أضيف بتاريخ : 18-12-2012


­ الاجتهاد الاستثنائي وأثره في فقه التطبيق(*)

أ.د. محمود صالح جابر/ كلية الشريعة - الجامعة الأردنية

السيد عمر مونة/ كلية الشريعة - الجامعة الأردنية

ملخص

تناول هذا البحث حقيقة الاجتهاد الاستثنائيِّ؛ بالكشف عن مفهومه، والإبانة عن المناهج الأصوليَّة التي تنتهض به؛ فهي إذ ذاك جزءٌ من حقيقته. ثمَّ ثنينا بمبحث عرضت فيه إلى مفهوم فقه التنزيل وأهميَّته ومراحله.

وأخيرًا؛ عرضنا لمبحثٍ يُبِيِّن أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من خلال: ذكر أسس فقه التنزيل وبيان موقع الاستثناء فيها. وكذا رصدُ تجليات الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التنزيل من حيث الواقع التطبيقيِّ، مع ذكر شواهد من فقه الصَّحابة والأئمة المجتهدين التي تشهد لهذا الاجتهاد بالاعتبار، وتجعله سننًا أصيلاً في الاستنباط.

المقدمة

الحمد للهِ الكبير المتعال، صاحب صدقِ الحديث وحسنِ المقال، أحمده وأستعينه وأستهديه، وصلى الله على نبيِّه المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلى الآل والصحب والتابعين، وبعد:

فإن الله منَّ على أمة الإسلام؛ فأرسل فيهم رسولاً بيَّنَ لهم الحلالَ والحرام، وشرع لها دينا هو ملاذُها عند الشدائد، حتى لا يلتاثَ عليها أمرُها، وتكون جميع شعاب الحياة مُتهدِّيةً بنور شريعة ربِّها، فبلَّغ صلى الله عليه وسلم هذا الدين أتمَّ بلاغ، إلى أن توفَّاه الله جل جلاله إليه، ولا يزال الفقهاءُ والمجتهدون بعده يبيِّنون أحكام الشرع القويم، في اجتهاد منسجمٍ مع تطوُّرات العصرِ وَفق قواعد الشرع الحنيف، حتى تركوا ثروة فقهيَّةً ضخمة تشكَّلت نتيجةً لتواصل رَحِمِ الاستنباطِ عند علماء هذه الأمة، هذه الاجتهادات الأصيلة كانت مبنيَّة على مناهج وضوابط بيَّنها علماؤنا، صـار لزامًا على من أراد أن يستدَّ اجتهاده اتِّباعُها.

وحتَّى يكون استجلاب الحكمِ من النص الشرعيِّ صَّحيحًا، ينبغي أن يخضع إلى منهجيَّة في الاستنباط تنتظم مرحلتين في عمليَّة الاجتهاد: مرحلة الفهم، ومرحلة التَّنزيل والتَّطبيق.

وغير خاف ما لفقهِ تنزيلِ الأحكام الشَّرعية من الأهميَّة، فليس يدنو الفقهَ التَّفسيريَّ البيانيَّ منزلةً، إذ الشَّريعة لا تعمل في فراغ، وغايتُها أن تُطبَّق على أرض الواقع، فبدون التطبيق لن نُفيدَ من تفسيرنا للنُّصوصِ؛ وكثيرا ما يطلق عليه الأصوليون -تحقيق المناط- يقول الشَّاطبيُّ مُبِينًا عن أهميَّته: "فالحاصل أنه لا بدَّ منه بالنسبة إلى كلِّ ناظرٍ وحاكمٍ ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلَّف في نفسه ... ولو فُرِض ارتفاع هذا الاجتهادِ؛ لم تَتَنزَّل الأحكامُ الشرعيَّةُ على أفعال المكلَّفين إلا في الذِّهن ... وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وكلُّه اجتهاد"([1]).

ومن الأسس المنهجيَّة في عملية تنزيل الحكم وتحقيق مناطِه، لحظ المآل، فيتبصر المجتهِد بما يَنجرُّ عن تنزيل النَّصِ -العامِّ المجرَّدِ- على الواقع المعروض؛ من مآلات ونتائج؛ فإن كان تنزيلُه على هذا الوجه آيلاً إلى تحقيق مقصِد الشارع من تشريعه؛ أمضاه وأجراه.

وإن استتبع مفاسدَ تربو مصلحةَ تنزيلِه وإجرائه كما هو فإنَّ المجتهد يلجأُ إلى الاجتهادِ الاستثنائيِّ -تعديلاً، أو تغييراً، أو تأجيلاً، أو إيقافًا- كي يبقى المنطقُ التَّشريعيُّ متَّسقا في استجلاب المصالح ودرء المضارِّ والمفاسد، وتسلم الوحدةُ التشريعةُ من التَّهافت والاختلاف.

فتتبدَّى أهمية الموضوع إجمالاً فيما يأتي:

1.  ترشيدُ الاجتهادِ التَّنزيليِّ؛ قصداً إلى سلامةِ تطبيقِ الأحكام الشَّرعيّة على الوقائع، وَفْقَ منهجيَةٍ متَّسقةٍ.

2. المواءمة بين الأحكام الشرعيَّة ومقاصدها؛ حتى يَسلَمَ المجتهدُ من التَّنزيل الآليِّ للنصوص؛ والذي شأنه الحتميُّ الوقوعُ في الزَّلل، ويحافظ بذلك على اتِّساقِ المنطِق التَّشريعيِّ.

3. إيجاد صياغةٍ منهجيَّةٍ لتطبيقِ الأحكام الشَّرعيّةِ في ظـلِّ مستجدَّات الواقع الرَّاهن ونوازلـه، حتَّى يواكب طرحُ المسلميـن لمشروعِهم الإسلاميِّ التغيريِّ؛ مستجدَّاتِ الواقعِ، والتَّطوّر الحادث في شتَّى مجالاته.

فالاجتهاد الاستثنائيُّ هو خطوة قد يستوجبها الاجتهاد التنزيليُّ تبعا للظروف الملابسة، وما يستتبع الواقعة من مآلات ضرريَّة لو تطرَّد إجراء الحكمِ الأصليِّ.

وللإمامِ العزِّ مقولةٌ بديعةٌ في ذلك؛ نصُّها: "اعلم أنَّ الله شرع لعباده السَّعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربو على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق، ... وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصرفات"([2]).

فالاستثناء حين توجد مقتضياته؛ سَنن تشريعيٌّ معهود؛ بل مطلوبٌ، يجب على المجتهد والمفتي أن ينحو نحوَه، وأن يسير وفقه؛ كيما يعصِم اجتهادَه من الخطاءِ والخطَلِ، ويتلمَّس مقاصِد الشرع في الأحكام.

بيدَ أنَّ الاجتهاد الاستثنائيَّ تبلغ فيه درجة ُالخطر مبلغا عظيمًا؛ فبِقدر أهميَّته وفائدته يعظم خطرُ الخطأ فيه -والغنمُ بالغرمِ- إذا ما تقحَّمه من لم يتأهَّل له، وإذا خلا من ضوابطه؛ فهو ساعتَئذٍ موصلٌ إلى ظلماتِ تعطيل الشَّرائع تحجُّجا بالاستصلاحِ، والانفلاتِ من أحكامها بدعوى الاستثناء! ورحمة الله على الشَّاطبيِّ إذ قال: "... وهو مجال للمجتهد صعب المورِد، إلا أنَّه عذب المذاق، محمود الغبِّ، جار على مقاصد الشَّريعة"([3]).

فلهذه الأسباب؛ رأينا أنَّه من الواجب على طلبة العلم أن يطرقوا هذا الاجتهاد بالبحث؛ كوحدةٍ كليَّة متناسقةٍ، إذ لا شكَّ أن عناصره مبثوثة في كتب الأصول والقواعد والمقاصد؛ ولا ضيرَ فالعلوم الإنسانيَّة -ومنها علم الشريعة- تراكميَّةٌ.

والنظر إلى الموضوع نظرة كليَّة استشرافيَّة من شأنه أن يكشف خبايا كانت في زوايا البحث الأحاديِّ التَّجزيئيِّ.

من هنا؛ رغبنا أن نسهم في هذا المجهود الجليل؛ بالبحث عن بعض عناصره؛ ومنها موضوع: الاجتهاد الاستثنائيُّ وأثره في فقه التنزيل.

فسيجيء البحث كاشفًا عن:

1. حقيقة الاجتهاد الاستثنائيِّ - من حيث مفهومه، والمناهج الأصولية التي تنتهض به-.

2.   مفهوم فقه التطبيق وأهميته ومراحله.

3.  أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من حيث - أسسُه، وتجلِّيات ذلك في التنزيل الواقعيِّ-.

وللإبانة عن ذلك؛ جاءت عناصر هذا البحث موزعة وَفق الخطَّة الآتية:

المطلب الأوَّل: حقيقة الاجتهادِ الاستثنائيِّ:

الفرع الأوَّل: مفهومُ الاجتهادِ الاستثنائيِّ.

الفرع الثَّاني: المناهجُ الأصوليَّةُ المنتهِضةُ بالاجتهادِ الاستثنائيِّ.

المطلب الثاني: مفهوم فقه التطبيق وأهميَّته ومراحله:

الفرع الأوَّل: مفهومُ فقه التطبيق وأهميَّته.

الفرع الثَّاني: مراحل فقه التنزيل.

المطلب الثالث: أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التَّطبيق:

الفرع الأول: أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من حيث أسسُه.

الفرع الثَّاني: أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من حيث التنزل الواقعيُّ.

خاتمة: وفيها أهم نتائج البحث.

واللهَ أسأل؛ أن يرزقنا الإخلاص والسَّداد؛ في القول والعمل والاعتقاد، إنه بكلِّ جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المطلب الأول

حقيقة الاجتهاد الاستثنائيِّ

قبل الولوجِ في تصاريفِ مباحث الموضوع تتعيَّن تجليةُ حقيقة الاجتهاد الاستثنائيِّ؛ ليتبيَّن المقصود من هذا التركيب الوصفيِّ، لا جرم وأنَّ هذا التركيب ليس دارجًا في كتب الأصول بهذا الإطلاق؛ ولأنَّ الاجتهاد الاستثنائيَّ ينتهض به منهجان من مناهج الاستنباط الأصوليَّة، تُعَدُّ كالأساس التي يقوم عليه هذا الاجتهاد؛ كان ذلك داخلا في تشكيل حقيقته:- فناسب أن أجعل المطلب فرعَين: أحدهما أُبيِّنُ فيه مفهوم الاجتهاد الاستثنائيِّ، وأثنِّي بفرع آخر: يُجلِّي المناهج الأصوليَّة المنتهضة بالاجتهاد الاستثنائيِّ.

الفرع الأول: مفهومُ الاجتهادِ الاستثنائيِّ:

بادئ ذي بدءٍ؛ يتعيَّن الوُقوفُ على مفهوم "الاجتهاد الاستثنائيِّ" عند أهل اللِّسان العربيِّ، وكذا في اصطلاح أهل العلم؛ فكان لِزامًا على الباحث أنْ يعرِض إلى مفهوم هذا التَّركيبِ الوصفيِّ، المُؤسَّس على كلمتين: "الاجتهاد" و"الاستثنائيِّ".

وعليه؛ فإنِّي سأطرُقُ بالبحث والنَّظر كُلاًّ من الكلمتين في اللُّغة والاصطلاحِ؛ لأَخلُصَ إلى تحديد معنى هذا التَّركيبِ الوصفيِّ:

الفقرة الأولى: تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحًا:

أوَّلا: تعريف الاجتهاد في اللغة:

الاجتهاد على وزن افتعال؛ مشتقٌّ من الجَهدِ والجُهدِ، قال الزَّبيديُّ: "والتَّجاهُد: بَذْلُ الوُسْعِ والمَجهودِ، كالاجْتِهادِ افتعالٌ من الجَهْدِ"([4]).

قال ابن منظور: "الجَهْدُ والجُهْدُ الطاقة ... وقيل الجَهْد المشقةُ والجُهْدُ الطَّاقة"([5]).

وفيه قال ابن الأثير: "وهو بالضَّمِّ: الوُسْع والطَّاقة وبالفَتْح: المَشَقَّة، وقيل المُبَالَغة والْغَايَة. وقيل: هُمَا لُغتَان في الوُسْع والطَّاقَة، فأمَّا في المشَقَّة والْغَاية فالفتح لا غير"([6]).

فالاجتهاد يطلق على ما فيه كُلفَة ومشقَّة، وبذلٌ للوسع؛ في تطلُّب حصولِ أمرٍ وغاية؛ قال الزَّبيديُّ: "الاجتهادُ: بَذْلُ الوُسْع في طَلبِ الأَمر"([7]).

ثانيًا: تعريفُ الاجتهاد في الاصطلاح:

تباينت تعريفات أهل الأصول للاجتهاد، وتمايزت عباراتهم فيه؛ بناءً على افتراقهم في النظر إلى: تكييف الاجتهاد هل هو فعل المجتهد أو صفة قائمة به؟ هذا من جهةٍ، وكذا اختلافهم في قيود العمليَّة الاجتهاديَّة؛ من جهة أخرى.

فمِنْ ذاهبٍ إلى جعله فعلَ المجتهد؛ وهؤلاء صدَّروا تعريفاتهم؛ بـ: "بذل أو استفراغ الوُسع"، وهؤلاء الأكثرون؛ منهم الغزاليُّ والآمديُّ والزركشيُّ وغيرهم([8]).

ومِن معتبرٍ بأنَّه صفةٌ قائمة بالمجتهد؛ فكان طالعُ تعريفِه: "الاجتهاد ملكةٌ ..."، وهؤلاء قلَّة([9]).

