرجوا القرآن عن كونه كتاب هداية، فأدت دراساتهم إلى نتائج عكسية جعلت كثيراً من الناس يحملون عليهم)[73]). وكذلك الطرف الأخر الذين منعوا هذه البحوث ووضعوا السدود و الحدود أمام الباحثين فيها، قد ضيقوا واسعا. وهذا مما يجعلنا نؤكد على أهمية هذه القاعدة، لتبقى الدراسات الكونية المتعلقة بالآيات الكونية والاكتشافات العلمية الحديثة، في حدود هذا الهدف، ولا تؤثر على الغرض الأساسي للقرآن الكريم. فالمقصود الأسمى من القرآن الكريم هو الهداية والإرشاد، وقد سلك جميع الأساليب والمناهج العقلية والفطرية, لحمل الناس على هذا الهدف، ودعى إلى التأمل في الكون، ووجه النظر إلى كل ما يحيط بالإنسان من مسخرات من أجل هذا الغرض.
ومع هذا كله فإننا لا ننكر أن القرآن الكريم قد حوى أصول الإعجاز التشريعي والبياني والعلمي والتربوي والتأثيري والتاريخي...
ثانيا: استحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية:
يستحيل التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية لأنهما من مشكاة واحدة، وما يثيره بعض الناس، من توهم بوجود تناقض، فهو سوء فهم للحقيقة القرآنية والحقيقة العلمية معا، وينبغي أن نفهم في هذا المقام القواعد التالية:
أ- هناك نصوص من الوحي قطعية في دلالتها، كما أن هناك حقائق علمية كونية قطعية في ثبوتها.
ب- في الوحي نصوص ظنية في دلالتها، وفي العلم نظريات ظنية في ثبوتها.
ج- لا يمكن أن يقع صدام بين قطعي من الوحي في دلالته وقطعي من العلم التجريبي، فإن وقع التعارض في الظاهر، فلابد من البحث عن صحة الدليل النقلي، إن كان حديثاً، أما إن كان آية قرآنية، رجع إلى دلالاتها وما استقر عليه العلماء في تفسيرها. أما إذا كان التعارض ناتجاً عن خطأ في فهم البشر وعقولهم فإن الأمر يرجع إلى عدم إدراك السر والحكمة في نصوص الوحي، أو عدم تكشف حقائق الغيب، أو عدم استقرار النظريات العلمية، ولابد على كل حال من التزام قواعد الجمع والترجيح المعروفة في ذلك([74]).
ثالثا: ترك الإفراط والتفريط
ينبغي عدم الإسراف في التوفيق بين النص القرآني وبين الاكتشافات العلمية الحديثة إلى درجة التكلف والتَّفعُل والتأويل وتحميل النصوص ما لا تحتمل، فلا نبحث عن دقائق وخصائص الأمور الكونية أو الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية، فنفصل القول في ذلك، ونجعل تفاسير القرآن وكأنها كتب لهذه العلوم البحتة المختصة، فلا نترك شاردة ولا واردة إلا ونربطها بتفسير الآيات الكريمة؛ لأن ذلك يخرجنا عن حد الاعتدال في بذل الجهد في بيان مراد الله من التفسير.
رابعا: الحقيقة العلمية مناط الاستدلال:
فالقرآن يفسر بالحقائق العلمية الثابتة التي لا تقبل التغيير في صحة معناها وقوة مدلولها، ونبتعد عن ساحة الفرضيات والنظريات العلمية التي لم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية، وينبغي عدم ذكر النظريات ولو من باب الاستئناس بها، مخافة أن يورث ذلك شعورا معينا لدى القراء خصوصا إذا ظهر بطلان هذه النظرية، فلن يسلم الفهم الخاص بالآية من التشويش والاهتزاز، ومن هنا كان خطأ بعض المفسرين الذين ذكروا الروايات الإسرائيلية وقرنوها بالآيات الدالة على ما هو قريب منها، حتى أصبح الناس ينظرون إليها أنها تفسير للآية، ثم ظهر بطلان كثير من هذه الروايات ومناقضتها للحقائق التاريخية والكونية والفلكية، مما هز ثقة الناس بالتفسير بالمأثور.
خامسا: علم الله تعالى مطلق، وعلم الإنسان محدود.
إن كلام الله تعالى وعلمه مطلقان شاملان محيطان بكل الحقائق الكونية، لا يعتريهما خطأ ولا يشوبهما نقض ولا نقص ولا تحريف، وعلم الإنسان محدود معرض للخطأ والزيادة، وما يعده اليوم حقيقة ينفيه في الغد، وأن نصوص الوحي قد نزلت بألفاظ جامعة، تحيط بكل المعاني الصحيحة في مواضعها التي تتابع في ظهورها جيلا بعد جيل، وأن القرآن الكريم لا يتجه بالخطاب إلى جيل ومكان معينين، بل إلى البشرية كافة في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، فينبغي عدم قصر دلالة آياته على حقيقة واحدة، فإن وجود حقيقة معينة في آية من آياته قد ظهرت لنا، لا يعني عدم وجود حقائق أخرى غيرها، ففضل الله واسع يؤتيه من يشاء، ويعطي كل عصر ويفتح فيه للناس من المعرفة ما يتناسب مع احتياجاتهم وارتقاء أفهامهم، حسب حكمته وتقديره وتدبيره، قال تعالى: (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)الأنعام/ 67، والإشارات الكونية في القرآن الكريم قد صيغت صياغة مجملة معجزة، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني، يتناسب مع ما توافر لهم من العلم بالكون ومكوناته، وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية باستمرار في تكامل لا يعرف التضاد.
