أضيف بتاريخ : 28-01-2014


أثر اللغة العربية في تذوق معاني القرآن الكريم وفهمه (*)

الدكتور فضل حسن عباس رحمه الله/ جامعة اليرموك

الملخص

يهدف هذا البحث إلى بيان أثر اللغة العربية في فهم القرآن الكريم وتفسيره من خلال معرفة قواعد هذه اللغة وأصولها المتمثلة في الألفاظ ومعانيها ودلالاتها وأحكامها النحوية ولطائفها البيانية، وهو الوقوف على بعض حروف المعاني وما تحمله من دلالات لها أثرها في تفسير الآيات وفهم مرادها، ليشكل ذلك كله منظومة ضابطه لفهم القرآن الكريم وتذوق فصاحته وبلاغته وإدراك معانيه ومراميه.

المقدمة

لقد أثّر القرآن الكريم في العرب حينما سمعوه- على الرغم من أنّ أكثرهم لم يكونوا مؤمنين به – لكون العربية سجية من سجاياهم، وكلما كان الإنسان ذا بصيرة في اللغة كان أكثر قدرة على فهم القرآن وتذوق حلاوته، وهذه حقيقة لا يختلف فيها اثنان، لذا وجدنا أن كثيرا من غير المسلمين من ذوي المعرفة بالعربية كانوا يقّرون دائما بأن علوّ أساليبهم وقوة عارضتهم في اللغة وعظيم فصاحتهم يرجع إلى تأدبّهم بالقران الكريم.

أما من كانت بضاعته في اللغة مزجاة فليس له من فهم القرآن الكريم إلا حفظ الروايات ونقل الأقوال عن أصحابها.

يقول صاحب الكشاف عند قوله تعالى: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) 91/هود.

(فينا ضعيفا) لا قوة لك ولا عزة فيما بيننا.. وعن الحسن" "ضعيفا" مهينا، وقيل "ضعيفا" أعمى. وحمير تسمى المكفوف ضعيفا كما يسـمى ضريـراً، وليس بسديد، لأن " فينا يأباه. ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك "فينا" أعمى لم يكن كلاما؛ لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم"([1]).

ويعلق ابن المنير – رحمه الله- وهو الذي كثيراً ما يقسو على الزمخشري بقوله: وهذا من محاسن نكته الدالّة على أنه كان مليا بالحذاقة في علم البيان([2])

ويقول الإمام الطبري – رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) الشورى /23.

وقد ذكر أقوالا كثيرة في الآية منها: (إلا أن تودّوا قرابتي) أي يطلب منهم مودّة آل بيت النبوة وهو قول مشتهر عند كثير من الناس. ولكن ابن جرير الطبري – رحمه الله- يرفض هذا القول محتجا باللغة قائلاً: لو كان هذا المعنى مرادا لم يكن لدخول (في) معنى ولكان النظم "إلاّ مودة القربى"([3]). وهكذا نجد أن الأئمة رحمهم الله كانوا يرجعون إلى اللغة لتأييد المعنى الراجح وردّ المعنى المرجوح.

وفي عصرنا هذا نأى أكثر العرب عن لغتهم – لغة القرآن- وأصبحوا غرباء عنها، وأمسوا تتشوف نفوسهم، وتطرب عقولهم لفصاحتها وبيانها، ويقفون مدهوشين أمام عالم بها يحلل لغة القرآن، ويفق على أسرارها البيانية، وما تمتلكه من طاقة تدفع بالمعاني وتتدفق بها مبينة أسرار بلاغة هذا القرآن ودلائل إعجازه.

وفي ضوء هذه الحقيقة، آثرت أن اكتب في هذا الموضوع كي أكشف عن جانب من جوانب أصالة هذه اللغة وما تتصف به من قدرة لفهم القرآن والوقوف على معانيه، مما يستوجب تمسك أبنائنا بها على اعتبار أنها من مقومات ثقافتهم ووجودهم، واقتضت طبيعة هذا الموضوع أن أقسمه إلى مقدمة – وأربعة مطالب وخاتمة على النحو التالي:

المقدمة: تضمنت توطئة تعد مدخلاً حسنا بين يدي الموضوع مع الإشارة إلى سبب اختياري هذا الموضوع.

