أضيف بتاريخ : 16-05-2012


آراء ومواقف ابن خلدون في المسائل الاقتصادية (*)

الدكتور إبراهيم محمد البطاينة / كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية، جامعة آل البيت

الدكتور أمجد عبد المهدي / كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية، جامعة آل البيت

ملخص

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على أهم الآراء والمواقف التي تبناها العلامة ابن خلدون في العديد من المسائل الاقتصادية، التي ظهرت في وقته، باعتباره رائداً من رواد التركيز على العمل الاقتصادي وتقسيماته، وإلى الملكية الخاصة باعتبارها محفزاً على العمل الذي اعتبره مقياساً للقيمة باعتبار أن قيمة البضاعة يمثل مقدار العمل المبذول في إنتاجها، وقد تناول ابن خلدون لذلك فكرة كثرة السكان، واعتبر أنها مصدر الازدهار والقوة والرفاهية للدولة، وحدد كذلك وظائف النقود، وأشار كذلك إلى قضية التجارة الدولية وأسباب قيامها.

المقدمة

 يطول الحديث عن ابن خلدون اقتصاديا، فإليه يعود الفضل بإحداث نقلة معرفية ومنهجية في دراسة الاقتصاد وجعله بحق علماً إسلامياً مستقلاً في العلوم شتى ومنها الاقتصاد، فلا بد هنا من أن نعرج على سيرته الذاتية فهو عبد الرحمن بن  محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي عبد الرحمن، ولد في مدينة تونس سنة (1331م) وتوفي سنة (1405م)، عُرف في الشرق والغرب بابن خلدون، نهل ابن خلدون منذ نعومة أظفاره العلم، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث واطلع على العلوم العقلية([1]).

وتأثر بعدة مشايخ من بلاده كالتلمساني وكان منطقيا، والحضرمي الأديب والمالقي الرواية والشاعر([2])، فهو إذاًً قد تأثر بعدة مشارب علميـة، وفي الوقت ذاته فإنه خلف عددا من التلاميذ الذين بلغوا من العلم مكانه عالية أمثال أبي عبد الله التونسي الذي سمع الحساب والهندسة والمنطق من ابن خلدون، وأبي عبد الله البساطي الفقيه، وأحمد البسيلي المفسر، وتقي الدين أحمد بن علي المقريزي([3]).

لقد أولى ابن خلدون القضايا الاقتصادية اهتماما غير عادي، ولو أجرينا تصنيفا عدديا لفصول مقدمته التي تتعلق بجوانب الاقتصاد مباشرة أو بصورة غير مباشرة نجد أن هناك خمسين فصلا من فصول المقدمة تبحث في أمور اقتصادية زراعية وتجارية ومهنية وإنتاجية، وأن محتويات الفصل الخامس من الكتاب الأول جميعها تتعلق بصورة مباشرة بالاقتصاد، فهو رائد التقسيم العملي للعمل والصنائع، وقد درس ابن خلدون وعمل على تقليل أحوال الانتعاش الاقتصادي مبيّناً عوامله الأساسية، وكذلك علل حالة الترف إلى جانب الانتعاش، فهو يرى أن تعليل هاتين الظاهرتين مستند إلى زيادة الفائض الاقتصادي المعتمد على كثرة العمران وعلى نمط الجباية، وقف ابن خلدون على العديد من المسائل الاقتصادية التي سادت آنذاك، وفقا لما سيأتي التطرق إليه في هذه الدراسة، فهي محاولة لدراسة هذه الأفكار والمواقف من المسائل الاقتصادية كالملكية الخاصة، والقيمة والعمل، والأسعار وأسعار السلع وآراءه في النقود، والنشاط الاقتصادية.

أولاً: موقف ابن خلدون من الملكية الخاصة

لا بد من الإشارة بدءاً إلى أن للملكية الخاصة والفردية مكانة مهمة في مقدمة ابن خلدون وذلك لأنها تعد من أول المواضيع التي يركز عليها الباحثون الاشتراكيون. والملاحظ أن الإسلام في تعاليمه السمحاء ركز على الطابع الزهدي والتنسكي، يتجلى هذا الطابع في أكثر من آية قرآنية مثل قوله: )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ([20: الحديد].

وفي سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله احتواء واضح لهذا الجانب، ففي حديث للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن قال: "تبا للذهب، تبا للفضة، فشق ذلك على أصحاب النبي فقال: أي ما نتخذه؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك، فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم فقالوا: أي مال نتخذ؟ قال: لسانا ذاكرا، وقلباً شاكرا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه"([4]). إذاً تأكيد مسألة الزهد بالدنيا شرعا بآيات بينات في القرآن الكريم من عند الباري عز وجل، دعمت ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك لم يمنع الإنسان نهائيا من أخذ نصيبه من الدنيا، وهذا ما يعرف بالملكية الفردية، فالإسلام أقر هذا النوع من الملكية بل أكد ضرورة أن يظهر المؤمن نعم الله العديدة جاء ذلك في قوله تعالى: )وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ([11: الضحى]. إذاً هناك أبعاد ومضامين اجتماعية خاصة في الفهم الإسلامي لهذه المسألة، لكن فكرة الزهد لا تعكس صورة أن الإسلام اشتراكي (كما يرى ذلك ماسيه رودنس)([5]).

فقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم البعد الديني والروحي أكثر من تأكيده واستهدافه للجانب الاقتصادي وعمد إلى تغيير النمط الاجتماعي والاقتصادي برمته، فالملكية في الإسلام لله فقال عز من قائل: )لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى([6: طه]. وقوله تعالى: )وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ([33: النور]. وبقيت مسألة المال مال الله قائمة خلال عهد الخلفاء الراشدين، لكنها واجهت متغيرات أيام الخلفاء الأمويين، وفيما بعد ذلك، وأصل هذه النظرية التي لا تشابهها نظرية اقتصادية معاصرة إن أصل الثروة والملكية الخاصة لله تعالى وبذلك أفرغ محتوى موقف أثرياء وأغنياء مكة من جهة، ودعم موقف المسلمين الفقراء من جهة ثانية، فالإنسان في نظر الإسلام مستخلف أي كأنه وكيل مستخلف على تلك الثروات والأموال والنعم الكثيرة الوافرة وفقا للآية الكريمة )آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ([7: الحديد].