فما توصل إليه البحث والتحقيق العلمي في فهم دلالة آية كريمة، فهو ليس منتهى الفهم لهم، فالقرآن الكريم يبقى مهيمنا على المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، تصديقا لنبوءة الصادق المصدوق في وصفه لكلام الله جل جلاله بأنه "لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد"([75]).
وينبغي في حديثنا عن هذه القواعد أن نركز على الثقة بالله واليقين على كلامه، ولا نكون مثل أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، الذين يريدون أن يجعلوا الإسلام دينا عقليا بحتا، غير مدركين طبيعته وفطرته وخطابه الإيماني وإعجازه التأثيري.
كما ينبغي التريث والتؤدة في إثبات كون القرآن دل على هذه المكتشفات الحديثة، لأنه ينبني على هذا، التقول على الله تعالى بأن هذه المكتشفات مراد الله تعالى في خطابه، ولأن الإدمان على مثل هذا المنهج ينشئ في النفوس غرام التبعية للغرب، فيجعل من موقفنا نحن المسلمين، موقف التلميذ الضعيف، الذي يشعر أنه لا شيء عنده يقدمه، فيبقى عالة على غيره، ينتظر منه كل جديد في العلوم، ثم يبحث عما يوافقه في كتابنا وسنتنا، ولا يخفى ما دخل علينا من هذا المنهج مما هو مخالف لفكرنا وثقافتنا وتصوراتنا.
ولهذا فإن بعض الدراسات في بحوث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، يحتاج أصحابها إلى الوعي والفهم والتطبيق والانضباط بهذه القواعد، كما أن هذه الدراسات والبحوث تحتاج إلى قوة وهيئات ومؤسسات رسمية تحميها وتحييها، ولابد أن يواكب العلم ثقة بالذات تكون في الأمة، كي تدعم هذا العلم بكل استحقاقاته.
الأمر الثالث: الضوابط الشرعية لاستخراج وجه الإعجاز العلمي من النص:
من الضوابط الشرعية المهمة التي قررها العلماء في هذا المقام([76])، لاستخراج وجه الإعجاز العلمي من النص، والمواءمة بينه وبين كشوفاته الحديثة، والتي ينبغي تأكيدها وتعميمها والالتزام بها، وهي ما سنذكره فيما يلي:
أ. وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني بشكل واضح لا مرية فيه.
ب. ثبوت النص وصحته إن كان حديثا لتواتر القرآن دون الحديث.
ج. ثبوت الحقيقة العلمية واستقرارها استقرارا جازما ولا يكون التفسير حسب نظريات وهمية، وتوثيق ذلك توثيقا علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي..فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز، ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية:
1- جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع ورد بعضها إلى بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص بل يؤيدها، فإن أي محاولة للتوفيق بين الاكتشافات العلمية الحديثة مرفوضة إذا خالفت ما دل عليه القرآن في موضوع آخر.
2- جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت، وكذلك روايات الحديث بألفاظها المختلفة.
3- معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول أو نسخ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا([77]).
4- محاولة فهم النص الواقع تحت الدراسة على وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام بمسائل تعين على فهم النص والتمكن من تقديم معنى على آخر، وهي كالآتي:
أ- إن النص مقدم على الظاهر والظاهر مقدم على المؤول([78]).
ب- إن المنطوق مقدم على المفهوم وإن المفاهيم بعضها مقدم على الآخر كذلك([79]).
ج- أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة: العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين وأن العموم مقدم على الخصوص والإطلاق مقدم على التقييد، والإفراد على الاشتراك، والتأصيل على الزيادة، والترتيب على التقديم والتأخير، والتأسيس على التأكيد، والبقاء على النسخ، والحقيقة الشرعية على العرفية، والعرفية على اللغوية.
د- مراعاة السياق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده، بحيث لا يكون التفسير نافرا.
ﻫ- مراعاة قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
و- عدم مخالفة صحيح المأثور عن الرسول أو ماله حكم المرفوع.
ز- معرفة معاني الحروف وعدم تفسير حرف أو حمله على معنى لا يقتضيه الوضع العربي.
ح- مراعاة أوجه موافقة اللغة وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى.
ط- أن المشترك اللفظي يمكن حمله على واحد من معانيه دون نفي الآخر أو القطع بأن هذا هو الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة.
5- إظهار وجه الإعجاز: فإذا تم ذلك لم يبق على الباحث سوى أن يظهر الربط بين الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر.
6/ أن هناك أمورا من قبيل المتشابه لا مجال للقطع في فهمها والبحث فيها مفتوح لمن وفقه الله تعالى.