وتجنُّبًا للإسهاب والإطالة في سردِ التَّعريفات، وجلبِ الاعتراضات، وحَذَرًا من تَكرار جُهد مبذول ممَّن كتب في موضوعات الاجتهاد، وهم كثُرٌ؛ ارتأيت ألاَّ أطيل في هذا، وأكتفي بتعريفٍ أستلوِح وجاهتَه، وسلامتَه من الاعتراضِ، وهو تعريف الزَّركشيِّ؛ فقد قال في حدِّه: "بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِـيٍّ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ"([10]).

فقوله: "بذل الوسع" أي استفراغ تمام الطاقة بحيث يُحسُّ المجتهد من نفسه العجزَ عن مزيد طَلب؛ ويخرج عن أن يكون مقصِّرًا.

وقوله: "الشرعيُّ" قيدٌ يخرج به الحكم اللغويَّ والعقليَّ والحسيَّ، فلا يُسمَّى عند الفقهاء مُجتهِدا.

وقوله: "بطريق الاستنباط" قيدٌ يُخرج به بذل الوسع في نيل تلك الأحكام من النُّصوص ظاهرًا، أو بحفظ المسائلِ، أو بالكشف عنها من الكتب، وغير ذلك ممَّا لا يعدُّ اجتهادًا في الاصطلاح([11]).

الفقرة الثانية: تعريف الاستثناء لغة واصطلاحًا:

أوَّلا: تعريفُ الاستثناءِ في اللُّغة:

الاستثنـاء على وزن استفعال؛ هو في اللُّغـة مصدر استثنى يستَثْنِي مشتقٌ من الثَّنِي، والتَّاء والسِّين زائدتان([12]).

قال الفيُّومي: "الاسْتِثْنَاءُ؛ استفعال من ثنيت الشيء أَثْنِيهِ ثَنْيًا"([13])، وقال ابن منظور: "ولا ثَنِيَّة ولا مَثْنَوِيَّةٌ ولا استثناء كلُّه واحدٌ وأصل هذا كلِّه مِنَ الثَّنْيِ"([14]).

والثَّنيُ يجيءُ في اللِّسان العربيِّ على معانٍ متقاربة؛ منها:

الرَّدُّ، والكفُّ: قال الفيروزآبادي: "ثَنَى الشَّيْءَ كسَعَى: رَدَّ بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَتَثَنَّىْ وانْثَنَى"([15]).

وجاء في اللِّسان: "ويقال ثِنْيُ الثوب لما كُفَّ من أَطرافه وأَصل الثَّنْي الكَفّ وثَنَّى الشيءَ جعله اثنين"([16]).

ومنها الصَّرف: تقول ثَنَيتُه عن حاجته، إذا صرفتَه عنها.

قال ابن منظور: "وثَنَيْته أَيضاً صَرَفته عن حاجته ... وسمعت أَعرابيّاً يقول لراعي إِبلٍ أَوردها الماءَ جملةً؛ فناداه: "أَلا واثْنِ وُجوهَها عن الماء، ثم أَرْسِل مِنْها رِسْلاً رِسْلاً"؛ أَي قطيعاً، وأَراد بقوله: اثْنِ وُجوهها؛ أَي اصرِف وجوهَها عن الماء، كيلا تزدحِم على الحوض؛ فتهدمه"([17]). وقال الفيومي: (ثنيته عن مراده إذا صرفته عنه)([18]).

والاستثناء المحاشاة؛ قال الزَّبيديُّ: "واستثنيت الشَّيَ من الشَّيءِ حاشيته"([19]).

وسيأتي لاحقًا بيانُ المناسبة بين المعنى اللغويِّ والاصطلاحيِّ.

ثانيًا: تعريف الاستثناء في الاصطلاح:

للاستثناءِ في الاصطلاحِ الشرعيِّ إطلاقات تختلف من الفقهاء إلى الأصوليِّين، وربَّما أوردها آخرون بمعنَى أعمّ؛ كصنيع العزِّ في قاعدة المستثنيات([20])، ولأنَّ هذا البحث يراد بالاستثناء فيه المعنى الأعم يقتربُ كثيرًا مِن اصطلاح العِزِّ؛ وليس كإطلاق الأصوليِّين ولا الفقهـاء: رأى الباحثان ألاَّ يُقحِما تعريفاتهم في البحث، وإنَّما لكون هذا المصطلح شاع عند الباحثين طلاب العلم في ذلك؛ أحببت أن أشير إليه باختصار؛ ثمَّ أُعقبُه بتعريفٍ اصطلاحيٍّ للمعنى المراد في هذا البحث.

1) الاستثناءُ عند الأصوليِّين: يطرق الأصوليُّون موضوع الاستثناءَ في مباحث التخصيص غالبًا؛ وبالتحديد في المخصصات المتَّصلة -غير المستقلة-، ومن جملة التعاريف؛ تعريف الغزالي وفيه: "قول ذو صيغ مخصوصة محصورة، دال على أن المذكور به لم يُرَدْ بالقول الأول"([21]). وتعريف ابن الحاجب قال: "إخراج بإلا وأخواتها"([22]).

هذه نماذج من تعريفاتهم للاستثناء، ولأهلِ الأصول كلام في الاعتراضات الحَديَّة والاستشكالات التي يَعيبُها أهلُ صناعة الحدود على كلِّ حدٍّ؛ ولهم فيها كلام طويلٌ، وليس القصدُ ههنا بسطُ ذلك، وإنَّما هو تعريجٌ مختَصرٌ على إطلاق الأصوليِّين للاستثناء، بغيةَ استحضار صورته لدى القارئ.

2) الاستثناء عند الفقهاء: افترق نظر الفقهاء إلى مدلول الاستثناء عن الأصوليِّين، فهم يطلقونه على معنى أعمَّ؛ يشمل كلَّ ما يقتضي المغايرة والمخالفة لكلام سابقٍ؛ إما بإخراج بعضِ أفرادِه كليَّةً أو بتقييدها ولو بكلام مستقلٍّ.

فهم وإن كانوا يطلقونه بالمعنى الوضعيِّ المماثل لإطلاق الأصوليِّين؛ غير أنَّ له إطلاقًا عرفيًّا عندهم؛ هو أعمُّ كما سبق؛ وفي ذلك يقول ابن حزم: "الاستثناء هو تخصيص بعض الشيء من جملته أو إخراج مما أدخلت فيه شيئا آخر، إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا الاستثناء ما كان من ذلك بلفظة: حاشا، وخلا، وإلا ...، وأن يجعلوا ما كان خبرا كقولك: اقتل القوم ودع زيدا، مسمًّى باسم التخصيص لا استثناء، وهما في الحقيقة سواء"([23])؛ فمدلول الفقهاء أعمُّ منه عند الأصوليِّين.

3) المعنى المراد للاستثناء في هذا البحث: إنَّ المعنى المقصودَ للاستثناء في هذا البحث؛ يختلفُ عن ما سبق؛ إذ هو مشاركٌ للإطلاقات الآنفة في معناها اللُّغويِّ؛ في كونه صرفٌ للحكمِ عن نظائِرِه، وعن قاعدته العامَّة، وقد بذلت جهدي في البحث عن تعريف للاجتهاد الاستثنائيِّ بهذا الإطلاق عند السَّابقين؛ فلم أجد -فيما وقفت عليه بعد جهدي القاصرٍ- بيدَ أنَّ مفهوم عناصرِه موجودٌ عند الأقدمين؛ لذا فغاية ما سيفعله الباحث هو محاولة التَّركيب، واستخراج مفهوم عامٍّ شاملٍ للموضوعٍ، وقد أشار الأستاذ الدُّرينيُّ إلى الاجتهاد المبنيِّ على قاعدة الاستثناء، وجعله يقوم على سدِّ الذرائع والاستحسان؛ ولكنَّه لم يُعطِ تعريفًا للاجتهاد الاستثنائيِّ([24]).

والمقصود بالاستثناء في هذا البحث: مطلق المغايرة بين الحكم وقاعدته العامَّة التي كان ينبغي أن يدخل فيها على مقتضى الأصل؛ بينما استوجب الاقتضاءُ التبعيُّ أن يُعدَل بتلك الواقعة عن الحكم الأصليِّ في ظرفٍ معيَّنٍ إلى حكم استثنائيٍّ؛ يكون أقرب إلى تحقيق مقصود الشَّرع فيه، وهي تقترب كثيرا من قاعدة المستثنيات عند الإمام العزِّ -رحمه الله-([25]).

يدخل في ذلك أحكام الرُّخص والضَّرورات، وما ينبني على سدِّ الذريعة والاستحسان، وسيأتي في الفقرة التالية بيانٌ لذلك.

وهذه محاولة من الباحث لإعطاء مفهوم للاستثناء في هذا البحث:

فالاستثناء هنا: "هو عدول بواقعةٍ في ظروف معيَّنةٍ؛ وَفق الاقتضاء التبعيِّ عن حكمها الأصليِّ؛ الثابت بموجب قاعدة أو عموم، على نحوٍ يُحقِّق مقصود الشرع منها، يكون هذا العدولُ حينها؛ أقربَ إلى المصلحة والعدل".

وفيما يأتي شرح لأهمِّ مفردات التعريف:

- العدول بواقعة: صرفها عن الحكم الأصليِّ لها.

- في ظروف معيَّنةٍ: للإشارة إلى وجـود ملابسات وقرائن استثنائيَّة، استوجبت هذا العدول.

- وَفق الاقتضاء التبعيِّ: حتَّى يتبيَّن أنَّ للواقعة حكمًا بالاقتضاء الأصليِّ مخالف لما هي عليه؛ اقتضت الظروف والملابسات أن يُعدَل بها عن ذلك الحكم.

- على نحوٍ يُحقِّق مقصود الشرع منها: قيدٌ مهمٌّ يبيِّن مُدرَك العدول وهو تلمُّس مقصد الشرع في تلك الواقعة؛ ثمَّ يأتي ما بعده ليزيده تدقيقًا وشرحًا في آخر عبارة: يكون هذا العدولُ حينها؛ أقربَ إلى المصلحة والعدل: وهو لبيان المقصد الهامِّ الذي جاءت الشريعة لتحقيقه؛ وهو المصلحة والعدل.

4) مناسبة المعنى اللغويِّ للمعنى الاصطلاحيِّ: لعلَّ أقرب المعاني اللُّغويَّة للمعنى المراد؛ هو الصَّرف:

فالحكم المستثنَى يُصرَف عن صوبِه الأول إلى مجرى آخر، ويُصرَف عن حكمه الأصليِّ، وعن قاعدته العامَّةِ إلى صوبٍ آخر وحكمٍ آخر تبعيٍّ، هو أقربُ إلى تحقيق مقصود الشَّرع في تلكم الظروف.

وكذا المحاشاة؛ تقول: استثنيت الشَّيء من الشيء إذا حاشيته؛ فالمجتهد حاشا الواقعةَ عن الحكم الأصليِّ وأستبعدها من أن تكون مشمولة فيه.

الفقرة الثالثة: تعريف المركَّب الوصفيِّ الاجتهاد الاستثنائيّ:

ويحسُنُ الإشارة هنا إلى أنَّ هذا الاجتهاد يقـوم على منهجينِ من أهمِّ مناهج الاستنباط الأصوليَّةِ؛ وهي: سدُّ الذَّرائع، والاستحسان([26])؛ والتي تشكِّل خططًا تشريعيَّة تنتهض بالاجتهاد الاستثنائيِّ؛ كي يبقى هذه الأخيرُ محكُومًا بضوابطِ الاجتهادِ وَفقَ تلكم المناهج كما نصَّت عليها كتب الأصول؛ فهو اجتهاد بقدر أهميَّته؛ يعظُم خطرُه؛ كما قال الشاطبيُّ: "... وهو مجال للمجتهد صعب المورِد، إلا أنَّه عذب المذاق، محمود الغبِّ، جار على مقاصد الشريعة"([27]).

وسيأتي بسطِ القولِ في هذين المنهجَين، وبيان وجه الاستثناء فيهما في الفرع الموالي.

فالاجتهاد الاستثنائيُّ ليس هو الاستحسان فقط، بل هو جزء منه، ينضاف إليه سدُّ الذَّرائع وكذا فتحها عند من يقول بذلك([28])، وهو شاملٌ لأحكام الضَّرورات والرُّخصِ وغيرِ ذلك ممَّا كان فيه عدولٌ عن حكمِ الأصلِ كائنًا ما كان سببه؛ كلُّ ذلك يتضافر ويتجمَّع ليُشكِّل هذا المفهوم الشَّامل للاجتهاد الاستثنائيِّ، وهو العمليِّة الاجتهاديَّة التي توصلُ إلى أحكام استثنائيَّة، اقتضته ظروف معيَّنة.

فيكون تعريفُه: "بذلُ الوسع في استنباط حكم الشَّرعِ في واقعةٍ معدولٍ بها عن حكمها الأصليِّ؛ الثابت بموجب قاعدة أو عموم، في ظروف معيَّنةٍ؛ على نحوٍ يُحقِّق مقصود الشَّرع منها، يكون هذا العدولُ أقربَ إلى المصلحةِ والعدلِ".

وقد سبق شرحُ مفرداتِ التَّعريف؛ عند تعريف كل لفظ على حدته.

الفرع الثَّاني: المناهجُ الأصوليَّةُ المنتهِضةُ بالاجتهادِ الاستثنائيِّ:

إنَّ الاجتهاد الاستثنائيَّ يقوم على منهجين هامَّين من مناهج الاستنباط، تُشكِّل خططًا تشريعيَّة تنتهض بهذا النوع من الاجتهاد؛ فكانت كالأسسِ التي يقوم عليها؛ وهذه الأخيرة تتمثَّل في مبدأ الذَّرائع -سدًّا وفتحًا- والاستحسانِ، وما دامت كذلك فهي داخلة في حقيقة الاجتهاد الاستثنائيِّ إذ هي له كالأساس.