المطلب الأول: عناية العلماء بعامة وأهل التفسير والحديث بخاصة باللغة العربية.

المطلب الثاني: مجالات العناية باللغة وأثر ذلك في تفسير القرآن.

المطلب الثالث: احتمال الكلمة القرآنية المعاني المتعددة.

المطلب الرابع: الاختلاف في المعنى وأثره في اختلاف الأعاريب.

الخاتمة: دونت فيها خلاصة ما توصلت إليه.

هذا وإني لأرجو أن أكون قد وفقت إلى ما رميت إليه وقصدت، وحررت ما توصلت إليه بموضوعية وأمانة، ومنيتي أن يكون عملي خالصاً لوجهه تعالى ومتقبلاً عنده فهو حسبي وكفى.

المطلب الأول

 عناية العلماء وأهل التفسير والحديث باللغة العربية

لقد كانت عناية العلماء منذ العصور الأولى، وبخاصة علماء التفسير والحديث بالتضلع من اللغة وإدراك أسرارها، ومعرفة أصولها أمرا بديهياً، فإن الذي يريد فهم القرآن الكريم حريّ به أن يكون ملما بها إفراداً وتراكيب والأمثلة كثيرة، والشواهد متعـددة

أختار منها ما يأتي:

المثال الأول قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سبأ/28.

ولتسل كثيراً من الناس حتى من ذوي التخصص عن تفسير هذه الآية فإنهم سيجيبون دون تردد، إن معنى هذه الآية الكريمة، أي ما أرسلناك أيها النبي إلا للناس جميعا، فالآية تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، فمعنى كافة للناس – إذن للناس كافة، وهذا المعنى الذي فسّروا به الآية الكريمة رده المحققون من العلماء، لأكثر من سبب:

أما أولاً: فلسبب صناعي نحوي؛ لأن كافة ستعرب حالا من الناس، وإذا كان صاحب الحال جاراً ومجروراً فلا يجوز أن تتقدم الحال عليه وإلا كان ينبغي أن يقال وما أرسلناك إلا للناس كافة.

وأما ثانياً: فلو كان هذا المعنى مرادا من الآية الكريمة لجيء بـ (إلى) بدل اللام، أي وما أرسلناك إلا إلى الناس كافة؛ لذا جعل العلماء كلمة (كافّة) تابعة للرسالة لا إلى الناس.

قال الزمخشري: "(إلا كافة للناس) إلا إرساله عامة لهم محيطة بهن؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد منهم، وقال الزجاج: المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالا من الكاف، وحق (التاء) على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الرواية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجارّ.

وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين([4]).

ولا تقل أهمية مسائل الصرف عن  مسائل النحو في الكتاب العزيز.

يقول الزركشي: "فائدة التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن معنى واحد، فالعلم به أهم من معرفة النحو في تعرّف اللغة؛ لأن التصريف نظر في ذات الكلمة، والنحو نظر في عوارضها. قال ابن فارس([5]): من فاته علمه – أي الصرف- فاته المعظم، لأنا نقول "وجد" كلمة مهمة، فإذا صرّفناها اتضحت، فقلنا في المال "وجدا" وفي الضالة "وجدانا" وفي الغضب "مَوْجدة" وفي الحزن (وَجْدا) وقال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) الجن/15، وقال تعالى:(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات/9فانظر كيف تحول المعنى بالتصريف من الجور إلى العدل.

المثال الثاني: قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (سَوّلَ لَهُمْ) محمد/25 سهّل لهم ركوب المعاصي من السّول وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السّؤال من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا.

وقال أيضا: من بدع التفاسير أن (الإمام) في قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) الإسراء/71 جمع (أمّ) وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم لئلا يفتضح أولاد الزنا.

وقال الراغب في قوله تعالى: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) البقرة/72 هو تفاعلتم.

أصله: تدارأتم، فأريد منه الإدغام تخفيفا، وأبدل من التاء دال فسكن للإدغام فاجتلبت لها ألف الوصل، فحصل على أفّاعلتم.