7- عدم الاعتماد على الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة)[80]).
8ـ- الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها كأمهات التفسير والحديث وكتب غريب القرآن والسنة، ومع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت.
9- عدم التعرض لمعجزات الأنبياء بالتوجيه وإلحاقها قسرا لأنظمة العلوم وقواعد الفنون.
10- عدم الخوض في الأمور الغيبية بأكثر مما أثبته القرآن وفسرته السنة، مثل قضايا الروح وقيام الساعة وحياه البرزخ، والملائكة والجن والسحر والعين والجنة والنار، والميزان والصراط، والذات الإلهية..، والتأكيد على أن حقائق الغيب الإسلامي لها من السنن الهادية والقوانين الخاصة لفهمها، ما هو مغاير لعالم الشهادة وما يتعلق به من السنن البانية.
11- الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل، لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر، والكل يفهم منهما بقدر ما يفتح الله به عليه، وبحسب ما يبذله من جهد وما هو متوفر لديه من وسائل، ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر إلى قيام الساعة، فلا مجال للتسفيه والتجهيل وإنما هي الاستفادة والتكميل والدعاء لمن تقدم:(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )الحشر/ 10 .
12- ينبغي أن تحصر الدراسة فيما تمكن القدرة عليه وعدم حصر دلالة الآية على الحقيقة الواحدة فالأفراد يمكن أن يقصروا بحوثهم فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية ليصلوا من خلال ذلك إلى الحق، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر.
13- ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجال أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صدق وحق ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية، لأن منزل القرآن هو الخالق العالم بأسرار الكائنات (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)الملك/ 14. ومعرفة ذلك تقتضي منا التريث وعدم تحميل النص ما لا يحتمل من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن نتوقف دون نفي أو إثبات ونبحث عن موضوع آخر والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك.
14- على الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبيين الحق للناس من أجل هدايتهم، وأن يعلم خطورة ما يتناوله ويعبر عنه فهو عندما يقول: هذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى، فهو يفسر كلام رب العالمين، لذا يجب عليه أن يتذكر دائما قول ا لنبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)([81]).
15- ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر مع توفر الكفاءة العلمية المكتسبة حتى يميز الحق من الباطل ويقبله ويلتزم بالموضوعية، ومعناها هنا: حصر المعلومات ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق، مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق والاقتباس والإحالات([82]).
وليس المراد من هذه الضوابط الحجر على الباحثين أو منعهم من التدبر في كتاب الله، وإنما هو محاولة لضبط مسيرة البحث بالضوابط الشرعية، وإرشاد الباحثين المسلمين إلى الطريق الصحيح لفهم كتاب الله تعالى في هذا الجانب المهم (الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي) ويمكن للباحث غير المتخصص أن يراجع أهل الاختصاص فيما يخفى عليه، أو يشترك مع متخصص من أهل العلم، من أجل الوصول إلى الحق والتفسير الصحيح، الذي لا شطط فيه ولا شطح، بعيدا عن تقليد الآخرين وترديد أقوالهم([83]).
الخاتمة
وبعد: فنحمدك اللهم أن أنزلت القرآن العظيم، على خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعلته أبلغ دلائل نبوته وأجل آيات صدقه، وعلى قدر الكمال الذي ختم الله به النبوات، كان الكمال الذي ختم به الرسالات، فكان القرآن معجزة الله الخالدة وحجته البالغة وسراجه المنير، وكان الشاهد والمشهود على عالمية الإسلام وبقاء رسالته وحفظ دينه دعوته وصلاحيته لكل زمان ومكان.
وهذه أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها الدراسة:
- إن التوفيق بين النص القرآني وبين الاكتشافات العلمية الحديثة لا يجوز أن تصدر عن خلفية تعتمد هذه الاكتشافات أصلا وتجعل القرآن تابعا، ويجب أن تظل بحوث الإعجاز والدراسات المتعلقة بالآيات الكونية..في خدمة الهدف الأساسي للقرآن الكريم، وغرض الهداية والإرشاد، ولا تتنافى مع طبيعة القرآن الكريم.
- التفسير العلمي: هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ثبتت وترجحت صحته من حقائق ونظريات العلوم الكونية. وهو أكثر عموماً من الإعجاز العلمي.
- الإعجاز العلمي: هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. بحيث يظهر بها التأويل ويستقر بها التفسير، وتتضح بها الحكمة وتنكشف بها الحقيقة التي يؤول إليها معنى النصوص، وتتجلى بها الشواهد وتفصح عنها الظواهر الكونية، ويتطابق بها كتاب الله المنظور وكتابه المسطور، وتتواءم بها السنن الهادية والسنن الباينة، ويتوافق بها العقل والنقل، وصحيح المنقول مع صحيح المعقول.
- الإعجاز بشكل عام: اسم للقصور عن فعل الشيء أو مجاراته أو عدم القدرة على الإتيان بمثله.