والأنظمة الاجتماعية المادية الخاصة بالطبقات تتفق على أن الملكية الخاصة تستند إلى وسائل الإنتاج وأنها محصورة في الطبقة المستغِلة القليلة العدد قياسا بالطبقة المستغَلة الكثيرة العدد، فيقول رودنس أن ابن خلدون يعد ممثلا لتلك الفئات الطليعية البرجوازية المرتبطة بالتبادل البضائعي- التبادل النقدي- وأن هذه الفئات البرجوازية كانت تعمل على تفويض علاقات الإنتاج وإلغاء الملكيات الكبيرة -الإقطاعيات- التي عرقلت التقدم الاجتماعي، ومن بين أهم الاستدلالات على موقفه هذا اهتمامه بالتطور التجاري الذي شهدته منطقة البحر المتوسط وبالأخص شمال أفريقيا، فابن خلدون على وفق هذه الأقوال يعد من الداعمين والمؤيدين للملكية الخاصة([6]). ففي أحد فصول مقدمة الذي يحمل عنوان "فصل في أن من طبيعة الملك الترف"([7]). يقول ابن خلدون: "وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم ... وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية..."([8]). ويقول في موضع آخر: "إن الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع ... وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله..."([9]). وفي مقالة أخرى أكثر وضوحا تعكس موقف ابن خلدون من الملكية الخاصة قال: "أعلم أن المدن قرار يتخذه الأمم... وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار"([10]). وأن "البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة..."([11]). و"...لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون وأما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها فيكون انقراض الدولة..."([12]).

عدّ ابن خلدون إذاً الملكية الخاصة غريزة خاصة بالإنسان ورأى أنها عندما تصبح عرضة للاعتداء تضعف الحوافز على العمل وينعكس أثر ذلك سلبا في قوة الدولة فيؤدي إلى انهيارها، ويعتقد أن الإنتاج غير ممكن إلا على أساس الملكية الخاصة، وهو في ذلك يعد أكثر تقدما في نظرته من الاقتصاديين الكلاسيكيين -كأدم سمث وريكاردو- اللذين وجدا في الملكية الفردية دعامة أساسية للإنتاج وقاعدة لتأسيس النظام الاجتماعي، وأنهما كما هو حال بقية المنظرين الاقتصاديين الأوروبيين يعدونها جزءا من النظام الطبيعي([13]). فقد فهم ابن خلدون العلاقة المتينة بين الملكية الخاصة والتقسيم الاجتماعي للعمل وبينها وبين تفرد كل منتج والمخاطرة بإنتاجه من أجل أن يربح السوق.

فابن خلدون يناقش البناء الطبقي للمجتمع مؤكدا عنصرين مهمين هما: وجوه المعاش وبناء القوة، والثاني المهنة والحرفة وطبقات المجتمع. وجعل معيار تملك المال أو الثروة أو السكن أساسا في تصنيف المجتمع إلى طبقات على اعتبار أن الثروة هي أول ما يفكر به الفرد عند التحدث عن الطبقات، كالطبقات الغنية المترفة وطبقة الملاك والطبقات المتوسطة وطبقة المعدمين من الناس([14])، فابن خلدون وقف عند هذه المسألة وقفة عميقة معتقدا بأثر تملك المال والثروة في إكساب الجاه وأثر ذلك في المجتمع وبنيته الطبقية بشكل عام. وانطلق من هذه المسلمة التي يراها أساسية فجعل لها عنوانا للفصل الخامس "في أن الجاه مفيد للمال"([15]). وقال في ذلك "إنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه..."([16]).

فابن خلدون في هذا النص يذكر أن هناك علاقة دائمة بين بناء القوة في المجتمع (وهو يرادف تعبير جاه) من جهة وبين أوجه اكتساب المال من جهة أخرى ويعتمد في هذا التفسير على العلاقة التبعية التي تحدث بين طبقات المجتمع([17]). فهو يشير إلى أن المال يكسب صاحبه مكانة مرموقة ويخضع الآخرين له تقربا أو محبة أو حاجة إلى جاهه، وهذه العملية المتينة تعمل على زيادة أموال هؤلاء الأغنياء وزيادة قوتهم وزيادة ملكيتهم الخاصة.

على هذا الأساس دافع ابن خلدون عن الشروط والمستلزمات المادية لنظام إنتاج أكثر تقدميه، وأنه لم يكن مدركا أن تنامي الملكية الخاصة وتزايدها سيؤدي إلى أن تنقلب شروط معيشة الإنسان ضد نظام الطبيعة، فإذا تنامت إلى حد الإفراط والترف ستتحول من عامل للتقدم الاجتماعي والاقتصادي إلى مصدر فوضى للإنتاج وربما إلى تفاوت بين الطبقات الاجتماعية المكونة للمجتمع فتعمل على تخريب أداة الدولة وانهيارها، وهو يصف ذلك بالقول: "... وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم رأينا من ذلك إعداد في الأمصار والمدن وفي البدو يسعى لهم الناس في الفلح والتجر وكل قاعد بمنزلة لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبه ويتأثل الغنى من غير سعي..."([18]).