ولأنَّ هذين المنهجين قد بحث فيهما الكثيرون؛ مفهومًا وحجيَّة، وشروطًا وأحكامًا؛ علاوةً على محدوديَّة أوراق البحث ممَّا لا يساعد ذلك على البسط والتفصيل: رأيت أن أقتصر على المفهوم الاصطلاحيِّ، ووجه تعلُّقهما بالاجتهاد الاستثنائيِّ، مع التمثيل لذلك؛ ولن نعرض للخلاف فيهما لأنَّ ذلك معلوم مبسوط في البحوث التي تناولتهما، وفيما يأتي بسط لهذين المنهجين على وجه وسط بين الاختصار والتطويل؛ بما يحقِّق مقصود إيراده في هذا المقام:

الفقرة الأوَّلى: مبدأ الذَّرائع وصلته بالاجتهاد الاستثنائي:

وإنَّما أوردناها بهذه الصيغة لتشمل فتح الذريعة وسدِّها على السواء:

أولاً: مفهوم الذرائع:

قال القرافيُّ: "الذَّريعة هي الوسيلة"([29])، وهذا يجعلها تشمل سدَّ الذرائع وفتحها، وقد اتَّجه أكثر العلماء إلى تفسيرها بسدِّ الذَّريعة اعتبارا بالمواضعة والاصطلاح؛ إذ صارت تعني الوسيلة للممنوع([30])، لكن لا شكَّ أنَّ الذرائع أعمُّ؛ فمنها ما ينبغي حسمه ومنعه، وأخرى يتوجَّه فتحها وإباحتُها([31]).

ولعلَّ أكثر الاختلاف الواقع في سد الذَّريعة؛ إنما هو في مناط التذرُّع إلى المفسدة، وكذا في مدى التَّضييق والتَّوسيع في الأخذ بها، لا من حيث أصلُ الاحتجاج بها([32])؛ ولهذا قال القرافيُّ: "فليس سدّ الذّرائع خاصّا بمالك -رحمه الله- بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدِّها مُجمَعٌ عليه"([33]).

ثانياً: وجه الاستثناء في سدِّ الذرائع:

ونعني بسدِّ الذريعة الاستثناءَ من أصل الإباحة؛ إذا أفضى المباح المشروعُ إلى الشَّيءِ المحرَّمِ والممنوعِ شرعا؛ ومُدرَك هذا الاستثناء هو تحقيق مقصود الشَّرع؛ بيان ذلك:

أنَّ هذه القاعدةَ تمنع الافتئات على مقاصِد التشريع عن طريق غير مباشر، باتخاذ وسيلة مشروعة في الظاهر لتحقيق غرض غير مشروع، أو للتوصُّل إلى مآل ممنوع في ظروف معيَّنة([34]).

فيجري المجتهد عمليَّة الموازنة بين المصالحِ والمفاسد في الأصل والمآل؛ فيتبيَّنُ وجود مفسدة في المآل، وهو الفعل الممنوع المتذرَّع إليه؛ هي أربى ممَّا يجلِبُه الأصل من مصلحة، والمتقرِّر في الشريعة أنَّ دفع المفسدة الراجحة مقدَّم على جلب المصلحة المرجوحة، ومن هاهنا؛ سدَّت الذريعة؛ حسمًا لمادَّة الفساد، فكان مدرَك العُدول عن الحكم الأصليِّ للوسيلة إلى حُكم التبعيِّ الاستثنائيِّ؛ هو ترجُّحُ مفسدة المآل على مصلحة الوسيلة؛ قال ابنُ عاشور: "فاعتبار الشَّريعة بسدّ الذّرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدةِ المآل على مصلحة الأصل، فهذه هي الذّريعة الواجبُ سدُّها"([35]).

فهي استثناءٌ ينقُل الحكم من الحلِّ إلى الحظر؛ لأنَّ المصلحة التي كانت مَناطا للحِلّ والإباحة قد انخرمت بما سَبَّبه المكلَّفون من إجراء الفعل على خِلاف ما قَصَدَ إليه الشَّارعُ من مصلحةٍ؛ فكان لِزاما -جَرَيَاناً مع معقوليَّة هذه الشَّريعة- أن يَنتقِلَ الحكمُ من الإباحة إلى غيرها؛ حِفاظا على مقصود الشَّارع مِن أنْ يُخرَم.

ثالثاً: وَجهُ الاستثناءِ في فتح الذَّرائع:

مما لا يخفى أنَّ الأفعال والتصرفات؛ منها مقاصِدُ وسائل؛ وشرف الوسيلة بشرف مقصدها؛ وحكمُها حكمُ ما أفضت إليه؛ من تَحريم وتَحليلٍ، غير أنَّها أخفضُ رتبةً من المقاصِد في حكمِها، والوسيلةُ إلى أفضل المقاصد أفضلُ الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبحُ الوسائل([36]).

قال ابن القيم: "للوسائل حكم المقاصد؛ لما كانت المقاصدُ لا يتوصَّل إليها إلا بأسبابٍ وطرقٍ تفضي إليها كانت طرقُها وأسبابُها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطَّاعات والقربات في محبَّتها والإذنِ فيها بحسَب إفضائها إلى غايتِها; فوسيلة المقصود تابعةٌ للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنَّه مقصودٌ قصدَ الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل"([37]).

وصرَّح القرافيُّ بفتح ذريعة المطلوب كما تسدُّ ذريعة الممنوع؛ فقال: "اعلَم أنَّ الذَّريعةَ كما يجب سَدُّها يَجِبُ فتحُها، وتُكرَه وتُندَب وتباحُ؛ فإنَّ الذَّريعةَ هيَ الوَسِيلةُ فكما أنَّ وسيلةَ المحرَّم محرَّمةٌ، فوَسيلةُ الوَاجبِ واجبةٌ كالسَّعيِ للجمعةِ والحجُّ ... قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة"([38]).

ومعنى فتح الذَّرائع: أنَّ ما يفضي إلى المطلوب يصبحُ مطلوبًا؛ ولو كان في الأصل محظورًا، بيدَ أنَّه ليس كلُّ ما يظنُّ إفضاؤه إلى المطلوب يصبح مطلوب الفتح؛ وإنما المراد أنَّ ما توقَّف تحقيق المطلوب شرعًا على تحصيله، ولم يمكن تحقيقه إلاَّ بذلك الوجه: يصيرُ مطلوب الفتح ومشروعًا، ولو كان في الأصل محظورا؛ إذ لا يتمُّ المطلوب إلاَّ به، مع كون مصلحة المطلوب أرجح وأربى من مفسدة الفعل الممنوع([39]).

وقاعدة الذرائع -فتحها وغلقها- متفرِّع عن قاعدة الوسائل والمقاصد؛ يقول الطَّاهر بن عاشور: "وهذه القاعدةُ تندرِجُ تحت قاعدة الوسائل والمقاصد فهذه القاعدة شُعبةٌ من قاعدة: إعطاءِ الوسيلةِ حُكْمَ المَقصِدِ"([40]).

ومن ثمَّ؛ فإنَّ الوسائل كما يجب سدُّها؛ حسمًا لمادَّة الفساد ساعة رجحان مفسدة المآل على مصلحة الأصل: -كذلك يجب فتحُها- مباحة كانت أو ممنوعة، بشرط رجحان مصلحة المآل على مفسدة الأصل، ومرتبتها في الطَّلب رتبة المقصِد؛ قال ابن القيم: "فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه؛ بحسَب درجاته في المصلحة"([41])، كلُّ ذلك جريًا على قاعدة: إعطاءِ الوسيلةِ حُكْمَ المَقصِدِ([42]).

وعلى هذا؛ فالوسائلُ لا ينظر إليها في ذاتها من حيث الإذن والمنع؛ بل تأخذ حكم ما أفضت إليه، ولو كان تكييفُها الشرعيُّ في الأصل غيرَ ذلك؛ فالمحظور إذا أدَّى إلى مصلحةٍ مؤكَّدةٍ هي أربى من مفسدتِه والضَّررِ النَّاشئِ عنه في الأصل: صار ذلك المحظور في مرتبـة المأذون فيه؛ لتحقيق تلك مصلحة المقصِد الرَّاجحة.

فهذا ضرب من الاجتهاد الاستثنائيِّ مُدرَكه رجحان مصلحة المقصِد على مفسدة الوسيلة، فيقتضي التكييفُ الجديد للوسيلة أن يتعلَّق بها الطَّلب حسَب رتبة مقصِدها؛ جريًا على سنن التشريعِ، ودفعًا لمناقضة الشَّارع([43]).

كما في إباحة النظر إلى المخطوبة:

فالنظر إلى المرأة الأجنبية في الأصل محظور، والواجب غضُّ البصر؛ لكن ثمَّة وضع استثنائيٌّ وهو حال الخِطبةِ؛ استوجب حكمًا استثنائيًّا نظرًا إلى المصلحة المرجوَّةِ من ذلك، وتلمُّسًا لتحقيق مقصِد الشَّرع، والسعيِ في مجاراة سنَن التشريع؛ فقد جاء في حديث المغيرة بن شعبة: أنه خَطبَ امرأةً فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها؛ فإنَّه أحرَى أن يُؤدَم بينكُما"([44]).

فكان النظر إلى المخطوبة مطلوباً؛ لما فيه من تحقيق مقاصد الشَّرع في استدامة النكاح، وبنائه على أسس سليمة من الألفة والمودَّة والرضاء([45])، وفي هذه الحال ترجَّحت مصلحة النظر وربت عن مفسدة الأصل؛ فأبيح هذا الفعل وهو ممنوع في الأصل، وفتحت الذَّريعة بإباحة النَّظر إلى المخطوبة، ولم يُلتَفت إلى المفسدة؛ نظرًا لرجحان مصلحة المقصِد عليها، في هذا الظَّرف خاصَّة.

فهذا المشرِّع نفسُه يفتح الذَّريعة لمَّا كانت تؤول إلى تحقيق مقصِد عظيمٍ معتبر في التَّشريع، فواجبٌ على المجتهد أن ينحوَ نحوَه ويتبع الرَّسم التَّشريعيَّ البديعَ الذي اختطَّه المشرِّع ذاتُه؛ حتَّى يبقى منطِق الشَّرع متَّسقًا في استجلاب المصالح والخيور، ودرء المفاسِد والشرورِ. ومن ثمَّ؛ قرَّر ابن القيِّم هذا المعنى؛ فقال: "... فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة"([46]).

هذه هي نظرةُ الشَّرع إلى مبدأ الذَّرائع فتحًا وحسمًا؛ فهي فنَنٌ من أفنان الأصل العامِّ الذي بُنيت عليه الأحكام -جلب المصالح ودرء المفاسد-، توجِب في بعض الأحايين اجتهادًا استثنائيًّا يفترِقُ عن الحُكمِ الأصليِّ للوسيلةِ، تبعًا للظُّروف الملابسةِ لها، ونظرًا إلى ما تؤُول إليه من مفاسِد ومضارّ أو منافع ومصالح؛ فيُحكم عليها بالمنعِ سدًّا، أو بالإذن والطَّلبِ فتحًا، ولو خالفت الحكمَ أصليَّ؛ استثناءً.

الفقرة الثانية: الاستحسان:

أولاً: مفهوم الاستحسان:

تباينت كلمة أهل الفنِّ في حقيقة الاستحسان، واختلف الأصوليّون في تعريفه اختلافا واسعا استتبع الخلاف في حجيَّته، والمتتبع لتعريفات العلماء للاستحسان يجدها حائمةً حول معنيين اثنين: معنًى عام: وهو استثناء للمسألة عن حُكم نظائرها من دليل أصليٍّ إلى حكم آخر؛ لوجه أقوى اقتضى العُدول، ومعنى خاص: وهو ترجيح قياس خفيٍّ على قياسٍ جليٍّ، وهذا عند الحنفيَّة خاصَّة([47]).

ولا شكَّ أن المعنى العام أوسع وأجمع من الإطلاق الخاصِّ، فهو مغنٍ عنه، علاوة عن كون المعنى الخاص ليس يخرج أن يكون قياسًا شرعيًّا ترجح عن نظيره([48])؛ لذلك قال السرخسي: "فهذا الخفي وإن اختص باسم الاستحسان لمعنى فهو لا يخرج من أن يكون قياسا شرعيا"([49]).

ولست أقصد هنا إلى سرد للتعريفات؛ لكني آثرت إعطاء تعريف يكون شاملاً: ولعل أنسب تعريف يراه الباحث جامعا لتلكم المعاني؛ تعريف الكرخي -رحمه الله-: ­"هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه؛ لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأوَّل"([50]).

والوجه المقتضي للعدول، هو مدرك العدول هو كلُّ ما يتضمَّن تحقيق مقصود الشرع يشمل جميع أنواع الاستثناء؛ مما كان مدركه العدل والمصلحة، أو كان استحسان الضرورة أو العرف، إذ لا شكَّ أنَّ وجه المصلحة والعدل هو مقصود الشرع في ذلك الحكم؛ ولهذا قال ابن رشد مُبينًا عن مُدرَك العدول عن الاقتضاء الأصلي فيه: "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل"([51]).

وتُذكَر المساجلات الطويلة بين أهل العلم؛ بين قائل به منتصرٍ له، ومنكرٍ مبطلٍ للاحتجاج به، ولا شكَّ أنَّ تحرير محلِّ النزاع تحجِّم كثيرًا من دائرة الخلاف؛ سيِّما والاختلافُ الواقع بين القائلين بالاستحسان أنفسِهم في تحديد حقيقتِه إذ هو معنى مِن أدقِّ المعاني، ومسلك من المسالك الخفيَّة في الاستدلال؛ وهذه ممَّا يعسُر إبرازُها في حدود لفظيَّة، والمهم هنا هو وجه تعلُّق الاستحسان بالاجتهاد الاستثنائيِّ، أمَّا الحجيَّة ونسبة الأقوال فقد بحثها الكثيرون وبعض الباحثين قد أجاد في تحرير ذلك([52]).