والإعجاز في القرآن الكريم: قصور البشر وإذعانهم وتسليمهم بكل ما جاء في القرآن الكريم: وعدم قدرتهم على مجاراته أو الإتيان بمثله، بأي وجه من وجوه إعجازه المتنوعة، وفي أي زمن من الأزمان وتقييد الإعجاز بالتحدي أمر طارئ على الفكر الإسلامي، وتضييق لأمر فيه متسع.
- إن التفسير العلمي والإعجاز العلمي والعددي في جملته لا يخرج عن كونه تفسيرا بالرأي، فهو جائز على الأشهر ويجب أن نتجاوز فيه منطقة الشك والخلاف، لما جرى عليه العمل عند أكثر الكثير من كتابات العقلاء وسيرهم وأبحاثهم، التي تمت فيها مراعاة الأصول والقواعد المعتبرة والضوابط الشرعية المقررة.
- إن استخراج وجه الإعجاز العلمي من النص، والتوفيق بين حقائق القرآن وآياته الكونية، وبين كشوفاتها الحديثة، له طرقه وصوره ومنظوماته الخاصة، ولا يجوز أن تصدر عن غير المتخصصين ولا كل من هب ودب من الذين يدخلون في مجالات لا يحسنونها، لان ذلك يؤدي إلى التكلف والتَّفعُل والاعتساف والتأويل للنصوص على غير مقاصدها الإيمانية والشرعية، واهتزاز الثقة بالقرآن الكريم، وكتاب الله أعظم وأجل من أن يكون حقلا للعبث والتجريب.
- إن القول بأن التحدي بالنظم والبيان قد انتهى والإعجاز العلمي باق، قول باطل غير صحيح، فلا يزال التحدي بالنظم والبيان قائم، وصور الإعجاز ومظاهره المتنوعة كلها في مستوى واحد من القوة، ولا يقوى بعضها على بعض، ولكن قد يكون بعضها أظهر من بعض، فالإعجاز العلمي أظهر في الدلالة في هذا العصر، ولا يجوز أن يكون هناك خصام بين من يقول بالإعجاز البياني والإعجاز العلمي، فالقرآن كله إعجاز، وإعجازه لا ينتهي، وهو معجز في كل أموره وتفاصيله وجزئياته، وهو كالبدر من أي جهة نظرت إليه يهدي إليك أنوارا جديدة، وأطياف نوره في تجدد دائم كتجدد الفجر والنهار.
- إن الإعجاز البياني أساس الإعجاز العلمي ولبه، وهو أصل عام لأوجه الإعجاز كلها، وأن ترجيحنا لاستعمال مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، لا يعني ذلك إلغاء للإعجاز البياني، ولكنه إيمان منا بأن هذا الترجيح له أدلته العلمية ومبرراته الشرعية والواقعية والمنطقية، ولما يحقق من أهداف وما تقتضيه المستجدات، وما له من أثر في الحياة العلمية والدراسات المتخصصة المعاصرة، ولأنه أكثر تألقا في الاستعمال والدراسات القرآنية الجديدة، وتشجيعا للبحث العلمي، ليرفد مسيرة العلم بما تستحق من دعم وجهد، ولما في العلوم المعاصرة من فوائد كثيرة يمكن الاستفادة منها في الدعوة إلى الإسلام، وتثبيت الإيمان، ليستمر البناء والعطاء القرآني، على الرغم من وجود قصور عند كثير من الباحثين في هذا السبيل.
- إن الضوابط الشرعية والقواعد العلمية، التي تقدم ذكرها، هي مرآة تعكس لنا مقدار ما يجب أن يتحلى به الباحثون في ميدان الإعجاز العلمي، في استطلاعهم للاكتشافات العلمية الحديثة، واستنباطهم واستبصارهم لدلالاتها في القرآن والسنة، ومعرفة أوجه الإعجاز المبثوثة في مواقعها، كما تعكس لنا مقـدار ما يجب على الدارسين من أخذ الحيطة في
تقعيد مسائل الإعجاز، وتقرير نتائج البحث العلمي فيها.
أما التوصيات فنذكر أهمها فيما يلي:
- نوصي بالاستفادة من مباحث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مجال التعريف بالإسلام والدعوة والحوار، وفي أسلمة المعرفة وتأصيلها، وربط العلم وتقنياته المعاصرة ومكتشفاته الحديثة بقضايا الإيمان، وتحقيق التوافق بين علوم الوسائل والأدوات وعلوم المقاصد والغايات.
- نوصي لتحقيق الضوابط الشرعية للاكتشافات العلمية الحديثة ولدلالاتها في القرآن والسنة، الانطلاق بها من المجامع والهيئات العلمية والرؤية الجماعية التي يؤمن منها الخطأ والخلل وتطمئن فيها الدراسات، اطمئنانا يوحي براحة النفس إلى تلك النتائج واستقرارها في ميادين العلم الحديث.
- نوصي بتدريس الإعجاز العلمي وقضايا العلم والإيمان في الجامعات، وأن تولي الجامعات الإسلامية والعربية مباحث الإعجاز العلمي اهتماما خاصا في المقررات الدراسية، باعتبارها من أمضى أسلحة الدعوة وأقواها في إقامة الحجة والبيان وغرس الهداية وتعميق الوعي والفهم وتثبيت الإيمان، إذ تعتبر قضايا العلم والإيمان في مباحثها الجديدة، من أفضل الموضوعات وأكثرها حيوية وجاذبية لطلبة العلم.