وقال ابن جني: من قال: اتخذت افتعلت من الأخذ، فهو مخطئ قال: وقد ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج وأنكره عليه أبو عليّ.

وأقام الدلالة على فساده، وهو أنّ ذلك يؤدي إلى إبدال الهمزة تاء، وذلك غير معروف"([6])، وإذا كان هذا في أمر النحو والصرف، فإن معرفة البيان أعظم أثراً وأشد حاجة، بل هو ضرورة ملحة؛ لأنه يتصل به إعجاز القرآن الكريم.

وإذا أردنا أن ندرك حاجة المفسّر الذي يريـد أن يسمو في تذوق القرآن الكريم والغوص على معانيه، والتحليق في استخراج كنوزه، إلى أن يكون ذات بصيرة ودراية وإطلاع ومعرفة بأساليب اللغة، أقول إذا أردنا معرفة هذا كله فخير ما يرشدنا إلى هذا ما كتبه الإمام الزمخشري في مقدمة كشافة، والشاطبي في موافقاته.

قال الزمخشري - رحمه الله-: "ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يبهر الألباب القوراح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها- علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كلّ ذي علم – كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بّز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقّوة لحييه – لا يتصدّى منهم أحمد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلاّ رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن هما علم المعاني وعلم البيان وتمهل في إرتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانها همّة في معرفة لطائف حجة الله وحرصّ على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحّظ، جمعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّدها، يقظان الحس درّاكا للمحة وإن لطف شأنها منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كّزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر مرتاضا غير ريّض بتلقيح بنات الفكر، قد عرف كيف يرتّب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف طالما دفع إلى مضايقـه ووقع في مداحضه ومزالقه([7]).

وقال الشاطبي– رحمه الله- في الموافقات: "فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر، فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الفرق بين (ضيّق) في قوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) الأنعام/125 وبين (ضائق) في قوله: (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) هود/12، والفرق بين النداء بيا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا، وبين النداء بيا أيها الناس أو بني آدم، والفرق بين ترك العطف في قوله:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ) البقرة/6 وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله: (مَا أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا) الشعراء/154 وبين الآية الأخرى (وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا) الشعراء/186، والفرق بين الرفع في قوله: (قَالَ سَلامٌ) الذاريات/25 والنصب فيما قبله من قوله: (قَالُوا سَلامًا) والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ) الأعراف/201 وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله: (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )أو فهم الفرق بين (إذا) و(إن) في قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ) الأعراف/131  وبين "جاءتهم" و "تصبهم" بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن، وكذلك قوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ) الروم/36 مع إتيانه بقوله "فرحوا" بعد (إذا) و(يقنطون) بعد "إن"، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة متأخري أهل البيان – فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي فقد حصل فهم ظاهر القرآن([8]).

المطلب الثاني

مجالات العناية باللغة وأثر ذلك في تفسير القرآن

لا يرتاب أحد في ما للعربية من أثر في فهم القرآن الكريم ودعوة صريحة للعناية بشأن هذه اللغة لغة القرآن الكريم وتطبيقا على ما ذكرناه أسوق الأمثلة الآتية ليأتي هذا المطلب جامعاً بين النظرية والتطبيق.

المجال الأول: في التقديم والتأخير نقرأ قول الله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء/ 88 فلقد قدّم الإنس هنا لأن المقام مقام تحدّ وهم المعنيون به.

ونقرأ قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ) الرحمن/33 ولما كان الجّن أقدر على الحركة والتشكل قدّموا على الإنس في هذه الآية الكريمة.

ونقرأ قول الله تعالى في سورة البقرة: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ) البقرة/284 حيث قدّمت هنا الأعمال الظاهرة للإنسان. لكننا نقرأ في سورة آل عمران: (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) آل عمران/29 فقد قدّم هنا ما يخفيه الإنسان على ما يبديه. وما ذلك إلا لأن الآية الكريمة جاءت في سياق موالاة غير المؤمنين. وهي من الأعمال التي لا يحبّ الموالون لغير المؤمنين إظهارها، بل تكون سرّا بينهم وبين أعداء الله.