ثانياً: نظرية ابن خلدون الخاصة بالقيمة في العمل

وهي النظرية التي تشتهر في علم الاقتصاد الحديث بنظرية القيمة في العملLabour Theory of Value))([19])، ويتصدى ابن خلدون لهذه المسألة التي وقف عليها الفلاسفة والاقتصاديون منذ القدم كأرسطو، ورأيه في المال أو القيمة ومصدر تكوينها. فابن خلدون يعتقد أن إشباع الحاجات الاجتماعية في ظروف الإنتاج البضائعي والتبادل البضائعي إنما يتحقق فقط بعملية البيع والشراء في السوق على أساس التبادل الذي يستند إلى كمية متعادلة بين العمل الذي بذل في إنتاج هذه البضاعة أو تلك. وهو يؤمن بأن سعي الناس وعملهم في عملية التبادل هذه إنما هو أمر طبيعي موجود في جميع الأمم والمجتمعات، ودليلنا على ما سبق ذكره قول ابن خلدون في فصل عنوانه "في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها"([20]) إذ يقول: "اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء أياما كانت السلعة من رقيق أو زرع أو حيوان أو قماش وذلك القدر النامي يسمى ربحا..."([21]). وهو يكشف عن هذه الظاهرة بوضوح في فصل آخر يحمل عنوان "في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه"([22]) فيقول: "اعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله وهو مفعل من العيش كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضعا له على طريق المبالغة ثم إن تحصيل الرزق أو كسبه إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمى مغرما وجباية ... وأما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية إما في مواد معينة وتسمى الصنائع من كتابة ونجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك أو في مواد غير معينة وهي جميع الامتهانات والتصرفات وإما أن يكون الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض إما بالتقلب بها في البلاد واحتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها ويسمى هذا تجارة فهذه وجوه المعاش وأصنافه..."([23]). نستشف من ذلك وحسب رأي ابن خلدن أن الكسب قيمة العمل، ملخصا ذلك بالقول: "إن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى به كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشد..."([24]). فالإنسان عنده متى ما اقتدر على نفسه وتجاوز حالات الضعف فإنه مضطر إلى أن يسعى في اقتناء المكاسب لينفق منها في تحصيل حاجاته وضرورياته وذلك بدفع أعواضها، واعتمد على قول الباري  عز وجل: )فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ(([25]). وواقع الحال أن نظرية القيمة لها مكانة مهمة بين مسائل الاقتصاد السياسي، والمذاهب الاقتصادية متصارعة حول تفسير القيمة، فمنهم من يفسرها بالعرض والطلب ومنهم من يفسرها بالمنفعة ومنهم من يفسرها بالندرة([26]). ولكن أهم النظريات في موضوع القيمة هي المعروفة بنظرية القيمة في العمل التي نمت وتطورت على يد الاقتصاديين الكلاسكيين الأوروبيين أمثال آدم سمث خاصة وريكاردو وتطورت لتأخذ مكانا أكثر في النظرية الاشتراكية، فقد عرف الاقتصاديون العمل تعريفا أقل وضوحاً وتركيزاً مما فعل ابن خلدون فهو عندهم استخدام الإنسان لقواه من أجل إنتاج الثروة والحصول على المنافع([27]). ينطبق هذا الحال على أنصار المذهب النفعي من العمل، فالغاية من العمل حصول المنفعة - الدخل- وهو أمر حقيقي. أما ابن خلدون فقد درس العمل في ثلاثة مواضع من نظريته في الكسب، فهو أولاً يرى في العمل أنه السعي لتحقيق الاقتناء والقصد في التحصيل أنه لا بد في الرزق من سعي وعمل. وأن المعاش في رأيه عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، وأن العمل هو السعي في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته([28]). وبذلك نرى أن ابن خلدون في هذه التعريفات للعمل قد طابق الرؤية المعاصرة للاقتصاديين بأن الغاية من العمل هو تحقيق المنفعة. بالرغم من أن ابن خلدون ركز على أن العمل بعده سعيا يهدف إلى الحصول على المكاسب لينفق ما آتاه الله تعالى منها، أي من النعم، هنا نجد عنصرا دينيا لم تتضمنه تفسيرات الأوروبيين.

أي أن ابن خلدون قد أعطى الدور الفاعل للعمل في حياة الإنسان، وإلى العمل في رأيه مرجع كل الثمرات التي تدخل ضمن التقدم البشري، فلا بد من الأعمال في كل "... مكسوب ومتمول..."([29]). وأن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا ما كثرت الأعمال كثرت قيمتها فتكثر مكاسب الناس. فالعمل في نظرية ابن خلدون ليس ضروريا من أجل سد حاجة اقتصادية فحسب بل حاجة ذاتية كي يثبت فيها أو بواسطتها الإنسان ذاته ووجوده. لذلك وقف ضد من يتواكل أو يعيش على جهود الآخرين، وهذا واضح في فصل أعطى له عنوانا خاصا "في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي"([30]). يقول فيه "اعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم وأما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزا عنها لما ربى عليه من خلق التنعم والترف فيتخذ من يتولى ذلك له ويقطعه عليه أجرا من ماله وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز ولأنها تزيد في الوظائف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه...."([31]).

وفقاً لذلك يظهر العلامة ابن خلدون بمظهر الاقتصادي الحديث عندما يعد العمل ضرورياً ليس فقط للعيش، وهذا ما تؤمن به النظرية الاشتراكية، بل العمل سعي لتوفير حاجات الإنسان كي يحقق ذاته ووجوده وعائلته وبذلك يكتمل الجانب الإنساني النبيل وهذا ما قصده بتعبير (رجولة الإنسان الطبيعية). فقد تحول العمل عنده من مجرد كسب مادي إلى حالة تتعلق بوضع الإنسان كإنسان.

والملاحظ أن ابن خلدون لا يغفل المعنى الاقتصادي في ذكره تعبير (الطبيعة والأرض) ودورهما في خلق المجال للإنسان أن يسعى لتحقيق حاصل الأرض وبالتالي خلق القيمة.

فإذا ما تتبعنا بعض الفصول من المقدمة نلاحظ أنه وقف بشكل قاطع ضد دور الطبيعة في خلق القيمة المطلقة، وهي مسألة اختلف فيها الاقتصاديون بين أن التجارة والتبادل التجاري هما المصدر الحقيقي للثروة والقيمة ويتمثلان بالذهب والفضة على أساس أنهما مصدرا هذه الثروة التي جعلها الإسلام ضمن زكاة أموال التجارة وحدد نصابهما بما يعادل مائتي درهم أو عشرين مثقالاً. وهي مدرسة من الرأي أبطلت مفعول الزراعة كقطاع إنتاجي بينما نادى اقتصاديون آخرون إن الزراعة هي القطاع المنتج الوحيد وأن العمل في الأرض هو العمل الذي يخلق الثروة والقيمة وأنكروا دور القطاعات الأخرى. فابن خلدون بالرغم من اعتقاده أن الطبيعة لها دور في خلق مزيد من القيم التي تسمى في الاقتصاد بالقيم الاستعمالية لكنها ليست الوحيدة، فيقول مثلاً: "... فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما أتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها قال تعالى: )فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ( وقد يحصل له ذلك بغير سعي -هنا يقصد الطبيعة- كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله إلا أنها إنما تكون معينة ولا بد في سعيه معها"([32]).

هنا يؤكد ابن خلدون أن الإنسان قد يحصل على مزيد من الخيرات من الطبيعة، كالذي يحصل عند تساقط الأمطار التي تهطل بفعل عوامل طبيعية مطلقة، ومع أهمية الأمطار في الإنماء الزراعي أو الإنتاج الزراعي غير أنها وحدها قد لا تؤدي إلى تنوع المحاصيل وكمياتها ولا بد للإنسان من القيام بجهد خاص للاستفادة من هذه الأمطار.