- نوصي بإنشاء مجلة لإعجاز القرآن والسنة يصبها سلسلة من الكتيبات الدورية للكتاب المتخصصين في مختلف الحقول المعرفية، تعنى بالجديد المفيد من موضوعات الإعجاز، وترجمتها إلى مختلف اللغات، لإبراز الحقائق التي تؤكد السبق العلمي والمعرفي في القرآن والسنة.
- نوصي بالانتقال بالإعجاز العلمي من النظرية إلى التطبيق، وتوظيفه في مختلف التطبيقات العلمية والعملية، وتشجيع بحوثه الأصيلة وتوجيهها الوجوه الخيرة، وذلك من خلال عمل موسوعي، وهيئات ومراكز رسمية، تراعي ذلك كله وتتابعه، ليظل العلم في الدائرة المأمونة، ويبقى في خدمة الإيمان ونشر الهداية وعمارة الأرض، وتحقيق الاستخلاف المطلوب والمقاصد الربانية والغايات النبيلة في هذه الحياة، لينعم الجميع بالأمن والإسلام، وليزداد الذين آمنوا إيمانا.
(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد الثالث، العدد (2)، 1428ه/ 2007م.
الهوامش:
([1]) رواه الترمذي في سننه في كتاب فضائل القرآن والحديث في سنده ضعف لكن متنه حسن فلا يتجه الحكم بوضعه.
([2]) أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المساجد، وقال ابن حجر في الفتح، ج13، ص247. كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني، ونقل عن البخاري قوله: بلغني أن جوامع الكلم أن الله عز وجل يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الاثنين، انظر: الفتح، ج13، ص247، فنصوص الوحي في هديه عليه الصلاة والسلام جاءت بألفاظ جامعة مختزلة كمجامع الحكم والأمثال.
([3]) حديث موقوف على الإمام علي رضي الله عنه، رواه الترمذي والدارمي عن ابن مسعود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج2، ص297) والحديث يشير إلى خلود الكتاب العظيم، ونصه: "ألا إنها ستكون فتنة، قلت (القائل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه) فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)الجن/1-2، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، من جعله أمامه قاده
إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.
([4]) ابن منظور، لسان العرب (مادة عجز)، ج5، ص370. الراغب الأصفهاني، المفردات ص322.
([5]) ابن فارس، مقاييس اللغة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1996، ص232.
([6]) ابن حجر، فتح البارين، نشر إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ج6، ص582.
([7]) المرجع السابق، ج6، ص582.
([8]) الطبري، جامع البيان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص96.
([9]) عباس، فضل حسن، إعجاز القرآن الكريم، دار الفرقان، عمان 2002، ص28.
([10]) عبد الكريم الخطيب، الإعجاز القرآني في دراسة السابقين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984، ج1، ص156.
([11]) نعيم الحمصي، فكرة إعجاز القرآن الكريم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1980، ص27، 45.
([12]) الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت 1983، ص 75.
([13]) د.عبد الله المصلح، الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1417ﻫ، ص12.
([14]) د.عتر، حسن ضياء الدين، المعجزة الخالدة، ط3، دار البشائر الإسلامية، بيروت 1994، ص107.
([15]) د. زغلول النجار، قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، بحث مقدم لمؤتمر إعجاز القرآن، كلية الشريعة جامعة الزرقاء، 2005-2006، ص18.
([16]) ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص55. وانظر: القاموس المحيط، مادة فسر.
([17]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج4، ص169. البرهان الزركشي، ج1، ص13.
([18]) د. عبد المصلح، الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص33.
([19]) عبد المجيد الزنداني، تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في
القرآن والسنة، إسلام أباد، باكستان، 1987، ص25.
([20]) أحمد شاكر، مقدمة تفسير الطبري، ج1، ص72. د.فهد الرومي، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، الرياض، ط1، 1407ﻫ، ج2، ص601.
([21]) د. أبو حجر، أحمد عمر، التفسير العلمي للقرآن في الميزان ص133، وقد نقل أمثلة على التفسير المردود ثم أردفها بأمثلة من التفسير المقبول.
([22]) د. عبد الله المصلح، الإعجاز العلمي ص38-39.
([23]) تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص14.
([24]) الشريف الجرجاني، التعريفات، مادة علم.
([25]) الفاروقي، إسماعيل، أسلمة المعرفة، إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1984، ص16.
([26]) د. فضل حسن عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص29 -34.