ثانيًا: وجه الاستثناء في الاستحسان:

إنَّ الاستحسان هو عدول عن الحكم الأصليِّ في مسألةٍ إلى حكم آخر، وهذا العدول يمثِّل الاستثناء بوضوحٍ، يتغيَّا تحصيل مقصود الشرع في تلك الواقعة؛ من تحقيق المصلحة والعدل؛ وقد أبان ابن رشدٍ عن مُدرَك العدول عن الاقتضاء الأصلي فيه فقال: "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل"([53]).

فالوقائع تعرِض لها -عند التطبيق- ظروف وملابسات تقوم كالدلائل على حكمها، وقد تقتضي المصلحةُ استثناءَ بعض أفراد القاعدة العامَّة؛ أَنْ تلبَّست بقرائن استوجبت هذا الاستثناء، وفي الغالب نجد مُدرَك العدول في الاستحسان المصلحة؛ لذا قال أبو زهرة: "وكلها -تعريفات الاستحسان- تتجه إلى قصر الاستحسان على أمر واحد وهو ترك مقتضى القياس لمصلحة في موضعٍ معيَّنٍ، أي في مسألة جزئيَّةٍ، ويدخل في المصلحة رفع الحرج والتوسعة ودفع المشقَّة"([54]).

وغالباً ما يكون العدول والاستثناء في الاستحسان من أصل المنع غالبا، فيقضي بالإباحة، أو من الواجب يرفعه ويرخِّص فيه([55]).

المطلب الثاني

مفهوم فقه التطبيق وأهميَّته ومراحله

إن تطبيق الأحكام الشرعيَّة في الواقع يحتاج إلى منهج ينبني على فقه تطبيقيٍّ، غايته تسهيل الطريق لتلك الحقائق الدينيَّة لكي تصبح جارية في حياة النّاس، ويبدأ هذا الفقه من مرحلة الفهم، حيث ينبني بمقتضاه فهم الدين عقيدة وشريعة على أنه حقائق، غايتها أن تصير واقعاً سلوكياًّ، كي يتمّ بذلك الفقه صياغة الأحكام الإسلامية صياغة تناسب معطيات الواقع المشخّص، الذي يعيشه المسلمون في ظرفهم الزّمانيِّ والمكانيِّ، لينتهي الأمر إلى الإنجاز الفعليِّ لتلك الصّياغة في شعاب الحياة المختلفة.

فكان الناظر في أحكام الشريعة الرامي إلى تنزيلها في واقع الناس؛ محتاجا إلى مرحلتين في التعامل مع الأحكام الشرعيَّة: "مرحلة الفهم والتفسير البياني، ومرحلة التطبيق أو التنزيل: بما فيها الصياغة والإنجاز"([56]).

ولعلَّ افتقار الصّحوة الإسلامية إلى فقه منهجي يتغيَّا توقيع الدّين بحسب هذه المراحل؛ هو السببَ الرئيس في تأخّر إثمارها في مجال التطبيق، ولذا كانت الضّرورة ملحة في سبيل ترشيد الصّحوة ودفعها إلى غايتها، لقيام فقه منهجي ناضج تمارس به دعوتها العملية لبسط سلطان الدّين في مختلف مظاهر الحياة([57]).

الفرع الأول: فقه التطبيق؛ مفهومه وأهميَّته:

تقرَّر أنَّ كلا المرحلتين من فقه الفهم وفقه التطبيق أو التنزيل؛ لهما أهمية بالغة في الوصول إلى طرح منهجي سليم ورشيد يرمي إلى تطبيق الشريعة في واقع الناس؛ بيد أن الألصق بموضوع البحث هو الاجتهاد التنزيلي دون البياني "فقه الفهم".

وكلٌّ مِن المرحلتين تختلفان في الطبيعة، لاختلاف الخصوصيَّات بين الفهم، وبين التطبيق، حيث إن الفهم تكون فيه العلاقة الأساسية بين العقل وبين المصدر النصيِّ للدِّين، في حين تكون العلاقة في التطبيق، بين "العقل" و"المصدر النصيِّ"، وبين "واقع الحياة"، كعنصر أساسيٍّ في هذه العلاقة([58])، ففي مرحلة التطبيق يدخل عنصرٌ ثالثٌ: وهو الواقع.

ولا شك أن الاستثناء في الاجتهاد متعلِّق بمقتضيات الوقائع، حين محاولة التطبيق للأحكام الشرعيَّة المجرَّدة، على وقائع مشخَّصةٍ على نحو يحافظ على مقاصدها التي شرعت من أجلِها.

لذا؛ سيعرض البحث إلى فقه التطبيق على نحو وسط بين الإيجاز والتطويل؛ مما يراه الباحث مؤديا للغرض في وصل المفاهيم بعضِها ببعض.

الفقرة الأولى: مفهوم فقه التطبيق:

مرحلة التطبيق: هي صيرورة الحقيقة الدينية، التي وقع تمثّلها في مرحلة الفهم، إلى نمطٍ عمليٍّ، تجري عليه حياة الإنسان في الواقع، عقيدةًً موجِّهة لجميع نشاط الإنسان، في وحدة وتناسق، وسلوكاً فرديًّا واجتماعيًّا، ينبثق من تلك العقيدة؛ قصداً إلى توجيه حياة الإنسان في جميع شعابها ومناحيها([59]).

وفقه التطبيق هو الفقه الموجِّه لهذه المرحلةِ؛ فيكون تعريفه: هو العمليَّة الاجتهاديَّة التي ترمي إلى ترشيد تنزيل الأحكام التي وقع تمثلها في مرحلة الفهم؛ في واقع الناس، وتطبيقِها في مختلف شعاب الحياة.

الفقرة الثانية: أهميَّة فقه التطبيق:

وإذا كان فهم الدين أساساً في التدين؛ فإنَّ تنزيله في واقع الحياة هو الثمرة المبتغاة من أصل الدين، وتبلغ بالدين إلى الغاية من نزوله([60])؛ ولذلك فإن الخلل الذي يطرأ في تنزيل الدين على واقع الحياة، يؤدي إلى خطر عظيم، مآله تخلُّف المقاصد عن تلكم الأحكام، فتصير بذلك الأحكام خلواً عن مقاصدها، وهذا ما لا يتصوَّر في أيِّ نظامٍ من صنع العقلاء، علاوة عن أن يُدَّعى في شرع ربِّنا الحكيم العليم، فإذا خلت تلكم الأحكام عن مقاصدها وقعت على نحوٍ لا يريده الشرع، فلا يمكن بحالٍ أن تُنسَب إلى الشرع، إذ هو آيل إلى لون من العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، بتنزيلها على غير محالِّهَا([61])، وفي ذلك قال الإمام العز: "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده؛ فهو باطل"([62])، وفي الموضوع ذاته يقول الشاطبيُّ: "الأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام"([63]).

فمرحلة التطبيق تُعنَى بالتخطيط والبرمجة لبسط الدين على واقع الحياة، وتقويم سلوك الناس بنهج الدين، على نحوٍٍ تكون فيه أحكامه مثمرةً لمقاصدها، مُصلِحةً لأفراد المجتمع، مقيمةًً لأخلاقهم وسلوكيَّاتهم وتعاملاتهم الفرديَّة والجماعيَّة على نهج الشرع القويم؛ ذلك أن شريعة الإسلام شريعة الخلود، فسيحة الجنبات، تسير بالناس إلى ما فيه إسعادهم، ويحفظ عليهم مصالحهم.

وإذا كان الاجتهاد التطبيقي قد حظي بشيء من الاهتمام في المدونات الأصولية الفقهية بضبط بعض قواعده المنهجية، فإن الاهتمام الأكبر من قبل الأصوليين قد صرف إلى الاجتهاد البياني الذي يهدف إلى استخلاص الأحكام الشرعية المجرّدة من مداركها المباشرة أو غير المباشرة. وأكثر القواعد المنهجية الأصولية المقررة في مدونات الأصول مخصصة لهذا الباب([64]).

ولما آلت الحضارة الإسلامية إلى الضمور، وآلت معها الحركة الفكرية عمومًا إلى الضعف؛ ازداد الاجتهاد التطبيقي في وقوعه وفي التنظير له انحسارًا من دائرة الاهتمام للفقهاء والأصوليين، إذ أنَّ ازدهار الحضارة وتجدد حركة الحياة وانتعاشها وتقدُّمَها؛ هو الذي ينشِّط الاجتهاد في تطبيق الأحكام على المنجزات المستحدثة لتنساق في الهدي الديني العام.

وحينما آل العالم الإسلامي منذ بعض الزمن إلى تعطيل أحكام الشريعة عن أن تهدي الحياة في أكثر مجالاتها، وخاصة المناحي الحيويَّة ذات الصبغة الاجتماعية؛ كالسياسة والاقتصاد؛ انقطع سند الاجتهاد التطبيقي وآدابُه، وأصبح جزءًا من التراث ليس له في الواقع وجود.

وعلى هذه الحال لعهد طويل؛ تيقَّظ المسلمون في هذه الصحوة الإسلامية المتصاعدة التى تدعو إلى إعادة القيُّومية العملية للشريعة على كل شعاب الحياة-: مما استتبعَ ضرورةً مُلحَّة لإعداد صياغة منهجيَّة للأحكام الشرعية المجردة في مشاريع عملية، قابلةً للتطبيق على أحوال الواقع الراهن، مما يستوجبُ إكثار الدراسات العلميَّة العمليَّة، الجادَّة على مستوى التأصيل للمنهج القويم المعين على تلك الصياغة وذلك الإجراء.

ولو أجيز التطبيق الآليُّ الذي ينادي به اليوم -غفلةً- بعضُ من المنتسبين للصحوة الإسلامية مع ما آل إليه واقع المسلمين من تعقيد شديد وتشابك في الأسباب؛ فإن ضررًا بليغًا سيحصل، وقد يؤولُ الأمر إلى تفويت المصلحة والعدل المقصودين للشرع قطعًا([65]).

وتنويها بأهمية ذلك يقول ابن القيم: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقَّة وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يُعلَم أنَّ الشَّريعة الباهرةَ التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشَّريعةَ مبناها وأساسَها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحكمةٌ كلُّها، فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث:- فليست من الشَّريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل"([66]).

ومن ثمَّ؛ فإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة والعمل من أجل ذلك؛ ينبغي أن يستند إلى اجتهاد تطبيقي يتأسس على قواعد منهجية تُزَاوج بين الأدب الأصوليِّ الفقهيِّ، والمعطيات المستجدَّة في واقع المسلمين.

الفرع الثاني: مراحل فقه التطبيق:

الفقرة الأولى: مراحل فقه التطبيق:

وفقه التطبيق ينتظم مرحلتين فرعيتيـن: مرحلـة الصياغة، ومرحلة الإنجاز، وهذا تبيين للمرحلتين بإيجازٍ:

1) الصياغة: وهي تهيئة خطَّة شرعيَّة، تنبني على ما حصل من فهم لحقيقة الدِّين، في هيأتها المجردة، تهيئةً تكون بها صالحةً لمعالجة أوضاع الناس، ذات الخصوصيات المكانية والزمانية؛ فتكون من جهة مؤسسَّةً على الحكم الشرعيِّ المجرَّد بمدركه، ومكيَّفةً بمقتضيات الأوضاع الواقعيَّة من جهة أخرى([67]).

2) الإنجاز: وهو العمل على إجراء تلك الخطة الشرعية إجراءً عمليًّا على الواقع المشخَّص بآحاد أفراده، وتكييف ذلك الواقع، بحسب ما تقتضيه تلكم الأحكام؛ لتحقِّق مقصودها([68]).

الفقرة الثانية: الفرق بين مرحلة الصياغة والإنجاز:

وسبب الفصل بين المرحلتين في فقه التطبيق؛ واعتبار الإجراء الفعلي مرحلةً بذاتها في التطبيق مغايرةً لمرحلة الصياغة: أنَّ صياغة الأحكام صياغةً تطبيقيَّةً، وإن كانت تقوم على مقتضيات واقعية، إلا أنها تبقى على شيء من الكليَّة، باعتبار أنَّ المقتضيات التي تقوم عليها، مقتضيات عامَّة بين أفراد الواقع وأحداثه، أما الإجراء الفعلي فإنه ذو طبيعة واقعيَّة خالصةٍ؛ لكونه يعالج بالتَّطبيقِ الأحداث والأوضاع مشخَّصةً منفردةً.

وقد تقتضى خصائص التشخُّص لكل حالة واقعيَّّة أن يُعادَ على الحكم في صياغته الواقعيَّة بالتَّعديل، فيغيِّر المجتهد حال التنزيل الفعلي والإنجاز الواقعيِّ، في بعض جزئيَّات الحكم على فرد من أفراد الحكم العامِّ؛ فناسب فصل المرحلتين؛ تلمُّسا لدقة أكبر([69]).

المطلب الثالث

أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق

تقرَّر أن تطبيق الشريعة بما يُرَجَّى له من قواعد منهجية، تتكامل لتثمرَ حكما شرعيًّا يتساوق فيه مقتضى القواعد الأصوليَّة في الاستنباط، مع ما يتلبَّس بالوقائـع والأحداث من قرائن ومستجدات تدخـل في تشكيل مناط الحكم.

لذا؛ نجد للاجتهاد الاستثنائيِّ أثرًا في ذلك؛ يتبيَّن من خلال بيان أسس فقه التطبيق والإشارة إلى الاستثناء فيها، كما يتجلَّى في مرحلة التنزيل حال تطبيقه واقعًا بالتأجيل تارة والإيقاف أخرى، وثالثة بالتغيير ورابعة بالتبديل، وهذا ما سيعرضه البحث بشيء من البسط والتفصيل.