نؤيد هنا ما ذهب إليه عدد من الباحثين من أن العلامة ابن خلدون فاق آدم سمث في هذا المجال رغم أنه انطلق من نظرية القيمة في العمل عندما قارن استثمار رؤوس الأموال في مختلف القطاعات، مؤكدا أن الطبيعة في الزراعة لها دور فاعل ومشاركة مميزة في خلق القيمة وتعمل مع الإنسان وإن كان عملها لا يتطلب أية نفقات، فإن إنتاجها يمتلك بحد ذاته قيمة تماما مثلما تمتلك منتجات أكثر العمال أجرا([33]).

ثالثاً: نظرية ابن خلدون في الأسعار وأسعار السلع الفردية

قسم ابن خلدون السلع إلى صنفين أساسيين هما: سلع ضرورية من أمثال المواد الغذائية كالحنطة والباقلاء والبصل والثوم، وأخرى كمالية مثل الأدم والفواكه والملابس والأواني والمراكب. وكان ابن خلدون أول من أقام السعر على أساس موضوعي هو قيمة البضاعة فالسعر هو التعبير الحقيقي عن قيمة البضاعة، والمقصود هنا العمل الذي يبذل في إنتاج هذه السلع. وتبدو نفقات العمل في إنتاج هذه البضاعة أو تلك في غاية الوضوح بالنسبة إلى الكثير من البضائع وهو ما يسمح بتقدير قيمة مرتفعة أو قيمة منخفضة للبضائع.

وقد عزا أسباب اختلاف أثمان هذين الصنفين من السلع الفردية بين البلدان المختلفة إلى عوامل منها:

أولاً: اختلاف أعداد السكان من مدينة إلى أخرى، ولتأكيد هذه الظاهرة استشهد بالنص الآتي في فصل خصص له عنوان "في أسعار المدن"([34]). قائلا فيه: (أعلم أن الأسواق كلها  تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري... ومنها الحاجي والكمالي... فإذا استبحر المصر وكثر سكانه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس...)([35]). عزا ابن خلدون موقفه هذا بأن السبب الرئيس هو ازدياد السكان الذي يؤدي بأهل المدينة إلى زيادة إنتاج السلع الضرورية لشدة حاجتهم إليها، وهذه الحالة تؤدي إلى زيادة العرض على الطلب فتنخفض أثمانها، ولنعد إلى قول ابن خلدون لتوضيح سبب ذلك (... إن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك وكل متخذ لقوته تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية...)([36]). لقد عالج ابن خلدون هنا مسألة مهمة تتعلق بتقلبات الأسعار وفقا لقانون العرض والطلب، واهتم بالحنطة بشكل خاص لأهميتها الغذائية مركزا في دراسته على نتائج انخفاض أسعارها على المدى الطويل، ومدى تأثير ذلك في تحسين مستوى المعيشة. ثم يذكر ملاحظة مهمة بعد ذكره الآفات السماوية كعامل لا يشجع على انخفاض الأسعار قائلا: (...ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران...)([37]). فهو يثير مسألة مهمة هي أن احتكار التجار لهذه السلعة هو في مصلحة التجار وضد مصلحة عموم الناس فيقول: (... إن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران...)([38]).

وأسعار السلع الكمالية باهظة لأن الناس لا تنشغل بإنتاجها وهذا يؤدي مع زيادة السكان في المدينة إلى زيادة الطلب عليها مقابلة بالعرض، يؤدي ذلك بالتالي إلى ارتفاع أثمانها، ويقول في هذا الموضوع: (... وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها فإنها لا تعم بها البلوى ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثم أن المصر إذا مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حالة فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجاتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه...)([39]).

والملاحظ أن ابن خلـدون في تحليـله وتعليـله السابق لمسألة أثمان السلع وعلاقة العرض والطلب بالأثمان قد سبق أيضا أدم سمث رائد الاقتصاد الرأسمالي بأكثر من ثلاثة قرون فيما عرضه بكتابه (ثروة الأمم)([40]).

والعلامة ابن خلدون يعطينا فكرة مهمة أخرى عند حديثه عن كثرة السكان وعلاقته المتينة بانخفاض الأسعار، فيتحدث الدكتور العسال عن موقع ابن خلدون من نظرية مالثوس الذي بشر بأن تزايد السكان في العالم سيؤدي إلى دمار الجنس البشري، وأن الانفجار السكاني هو أشد خطرا من الانفجار الهيدروجيني([41]). فابن خلدون على العكس يرى أن سعادة البشرية وقوة الأمة ورخص الأسعار ورفاهية الناس تتحقق بتزايد السكان، كما قدمنا ذلك آنفا.

ثانياً: هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن العامل السابق لاحظه ابن خلدون قبل المنظرين الاقتصاديين والمتعلق باختلاف المسافات بين المدن والأمصار وما يتبع ذلك من مخاطر الطريق ومرور القوافل وحول هذه الظاهرة يقرر ابن خلدون أنه كلما بعدت المسافات بين الأمصار ازداد حجم مخاطر اللصوصية وقطاع الطرق التي تمر بها قوافل التجارات، وهذا يؤدي دون شك إلى قلة السلع في الأسواق وندرتها في المصر أو المدينة التي تنقل إليها فترتفع أثمانها. فحوى ذلك أن العلاقة بين المسافات - بعدا أو قربا- والأسعار تتناسب تناسبا عكسيا فكلما اقتربت المسافات بين المدن والأمصار وتمت السيطرة الأمنية على هذه الطرق كثرت السلع في تلك المدينة المستوردة فتنخفض أثمانها. من ناحية ثانية أن نقل السلع من المدينة البعيدة المسافة مع كل ما يواجه عملية النقل هذه من مخاطر الطرقات والمسالك التجارية يكون في صالح التجار فتعظم أرباحهم، إذ إن ندرة البضاعة في السوق سيؤدي إلى ارتفاع أثمانها على عكس المدينة القريبة والتي يسود الأمن مسالكها فإن ناقلي هذه السلع يكثرون من فتكثر في الأسواق وترخص أثمانها. ضمن ابن خلدون تلك العلاقة المهمة بين السلع المستوردة ومخاطر طرق نقلها في فصل أسماه (في نقل التاجر للسلع)([42]). وهو الفصل الثاني عشر من الباب الخامس قال فيه: (... وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحا وأكفل بحوالة الأسواق لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغزو في طريقها فيقل حاملوها ويعز وجودها وإذا قلت وعزت غلت أثمانها وأما إذا كان البلد قريب المسافة والطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها ولهذا نجد الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالا لبعد طريقهم وشقة واعتراض المفازة الصعبة  المخطرة بالخوف والعطش...)([43]).