([27]) (ص9) الصرفة في اصطلاح علماء الكلام تعني أن الله قد أعجز بلغاء العرب وفصحاءهم عن الإتيان بكتاب مثل القرآن العزيز بالصرفة، أي أن الله صرف العرب -كل العرب- عن معارضة القرآن، وسلب عقولهم، وقدراتهم فلم يستطيعوا أن يضعوا كتابا كالقرآن، مع أن قدراتهم اللغوية على مستوى التحدي، وهو مذهب النظام المعتزلي، إبراهيم بن سيار شيخ الجاحظ، ويبدو الفساد ماثلا في هذا الرأي من وجوه:
أن إعجاز القرآن مؤقت، يزول بزوال الفترة التي حصل فيها التحدي. مع أن نصوص القرآن تدل على أن الإعجاز دائم مستمر إلى يوم القيامة، فالإعجاز متجدد في سائر الأزمان والأوقات، ثم إن هذا الرأي يقتضي أن الإعجاز هو الصرفة، وليس القرآن، وهذا خلاف الواقع. أي: يكون سلب القدرات هو الإعجاز، وليس النص القرآني.
([28]) الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول، طبعة مصر، ص21- 23، بتصرف واختصار.
([29]) المصدر السابق، ص23–26.
([30]) تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص28، 32.
([31]) (ص10) راجع تفصيل ذلك في: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د. فهد الرومي، ج2، ص64-640. وانظر: الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي، تقديم محمود شاكر، ترجمة عبد الصبور شاهين، مكتبة دار العروبة ط2، 1961.
([32]) رواه الترمذي في سننه رقم 295، وأحمد في مسنده، ج1، ص233 وفي سندهما ضعف.
([33]) رواه ابن جرير في تفسيره، ج1، ص41.
([34]) مثل هيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي، ولجنة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة.
([35]) مناع القطان، التشريع والفقه في الإسلام تاريخاً ومنهجاً، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982، ص104–110.
([36]) رواه البخاري في صحيحه، رقم 143، وزاد أحمد في مسنده برقم 2274، وعلمه التأويل واصل هذه الزيادة في البخاري برقم 75 بلفظ (اللهم علمه الكتاب).
([37]) د. شحادته، عبد الله، تفسير الآيات الكونية، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 2002، ص22. وراجع د. جمال الدين الفندي (القرآن والعلم).
([38]) (ص12) لقد كان هذا الباب مدخلا لإيمان كثير من مفكري العالم، أمثال الطبيب الفرنسي موريس بوكاي (أنظر كتابه دراسات في الكتب المقدسة)، والعالم الكندي جاري ميلر، أستاذ الرياضيات بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن والذي كان قسيسا يدعو للنصرانية، وروبرت كونتين، أحد مستشاري الرئيس الأمريكي "نيكسون" والذي يحمل الدكتوراه في دراسة الحضارات، وعمل في الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض ثلاثين سنة، أنظر: كتاب (الذين هدى الله، د. زغلول النجار، ص48، 50، دار الراية. والمفكر الإنجليزي كويليام، الذي يصف القرآن الكريم من الوجه العلمي فيرى أنه أبلغ كتاب في الشرق، أنظر: القرآن الكريم من منظور غربي، د. عماد الدين خليل ص25 وما بعدها، دار الفرقان، عمان 1996. وانظر كتاب "لماذا أسلمنا" مجموعة مقالات لنخبة من رجال الفكر في مختلف الأقطار تتحدث عن سبب اعتناقهم الإسلام، نشر الرئاسة العامة، الرياض 1404ﻫ.
([39]) رضا، محمد رشيد " تفسير القرآن الحكيم" المشهـور بـ "تفسير المنار"، دار المنار، القاهرة 1953، ج1، ص210-212.
([40]) ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس 1971، ج1، ص42-45.
([41]) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، جامعة الإمام، الرياض ط1، 1980، ج1، ص11 وما بعدها.
([42]) (ص13) نقصد بالتفكير الديني في هذا المقام، التفكير الإسلامي، بالمعنى الأخص للدين، لأن هناك تفكير ديني بالمعنى العام لمفهوم الدين يتعارض مع التفكير العلمي والتجربة والعقل والمنطق السليم، لأنه ناتج عن ديات محرفة وما أصابها من تبديل وتغيير، مما أدى إلى اختلاط بين غيب الدين وغيب الأساطير، وما نتج عن ذلك من منازعات بين العقل والنقل وبين العلم والإيمان، وما كان لذلك من آثار سلبية في الصراع بين الكنيسة والعلم أو العلم والدين والفلسفة، مما هو معروف في العصور الوسطى في أوروبا. ولهذا فإن هناك فرق كبير بين الغيب الديني الصحيح، وغيب الأساطير، مع كون الاثنين غيب:
أ. غيب الدين الصحيح: خبر رباني (الوحي) ثبت بالقرآن والسنة الصحيحة، فهو بمثابة حقائق ومسلمات لا تتعارض مع العلم والبحث ويتميز باليقين والصدق والاتفاق والثقة، أما غيب الأساطير: خبر إنساني، فهو معرفة منفصلة عن الإيمان وعن العلم، ويشوبها الظن والكذب والهوى الجد؟!
ب. التفكير الإسلامي الأصيل أساسه الوحي الصادق، وحقائقه مستمدة من العلم والإيمان معا، فهو أكثر شمولية ومنطقية وأصاله من الفكر الأسطوري القائم على الرواية الكاذبة والضلال البعيد وطرق المعرفة التي لم يتفق عليها.