الفرع الأول: أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من حيث أسسُه:

إنَّ واقع الحياة يمثل المحورَ الأساسي في الاجتهاد

التنزيليِّ؛ إذ تطبيق الأحكام يعنى تكييف الواقع الإنسانيِّ في مختلف شعابه بحسب ما تقتضيه تلك الأحكام، على نحو يتحقق فيه مقصِدها من التشريع.

وذلك يتطلَّب الاجتهاد في تحقيق مناطه، قال الغزالي: "ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص والأحوال؛ إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق مناط للحكم"([70]).

ومن ثمَّ؛ إذا جرى الاجتهاد على متعلَّق الحكم: من شخص أو واقعة معيَّنة؛ فلا يخلو من حالين:

1-  إما أن يتحقَّق مناط الحكم في ما عُرِضَ للتطبيق؛ فتتحققَُّ المساواة بين الحكم التطبيقيِّ والحكم التكليفيِّ المجرَّد. وهذا هو تحقيق المناط العام([71])؛ فيجري عليه الحكمُ التكليفيُّ.

2-  وإمَّا أن تتعذَّر المساواة بين الحكم التطبيقيِّ والحكم التكليفيِّ المجرَّد؛ لنشوء ظروف ملابسةٍ؛ منعت تحقٌّق مناط الحكم التكليفيِّ المجرَّد في الواقعة المعروضة؛ فهاهنا يتقاضانا اتِّساق منطق التشريع إلى اجتهادٍ استثنائيٍّ، وألا نجري الحكم التكليفيَّ المجرَّد عليها، وإنما يحكم عليها بما تستدعيه الدلائل التشريعيَّة الناشئة عند التطبيق، وفق مقتضيات المصلحة والعدل، وهذا ما يطلق عليه تحقيق المناط الخاص([72]).

وهنا يتدخَّل الاجتهاد الاستثنائيُّ بمعنـاه العامِّ الشموليِّ؛ للمحافظة على الاتساق في الوحدة التشريعيَّة. هذا الاجتهاد الذي يتخذ مظاهر متعددة على حسب ما يقتضيه الفقه التنزيليُّ مما يناسب الواقع المعروض، على نحو يكون أقرب لتحقيق الصلاح.

كلُّ ذلك يستوجب أسسا منهجيَّة تحكم الاجتهاد في التنزيل والتطبيق؛ وأقصد في هذا الفرع بيان هذه الأسس، ووجه الاستثناء فيها:

أولاً: التَّجزئةُ والإفرادُ:

وهي النظرُ إلى الوقائع ضمن ملابساتها التشخيصية المميزة بينها، فلا بدَّ أن ينظر المجتهدُ إلى الواقع بحسب طبيعته المجزَّأة؛ ليُجريَ الحكمَ على كل جزء بمفرده، وكل فرد بحدتِه؛ من أجزاءِ الواقع وأفراده.

فالحكم الشرعي عامٌّ مجـرَّدٌ، والواقع أعيـان مشخَّصة متمثلة في أفراد من الناس، وأفعال تصدر عنهم، وأحداث ونوازل فردية وجماعية تتوالى على الزمن، فالمجتهد يراعي في تطبيق الحكم المتقرر في ذهنه كليًّا؛ أن يكون نظرُه إلى الواقع بحسب طبيعته المجزأة إذ إنَّ بعض الأفراد والأجزاء من الواقع، قد تحيط بها ظروف وملابسات تجعل إجراء الحكم التكليفيِّ المجرَّد عليها مفضيًا إلى الحرج والمشقة، وربما إلى الفساد، فيتعطل مقصد الحكم من تحقيق المصلحة المتغياة، وتنعدم المساواة بين الحكم التكليفيِّ والتطبيقيِّ.

مثال ذلك: الأصل إباحة تصرُّف الإنسان في ما مُنح من حقوق وإباحات؛ كتصرُّفه في حدود ملكيَّته مثلا، بيدَ أنه إذا ظهر منه إساءة في استعمال حقِّه، واعتساف في توظيفه، يمنع منه وإن كان في الأصل مباحاً([73]).

وهذا ضرب من الاجتهاد الاستثنائيِّ يتقاضاه لحظ كلِّ واقعة على سبيل التجزئة والإفراد، مع دركِ ملابسات الوقائع المجزأةِ، كما هو الحال في تشريع الحقوق والإباحات؛ فهي لم تشرع لتكون وسائل للإضرار والاعتساف، فمادام الأمر كذلك يمنع المباح إذا كان استعماله في آحاد الوقائع مناقضا لمقصِد الشرع فيه، يقول الإمام العز: "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده؛ فهو باطل"([74]).

ثانيًا: تحقيقُ المناط:

وهو أساس منهجيٌّ متفرع عن منهج التجزئة، ولكنه مختص بمعان مميِّزة للواقعة المعروضة، وفيه قال الإمام الشاطبي: "معناه أن يثبت الحكمُ بمدركه الشرعيِّ، لكن يبقى النظر في تعيين محلِّه، ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصيَّة ليست في غيره ولو في نفس التعيين، ... فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهلٌ أو صعبٌ؛ حتى يحقق تحت أي دليل تدخل"([75]).

فالأحكام الشرعية تتعلق من أفعال الإنسان بأجناسها وأنواعها، ولكن هذه الأفعال واقعة أفرادًا مشخصة بفاعليها وأزمانها وأماكنها المخصوصة، فهذه ملابسات وقرائن تدخل في تشكيل مناط الحكم. فكثير من الأفعال وإن تشابهت في ظاهرها، فتدقيق النظر في حقائقها يُبين عن افتراق كثير من آحادها في الحقيقة؛ كالحال في السرقة والحرابة تشابها في الظاهر، وافتراقا في النوع.

وعند التطبيق للحكم التكليفي المجرَّد على آحاد أفراده الواقعيَّة يتوجَّب تحقُّق المجتهد من دخول بعض الأفراد في نوع الحكم الذي بين يديه، أو في جنسه؛ فيكون مناطًا له يجريه عليه، ويخرج من ذلك ما قد يشتبه لأول النظر أنه داخل في ذلك النوع أو الجنس وهو في الحقيقة ليس كذلك. وهذا بدراسة عناصر تشخصِّها، دراسة عميقة حتى يتبيَّن ذلك([76]).

ولو أهملت هذه الدراسة لوقع الحكم في غير محلِّه مما يجعله مفضٍ إلى ما لم يقصِد الشرع إليه، فلا يصحُّ نسبته بحال إلى الشرع الحكيم، هذا ما يُبين على أهميَّة هذا الأساس، وما في إهماله من مروق عن الدين، وزيغ عن المنهج القويم.

يقول ابن القيم: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقَّة وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يُعلَم أنَّ الشَّريعة الباهرةَ التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشَّريعةَ مبناها وأساسَها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحكمةٌ كلُّها ..."([77]).

ثالثًا: تحقيق المآل:

تعليل الأحكام الشرعية بمقاصد ومصالح متغيَّاة في تشريعها؛ أمر ثابت بالاستقراء المفيد لليقين، كما قال الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد"([78])؛ فوجب أن تكون حال تطبيقها في الواقع مثمرة لمصلحتها ومقصدها الشرعيِّ.

وليس يخفى أنَّ تلبُّسَ الوقائع بظروف وأحوال في شخصِ فاعليها أو أزمانها أو علاقاتها بأفعال وأحداث غيرها، تجعلها تختلف في إجراء الحكم الشرعي لنوعها من حيث إفضائها وإثمارها لمصلحتها، فأحيانا يتخلَّف المقصِدُ الشرعيُّ، بل قد يحصل من تطبيقه الضررُ من حيث أريدت المصلحة، لذا كان النظر في مآلات الأفعال ونتائج التصرفات واجب على المجتهد، قال الشاطبي: "النظر فى مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعا؛ كانت الأفعال موافقةً أو مخالفةً، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل: مشروعا؛ لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصِد فيه، وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورِد، إلا أنَّه عذب المذاق، محمود الغبِّ، جار على مقاصد الشريعة"([79]).

فاعتبار المآل: "هو تحقيق مناط الحكم بالنظر في الاقتضاء التبعيِّ الذي يكون عليه عند تنزيله؛
من حيث حصول مقصده، والبناء على ما يقتضيه ذلك الاقتضاء"([80]).

ويكون هذا النظر بدراسة طبيعة الوقائع في أحوال فاعليها، وفي علاقاتها مع غيرها من الأوضاع وفي ظروفها الزمانية والمكانية، وبناء على هذه الدراسة يقدّر المجتهد ما إذا كان يغلب على الظن أن الحكم سيحقق مقصده من المصلحة فيجريه كما هو. أو ما إذا كان يغلب على الظن أنه لا يحقق مقصده بل قد يفضى إلى مفسدة؛ فيلجأ إلى اجتهاد استثنائيٍّ يتناسب وتلك الواقعة المعروضة تأجيلاً أو تعديلاً أو تغييرًا.

وهذا المنهج الاجتهاديُّ انتهجَه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من اجتهاداته المصلحيَّة الراقيَّة، التي تتفصَّى عن فقه مصلحيٍّ عميق، وتتفقَّأُ عن قريحة في الفهم متَّقدة، وتبين عن ذكاءٍ ألمعيٍّ في التطبيقِ، وسيأتي مزيد من البيان في الفرع الآتي.

الفرع الثاني: أثر الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق من حيث التَّنزيل الواقعيُّ:

إنَّ إدراك حقائق الصور الواقعية المشخَّصة حالا ومآلا؛ ضروريًّا لاستجلاب الحكم المناسب، الذي يحافظ على اتِّساق منطق التشريع، ويعصِم الشَّريعة من التناقض والتهافتِ، وتقدير مآلات الأفعال عنصر أساسيٌّ في تشكيل المناط الذي يستتبع الإجراء المناسب لذلك الحكم([81]):

إما بإجراء الحكم المجرَّد كما هو، إذا كان آيلا إلى تحقيق غاية الحكم في الواقعة المعروضةِ.

أو قد يضطر المجتهد إلى اللَّجاءِ وفق اجتهـاد استثنائيٍّ إلى حكم آخر؛ هو أقرب إلى تحقيق الصلاح والمقصِد المتغيَّا من تشريع الحكم؛ إما تأجيلاً أو إيقافاً أو تعديلا أو تغييرًا؛ بحسب مقتضيات العدل والمصلحة، وهذه هي تجلِّيات الاجتهاد الاستثنائيِّ حال التطبيق الواقعيِّ للأحكام؛ وهذا ما أقصد بسطه هنا:

الفقرة الأولى: التأجيل:

وهو العدول عن تطبيق الحكم الشرعي في ظرف معين، وإيقاف العمل به في ذلك الظَّرف استثناءً ظرفيًّا؛ ضرورة كون تطبيق الحكم على ذلك الظرف يؤول إلى حرج أو مشقةٍ لا تطاق، أو تخلَّفِ المقصِد المتغيَّا من تشريع الحكم ساعة تطبيقه في ذلك الظرف:- فيلجأ المجتهد في كل ذلك إلى اجتهاد استثنائيٍّ يؤجَّل تطبيق الحكم بموجبه حتى يحين الظرف المناسب، فيعاد فيه ذلك الحكم إلى التطبيق([82]).

وليس هذا من قبيل التغيير؛ لأنَّ الحكم يُطبَّق كملاً دون أن يلحقَه نقصانٌ كليٌّ أو جزئيٌّ، وإنَّما غاية ما فيه أن يؤخَّر تنفيذُ الحكم، أو امتثال التكليف؛ لطروِّ أسباب وملابسات اقتضت تأجيلَه وتأخيرَه؛ كي يحافظ على مصلحة الحكم ولا يفوت المقصد([83]).

وذلك معهود في التشريع ذاتِه، وفي اجتهادات الصحابة ومن بعدهم؛ ومن ذلك:

1) بعضُ الرُّخص والتَّخفيفات التي لوحظ فيها التأجيل والتَّخفيف من جهة الوقت؛ فشرع قضاؤها في وقت آخر غير وقتها الأصليِّ استثناءً لمكان رفع الحرج والمشقَّة، كما هو موضَّح في الآتي:

- التَّرخيص للمسافر والمريض بالإفطار في نهار رمضان([84]):

فإنّه رخِّص لهم فيه وأجِّل وجوبه إلى حين زوال الظرف الاستثنائيِّ، فوجب عليهم قضاؤه عند انتهاء رمضان وبرءِ المريض، حيث عاد الظرف الأصليُّ فعاد الحكم، وغاية ما في الأمر أنَّ وجوب الصوم تأجل في حقِّهما.

2) النَّهيُ عن قطع الأيدي في الغزو:

فعن بسر بن أرطأة قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو"([85]).

وقال الخرقيُّ: "ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدوِّ"([86]).

وبيان ذلك: أنَّ إقامة الحدود في الغزوِ أمر واجب، لكنَّ حالة الغزو تتطلَّب اجتهادا استثنائياً، يقتضي تأجيل الحدِّ؛ إذ تطبيقه في تلك الحالة مفضٍ إلى مفاسد هي أربى من مصلحة تطبيق الحكم الأصليِّ؛ فيؤخَّر إلى وقت تستجلب فيه المصلحة دون معارض أقوى؛ يقول ابن القيم معلِّلا ذلك: "إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تُقطَع الأيدي في الغزوِ؛ خشية أن يترتَّب عليه ما هو أبغضُ إلى الله مِن تعطيلِه أو تأخيرِه؛ من لُحوقِ صاحبِه بالمشرِكين حَمِيَّةً وغَضبًا، ... وأكثر ما فيه تأخيرُ الحدِّ لمصلحةٍ راجحةٍ، إمَّا مِن حاجةِ المسلمين إليه، أو من خوفِ ارتدادِه ولحوقِه بالكفَّار، وتأخير الحدِّ لعارضٍ؛ أمرٌ وردَت به الشَّريعة؛ كما يؤخَّر عن الحاملِ والمرضِعِ، وعن وقت الحرِّ والبردِ والمرضِ، فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى"([87]).