والذي يفهم من القول السابق أن العلامة ابن خلدون خص وبالتحديد نوع السلع التي يطلق عليها اسم السلع الدولية التي تنقل عن طريق التجارات خارج حدود المدينة أي بين البلدان المختلفة، دليل ذلك استشهاده بالتجارة مع بلاد السودان. وأن تحليله للعلاقة الخاصة باختلاف المسافات بين المدن ومدى تأثير ذلك في تغير أثمان السلع يتماثل إلى حد كبير مع ما هو معروف في الوقت الحاضر من العلاقة بين تأثير نفقات النقل في أسعار البضائع الكمالية وغير الكمالية التي تستورد من البلدان البعيدة، ويتلخص هذا المبدأ بأنه في حالة قيام التجارة بين بلدين تميل أسعار السلع التي تدخل في التجارة الدولية إلى التماثل إلا بمقدار نفقات النقل فتزيد الفروق بين أسعار السلع كلما زادت نفقات النقل وتقل الفروق عندما تكون نفقات النقل التجاري العالمي قليلة. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على سعة اطلاع ابن خلدون في الجانب الاقتصادي وسعة فهمه لهذه العلاقات التجارية. ومما له علاقة بموضوع الأسعار السابق الذكر فإن لابن خلدون موقفا من النقود.

رابعاً: ابن خلدون والنقود

في الفصل الخاص بالنقود في مقدمة ابن خلدون نجد عدداً من الأفكار التي تتصف بالعمق والدلالة في هذه المسألة. فهو يعد الذهب والفضة المقياس الأساس والجوهري لكل ثروة وهو أسلوب نمائها. ويعتقد بأن هذين المعدنيين الثمينين هما الأساس أيضا لأغلبية الناس لاتخاذها وسيلة للاكتناز والادخار وهو في هذه المسألة يعكس واقع الآيات القرآنية الكريمة الخاصة بالذهب والفضة واكتنازهما وموقف الإسلام من ذلك([44]).

فيقول في هذا الفصل الذي سماه (فصل في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية)([45]). ما يأتي: (...أن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية - يعني الاقتناء- لأهل العالم في الغالب وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة...)([46]).

وبذلك فإن ابن خلدون حدد عدة مهمات ووظائف للنقود منها: إن النقود هي المقياس للقيم، وإن هذين المعدنين هما وسيلة للاكتناز، وكذلك وسيلة للاقتناء والادخار، ووسيلة للتبادل والبيع والشراء، كما أنهما حوالة الأسواق أي وسيلة للتبادل التجاري على المستوى العالمي.

فقد فهم ابن خلدون جوهر النقود على أساس موقفه ونظريته من القيمة في العمل([47]). وقد عمم العمل بعده جوهر القيمة على الذهب والفضة، ورأيه أن هذين المعدنين يعملان على تجسيد قيمة كل ما ينتجه الفرد بعمله وبين أن يعمل على تحويل هذين المعدنين إلى نقود في دور الضرب. وهذا وذاك يعود كلياً إلى تطور المجتمع وتطور علاقاته التجارية.

ثم إنه أدرك بذكاء وفطنة أنه حيثما تكون الصنائع قليلة يكون التبادل النقدي بسيطاً حيث لا ضرورة لوجود النقود، وبدلاً من هذين المعدنين بالإمكان استخدام معادن أرخص كالنحاس والحديد والجلود للتبادل، ولكن عندما تتطور الصنائع فإنه لا بد من أن تظهر أهمية المعدنين الذهب والفضة فيقول: (.... فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية....... )([48]).

فالثروة المادية في نظر ابن خلدون تتضمن جميع القيم الاستعمالية الناتجة عن عمل الإنسان ونشاطه ويعني ذلك جميع المدخولات الفائضة عن الوسائل المعيشية الضرورية. وهي حسب فهمه البضائع المتراكمة بعدها قيمة بحد ذاتها وقيمة في طريقة وأساليب استعمالها.

فهمه هذا للثروة قاده إلى أن يضرب أمثلة من العالم العربي الإسلامي قائلاً (.... فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو من بلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ولا يستغنوا عن أموال الناس بالجملة.... )([49]).

ويضرب مثالاً آخر فيقول: (...واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام والعراق والهند والصين وناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي- أي المتوسط - لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف وكذا تجار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من.... الهند والصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب.... . ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم...)([50]). فابن خلدون في هذا المفهوم يعمم الثروة على جميع الخيرات المادية عاداً العمل المنتج أساساً ومصدراً مهماً لها. معتقداً بأن الذهب والفضة يتميزان عن المنافع والمكاسب الأخرى وذلك لأن قيمتهما الذاتية مستقرة فيهما ولذلك فإنهما يتحولان إلى نقود لتسهيل مهمات البيع والشراء، وكان يفهم أيضاً أن قيم هذين العنصرين أو المعدنين لم تتغير، فإنهما لا يتعرضان كما تتعرض المنافع الأخرى لأية تغيرات وتقلبات في أسعارهما وأثمانهما في السوق، وهذا بالطبع مفهوم غير صحيح، فأسعار الذهب والفضة متغيرة أيضاً بناء على عدة عوامل.

والملاحظة الأخيرة التي لابد من الإشارة إليها أن ابن خلدون في موضوع النقود لا يقف على المستوى نفسه مع أحد تلامذته النابغين وهو تقي الدين المقريزي المؤرخ المصري (المتوفى سنة 845ه‍/1441م). فظاهرة النقود تشكل مبحثاً أساسيا في فكر المقريزي بعدّها واسطة للتبادل وأنها قوام مادي مشخص. ونهج المقريزي النهج نفسه الذي نهجه ابن خلدون في تناول القيمة الفعلية للنقود وأبعادها الاجتماعية، ولكنه تابع تطورها وأشكالها واستخداماتها منذ الحقبة الإسلامية الأولى وربط بينها وبين النظام الديني والسياسي في المجتمع. ومع أن مقدمة ابن خلدون مقدمة عامة ولم تكن مخصصة ككتاب المقريزي (إغاثة الأمة بكشف الغمة)([51]). أو في رسالته المعنونة (رسالته في النقود الإسلامية)([52]).

لكن ابن خلدون جعل مسألة النقود مرتبطة بنظريته الاجتماعية كما بينّا.

ونظريته تختلف اختلافاً واضحاً إذا ما قورنت بنظريات آدم سمث وريكاردو اللذين فهما النقود بأنها وسيلة وأداة تبادلية، وأن وجودها(النقود) كان بمثابة عملية عفوية نتجت عن حاجات التبادل البضائعي، ولم يعتقدا بأن لها وظيفة أخرى مهمة كونها مقياساً للقيمة([53]).