ج. الغيب الديني الصحيح قائم على السند الصحيح، بينما غيب الأساطير لا سند له.
د. العلم بتقدمه يكشف عن حقائق غيب الدين الصحيح ويتوافق معها، بينما يكشف العلم عن خرافات غيب الأساطير ويتناقض مع رواياتها.
ﻫ. غيب الأساطير قائم على الخيال والمبالغة والأوهام والظنون والخرافـة، ويتعـارض مع حقائـق العلـم
ويقينيات العقل وحقائق الدين والمنطق السليم.
([43]) (ص14) راجع أمثلة أخرى لهذه الاتجاهات التفسيرية في كتاب التفسير والمفسرون، د.محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1976، ج2، ص253-263. وتعريف الدارسين بمناهج المفسرين، د. صلاح الخالدي.
([44]) (ص14) انظر: د. صلاح الخالدي، البيان في علوم القرآن، ص368-373. والدكتور عدنان زرزور، مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه، دار القلم، دمشق 1995، ص249-251.
([45]) راجع في هذا المقام بحثاً متميزاً، فيه عمق ومتابعة للدكتور أحمد شكري بعنوان "وقفات مع فكرة الإعجاز العددي والمؤلفات فيه" شارك به في مؤتمر إعجاز القرآن الكريم لكلية الشريعة بجامعة الزرقاء الأهلية 2005.
([46]) د. الخالدي، صلاح عبد الفتاح، تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، ط1، دار القلم، دمشق 2002، ص 221، 134.
([47]) (ص16) اختلف العلماء في التحدي هل يختص بعصر الرسالة، أو يمتد على مر الدهور، على قولين:
القول الأول: العرب في عصر الرسالة هم المخصوصون بالتحدي دون غيرهم، وهو قول ورد في كلام الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، ص8، ورجحته الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها الإعجاز البياني للقرآن، ص75، بحجة أنهم أصحاب اللسان العربي الذين يدركون أسرار بيانه، وأنهم موضع التحدي، وقد وجه الدكتور قحطان الدوري كلام الباقلاني مخالفا في ذلك بنت الشاطئ.
القول الثاني: التحدي قائم في كل زمان، وهو قول سيد قطب والسيد أحمد صقر والدكتور محمد عبد الله دراز، ومغنيه، وهو ما رجحه الدكتور قحطان عبد الرحمن الدوري، أنظر هذه الأقوال في كتاب: التحدي في آيات الإعجاز للدكتور قحطان الدوري، ط1، دار البشير، ومؤسسة الرسالة، 1997م، ص 47 وما بعدها.
([48]) د.أبو عده، عود، شواهد في الإعجاز القرآني، دراسة لغوية ودلالية، دار آفاق، عمان 1999، ص33 وما بعدها.
([49]) د. الخالدي صلاح: إعجاز القرآن ودلائل مصدره الرباني، ص5.
([50]) رواه مسلم.
([51]) فضل عباس، إتقان البرهان في علوم القرآن، دار الفرقان ط1، عمان 1997، ج1، ص112–113.
([52]) نعيم الحمصي، فكرة إعجاز القرآن من البعثة حتى عصرنا الحاضر، خلاصة أقوال العلماء، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1980، ص469–480. وراجع كتاب إعجاز القرآن في دراسات السابقين، عبد الكريم الخطيب، ج1، ص155.
([53]) (ص19) حتى أن معجزات الأنبياء المحسوسة التي هي من خوارق العادات، ليس فيها تحدي في لسان المقال، لكنها عين التحدي في لسان الحال، (ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل أن السيف أمضى من الخشب) وقد جاء الإشكال والالتباس في الخلاف بين أهل العلم، من إسقاط مفاهيم مصطلح المعجزة الذي قننه العلماء المتأخرين، على التصورات الإسلامية وتقيدهم به.
([54]) رواه البخاري معلقا (برقم 127) بترقيم فؤاد عبد الباقي، وقد اشتهر بين الناس (حدثوا الناس على قدر عقولهم..)
([55]) الزمخشري، جار الله محمود، الكشاف، دار المعرفة بيروت، ج3، ص154.
([56]) انظر إلى هذه الكتابات العقيمة التي كتبها أعداء القرآن أمثال القس الأمريكي اليهودي (أنيس شروش) الذي ألف كتابا أسماه (الفرقان الحق)، وأمثال القسيس المصري عبد الله الغاوي، الذي ألف كتابا بعنوان (هل القرآن معصوم؟!) الذي يدعي فيه عدم عصمة القرآن، وأنه بحث في القرآن بموضوعية وحياد فكري فوجد فيه 250 خطأ ما بين خطأ عقدي ولغوي وفكري وسياسي واجتماعي وعلمي وغير ذلك، وإني لأرجو الله أن يوفق علماء التفسير في الرد السريع على هؤلاء الغربان أعداء القرآن، الذين ينعقون بما لا يسمعون.
([57]) التفتازاني، التلويح على التوضيح، مطابع صبيح، القاهرة، ج1، ص20.
([58]) الندوي، علي، القواعد الفقهية، ط. دار القـلم، دمشق
1406ﻫ، ص43.