الفقرة الثانية: الإيقاف:

وهو ترك تنفيذ الحكم المنصوص عليه إذا زال موجبه الذي شرع لأجله([88])، أو أن تقترن بالحادثة قرائن تجعل الحكم غير مثمرٍ لمقصده لو طُبِّق على ما هو عليه، وهذا ما قرَّره علماؤنا؛ إذ الحكم دائر مع علته وجودا وعدما([89])، ولا شكَّ أنَّه لو عاد المناط الذي شرع له الحكم الأصليُّ عاوَدنا إجراء الحكم الأصليِّ.

والإيقاف مظهر من مظاهر الاجتهاد الاستثنائيِّ الذي يستند إلى أصل تعليل الأحكام، وأنها شرعت لتحصيل مقاصدٍ وغاياتٍ؛ فإذا تخلَّفت عنها تلكم الغايات وتقاعدت عن تحصيل مقاصدها؛ لم تقع على الوجه الذي يريده الشَّرع؛ لذا يقول العز: "كلُّ تصرُّف تقاعد عن تحصيل مقصوده؛ فهو باطل"([90]).

فليس مسلكُ الإيقاف لبعض الأحكام والذي عرفه الصحابة رضي الله عنهم؛ افتئاتًا وجرأةً على الشريعة، لا؛ ولا هو غريب عن سنَنِها، بل هو اتِّباع لرسم تشريعيٍّ اختطَّه الشارع الحكيم في سنِّ الأحكام والتَّشريعات، إذ هو فرع التعليل الذي ثبت بالاستقراء الذي لا يمكن إنكاره ولا تجاهله.

وشواهد ذلك مُتَبَدِّيَةٌ بوُضوحٍ في بعض اجتهادات الصَّحابة؛ منها:

1) إيقاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدَّ السرقة في عام المجاعة:

فقـد رأى عمر رضي الله عنه ألاَّ ينفِّذ حدُّ السرقـة في من سرق عام المجاعةِ؛ ذلك أنه عامٌ استبدَّت فيه الحاجة الشديدة بالناسِ، وأنهكتهم المجاعة، واضطرَّهم الجوع ودفعت بهم الفاقة إلى مدِّ الأيدي لأخذ مال الغير سعيًا إلى إطفاءِ لهيب اللهفة وسدِّ الخَلَّة التي تحرِق أجوافهم وبطونَ ذراريهم([91]).

وتقرَّر عند علماء الشرع أنَّ مناطَ الحدِّ ساعةَ يكونُ المكلَّف في غير اضطرار وفاقة؛ ثمَّ يسرِق عن اختيار وشهوة؛ لأجل هذا أمر عمر رضي الله عنه بقطع العبيد الذين سرقوا ناقة؛ ثمَّ امتنع عن تنفيذ الحدِّ لما علم أنَّ سيِّدَهم يُجيعهم، ولا يطعمهم ما يكفيهم([92])، قال الباجيُّ: "ثمَّ أمر بصرفهم ولم يقطعهم؛ وعذرَهم بالجوع، وهذا معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه في عام الرمادة، فإنه لم يقطع سارقا"([93]).

ففي عام المجاعة لم يتحقَّق مناط القطع؛ إذ انتفى معنى السَّرقة وارتفع موجب القطع؛ فيرتفع الحكم تبعا لارتفاع موجبه: هذا ما جعل عمرُ رضي الله عنه يُوقِف حدَّ القطع يومئذٍ، فإنه لم يجد مناطه متحقِّقًا، وكان رضي الله عنهم يقول: "لا قطعَ في عذقٍ، ولا في عام سنةٍ"([94]).

2) إيقاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم بعد عزة الإسلام:

والمؤلفة قلوبهم، كانوا قوما يتألفون على الإسلام بما يعطون من الصدقات، وهم أنواع ثلاثة:

‌أ. كفار يُكَفُّ أذاهم عن المسلمين، ويستعان بهم على غيرهم من المشركين.

‌ب.  قوم تقصَد استمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام.

‌ج. قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر لئلا يرجعوا إلى الكفر([95]).

كلُّ هذا إنما يحتاج إليه في حال ضعف المسلمين، أمَّا حال قوَّتهم؛ فلا حاجة إلى هذا التأليف، لذا رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يوقِف سهمَهم من الزَّكاة حين عزَّ الإسلامُ، وذلك بحضرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم ينكر عليه هو، ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

وترك أبو بكر رضي الله عنه النَّكير عليه بل استحسن صنيعَه؛ قال الجصَّاص -معقِّبا على الأثر-: "فتَرْكُ أبي بكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه النكيرَ على عمرَ فيما فعلَه، بعد إمضائِه الحكمَ: يَدلُّ على أنَّه عرف مذهبَ عمرَ فيه حين نبَّهه عليه، وأنَّ سهمَ المؤلَّفة قلوبُهم كان مقصورًا على الحال التي كان عليها أهلُ الإسلام مِن قلَّة العددِ وكثرة عددِ الكفَّار، وأنَّه لم ير الاجتهادَ سائغًا في ذلك، لأنَّه لو سوَّغ الاجتهاد فيه؛ لما أجاز فسخَ الحكمِ الذي أمضاه"([96]).

فرأى عمر رضي الله عنه بمحضر كبار الصَّحابة رضي الله عنهم تأجيل حصَّة المؤلَّفة قلوبهم لما عزّ الإسلام، وقويَ المسلمون؛ إذ أمسى إجراءُ الحكم في مثل هذا الظَّرف لا يؤدي مقصِدَه، فقد انتفت فيهم صفة التَّأليف؛ لعزَّة الإسلام:- فأخَّر إجراءَه إلى حين يرجع مناطُه، وتزولُ الملابسات التي تجعل تطبيقَه غير َمثمر لنتيجتِه ومقصِدِه؛ فيُعاوِدَ تطبيقَ الحكم وإجراءَه.

الفقرة الثالثة: التعديل:

وهو: الإبقاء على الحكم الأصليِّ مع العدول إلى نوعٍ من الاجتهاد الجزئيِّ تتقاضاه ملابسات الظرف القائم، وما يحيط بها من خصوصيَّات؛ استتبعت تعديلا في الحكم الأصليِّ، كي يبقى متَّسقا مع مقاصد التشريع الكليَّة بما يحقِّق المصلحة والعدل.

ومن مظاهر الاجتهاد الاستثنائي في التطبيق الواقعيِّ، وقد اتخذ التَّعديل في الاجتهاد التطبيقيِّ عند أهل الاجتهاد والنَّظر؛ مظهرين اثنين هما التضييق والتوسيع([97]):

أوَّلا: التَّضييقُ: وله أحوال أجمل ذكرها فيما يأتي:

1) حالات منعِ التعسُّف في استعمال الحقِّ:

فأصل التَّصرُّف في الحقوق والإباحات العامَّة الإباحة والإطلاق، لكن في حالات استتباع التَّصرُّف في الحقِّ أو الإباحة العامَّة ضرراً فاحشًا بالغير؛ فإنَّ هذا يُعَدُّ اعتسافاً وإساءةً في الاستعمال، يُمنَع صاحبُه منه؛ إذ لم تُشرَع الحقوقُ والإباحاتُ لتكون سبيلاً لإلحاق الضَّرر بالغير!، فهي لمَّا استجلبت ضررا وحرجا لم يجئ الشَّرع به؛ استوجبت اجتهادًا استثنائيًّا؛ استثناءً جزئيًّا؛ يُقيِّد استعمالَ الحقوقِ والإباحاتِ العامَّة بما لا يُلحِقُ الضَّررَ بالغير، وبما لا يُعدُّ إساءة وتعسُّفا([98]).

ونظير ذلك جميع حالات مَنعِ التَّعسُّف في استعمال الحقِّ، ومن شواهدِه ما قضى به عمر رضي الله عنه في قضية محمدِ بن مسلمة رضي الله عنه؛ فقد روى مالك -رحمه الله- في الموطأ: "أنَّ الضحاكَ ساق خليجا له من العريض؛ فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة؛ فأبى محمد، فقال له الضحاك: "لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخرا ولا يضرك؟!" فأبى محمَّد رضي الله عنه؛ فكلَّم فيه الضَّحاكُ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنهم، فدعا عمرُ محمدَ بنَ مسلمة، فأمره أن يخلِّيَ سبيلَه، فقال محمَّد رضي الله عنه: لا، فقال عمر: "لِمَ تمنعُ أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع: تسقي به أوَّلا وآخرًا، وهو لا يضرُّك؟!" فقال محمد: "لا والله" فقال عمر: "والله ليمرنَّ به ولو على بطنك"؛ فأمره عمرُ رضي الله عنه أن يمرَّ به، ففعل الضَّحاك"([99]).

فالأصل أن محمَّداً رضي الله عنه حرٌّ في ملكه، له ألاَّ يأذن؛ لكن لمَّا كان امتناعه عن الإذن مُضرّاً بجاره، ولا يستجلب مصلحة فيه؛ بل على عكس ذلك له منفعة في الإذن:- عدَّ عمرُ امتناعَه محض إضرارٍ، وهو تعسُّف وإساءةٌ في استعمال حقِّه، ولم يَشرَع اللهُ الحقوقَ لتكون معتصما تلوذ به المضارةُ، غطاءً يُكسبُها المشروعيَّة والنَّفاذ؛ فالعدالة مِظلَّة الأحكام الشَّرعيَّة، والضَّرر يُزال؛ لذا؛ قضى عمرُ رضي الله عنه للضَّحاك بإمرار الخليج على أرض محمد رضي الله عنه مع عدم رضائه؛ استثناءً من أصل حريَّة التصرُّّف في الحق؛ لمَّا آل الأمر إلى الاعتسافِ.

2) حالات ضعف الوازع:

ومن شواهد التضييق في الاجتهاد استثناءً نتيجة الظرف الخاصِّ القائم؛ ما يتعلَّق بمسائل ضَعفِ الوَازع؛ وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: "تُحـدَثُ للناس أقضيةٌ، على قدر ما أحدثوا من الفجور"([100]).

قال القرافي معلِّقا على ذلك: "أي يُحدِثون أسبابًا يقتضي الشَّرعُ فيها أمورًا لم تكن قبل ذلك؛ لأجل عدمِ سببها قبل ذلك، لا لأنها شرع متجدِّد"([101]).

فهذا صريح في أنَّ ما اعترى الحكم من تبديل جزئيٍّ ليس نسخًا؛ وإنما تغيَّر سببُ الحكم؛ فتغيَّر الحكم لتغيُّر مناطه؛ ضرورةَ دورانِ الحكم مع علَّته وجودا وعدما، ولو تغيَّر المناط في الزمن لغيَّر الصَّحابة اجتهادهم وَفقَه، وهو معهود منهم؛ ولقد صرح بذلك ابنُ الحسين المالكيِّ في قوله: "بل علم من القواعد الشرعية أن هذه الأسباب لو وجدت في زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ لكانت هذه المسببات من فعلهم وصنعهم ، ولكن تأخر الحكم لتأخُّر سببه، ولا يقتضي وقوعُ الحكم عند وقوعِ سببه تجديدَ شرع لم يكن في زمن الصحابة"([102]).

ومـن شواهـد ذلك:

أ) تضمينُ الصُّنَّاع:

كان الناس في زمن الوحي يستصنعون ما يحتجونه، والأمانة عامَّة ومنتشرة في أوساط الناس، فكان الحكم على الأصل بأن يد الصانع يد أمان.

بيد أنَّ الوضعَ اختلف زمنَ الخلفاء؛ أَنْ دخلت الخيانة في بعض النفوس؛ طمعًا في أموال الناس، وضَعُفَ الوازع، فانتشرت الدَّعاوَى وكثرت الشَّكاة، بحيث لو تُرِك الحال على ما هو عليه من عدم التضمين؛ لعمَّ التعدِّي ووقع الناس في ضيق وحرج.

من هنا؛ ارتأى الصَّحب الكرام رضي الله عنهم الحكم بتضمين الصُّناع؛ رعيًا لمصالح الناس العامة، ودرءًا للفساد المتوقَّع من التعدِّي على أموالهم، وعلى ذلك سار العلماء بعدهم([103]).

وقد جاء هذا التعليل على لسان مالكٍ -رحمه الله-، فقد جاء في المدوَّنة: وقال لي مالك: "إنما يضمن الصناع ما دفع إليهم مما يستعملون على وجه الحاجة إلى أعمالهم، وليس ذلك على وجه الاختيار لهم والأمانة، ولو كان ذلك إلى أمانتهم؛ لهلكت أموال الناس وضاعت قِبَلهم واجترءوا على أخذها، ولو تركوها؛ لم يجدوا مستعتبا، ولم يجدوا غيرهم ولا أحدا يعمل تلك الأعمال غيرَهم؛ فضمنوا ذلك لمصلحة الناس"([104]).

وقد روى ابنُ حزم آثارا في ذلك عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ فقال: "روينا من طريق عبد الرزاق ... أنَّ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه ضمَّنَ الصناع ... كان عليُّ ابن أبي طالب يُضمِّن الأجير" ... وقال: "لا يُصلِح ُالنَّاسَ إلا ذلك"([105]).

فهذا ضرب من الاجتهاد الاستثنائيِّ فيه تعديل للحكم الأصليِّ؛ تعديلا اقتضاه الظرف المستجدُّ الذي استتبع -ضرورةَ ضعف الوازع- أن يُضيَّق على طائفة من الناس؛ كي تُحفَظ المصالحُ العامَّة وتصان الحقوق من الضياع.