المجال الثاني: وفي العطف وتركه نقرأ قول الله تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) البقرة/5-6 حيث عطف الجملة الثانية (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)على التي قبلها وتركت الجملة الثالثة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) بلا عطف على حين نقرأ قول الله تعالى في سورة الأعراف: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179 ونقرأ قول الله تعالى في سورة الانفطار: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) الانفطار/13-14، حيث جاء العطف بين هذه الجمل. وذلك كله إنما جاء من اجل دقّة المعنى الذي يقصد إليه القرآن([9]).

المجال الثالث: وفي تقييد الجملة بالشرط نقرأ قول الله تعالى في سورة البقرة: (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) البقرة/239 حيث جاءت الجملة الأولى التي ذُكر فيها فعل الخوف مقيّدة بـ (إن) والثانية التي ذكر فيها الأمن مقيدة بـ (إذا). وعلماء البيان بينوا بيانا شافيا الفرق بين الأداتين: إن وإذا، حيث ذكروا أن (إذا) تكون للأمر المحقق على عكس (إنّ).

نقرأ قول الله تعالى في سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ونقرأ في الآية التي تليها: (وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا ) الممتحنة/11.

ولما كان مجيء المؤمنات مهاجرات أمرا محققا شهد التاريخ بتحققه عُبر بـ (إذا) ولما كان ارتداد المرأة عن الإسلام أمرا نادراً أو غير واقع عبّر بـ (إنْ).

المجال الرابع: صيغ الأفعال: أما في صيغ الأفعال فنقرأ التعبير بالفعل الماضي تارة وبالفعل المضارع تارة أخرى، وقد يكون ذلك في جملة واحدة مثل قوله تعالى: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) البقرة/87 وقد يكون في جملتين مختلفتين. قال تعالى: (قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) النمل/40، على حين نقرأ في سورة لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) لقمان/12 فانظروا –علمني الله وإياكم- كيف عبّر عـن الشكر بصيغتين مختلفتين.

وفي سورة النازعات نقرأ قول الله تعالى: (يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ* أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) النازعات/10-12 فلقد ذكر الفعل المضارع أولا (يقولون) ثم ذكر الفعل الماضي(قالوا)، وهذا فيه ما فيه من بديع النظم وعلو شأنه([10]).

المجال الخامس: وضع الحروف المختلفة: قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا) غافر/13 وفي آية الأنفال: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء) الأنفال/11 وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الفتح/4 وفي آية أخرى:(فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الفتح/26 كلتاهما في سورة الفتح.

المطلب الثالث

احتمال الكلمة القرآنية المعاني المتعددة

وقد تحتمل الكلمة أكثر من معنى فيجّد العلماء السير ويجهدون الفكر ليختاروا المعنى الذي هو أليق بالآية الكريمة، فإن هذا القرآن هو أشرف الألفاظ وأصح المعاني وأحسن النظوم كما قال الخطابي – رحمة الله- جدير أن نبحث فيه عن المعنى المختار الذي ليس فيه تكلف ولا شطط.

ومن هذا القبيل مثلا: أن تكون الكلمة دالّة على الاستفهام أو النداء أو الاستفهام والنفي معاً، أو أن تصلح أن تكون أسما موصلاً أو حرفاً نافياً، وإليكم أمثلة لذلك كله:

أولاً: قال تعالى في سورة الزمر:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) الزمر/9.

ذكر ابن هشام – رحمه الله- في مغني اللبيب أن الهمزة في قول الله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) يمكن أن تكون للاستفهام، فيكون المقصود من الآية الكريمة بعد المنزلة ما بين القانتين القائمين وبين غيرهم؛ وذلك كالبعد بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ويمكن أن تكون الهمزة للنداء، أي يا من هو قانت آناء الليل، فيكون ذلك تشريفاً لهذه الفئة، كما شرفت في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

ولكن الذين نطمئن إليه منسجماً مع تدبر أي الذكر الحكيم أن الهمزة في الآية الكريمة للاستفهام لا للنداء؛ لم تستعمل للنداء في كتاب الله، ومن أراد مزيدا فليرجع إلى مغني اللبيب في باب الهمزة.