([59]) السدلان، صالح بن غانم، ص148، القواعد الفقهية الكبرى، وما تفرع منها، ص14، دار بلنسية، الرياض، 1999.
([60]) (ص20) عرفت القاعدة الفقهية بأنها: "حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف على أحكامه منه"، وعرفها الزرقا في المدخل الفقهي العام، ج2، ص946 بأنها: "أصول فقهية كلية من نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها".
ويفرق بين القاعدة والضابط عند الفقهاء، بأن القاعدة تحيط بالفروع والمسائل في أبواب فقهية كقاعدة (الأمور بمقاصدها) فإنها تطبق على أبواب العبادات والجنايات والعقود وغيرها من أبواب الفقه.
بمعنى آخر: تعابير فقهية مركزة تعبر عن مفاهيم مقررة في الفقه الإسلامي تبنتها المذاهب الاجتهادية في تفريع الأحكام وتنزيل الحوادث عليها وتخريج الحلول الشرعية للوقائع وتشمل مجالات الأحكام كلها.
أما الضابط: فإنه يجمع الفروع والمسائل في باب واحد مثاله: أيما أهاب دبغ فقد طهر، فهذا الحديث يمثل ضابطا فقهيا في موضوعه ويغطي بابا مخصوصا.
والقواعد أعم وأشمل من الضوابط من حيث جمع الفروع وشمول المعاني. وقد فرق العلماء بين القاعدة الفقهية والنظرية الفقهية وبين القاعدة التشريعية وبين القاعدة الأصولية، لكن المقام لا يتسع لتفصيل ذلك.
([61]) المصلح، د.عبدالله بن عبد العزيز، الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، هيئة الإعجاز، مكة المكرمة ط1، 1417ﻫ، ص26.
([62]) رواه الترمذي (2687) بترقيم أحمد شاكر، وابن ماجه، (4169) ترقيم فؤاد عبد الباقي.
([63]) دويدري، د. رجاء وحيد، البحث العلمي، ص109، دار الفكر، دمشق، ط1، 2000.
([64]) المرجع السابق، ص118.
([65]) أنظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج4، ص174، وانظر: نموذج لهذا المنهج من التفسير في: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
([66]) المسند، ج4، ص131.
([67]) انظر في ذلك محاسن التأويل، للقاسمي، ج1، ص21-22.
([68]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، كما في الإتقان للسيوطي، ج4، ص183. وانظر: الموافقات للشاطبي، ج3، ص391.
([69]) الإتقان، ج4، ص182. محاسن التأويل، ج1، ص98.
([70]) مجموع الفتاوي لابن تيمية، ج13، ص243.
([71]) مجموع الفتاوي، ج13، ص274.
([72]) د.مسلم، مصطفى، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم، الرياض، 1996، ص171-176. وانظر كتابه الآخر: مباحث في التفسير الموضوعي، دار القلم دمشق 1990.
([73]) (ص23) أنظر: إتقان البرهان للدكتور فضل عباس، ص126 فقد أورد نماذجا من التفسير للذين خرجوا به عن الضوابط الشرعية، وقد تجاوز البعض في المبالغة في مثل هذا التفسير، ففسر "والعاديات ضبحا فالموريات قدحا" بالسيارات، وما سمعناه من تفسير لبعض الآيات من سورة التوبة برقم السورة (9) ورقم الآية (11)، التي ادعى بعضهم أنها تتوافق من أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي وقعت في أمريكا.
([74]) الزنداني، عبد المجيد، تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص26-27.
([75]) سبق تخريجه.
([76]) د. المصلح، عبد الله، الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص28، 32.
([77]) راجع في هذا المجال: كتاب أسباب النزول لأبي الحسن علي بن أحمد النيسابوري، وجامع النقول في أسباب النزول، لابن خليفة عليوي، وانظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، مبحث نسخ السنة بالقرآن والقرآن بالسنة، المكتب الإسلامي، دمشق ط3، 1982، ص375، 394.
([78]) زيدان، عبد الكريم، الوجيز في أصول الفقه، دلالة النص، مؤسسة الرسالة ط7، بيروت 1997، ص361.
([79]) راجع: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ج3، ص95-95. وراجع: القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
([80]) راجع في هذا الباب: كتاب الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله.
([81]) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن، رقم (2950)، ج5، ص149.
([82]) أبو سليمان، د.عبد الوهاب إبراهيم، جدة، 1993، كتابه البحث العلمي ومصادر الدراسات الفقهية، دار الشروق ط1، ج1، ص19-20.
([83]) يحسن في هذا المقام، لتمام الرؤية الشرعية للاكتشافات العلمية ودلالاتها في القرآن والسنة، الاطلاع على كتاب: المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة (ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير) للدكتور يوسف القرضاوي، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت ط2، 1996، وكتاب: كيف نتعامل مع السنة النبوية (معالم وضوابط) للدكتور يوسف القرضاوي، طبع مكتبة المؤيد، الرياض 1990، وموسوعة الإعجاز في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، مكتبة ابن حجر، دمشق 2003.