في الوقت الذي يعتقد فيه ابن خلدون أن ما (...يوجد منها - يقصد هنا الذهب والفضة والجواهر- بأيدي الناس فهو متناقل متوارث ربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى أخرى بحسب أغراضه والعمران الذي يستدعي له فإن نقص في المغرب وأفريقية فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج وإن نقص في مصر والشام فلم ينقص في الهند والصين...)([54]).

في هذا النص يؤكد هذا العلامة العربي وظيفة النقود الأخيرة كعملة عالمية تؤدي دوراً مهماً ومقياساً عالمياً للقيم.

خامساً: ابن خلدون والنشاط التجاري

الموضوعات السابقة التي تناولناها لها علاقة وثيقة بمسألة اقتصادية جوهرية وهي التبادل التجاري البضائعي التجاري المحلي أو العالمي، وهو التجارة. فهل كان لابن خلدون رأي ونظرية في هذا الجانب الاقتصادي؟ في الفصل الخامس من الكتاب الأول يقدم ابن خلدون آراء ومفاهيم تجارية في ثمانية فصول فرعية، الأول منها يجعله لتعريف التجارة ومذاهبها وأصنافها، فيقول: "اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء أياما كانت السلعة من رقيق أو زرع أو حيوان أو قماش وذلك القدر النامي يسمى ربحاً..."([55]).

وفي مجال آخر يقدم تعريفاً آخر فالتجارة ضرب من ضروب الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض ويحصل ذلك إما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها([56]).

ويحاول في موضع ثالث أن يكرر هذا التحديد للتجارة بأنها (تنمية) فيقول: (قد قدمنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحولة (يقصد محاولة) بيعها بأغلى من ثمن الشراء أما بانتظار حوالة الأسواق (يقصد أحوال الأسواق) أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير إلا أن المال إذا كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير ثم لابد في محولة هذه التنمية من حصول هذا المال بأيدي الباعة بشراء البضائع وبيعها...)([57]). فابن خلدون يتطرق في هذه الجزئية من التعريفات السابقة إلى العوامل التي تؤثر في مقدار وكمية الأرباح عموماً قائلاً: (... وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة ولذلك أباح الشرع فيه المكايسة لما أنه من باب المقامرة إلا انه ليس آخذا لمال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية)([58]).

إن معالجته لهذه الأمور إنما تكشف عن تفهمه للفكرة الاقتصادية المعاصرة التي تبين كيفية الربح في الاقتصاد الحديث، ووفقاً للنظرية الاقتصادية فإن الربح الذي يتوافر للتاجر يقابل ثمن المخاطرة، والنظرية الاقتصادية الحديثة تعتقد أن الربح في عملية الإنتاج إنما يحصل بسبب تحمل المخاطر غير القابلة للتأمين ضدها من ناحية وبسبب عدم التأكد من بيع البضائع من الناحية الأخرى([59]).

أشار ابن خلدون إلى نمطين للتجارة وهما: خزن السلع أو اختزانها انتظاراً لفرص تغير أسعارها وبذلك تحقق الأرباح الطائلة، أو نقل السلع من مدينة أو بلد إلى مدينة أخرى أو بلد آخر وذلك استثماراً لفروق الأسعار بين البلدين. وبناءً على ذلك وعلى أساس تأمل النمط الثاني من التجارة عند ابن خلدون وهو نقل السلع، يمكننا أن نقول إن عبارات ابن خلدون تشير بوضوح تام إلى أن انتقال البضائع بين البلدان بواسطة التجارة تعد نتيجة من نتائج اختلاف أسعار السلع بين هذه البلدان والأمصار، فلولا هذا الاختلاف في الأسعار لما انتقلت البضائع في بلدها المنتج، ولا فائدة ترجى من تحمل أخطار النقل بين البلدان إذا كانت الأثمان فيها متساوية لهذه البضاعة أو تلك. وجاء تأكيد ابن خلدون على هذا المعنى في موضوع من مقدمه عند ذكره لمعنى التجارة: بأنها عملية نقل البضائع إلى بلد هي (... فيه أنفق وأغلى ...)([60]).

وقد بلغ ابن خلدون في بعض نصوص مقدمته الخاصة بالتجارة والتاجر إلى قمة إدراكه وفهمه عندما عزا اختلاف أثمان السلع بين البلدان إلى اختلاف مدى توفر عوامل الإنتاج فيها.

وهذا يعد جوهر مضمون النظرية الحديثة في التجارة الدولية، ملخصاً ذلك المفهوم بالسطور الآتية (...ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومه فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم...)([61]).

وتدليلاً على نظرية ابن خلدون التجارية هذه فقد حدد أنواعاً من السلع التي يتاجر بها التاجر ويحقق أرباحاً. وكان تحديده لهذه السلع مبنياً على أساس تحقيقها لأكبر قدر ممكن من الأرباح استفادة من فروق الأسعار. وهذه الأنواع هي:

1- أشار إلى السلع والبضائع التي يزداد الطلب عليها، وهي التي يكون أغلب الناس بحاجتها. وأن الطلب والحاجة إليها لا يقتصر على عدد محدود أو فئة معينة من الناس إنما يطلبها الأكثرية. عبر عن ذلك بما يأتي: (التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغنى والفقير والسلطان والسوقة إذ في ذلك سلعته وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بأعوز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه...)([62]).

2- والنوع الأخر هو البضائع المتوسطة، ولكن ما الذي يقصده ابن خلدون بالمتوسطة؟

إنه وبناء على ما تقدم في النقطة السابقة يقصد بذلك المتوسطة الأثمان. فيقول موضحاً: (...وكذلك إذا نقل - أي التاجر- السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن العالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة وهم الأقل وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعته أو كسادها...)([63]).

فالاقتصاديون المعاصرون يميزون بين المخاطرة لكونها أمراً يتعلق بوقوع الحوادث والأخطار وبين التعرض لنقص في العمالة اللازمة إما عددياً أو فنياً، أو التعرض لأخطار ارتفاع أسعار المواد الأولية بصورة مفاجئة. وهم يعتقدون أن بمقدور المنظم أن يتفادى هذه الأخطار وذلك عن طريق التأمين عليها ماعدا خطر عدم التأكد من نفاذ السلعة بعد الحصول عليها. والدكتور عبد المنعم البيه يحدد هذا الشرط بأنه كلما زادت درجة عدم التأكد من عمل ما زاد احتمال الربح الوفير، وكذلك يزيد من احتمال الخسارة الكبيرة. وعلى هذا فإن الربح الوفير الذي يكسبه صاحب العمل أو التاجر إذا صادف تقديره التوفيق، وإن تعثر حظه فالخسارة مرهونة به لا محالة([64]).