ثانياً: قال تعالى في سورة القمر: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) فـ(ما) في قوله تعالى: (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يحتمل أن تكون للاستفهام، أي: أيّ إغناء يمكن أن تغنيه النذر؟ أو أي شيء يمكن أن يفيد منه الكفرة؟ ويمكن أن تكون للنفي، أي لا تغني النذر عن هؤلاء شيئا، ونحن نعلم ان أسلوب الاستفهام الإنكاري قد يكون أحيانا أبلغ من أسلوب النفي الصريح، وهذا الذي قرره أئمة البيان والمفسرون.

ثالثاً: قال تعالى: (لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) يس/35 اختلف المفسرون في معنى (ما) من قوله (وما عملته، قال قوم: إنها نافية، والمعنى: أحيينا الأرض وجعلنا فيها جنا، وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من هذا الثمر الذي ليس لهم فيه شيء يذكر، فهو ميّة من الله تعالى لم تعمله أيديهم.

وقال آخرون: إن (ما) في الآية: اسم موصول والمعنى ليأكلوا من هذا الثمر وليأكلوا من الذي عملته أيديهم من غيره والذي يترجح سياقا ونظما المعنى الأول:

النفي؛ لأن المقام مقام امتنان وتفضل، فالأليق والألصق بالمعنى ما عرفت وهو أن تكون (ما) نافية لا اسماً موصولاً.

ومثل هذا في كتاب الله حري أن تُضرب له أكباد الإبل وأن تنفق فيه الأوقات، لأنه خير الزاد وأفضل الأقوات.

رابعاً: من دقة المفسرين -رحمهم الله- وإجلالهم لكتاب الله تبارك وتعالى، وعنايتهم بتفسيره ليحملوا الآية الكريمة على المعنى الألصق بها حتى لا يكون هناك أي شائبة تعكر على القارئ فهم الآية الكريمة، أقول من دقة المفسرين – رحمهم الله- أنهم قد يتركون المعنى القريب للكلمة ويبحثون لها عن معنى آخر تعين عليه اللغة. وإليكم هذا المثال:

قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا) الكهف/32-34.

والمعنى القريب للثمر هو ما تحمله الشجر وبهذا فسره بعض المفسرين لكن بعض المحققين لم يرض هذا التفسير؛ لأنه يترتب عليه محظور ينبغي أن نجل القرآن الكريم عنه، بيان ذلك: أنه جاء في الآية الكريمة: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) والأكل هنا هو الثمر، فإذا فسرنا الثمـر في قوله تعالى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) بما تحمله الشجر، كان ذلك تكرارا ما عهدناه في أسلوب الكتاب الكريم؛ لذا ذهب بعض المحققين إلى أن معنى الثمر في الآية الكريمة أنواع المال من نقد أو ذهب وفضة وغير ذلك، وهذا أمر

لا تنكره اللغة، قال الشهاب الألوسي – رحمه الله- "ثمر: أنواع المال كما في القاموس وغيره، ويقال ثمّر إذا تمّول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم"([11]) جزى الله أئمتنا عن كتاب الله وعنا خير الجزاء.

الخامس: قال تعالى: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ) مريم/18.

سادساً: قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) الزخرف/81.

ذهب بعض المفسرين إلى أنّ (إنْ) في الآيتين الكريمتين نافية، فمعنى " إنْ كنت تقيا": ما كنت تقيـاً، ومعنى (إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) : ما كان للرحمن ولد.

فتحن نعلم ان (إنْ) قد جاءت نافية في كتاب الله في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: (إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ) فاطر/23، (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا) النجم/23، (وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) فاطر/41 فـ (إنْ) في قوله (ِنْ أَمْسَكَهُمَا) نافية، ولكن ليس معنى هذا أن (إنْ) في كل آية ينبغي أن تكون نافية. وعلى الرغم من أنّ بعض المفسرين ذهب إلى أنّ (إنْ) في آيتي مريم والزخرف نافية.

ولكنّ المحققين ذهبوا غير هذا المذهب ورأوا أنّ (إنْ) على بابها أيْ شرطيّة. فمعنى الآية الأولى: إني أعوذ بالرحمن منك حتى إنْ كنت تقيا، لأنّ مجيئك فيه ريبة مع علمها بأنه لا يمكن لأحد الوصول إليها إلاّ زكريا عليه السلام. ومعنى الآية الثانية: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون فأنا أوّل العابدين له ولكن ليس الأمر كما زعمتم.