ب) ومن شواهد ذلك الاعتداد بجرح ما لا يقدر على ذكاته وإقامة ذلك مقام الذكاة؛ يقول العزُّ مُبِينًا عن ذلك: "الذَّكاة واجبة في الحيوان المأكول؛ تقليلا لما فيه من الدم النجس، واستثني من ذلك ما لا يقدر على ذكاته من الوحوش والطيور وشوارد الأنعام؛ فإنَّ جرحَها يقوم مقام ذكاتها لتعذُّر ذكاتها، وكذلك لو سقط بعير في بئر يتعذر رفعه منه، وأمكن طعنه في بعض مقاتله؛ حلَّ بذلك، وهذا وأمثاله داخل في قول الشافعي: بُنيت الأصولُ على أنَّ الأشياءَ إذا ضاقت اتَّسعت([106])؛ يريد بالأصول قواعد الشريعة، وبالاتساع الترخيص الخارج عن الأقيسة واطِّراد القواعد، وعبر بالضِّيق عن المشقة"([107]).

فهذا يشير إلى أن الاستثناء والعدول عن القاعدة العامة بطريق التوسيع حال وجود موجبها؛ رسم تشريعيٌّ ينبغي على المجتهد اتِّباعه حال نظره في المسائل المعروضة.

الفقرة الرَّابعة: التَّغيير:

ومن مظاهر الاجتهاد الاستثنائيِّ التغيير؛ وهو العدول عن الحكم الأصليِّ إلى حكم اجتهاديِّ آخر؛ نظرا لارتفاع المناط الأوَّل وظهور مناط جديد استوجب حكما جديدا مغايرا للأوَّل، هو أقدر على تحقيق المصلحة والعدل.

فالأحكام وسائل لتحقيق مقاصدها، إذا تخلَّفت عنها وتقاعدت عن تحقيقها؛ لم تقع على الوجه المراد للشارع([108])؛ فعند عروض ملابسات ومستجدَّات تقوم ساعتئذ دلائلُ تكليفيَّةٌ أخرى؛ تتقاضى العدولَ عن الحكم الأوَّل إلى غيره؛ مما يكون أقدر على تحقيق مقاصد الشرع([109]).

فالأحكام تابعة لمناطاتها توجد بوجودها وترتفع بارتفاعها؛ ضرورةَ أنَّ الحكم يدور مع علَّته وجودا وعدما([110])؛ فتغيُّر المناط يستوجب اجتهادا استثنائيًّا مغايرا للحكم الأصليِّ. كل هذا استتبعته مرونة الشَّريعة وابتناؤها على التعليل بمصالح العباد في الدارين؛ فكانت بذلك صالحة لآباد الزمن، ومستوعبة لآفاق الأمم.

هذا ما وعاه الصحابة رضي الله عنهم وتيقَّنوه من معايشتهم للوحي، وفهموه من أقضية النبي صلى الله عليه وسلم وفتاويه، فولجوا هذا الباب من واسع أبوابه؛ فتارة يعلِّلون فتياهم بالمنصوص، وأحيانا يعمدون إلى الحكم يستنبطون علَّته ليوسِّعوا مجاله ومشمولاته، وأحيانا يحكمون أحكاما يُخالُ -بادي الرأي- أنهم خالفوا فيها حكم الله وليس ذلك كذلك، إنَّما بثاقب نظرهم علموا أنَّ الحكم معلَّلٌ بعلَّةِ وقد ارتفعت؛ فيغيِّرون الحكم لتغيُّرِ علَّته([111]).

وللتغيير شواهد في التشريع ذاته، وفي فتاوى الصحابة:

1) نهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ادِّخار لحوم الأضاحي بعد أن كان أصلها الجواز؛ ثمَّ عاد فأذن فيه:

قالت عائشة: دفَّ أهل أبيات من البادية حضرةَ الأضحى؛ زمنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: صلى الله عليه وسلم: "ادَّخروا ثلاثا ثم تصدَّقوا بما بقي"، فلما كان بعد ذلك، قالوا: "يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك"؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟" قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدَّافة التي دفَّت؛ فكلوا وادَّخروا وتصدَّقوا"([112]).

قال ابن عبد البر: "لا خلاف علمتُه من العلماء في إجازة أكل لحوم الاضاحي بعد ثلاث وقبل ثلاث، ... وقد روت عمرة عن عائشة بيان العلَّة في النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأنَّ ذلك إنما كان محبَّة في الصَّدقة من أجل الدَّافة التي كانت قد دفَّت عليهم؛ يعني الجماعة من الفقراء القادمة عليهم"([113]).

فبعض العلماء رأى أنَّ الحكم غير منسوخ؛ وإنما ارتفع لارتفاع علَّته، فإذا عاد المناط ودفَّ النَّاس؛ عاد النَّهيُ عن الادِّخار؛ فهو من باب تغيير الحكم لتغيُّر علَّته؛ فالأصل جواز الادِّخار، بيد أنَّه في حال الدَّافة مع عدم وجود سبيل لسداد الحاجة إلا بلحم الأضاحي؛ يلجأ إلى الاجتهاد الاستثنائيِّ؛ فيتغيَّر الحكم لتغيُّر علته ومناطه؛ ويعود الحكم بالنَّهي عن الادخار؛ قال الشافعي: "فإذا دَفَّت الدَّافَّةُ ثَبَتَ النهيُ عَن إمْساك لحوم الضحايا بعد ثلاثٍ؛ وإذا لم تَدِفَّ دافَّة فالرخصةُ ثابِتة بالأكْل والتَّزَوُّدِ والادِّخارِ والصَّدَقَةِ"([114]).

وجاء في تفسير القرطبي: "وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها؛ فلا يدَّخر؛ لأن النهي إنما كان لعلة وهي قولهu: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت" ولما ارتفعت؛ ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ ... اعلم أنَّ المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلَّة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعةٌ يسدُّون بها فاقتَهم إلاَّ الضَّحايا:- لتعيَّن عليهم ألا يدَّخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم"([115]).

وهناك أمثلة كثيرة من اجتهادات الصحابة والأئمة الأعلام كالتسعيير وجمع السنَّة وما ارتآه بعض السلف من منع النساء الصلاة في المساجد عند تغيُّر الزمن، وانتشار الفساد. كلُّها من قبيل تغيُّر الحكم لتغيُّر مناطه واختلاف ظروفه([116]).

فهذه جملة من تجليَّات الاجتهاد الاستثنائيِّ في فقه التطبيق واقعًا؛ فهو رسم تشريعيٌّ أصيل في الاجتهاد، سار عليه الصحابة والأئمة المجتهدون، بعد أن لمسوه منهجًا للشرع ذاتِه عند الاقتضاء؛ فأضحى سنَنًا مطلوب من المجتهد انتهاجه؛ لتُصان أحكام الشرع عن الاختلاف والتناقض، ويبقى منطِق التَّشريع متَّسقًا في استجلاب المصالح والخيور، ودرء المفاسد والشرور.

الخاتمة

وفي ختام هذا البحث؛ أجمل النتائج التي تخلَّصت من هذه الدراسة فيما يأتي:

1- الاجتهاد الاستثنائيُّ هو كل ما فيه عدول بواقعة عن حكمها الأصليِّ، وعن قاعدتها العامَّة، إلى حكم آخر هو أقربُ إلى تحقيق المصلحة والعدل، فهو شامل لأحكام الضَّرورات والرخص والحاجات التي تستوجب استثناءً، وغيرها.

2- الاجتهاد الاستثنائيِّ تنتهض به مناهج أصوليَّة في الاستنباط، ينضبط بها، وتحكمه في التطبيق الميداني، وهي الاستحسان، ومبدأ الذرائع -سدًّا وفتحًا-، هذه المناهج هي كالأسس يقوم عليها هذا الاجتهاد.

3- إنَّ استنباط الحكم من النص الشرعيِّ يجب أن يمرَّ بمرحلتين: الفهم، والتطبيق.

4- فقه التطبيق له فائدة عظيمة في المواءمة بين الحكم الشرعيِّ ومقصده؛ فهو يرسِّخ المبدأ الأصيل الذي يقضي بابتناء الأحكام على جلب المصالح ودرء المفاسد.

5- للاجتهاد الاستثنائي أهمية بالغة في ترشيد الاجتهاد التنزيليِّ؛ وبانتهاجه يَبقَى منطق التشريع متَّسقًا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد.

6- يعظم خطر الاجتهاد الاستثنائيِّ بقدر فائدته؛ إذا ما تقحَّمه مَن لم يتأهَّل له، وإذا خلا من ضوابطه؛ فهو ساعتَئذٍ موصلٌ إلى ظلماتِ تعطيل الشَّرائع؛ تحجُّجا بالاستصلاحِ، والانفلاتِ من أحكامها؛ بدعوى الاستثناء!

7- للاجتهاد الاستثنائيِّ أثر واضح في فقه التطبيق من خلال أسسه التي يقوم عليها؛ والمتمثلة في: التجزئة والإفراد، وتحقيق المناط، ولحظ المآل، وقد أبان البحث عنها بالتفصيل وعرضَ لوجه الاستثناء فيها.

8-  للاجتهاد الاستثنائيِّ تجليات ومظاهر في فقه التطبيق حال التطبيق الواقعيِّ للأحكام؛ تظهر في التأجيل والإيقاف والتعديل والتغيير؛ حسب ما تتقاضاه المصلحة، وتتفصَّى عنه الموازنة المصلحية والنظر المآلي، وقد اتضح ذلك بشواهد في تصاريف البحث.

9- الاجتهاد الاستتثنائيِّ رسم تشريعيٌّ بديع؛ انتهجه الصحابة في اجتهادهم بعد أن فقهوا هذا من سَنن التشريع؛ إذ عايشوا التَّنزيل، وشاهدوا أفعال النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقضيته، علاوةً عن معرفتهم بمقاصد الشرع. وتبعهم الأئمة المجتهدون على ذلك:- فهو ليس بدعًا من المناهج الاجتهادية، بل هو سنن تشريعي أصيل.

10- الغفلة عن الاجتهاد الاستثنائي توقع في تناقض، ومجانفة للعدل، ومجانبة للسَّنن التشريعيِّ المطرد في اجتلاب المصالح والخيور.

وختاماً: إن أصبت فمن الله جل جلاله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وشرع الله من ذلك براء؛ وحسبي أني بذلت جهدي، وأستغفر الله وأسأله الإخلاص والصواب، ولله الحمد من قبل ومن بعد.

 

 (*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد الخامس، العدد (2/ب)، 1430ه‍/ 2009م.

 

الهوامش:


([1]) الشاطبي، إبراهيم بن موسى (ت 790ه‍)، الموافقات في أصول الفقه، تحقيق وشرح عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ج4، ص93.

([2]) العز، عز الدين بن عبد السلام، (ت 660 ه‍‍)، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، دت، ج2، ص162.

([3]) الشاطبيُّ، الموافقات، ج4، ص94.

([4]) الزَّبيديُّ، محمد مرتضى الحسيني، (ت 1205ه‍)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: عبد الكريم العزباوي، مطبعة حكومة الكويت، 1386ه‍، ج1، ص1946. وابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711ه‍)، لسان العرب، دار الصادر، بيروت، 1412ه‍، (ط2)، ج3، ص133. و ابن الأثير، أبو السعادات المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، المكتبة العلمية، بيروت، 1399ه‍، ج1، ص848. والرَّازيُّ، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415ه‍، ج1، ص119.

([5]) ابن منظور، لسان العرب، ج3، ص133. والرَّازيُّ، مختار الصّحاح، ج1، ص119. والفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1913م. ج1، ص351.

([6]) ابن الأثير، النهاية في غريب الأثر، ج1، ص848.

([7]) الزَّبيديُّ، تاج العروس، ج1، ص1946. وابن الأثير، النهاية في غريب الأثر، ج1، ص848.

([8]) ينظر في ذلك: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (ت 505ه‍)، المستصفي من علم الأصول، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417ه‍، ص343. والآمديُّ، علي بن محمد (ت 631ه‍)، الإحكام في أصول الأحكام، اعتنى به: سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1424ه‍، (ط1)، ج4، ص162. والزَّركشي، بدر الدين محمد بن بهادر (ت 794ه‍)، البحر المحيط في أصول الفقه، دار الكتبي، القاهرة، ج8، ص228. والبيضاويُّ، ناصر الدين، (ت 685ه‍)، منهاج الأصول، مطبعة كردستان العلمية القاهرة، د.ت، ص103-104. ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير، ج3، ص292. والفتوحيُّ، تقي الدين أبو البقاء (ت 972ه‍)، شرح الكوكب المنير، مطبعة السنة المحمدية، ص603.

([9]) ينظر: تقيُّ الحكيم، محمد، (ت 1989م)، الأصول العامَّة للفقه المقارن، مؤسسة آل البيت،  ص563. ومحمد مهدي، شمس الدين، الاجتهاد والتقليد، المؤسسة الدولية، بيروت، 1998م، (ط2)، ص72.

([10]) الزركشيُّ، البحر المحيط، ج8، ص228.

([11]) ينظر: الزركشيُّ، البحر المحيط، ج8، ص228.

([12]) ينظر: الصبان، الحاشية على الأشموني، دار الكتب العربية. بيروت، ج2، ص141.

([13]) الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير، المكتبة العصرية بيروت، 1997م، ج1، ص85.

([14]) ابن منظور، لسان العرب، ج14، ص115. والرَّازي، مختار الصّحاح، ص90.

([15]) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج1، ص1636. والزَّبيديُّ، تاج العروس، ج1، ص8314.

([16]) ابن منظور، لسان العرب، ج14، ص115. والرَّازي، مختار الصّحاح، ص90.

([17]) ابن منظور، لسان العرب، ج14، ص115. والرَّازي، مختار الصّحاح، ص90.