عنى ابن خلدون بتعبير أن تكون السلع مما (تعم الحاجة إليه) أي أن يكون عليها طلب. لا بل وأن يكون الطلب كبيراً بحيث لا تكون هذه البضاعة أو تلك مطلوبة من فئة اجتماعية معينة إنما من جميع فئات المجتمع. فهذا هو الطلب الحقيقي للبضاعة. وفي الوقت نفسه يقدم مؤشراً وحجة دامغة على أن ثمة طلباً مستمراً على هذه البضاعة.

يمكن في هذه الحالة القول أن العلامة ابن خلدون أشار ببساطة لكن بقدرة وفهم عميقين إلى أن العامل المؤثر في قيام التجارة بين البلدان إنما هو الاختلاف في أثمان السلع فيما بينها. وأن سبب اختلاف أثمانها يتجسد في مدى اختلاف وفرة عوامل الإنتاج بين هذه البلدان. بمعنى أن هناك تجارة قائمة بين البلدان في منطقة واحدة وهو ما يسمى Inter Regional Trade. وذلك لأن في زمن ابن خلدون لا وجود لفواصل وموانع سياسية إنما هي فواصل جغرافية كالتي بين العراق وبلاد الشام وبينها وبين مصر وبين مصر وبلاد المغرب. فالاختلاف قائم على أساس المناطق والبعد الجغرافي وليس هو اختلاف بين الأنظمة السياسية أو على أساس الحدود السياسية([65]).

وقد أشرنا في السابق كيف تعرض ابن خلدون إلى العلاقة بين بعد هذا المكان أو قربة وطبيعة أسعار السلع التي يتاجر بها. فإذا كانت المسافات بين المدن قصيرة وإذا كان الأمن مفروضا على المسالك والطرق فسيؤدي ذلك إلى كثرة البضائع وبالتالي رخص أسعارها، والعكس صحيح في حالة ارتفاع أثمان البضائع نتيجة كثرة الأخطار وارتباك حبل الأمن. ففي رأيه أن أثمان السلع التي تدخل في التجارة المحلية والعالمية تتحدد وفقا للتوازن بين الكميات المعروضة منها والكميات المطلوبة في المدينة أو البلد المعني.

وابن خلدون وابن الأزرق يتلاقيان في النظر إلى التجارة على أنها شكل من أشكال النشاط الاقتصادي ومحاولة لكسب وإنماء الأموال. لذلك فإنهما لم يغفلا الوقوف علي مسألة مرتبطة بهذا الكسب زيادة أو نقصانا وهو الاحتكار، فللاحتكار أثر بارز في تنمية الأرباح التجارية. ولابن خلدون موقف واضح من الاحتكار الذي يرتبط بالتجارة فيقول: (ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران...)([66]).

وهذا هو نوع من أنواع الاحتكار الذي يعود بالضرر على الناس عامة وهو أخذ أموال الناس بالباطل، وهو ممنوع شرعاً لأن القصد منه سحب المعروض من السوق وبصورة خاصة المواد الغذائية فيندر وجودها وبالتالي ترتفع أسعارها. أما الصنف الآخر فهو احتكار ما لا يضر وهو جائز من أمثال ادخار الأقوات في أيام الرخاء وعرضها أيام الشدائد([67]).

ما تطرقنا إليه من موضوعات سابقة بخصوص التجارة والتجار تحيلنا إلى إثارة مسألة مهمة، وهي أن ابن خلدون لم يغفل أن يسلط الضوء على الجوانب الاجتماعية للتجارة والتجار، مخصصاً لذلك الموضوع فصلين من مقدمته. أنه يصور الواقع الاجتماعي من خلال متابعته لنوعية وكيفية تصرف التجار في أساليب ووسائل الغش والمماطلة والتطفيف وصولاً للغاية المرجوة من ذلك والمتمثلة بالحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح والمكاسب. وفي هذين الموضعين يصرح بأن روح الخداع كانت هي المسيطرة على مجال التجارة. ملخصاً موقفه ذلك بالقول: (... من كان فاقداً للجراءة والإقدام من نفسه فاقداً للجاه من الحكام فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب ويصير مأكله للباعة ولا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس.... والباعة شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم...)([68]).

وإذا كان ابن خلدون يحدد ويصف أبعاداً خاصة لسلوك وأسلوب تعامل التجار، المتمثل بأساليب المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات لأنها عوارض مقترنة بهذه الحرفة، فإنه يستثني التجار الخيرين، فأفعال الخير عنده تعود بآثار الخير والزكاء، وأفعال الشر تعود بالضد من ذلك([69]).

النتائج

1- إن نظريات ابن خلدون الاقتصادية تضعه وبجدارة إلى جانب المدرسة الكلاسيكية منذ القرن الثامن عشر الميلادي، عندما ازدهرت الأفكار الاقتصادية في أوروبا والتي تجمعت عدة مؤثرات في ازدهارها منها نمو المدن الذي ساعد على تجمع الناس وتزايدت الثروة وتقدمت العلوم وهي مؤثرات كانت بادية للعيان في حقبة ما قبل عصر ابن خلدون وخلالها. الحقبة التي أنجبت آدم سميث مؤسس المدرسة الكلاسيكية  وتوماس مالثوس، ويفيد ريكاردو وهو من أشهر رواد المدرسة الكلاسيكية بعد آدم سمث.

2- عد ابن خلدون الملكية الخاصة غريزة خاصة بالإنسان وهي التي تحفزه على العمل ويعتقد أن الإنتاج غير ممكن إلا على أساس الملكية الخاصة لذلك فيعد ابن خلدون أكثر تقدماً في نظرته من الاقتصاديين الكلاسيكيين.

3- درس ابن خلدون العمل في ثلاثة مواضع من نظريته هي الكسب الرزق والمعاش وقد ضمن ذلك عنصر روحيا (دينياً) لم تتضمنه تفسيرات اقتصاديي الغرب وقد أعطي الدور الفاعل للعمل في حياة الإنسان.

4- وقف ابن خلدون بشكل قاطع ضد دور الطبيعة في خلق القيمة المطلقة واعتبر أن الطبيعة ليس وحدها القادرة علي خلق القيم الاستعمالية ليخالف بذلك مدرسة الطبيعة التي اعتمدت أن الطبيعة ممثلة بالزراعة هي أساس الثروة.