وفي ضوء ما تقدم نجد المفسّرين – رحمهم الله- يفترضون كل احتمال ليصلوا إلى المعنى الذي هو أليق ما يكون بتفسير الآيات الكريمات.

تلك بعض الشذرات التي تبين لنا ضرورة التضلع من اللغة لمن أراد أن يزداد فهما لكتاب الله فضلاً على من أراد إن يقوم بمهمة تفسير هذا الكتاب الكريم.

المطلب الرابع

  الاختلاف في المعنى وأثره في اختلاف الأعاريب

والنظار في كتب التفسير وبخاصة تلك التي تعنى بالاتجاه اللغوي يجد أن أصحابها – رضي الله عنهم- يذكرون أكثر من وجه في إعراب الكلمة أو الجملة. والذي ينعم النظر يدرك أن هذه الأعاريب ليست فضلة من القول، بل تتصل بالمعنى اتصالا مباشراً وهذا يدلنا على أهمية اللغة بجميع فروعها في فهم القرآن الكريم وتذوق معانيه.

أولاً: عند قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) البقرة/8 وما يشبهها مثل قوله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) البقرة/165، وقوله تعالى: (مِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) البقرة/204، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) البقرة/205 وهذا التركيب كثير في القرآن الكريم.

المعلوم بداهة أن الجارّ والمجرور في مثل هذه الجمل يكون خبراً مقدماً، وما بعده مبتدأ مؤخراً، فإذا قلنا (على الله الاعتماد) (ومن الله العون)، (وبالله الثقه) (لله الأمر) فإن الجارّ والمجرور خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر ولكن العلامة أبا السعود شيخ الإسلام–رحمه الله رحمة واسعة- ذهب مذهبا آخر فقال: ومن الناس في محل رفع مبتدأ، فـ (من) تبعيضية، والمعنى وبعض الناس من يقول آمنا، وبعض الناس يتخذ من دون الله أنداداً، وبعض الناس يجادل في الله بغير علم، وبعض الناس يعبد الله على حرف، ففي هذه الجمل كلها وغيرها مما يشبهها تعرب الجارّ والمجرور في محل الابتداء، وما بعده الخبر.

ولكن ما الذي حمل على هذا الإعراب؟

الناظر فيما قاله أبو السعود يجد الملحظ الدقيق الشفاف في فهم الكتاب الكريم فنحن نعلم أن المبتدأ ينبغي أن يكون معلوما لدى المخاطبين. وأن الخبر هو الذي تتم به الفائدة، وقال ابن مالك – رحمه الله- في الألفية:- والخبر الجزء المتم الفائدة كالله برُ والأيادي شاهدة فإذا جعلنا (ومن الناس) خبرا و(من يقول) مبتدأ، يصير التركيب هكذا (ومن يقول آمنا بالله وباليوم الآخر من الناس) و (من يعجبك قوله في الحياة الدنيا من الناس، و(من يجادل في الله بغير علم من الناس)، ومثل هذا التركيب لا فائدة فيه، ويجلّ عنه القرآن الكريم، لأن كون هؤلاء من الناس أمر مفروغ منه، فلا يليق في أي كلام من كلام الناس ، فمـا بالك بكلام الكبير المتعال؟

لكن إذا قلنا بعض الناس يقول آمنا.. وما يشبه هذا التركب، فإن هذا الكلام مفيد، يدلنا على أن الناس ليسوا سواء، فمنهم كذا ومنهم كذا، أرأيت إلى هذا الملحظ الدقيق في اختلافهم في الإعراب؟

ثانياً: قالت تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء...) الخ الآية البقرة/21-22.

أعرب بعضهم (الذي) في قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً)، مبتدأ، وآخرون أعربوها صفة أو نعتا لقوله ربكم في قول الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ)، ولكمن العّلامة أبا السعود اختار الإعراب الثاني، وهو أن (الذي) صفة لـ (ربكم) وقال إن هذا الاختيار أليق بالمعنى، ذلك لا، خاتمة الآية الثانية (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً) فإذا قطعنا أول الآية عما قبلها، فأعربنا (الذي جعل...) مبتدأ، فيكون النهي عن جعل الأنداد، لأن الله جعل الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من المساء ماء.