([18]) الفيومي، المصباح المنير، ج1، ص85.

([19]) الزبيدي، تاج العروس، ج1، ص8319. وابن منظور، لسان العرب، ج14، ص115.

([20]) كصنيع العزِّ في قاعدة المستثنيات، العز، قواعد الأحكام، ج2، ص162. وينظر: الدرينيُّ، محمد فتحي، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، مؤسسة الرِّسالة، بيروت، 1997م، (ط2)، ص486.

([21]) الغزالي، أبو حامد، المستصفى 2، ص36.

([22]) ابن الحاجب، مختصر المنتهى، المطبعة الأميرية، مصر القاهرة،. ط1، ج2، ص32. وينظر: التفتازاني، الحاشية على شرح العضد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، (ط2)، ج2، ص133.

([23]) ابن حزم، الإحكام، ج4، ص420. وينظر في معناه: ابن عابدين، الحاشية، دار الكتب العلميَّة، ج4، ص463. وابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المسودة في أصول الفقه، ت، محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، ص154.

([24]) الدرينيُّ، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص486.

([25]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، ج2، ص162.

([26]) الدرينيُّ، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص486.

([27]) الشاطبي، الموافقات، ج4، ص194.

([28]) يقول القرافيُّ، "اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدُّها يجب فتحُها، وتكره وتندب وتباح": أنوار البروق في أنواء الفروق، عالم الكتب، بيروت، ج2، ص34.

([29]) القرافي، الفروق، ج2، ص34، وج3، ص267. وابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر (ت 751ه‍)، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، بيروت، ج3، ص110.

([30]) الباجي، سليمان بن خلف (ت 474ه‍)، إحكام الفصول في أحكام الأصول، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1415ه‍، (ط2)، فقرة 753. والزَّركشي، البحر المحيط، ج8، ص90. وابن العربيّ، القبس، ج2، ص786. وابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص365. والشاطبي، الموافقات، ج4، ص198.

([31]) القرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، ج2، ص34.

([32]) ولا خلاف بين العلماء في عدم سدِّ الوسائلِ التي تفضي إلى المفسدة نادرًا، وعلى سدِّ ما كان إفضاؤه إليها قطعيًّا، وأمَّا ما كان إفضاؤه إلى المفسدة غالبًا فهم متفقون على سدِّه في الجملة وإن اختلفوا في بعض جزئيَّاته، والخلاف واقع في ما أفضى إلى المفسدة على وجه الكثرة لا الغلبة. ينظر: العز، قواعد الأحكام، ج1، ص100-101. والسنوسي، عبد الرَّحمن بن معمر، اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، دار ابن الجوزي، السعودية،  1424ه‍، (ط1)، ص254. والزركشي، البحر المحيط، ج8، ص90.

([33]) القرافي، الفروق، ج2، ص33.

([34]) الدرينيُّ، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص490-491.

([35]) ابن عاشور، محمد الطاهر، (ت 1973م)، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، عمان، 2001م، (ط2)، ص366.

([36]) القرافي، الفروق 2، ص33. والعز، قواعد الأحكام، ج1، ص124 وما بعدها.

([37]) ابن القيِّم، إعلام الموقعين، ج3، ص109.

([38]) القرافي، الفروق، ج2، ص33.

([39]) القرافي، الفروق، ج2، ص33. وتنقيح الفصول، تحقيق: طه سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1393ه‍، ص 441. والسنوسي، اعتبار المآلات، ص259. والدُّريني، نظريَّة التعسُّف، ص177.

([40]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج6، ص431-432.

([41]) ابن القيِّم، إعلام الموقعين، ج3، ص110-111.

([42]) القرافي، الفروق، ج2، ص33. ابن فرحون، تحفة الحكام 2، ص365.

([43]) ينظر: الدريني، نظريَّة التعسُّف في استعمال الحق، ص177.

([44]) أخرجه الترمذي، محمد بن عيسى (ت 279ه‍)، الجامع، أحمد محمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ رقم، 1087، كتاب النكاح، باب النظر إلى المخطوبة، وقال، «هذا حديث حسن»، انظر: صحيح سنن الترمذي، ج3، ص397.

([45]) المباركفوري، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج4، ص175.

([46]) ابن القيِّم، إعلام الموقعين، ج3، ص110-111.

([47]) الجصاص، أحمد بن علي الرازي، (ت 370ه‍)، الفصول في الأصول، تحقيق: عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1405م، (ط1)، ج4، ص247. والبخاري، عبد العزيز، كشف الأسرار على أصول البزدوي، دار الكتاب الإسلامي، ج4، ص3.

([48]) ينظر: عبد الرحمن الكيلاني، الاستحسان وتطبيقاته في بعض القضايا المعاصرة، مؤتة للبحوث والدراسات، جامعة مؤتة، المجلد 16، العدد1، 2001م، ص145.

([49]) السرخسي، محمد بن أحمد، (ت 483ه‍)، أصول السرخسي، دار المعارف بيروت، د.ط، ج2، ص206.

([50]) ينظر: البخاري، كشف الأسرار، ج4، ص5. والتفتازاني، سعود بن عمر، شرح التلويح على التوضيح، مكتبة صبيح، القاهرة، د.ت، ج2، ص164. الزركشي، البحر المحيط، ج8، ص101.

([51]) ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (ت 595ه‍)، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: عبد المجيد طعمة، دار المعرفة، ببيروت، (ط2)، 1420ه‍، ج3، ص242.

([52]) ينظر: حاتم باي، الأصول الاجتهادية، ص152 وما بعدها. والسنوسي، اعتبار المآلات، ص296.

([53]) ابن رشد، بداية المجتهد، ص3، ص242.

([54]) أبو زهرة، محمد، (ت 1997م)، مالك بن أنس، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997م، (ط3)، ص258.

([55]) الدُّريني، المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي، ص486.

([56]) سيأتي قريبا تفصيل في بيان مفهوم الصياغة والإنجاز، وقد بسط الأستاذ عبد المجيد النجار الحديث في فقه الفهم، في كتابه فقه التدين فهما وتنزيلا.

([57]) النجار، عبد المجيد، فقه التدين فهما وتنزيلا، كتاب الأمة، عدد 22، رئاسة المحاكم الشرعيَّة والشؤون الدينية، قطر، 1989م، (ط1)، ج1، ص24-25.

([58]) النجار، فقه التدين فهما وتنزيلا، ج2، ص15-16.

([59]) النجار، فقه التدين فهما وتنزيلا، ج2، ص16.

([60]) بشير جحيش، الاجتهاد التنزيلي، والنجار، فقه التدين فهما وتنزيلاً، ج2، ص15-16.

([61]) الدريني، محمد فتحي، نظرية التعسف في استعمال الحق، دار البشير، 1998م، (ط2)، ص167 وما بعدها. وبحوث مقارنة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994م، (ط1)، ج1، ص133-134.

([62]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج2، ص144.

([63]) الشاطبي، الموافقات، ج4، ص93.

([64]) ينظر في ما سبق، بشير جحيش، الاجتهاد التنزيلي، والنجار، المقتضيات المنهجية، ص22 وما بعدها.

([65]) ينظر في ما سبق، النجار، المقتضيات المنهجية، ص22 وما بعدها. وقريب منه، السنوسي، الاجتهاد بالرأي في عصر الخلافة الراشدة، ص247.

([66]) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص3.

([67]) النجار، فقه التدين فهما وتنزيلا، ج2، ص17.

([68]) النجار، فقه التدين فهما وتنزيلا، ج2، ص17.

([69]) النجار، المقتضيات المنهجيَّة في تطبيق الشريعة الإسلامية، ص43-44.

([70]) الغزالي، المستصفى في أصول الفقه، ص292.

([71]) الدريني، بحوث مقارنة، ج1، ص133. وفي معناه، الزركشي، البحر المحيط، ج7، ص325. الفتوحي، شرح الكوكب المنير، ص533.

([72]) ينظر: الدريني، بحوث مقارنة، ج1، ص133-134.

([73]) ينظر في معنى ذلك، الدُّريني، نظريَّة التعسف في استعمال الحقِّ، ص84 وما بعدها.

([74]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج2، ص144.

([75]) الشاطبي، الموافقات، ج4، ص90.

([76]) ينظر: عبد المجيد النجار، المقتضيات المنهجية، ص31-32. وفي معناه: ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير، ج3، ص194.

([77]) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص3.

([78]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص06.

([79]) الشاطبي، الموافقات، ج4، ص194.

([80]) السنوسي، اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، ص19.

([81]) ينظر: النجار، عبد المجيد، المقتضيات المنهجية في تطبيق الشريعة، دار المستقبل، الجزائر، 1990م، ص77 وما بعدها. والدريني، بحوث مقارنة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994، (ط1)، ج1، ص133، 134.

([82]) ينظر في ذلك، السنوسي، اعتبار المآلات، ص222. النجار، فقه التديُّن، ج2، ص138.

([83]) ينظر: محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص36-37. والسنوسي، الاجتهاد بالرأي، ص254.

([84]) الغزالي، المستصفى، جص، ص79. وقريب منه، البخاري، كشف الأسرار، ج3، ص68. وابن أمير الحاج، التقرير والتحبير، ج3، ص166.

([85]) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم، 1450، كتاب الحدود، باب ألاَّ تقطع الأيدي في الغزو، وقال، "هذا حديث غريب..."، ج4، ص53.  وأخرجه أبو داود في السنن، رقم، 4408، كتاب الحدود، باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟، انظر صحيح سنن أبي داود، ج2، ص546.

([86]) ابن قدامة، المغني، ج9، ص248. وقال البهوتي: "من أتى حدا في الغزو أو أتى ما يوجب قصاصا في الغزو لم يستوف منه في أرض العدوِّ حتى يرجع إلى دار الإسلام"، كشاف القناع، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ج6، ص89.

([87]) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص5 وما بعدها.

([88]) ينظر: السَّنوسيُّ، الاجتهاد بالرَّأيِ في عصر الخلافة الرَّاشدة، ص256.

([89]) ينظر: البخاري، كشف الأسرار، ج3، ص296، والزركشي، البحر المحيط، ج7، ص312.

([90]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج2، ص144.

([91]) ينظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص18، والسنوسي، الاجتهاد بالرأي، ص256.

([92]) فقد روى مالك أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة فانتحروها؛ فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فأمر عمر رضي الله عنه بقطع أيديهم، ثم قال عمر: "أراك تجيعهم ... والله لأغرمنك غرما يشق عليك ...". مالك، ابن أنس (ت 179ه‍)، المُوطَّأ، كتاب الأقضية، باب القضـاء في الضواري والحريسة، ج2، ص748.

([93]) الباجي، المنتقى شرح الموطأ، ج6، ص66.

([94]) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" رقم، 28586، كتاب الحدود، باب في الرجل يسرق التمر والطعام، ج5، ص520. وينظر: ابن حجر العسقلاني، أحمد ابن علي، (ت 852ه‍)، تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، السيد عبدالله هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، 1384ه‍، ج4، ص70.

([95]) ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405ه‍، ج4، ص324،

([96]) ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، ج4، ص324. وشلبي، تعليل الأحكام، ص38.

([97]) ينظر في ذلك، السنوسي، اعتبار المآلات، ص420.

([98]) ينظـر في معنى ذلك، الدُّريني، نظريَّة التعسـف في استعمال الحقِّ، ص84 وما بعدها.

([99]) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم، 1431 كتاب، الأقضية، باب، القضاء في المرفق، ج2، ص746.

([100]) الباجي، المنتقى، ج6، ص47. والقرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، ج4، ص252.

([101]) القرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، ج4، ص252.

([102]) ابن الحسين المالكي، تهذيب الفروق، ج4، ص277.

([103]) محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص59.

([104]) سحنون، المدونة، ج3، ص401.

([105]) ابن حزم، المحلى، ج7، ص31، وقول عليٍّ رضي الله عنه أخرجه ابنُ أبي شيبة في المصنف، ج5، ص123، قال ابن حجر، "حديث عمر وعلي في تضمين الأجير، أما عمر، فأخرجه عبد الرزاق بسند منقطع عنه، وأما علي، فروى البيهقي من طريق الشافعي عن علي بسند ضعيف ..." التلخيص الحبير، ج3، ص136.

([106]) وهي القاعدة المعروفة، الأمر إذا ضاق اتسع، الزركشي، المنثور في القواعد الفقهيَّة، ج1، ص123.

([107]) العز، قواعد الأحكام، ج2، ص197.

([108]) في ذلك يقول العز، "كل تصرُّف تقاعد عن تحقيـق مقصِِده؛ فهو باطل"، قواعد الأحكام، ج2، ص144.

([109]) السنوسي، اعتبار المآلات، ص423. وفي معناه: الدريني، بحوث مقارنة، ج1، ص133-134.

([110]) ينظر: البخاري، كشف الأسرار، ج3، ص384. والزركشي، البحر المحيط، ج7، ص311. والفتوحي، شرح الكوكب المنير، ص530. والتفتازاني، شرح التلويح على التوضيح، ج2، ص156.

([111]) ينظر: محمد شلبي، تعليل الأحكام، ص35، وص37.

([112]) ومسلم في "الصحيح" رقم، 1971 كتاب الأضاحي، باب، بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحة إلى متى شاء، ج3، ص1561.

([113]) ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله (ت463ه‍)، التمهيد لما في المُوطَّأ من المعاني والأسانيد، مكتبة المؤيد، ط1، 1387ه‍، ج3، ص216.

([114]) الشافعي، محمد بن إدريس (ت 204ه‍)، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مصطفى بابي الحلبي، القاهرة، 1358ه‍، ج1، ص239.

([115]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج12، ص40. ومثله عند: ابن حجر، فتح الباري، ج10، ص28.

([116]) ينظر: محمد شلبي، تعليل الأَحكام، ص38-39.