 5- قسم ابن خلدون السلع إلى صنفين سلع كمالية وسلع ضرورية واعتبر أن قيمة هذه السلع تمثل أسعارها وهي التعبير الحقيقي عن قيمة البضاعة والمقصود هنا العمل الذي يبذل في إنتاج هذه السلعة.

6- خالف ابن خلدون أفكار مالثوس واعتبر أن تزايد عدد السكان يؤدي إلى سعادة البشرية وقوة الأمة ورخص الأسعار ورفاهية الناس.

7- حدد وظائف للنقود منها أنها مقياس للقيم واعتبر أن الذهب والفضة هما وسيلة للاكتناز وكذلك وسيلة للاقتناء والادخار، ووسيلة للتبادل، كما أنهما وسيلة للتبادل التجاري على المستوى العالمي.

8- اعتبر ابن خلدون أن قيام التبادل التجاري يحدث بسبب اختلاف أسعار السلع بين هذين البلدان وأن اختلاف هذه الأسعار يعتمد على مدى توافر عوامل الإنتاج فيها.

 

(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، العدد (2)، 1427ه‍/ 2006م.

 

الهوامش:


([1]) ينظر ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، أنباء الغمر بأبناء العمر، ج5، ط1، الهند، حيدر آباد - الركن، 1972م، ص325-327، 332 - السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، ج4، بيروت، (د.ت)، ص145.

([2]) ابن الخطيب، لسان الدين محمد بن عبد الله، الإحاطة في أخبار غرناطة، ج3، تحقيق محمد عبد الله عنان، ط1، القاهرة، 1975م، ص177، 493، 495.

([3]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الحضرمي، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، تحقيق محمد تاويت الطنجي، القاهرة، 1951م، ص248، 253.

([4]) ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني، كتاب الزهد، بيروت، 1978م، ص19.

([5]) رودنس، مكسيم، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكيم، ط2، بيروت، 1974م، ص30.

([6]) الإسلام والرأسمالية، مصدر سابق، ص131.

([7]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، (د.ت)، ص131.

([8]) المقدمة، مصدر سابق، ص131-132.

([9]) المقدمة، ص33.

([10]) المقدمة، ص275.

([11]) المقدمة، ص272.

([12]) المقدمة، ص272-273.

([13]) سول، جورج، المذاهب الاقتصادية الكبرى، ترجمة راشد البراوي، ط2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957م، ص27-35.

([14]) السيد بدوي، محمد، علم الاجتماع الاقتصادي، طبعة قار يونس، ليبيا، 1977م، ص360.

([15]) المقدمة، ص308.

([16]) المقدمة، ص308-309.

([17]) السيد بدوي، مصدر سابق، ص376.

([18]) المقدمة، ص309.

([19]) غانم، عبد الله عبد الغني، المشكلة الاقتصادية ونظرية الأجور والأسعار في الإسلام، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 1984م، ص54-58.

([20]) المقدمة، ص303.

([21]) المقدمة، ص313.

([22]) المقدمة، ص303.

([23]) المقدمة ص303-304.

([24]) المقدمة، ص312.

([25]) المقدمة، ص302 بخصوص الآية القرآنية انظر سورة العنكبوت، الآية 17.

([26]) عزيز، د. محمد، مبادئ الاقتصاد الحديث، بغداد، 1959م، ص31-38.

([27]) برعي، محمد خليل، الاقتصاد، القاهرة، (د.ت)، ص80، 89.

([28]) المقدمة ص303-312.

([29]) المقدمة ص302.

([30]) المقدمة، ص304.

([31]) المقدمة، ص304-305.

([32]) المقدمة، ص302.

([33]) هاشم: د إسماعيل، علم الاقتصاد، بيروت، 1977م، ص50-52.

([34]) المقدمة، ص288.

([35]) المقدمة، ص288. شقير، محمد لبيب، تاريخ الفكر الاقتصادي، ط2، دار النهضة، القاهرة، 1968م، ص92-93.

([36]) المقدمة، ص288.

([37]) المقدمة، ص288.

([38]) المقدمة، 315.

([39]) المقدمة، ص288.

([40]) عزيز، مصدر سابق، ص370-376.

([41]) دسوقي، د. إبراهيم، الاقتصاد الإسلامي، القاهرة، (د.ت)، ص22، 23.

([42]) المقدمة، ص314.

([43]) المقدمة، ص314-310، هاشم، علم الاقتصاد، ص547.

([44]) انظر: سورة التوبة: الآية 34-35، سورة هود، الآية 120، سورة الشعراء: الآية 58، سورة القصص: الآية 76.

([45]) المقدمة، ص302.

([46]) المقدمة، ص303 ,المبارك، محمد، نظام الإسلام - الاقتصاد مبادئ وقواعد عامة، بيروت، 1980م، ص117.

([47]) المقدمة، ص303، المصري، عبد السميع، مقومات الاقتصاد الإسلامي، ط4، القاهرة، 1990م، ص78-80.

([48]) المقدمة، ص303.

([49]) المقدمة، ص290-291، السيد بدوي، مصدر سابق ص18.

([50]) المقدمة، ص290.

([51]) المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، دار الهلال، بيروت، 1990م.

([52]) المقريزي، رسالة في النقود الإسلامية، القسطنطينية، 1880م.

([53]) شقير، مصدر سابق، ص96-98.

([54]) شقير، مصدر سابق، ص96-98.

([55]) المقدمة، 308.

([56]) المقدمة، ص304، هاشم: علم الاقتصاد، مصدر سابق، ص547.

([57]) المقدمة، ص313.

([58]) المقدمة، ص304.

([59]) غانم، عبد الله عبد الغني، النظرية في علم الإنسان الاقتصادي، المكتب الجامعي الحديث الإسكندرية، 1982م، ص 8-9.

([60]) المقدمة، ص313.

([61]) المقدمة، ص289.

([62]) المقدمة، ص314، مزيان، عبد المجيد، النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون وأسسها من الفكر الإسلامي، والواقع المجتمعي، مؤسـسة الوحـدة، الجزائر، 1981م، ص48.

([63]) المقدمة، ص314.

([64]) المقدمة، ص314.

([65]) الرفاعي، عبد الحكيم، الاقتصاد السياسي، القاهرة، (د.ت)، ج1، ص104.

([66]) المقدمة، ص315.

([67]) المقدمة، ص315، ابن الأزرق، أبو عبد الله الغرناطي، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق د.علي سامي النشار، دار الحرية للطباعة بغداد 1977م.

([68]) المقدمة، ص314.

([69]) المقدمة، 316.