أما إذا أعربنا (الذي) صفة لـ (ربكم)، فيكون النهي عن جعل الأنداد، لا من أجل ما ذكر فحسب، بل من أجل شيء زائد على ذلك، وهو أن الله تبارك وتعالى ربكم هو الذي خلقكم والذين من قبلكم، وهذا لا شك أليق بالمعنى، إذ كيف تجعل لله نّدا وهو أنعم عليك بنعمة الخلق اولا، ثم بنعمة البقاء حيث جعل لك فراشا.

ثالثاً: قال تعالى في سورة النازعات..(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) النازعات/8-9 أعرب الزمخشري – رحمه الله- واجفة: صفة للقلوب، التي هي مبتدأ وقوله" أبصارها خاشعة"، خبر مبتدأ، ولكن العلاّمة أبا السعود – رحمه الله- رأى رأيا أخر، وهو أن قوله "واجفة"، هي الخبر، وقوله "أبصارها خاشعة" في محل الصفة.

المعلوم أن الخبر عمدة، وأن الصفة فضلة، وأن رجيف القلوب أكثر هولاً وأشد أثراً من خشوع الأبصار، وخشوع الأبصار أهون من رجيف القلوب، فكيف نجعل ما يدل على التهويل صفة، وما يدل على التهوين خبرا وهذه عبارته – رحمه الله- حيث يرد على صاحب الكشاف: "قوله تعالى: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ)، أي يوم ترجف القولين قيل، قولب مبتدأ، ويومئذ متعلق بواجفة، وهي صفة لقولب مسوغة لوقوعه مبتدأ، وقوله تعالى (أَبْصَارُهَا) أي أبصار أصحابها (خَاشِعَةً) جملة من مبتدأ خبر وقعت خبرا لقلوب، وقد مر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قالوا إن الصفات قبل العم بها أخبار، والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان ثبوت الوجيف للقلوب وثبوت الخشوع لأبصار أصحابها سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوانا للموضوع مسلم الثبوت مفروغا منه، وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكم بحت، على أن الوجيف الذي هو عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل، أشد من خشوع البصر وأهول، فجعل أهون الشرين عمدة وأشهدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام، وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل فالوجه أن يقال: تنكير قلوب يقوم مقام الوصف المختص سواء حمل على التنويع كما قيل وإن لم يذكر النوع المقابل، فإن المعنى ينسحب عليه، على التكثير كما في شر أهر ذا ناب فإن التفخيم كما يكون بالكيفية يكون بالكمية أيضا، كأنه قيل: قلوب كثيرة يوم إذ تقع النفختان واجفة، أي شديدة الاضطراب([12]).

رابعاً: وقد يذكرون وجوها كثيـرة في إعـراب الكلمة الواحدة دون تعليل اعتمادا على فهم القارئ، وأكتفي بمثال واحد لهذا النوع.

قال الله تعالى في أول سورة الدخان: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) الدخان/1-8.

ففي قوله سبحانه (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، قالوا إن قوله (رب) يمكن أن تكون نعتا ويمكن أن تكون بدلا، ويمكن أن تكون عطف بيان، ولم يبينوا ما يتفرع على هذه الأعاريب من معان، اعتمادا على معرفة القارئ لما يكتبون.

والحق أن هذه الأعاريب، إنما نتجت عن الاختلاف في المعنى المراد، فمن جعل قوله سبحانه: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) مدحاً وثناء على الله، أعربها نعتا. ومن جعلها المقصود بالحكم أي إن كونه رب السموات الأرض من شأنه أن يكون قادراً على إرسال الرسل وإنزال الآيات، فعلى هذا المعنى تكون بدلا، لأن البدل هو التابع المقصود بالحكم بلا واسطة كما يقولون، قال العّمة ابن مالك: التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلا.

ومن قال: إن المقصود من قوله: (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه وإن قوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) جاءت توضيحا لهذا أعربها عطف بيان. فبحثوا - رحمني الله وإياكم وغفر لي ولكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وهو الفاتح مما شاء لمن شاء، ابحثوا عن هذه الدقائق في فهم الكتاب العزيز، فإن أئمتنا رحمهم الله: كما قلت، قد يذكرون الكلام مجملا دون تفصيل.... على فهم القارئ كما كانوا يعرفون في زمانهم.

فهذا هو العّلامة أبو السعود يقول عند قوله: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ..)في (الآية 6: سورة ق): "أغفلوا أو أعموا فلم ينظروا"([13]).

هذه الجملة على إيجازها منه– رحمه الله- تحمل معنى كبيرا، يريد أن يقول الشيخ - رحمه الله- إن النظر في الآية الكريمة، إما أن يكون مقصودا به الفكر، أي أفلم ينظروا، أين يفكروا، وإما أن يكون المقصود النظر بالعين أي أولم يبصروا، فإن كان الأول، أين أن النظر معناه الفكر، كان المعنى (أغفلوا فلم يفكروا) لأن المقابل للفكر الغلة، وإن كان الثاني كان المعنى (أعموا فلم ينظروا) لا، المقابل للعمي الإبصار، فعضوا رحمكم الله، وبارك لي ولكم بالقرآن الكريم على هذه اللطائف والدقائق، فإن فيه...

الخاتمة

وقد هذه الجولة السريعة في ربوع لغة القرآن ومراجعها وما تحتفظ به من أهمية وما تتصف به من دقة تتميز بها على غيرها، وما لذلك من أثر في الوقوف على معاني القرآن الكريم وأسراره ولطائفه بعد ذلك أود أن أسجل ما توصلت إليه بإيجاز:

أولاً: عناية العلماء والمفسرين باللغة العربية على اعتبار أنها لغة القرآن والوسيلة لفهم معانيه ومعرفة أحكامه وحكمه.

ثانياً: دقة ألفاظ القرآن الكريم وما تحمله من وجوه ومعاني تصلح أن تكون قواعد يحتكم إليها في الوصول إلى ما يجب قبوله والأخذ به لقوته وقيام الدليل على اعتباره. وما يجب طرحه لضعفه ولقيام الدليل على خلافه.

ثالثاً: العناية بالكلمة القرآنية لما تحمله من لطائف بيانيه وأسرار بلاغية، وبالجملة لما تتصف به من التفرج بحسن النظم والتميز في جودة التأليف وقوة الرصف.

رابعاً: لاختلاف وجوه الإعراب أثّر في اختلاف وجوه المعاني إذ الإعراب فرع المعنى وهذا يقتضي بالضرورة دقةَ في الفهم والإدراك، وقدرةَ على المعرفة بالنحو قواعِده وشواهده.

خامساً: حفظ القرآن الكريم للغة العربية بضبط قواعدها وأصولها وإغنائها بالشواهد والأمثلة وهذا يكسبها قوة تحفظ وجودها وديمومتها يعمل على سعتها وتطور دلالتها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، العدد (1)، 1426ه‍/ 2005م.

 

الهوامش:

 


([1]) الزمخشري، محمود عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل، دار الريان للتراث، القاهرة، 1987م، ج2، ص 423.

([2]) الكشاف، ج2، ص 423 انظر الحاشية.

([3]) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1988م.

([4]) الكشاف، ج3، ص 583.

([5]) هو تلميذ ابن جني.

([6]) الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، المكتبة العصرية، بيروت، 1972م، ج1، ص 297. ويرى المحققون أن الفعل (تَخِذَ) بالكسر على وزن شَرِب.

([7]) الكشاف، ج1، المقدمة: ن- س.

([8]) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة التجارية، مصر، ج3، ص 386-388.

([9]) راجع في ذلك الكشاف تفسير الآية.

([10]) انظر في ذلك: أبو السعود، محمد بن محمد بن مصطفى، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999م، ج5، ص 274.

([11]) الألوسي، شهاب الدين سيد محمود الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1999م.

([12]) تفسير أبي السعود، ج5، ص 230.

([13]) تفسير أبي السعود، ج5، ص 235.